كلمة التكريم: أمّ الزين بنشيخة المسكيني

Deutsch

فنّ الكاريكاتير في لغة المؤنّث من خلال رسومات سارة قائد

مرحبا
سيداتي سادتي
سأبدأ كلمتي بأجمل تعابير الشكر والامتنان لمؤسسة ابن رشد للفكر الحرّ على تشريفي بالمشاركة ضمن لجنة التحكيم وفي مراسم هذا الاحتفال بجائزة المؤسسة بعنوان 2019. وتهاني القلبية الخالصة الى الرسّامة البحرينية سارة قائد الفائزة بهذه الجائزة عن مدونتها الكاريكاتيرية الرائعة والجديرة  بكل التقدير والاحترام. أمّا عن مداخلتي عن أعمال الفائزة فقد اخترت أن أخصصها للتفكير جماليا في مدوّنة سارة قائد تحت عنوان “الكاريكاتير في لغة المؤنث”.

فاتحة

—“إنّ الكتب المقدّسة مهما كانت الأمم التي تنتمي إليها، لا تضحك أبدا”
شارل بودلير
——–“الضحك أمر مقدّس… تدرّبوا على الضحك”
فريديريك نيتشه

سرديات تشكيلية كاركاتورية مرعبة وفاتنة معا لواقع عربي معطوب، رسومات قلقة بشخوص مهتزّة هاجرت خارج أجسادها المألوفة، وأدمغة صارت الى فناجين يٌسكب فيها ما اتفق من سوائل.. مأدبة يسكر فيها الطغاة بدماء شعوبهم وجموع متراكمة أجسادها على ظهر مركب تائه.. جثامين هنا وهناك، ونساء باكيات، ورجال أسرى وسماء تمطر بالكيمياويّ، ونخيل العراق يُغتال واقفا.. عالم من المشنوقين والمربوطين والمعلّقين العالقين بلا وطن والساقطين عن الوطن، والمتكدّسين في قلب العراء التشكيلي..والمشوّهين ..أعضاء متناثرة وأيادي بلا أجسام تعضدها ممدودة في بعض مشهد..منابر للشحن الطائفي، وأخرى لصناعة القتلة..وآخرون يسجدون لأطماعهم..سفن الموت تستأنف “تشغيل الموتى”(حسب عبارة لفتحي المسكيني) في عمق المحيط، والأمواج تتحوّل الى نقاط استفهام  لا أحد يعلم لها مستقرّا….ذلك وأكثر.. هو العالم البصري الذي ترسمه لنا الفنانة سارة قائد، التي  لا أحد ينجو من رسوماتها الفاتنة.. تغريك وتأسرك بقساوتها وبشاعة العالم الذي تنصّبه أمامك في كلّ مرّة فتسطو على المدى البصري الذي بحوزتك وتدفعك الى ضرورة التمسّك بعجلة الزمن  في الثواني الأخيرة ..علّك بذلك تغيّر المشهد الذي ينبغي عليك اختياره بمهارة هذه المرّة.

تنتمي رسومات سارة قائد الى فنّ يؤرخ لولادته الرسمية منذ القرن التاسع عشر، لكن ظهور ممارساته الأولى تعود الى الحضارات الشرقية القديمة حين كانت الإنسانية تسمح لنفسها بأن ترسم الآلهة على الكهوف في شكل مشوّه ومخيف..وحين كانت الآلهة تشبه البشر فتضحك وتبكي وتغضب وتكره وتحبّ أيضا. وهو ما صاغه الشاعر اليوناني هوميروس الذي كتب سرديّة آلهة الإغريق في شكل الإلياذة والأوديسا، ذاك الشاعر الذي قال عنه هيرودوت أنّه “قد خلّد تعاسة الآلهة”. أمّا وآلهتنا قد غيّرت من سلوكاتها، فلم تعد تضحك بل صارت مناسبة للقتل باسم الربّ وتحت رايته…يلزمنا تمارين في النواح ( رسم نائحة) أو التدرّب على الضحك من أنفسنا وحكّامنا ومنهزائمنا وأوجاعنا كما لو كنّا نشعر بالسعادة في دعم عبثيّة العالم وفق تعبير رشيق لألبار كامو.

 ما الذي سيسعفنا ويعيد الفرحة الى عالمنا نحن الذين ننتمي الى عصر تعاسة البشر المعولمة والقحط الوجودي والخراب السياسي، ذاك الذي وجد في الأوطان العربية ورشة اختبار مناسبة له؟.يقول الفيلسوف الألماني هانس جورج غادامار “إنّ كلّ لقاء بالعمل الفنّي هو فرحة ما “،  ويبدو أنّ الفنّ قد صار اليوم المناسبة الوحيد لصناعة الفرح في هذه الجغرافيا العالمية الواهنة الموسومة لامبريالية متوحّشة تبتلع الجميع، في زمن موسوم بالزمن الرديء على حدّ تشخيص استباقي لهولدرلين الذي يسأل : “لكن لماذا الشعراء في هذا الزمن الرديء؟”. ويجيبه شاعر في  قامة  بول سيلان من عمق آلام مغايرة “لا يزال لدينا أغنيات سنغنّيها فيما أبعد من البشر”..وفي صراع العمالقة هذا حول وجود البشر وعدمه معا، تنخرط كلّ الأعمال الفنّية العظيمة التي أتقنت القبض على أوجاع الضحايا من المهمّشين والصامتين والعالقين واللاجئين والمسجونين في أوطانهم التي صارت الى معاقل وتوابيت وسجون كبيرة لمصادرة العقول والأحلام والحريات معا. هذا بعض ممّ تهمس به رسومات سارة قائد أحيانا وأحيانا تصرخ، إنّها تجيد الإقامة في متاهات الصمت بوصفه لغة لا تقبل الترجمة في لغة الكلام، لأنّ الكلام مخترق بالكذب والزيف وإرادة التدجين والسطو على العقول..كيف نكتب إذن صمت الرسوم الكاريكاتورية ..القاتلة أحيانا؟ ولنذكر من دفع الثمن غاليا ههنا : صحافيو شارلي إيبدو وقبلهم هونوري دوميي الذي سُجن بتهمة رسم شوّه صورة الملك لويس فيليب، ولا ننسى ههنا أيقونة الكاريكاتير العربي ناجي العلي المغتال “بتهمة” الكاريكاتور. كيف نعيد الى حنظلة قلمه، ورصاص القلم أقوى من رصاص البندقية؟ هاهو حنظلة يعود هذه المرّة في صيغة المؤنّث الأصلية التي له من جهة تاء التأنيث المصاحبة له لغويا. إنّ سارة قائد تستأنف مسيرة المقاومة التي افترعها قلم حنظلة  بشكل إبداعي استثنائي ورائع ومريع معا.

ينبغي أن  ننوّه بثراء المدوّنة الفنّية للفائزة وتنوّع أغراضها التشكيلية، وطرافة أساليبها الإبداعية، وقدرتها الفاتنة على القبض على ما يحدث في طابعه الخام والعاري واللحمي الخالص، في وجعه وقساوته وبشاعته غير القابلة للتخييل. وهي مدوّنة تركض وراء ما يقع وما سوف يقع فتسبق الواقع وتدفع به الى تخومه القصوى عبر كلّ أساليب فنّ الكاريكاتير من مبالغة وتشويه للأشكال وزعزعة للطمأنينة الزائفة للأنظمة واللوبيات والأجندات السياسية. وهذا هو ما تظهره رسوماتها الرائعة التي تتصدّى لأشكال الاستبداد في الوطن العربي، استبداد يظهر  في صورة “علاقة شاذة” مع  لوبيات الإرهاب التي تنشر الخراب وتهجّر الشعوب وتصادر الأحلام والأوطان معا. وهذا الاستبداد والإرهاب يقابل بالصمت، صمت المتواطئين والمتاجرين بالشعوب كما يظهر من صورة تجسّد ما يحدث داخل الجامعة العربية التي تعتبر مواقفها مخزية ممّ يحدث. استبداد وإرهاب وصمت الخونة  ثالوث فظيع يسوّق لنفسه عبر شبكات إعلاميّة قائمة على البروبغندا والتدجين وغسل الأدمغة. وهو ما ينتج مصادرة حريّة التعبير والتفكير كما يظهر من خلال رسومات “المربوط”..”ارسمني..”.. ..

إنّ رسومات سارة قائد تمنح لك العالم المرئيّ على نحو استثنائي جدّا : في قساوته وحقائقه القصيّة وكواليس قبحه المعمّم. وأنت اذ تدخل ورشتها، عليك أن تخلع نظاراتك الرسميّة ستباغتك بسيايات جديدة للمرئي وغير المرئي، للعلامات والأيقونات والإشارات، للمساحات والأضواء، للنظرات، للأشكال والإيحاءات، لرسومات تخرج عن طورها وتزدحم في قاع لم يعد يتّسع لمزيد من الحضيض، لأنّ العالم الذي تورّطه بالرسم قد أوشك على السقوط أو هو بصدد ذلك.

وبوسعنا جمع أهمّ الأغراض الفنّية التي اشتغلت عليها مدوّنة سارة قائد الكاريكاتورية في ثلاثة قضايا حارقة هي قضية التطرّف وقضية اللاجئين في قوارب الموت وقضيّة النكبات العربية المتتالية التي بيعت فيها أوطان وهُجّرت شعوب، وقُتل فيها المئات من الضحايا والأبرياء.

أمّا عن قضيّة التطرّف والارهاب فتظهر من خلال رسومات عديدة من بينها رسم أوّل  بعنوان “انتاج التطرّف” حيث تجسّد الفنّانة التطرّف في مكنة كبرى تخضع للعمل المتسلسل، منظومة تبدأ بالتدجين والإرغام وغسل الأدمغة وتصل الى انتاج المتطرّفين أي القتلة  فالتطرّف مكنة لصناعة القتلة.

الصورة الثانية تحمل عنوانا مثيرا للتفكير “ماذا أرتدي لأقتل؟” حيث أنّ القتل يتمّ تحت أقنعة عديدة  والصورة الثالثة عنوانها “بسم الرب”حيث يتقاتل الجميع كلّ باسم دينه الخاص وتتحول الديانات جميعا الى ساحة للدماء.

ثمّة صورة رابعة تصدمنا ببشاعتها ارهابي يمسك بالكتاب الذي تخرج منه عصافير فيحولها هو الى قنابل ومتفجّرات وكيف يقع السطو على الكتاب المقدس وتحويله الى وسيلة قتل للأبرياء. أمّا عن قضيّة اللاجئين عبر قوارب الموت فنقتصر هنا فقط على الإشارة الى رسم بعنوان “فوق المحيط وأسفله” ..

كثير من الأفكار تثيرها اذن هذه المدوّنة الفنّية الراقية التي نشهد فيها على سموّ فنّ الكاريكاتير الى مصافّ رسّامين عظماء عرب من قبيل الأيقونة ناجي العلي، أو غربيين ذاع صيتهم من الذين أسّسوا لهذا الفنّ من قبيل غويا،كما يبدو في رسومات سارة تحت عنوان “كيمياوي من السماء” وهي صورة تعادل في قوّتها التعبيرية رسما لغويا تحت عنوان “الحجّ الى سانت إزيدرو”..وإنّ أهمّ ما سنركّز عليه في هذه المداخلة،- وهذا هو الغرض الثالث لهذه المدوّنة-  هو صورة المرأة بوصفها مجالا فنّيا وحاملا بصريّا وحقلا تشكيليّا لإنتاج الدلالات ولتنصيب المجال المرئي على نحو مغاير. والسؤال هو : كيف يمكن رسم سرديّات كاريكاتيرية من وجهة نظر المؤنّث؟ وللإجابة عن هذا السؤال اخترنا مسائلة بعض الرسومات التي تتخذ من صورة المرأة حقلا تعبيريا وسيميائيا للقبض على الواقع العربي كما وقع على رؤوس الشعوب فدمّر مدنها وخرّب ذاكرتها وجعل مشهد الدماء خبرا عاجلا يوميا فيها. لكن علينا التنبيه الى طبيعة هذا المؤنّث الذي تجسّده الكثير من رسومات سارة قائد. لا يتعلّق الأمر لديها بانخراط في ضجيج نسوي حول قضايا الرجل والمرأة، إنّما باتخاذ المرأة حاملا تشكيليا مناضلا للتنكيل بما يحدث من بشاعات ولحفظ ما تبقى من مفاتيح المستقبل.

إنّ الصورة التي تهمّنا هنا هي بعنوان “من نكبة ..الى نكبات”، وهي صورة تذكّرنا بالإجاصات الأربعة لأهمّ رسّام كاريكاتوري حديث هو هنري دوميي الذي يتهكّم فيه من الملك لويس فيليب.

من نكبة الى نكبات: رسم كاريكاتوري يستثمر فنّيا في العدد أربعة لا من أجل التهكّم من الملوك المستبدّة بل من أجل غرض مغاير. في هذا الرسم نشهد على حضور أربع نساء: وكل إمرأة هي علامة إشارية تعبّر عن نكبة وطن عربي تدلّ عليه علامة لغويّة محدّدة، وتُشحن كلّ علامة إشارية، أي كل امرأة، بعلامات إضافية : مفتاح تعلّقه في جيدها، دموع تسيل من عينيها. لكنّ العلامات الإشارية ليست مماثلة لدى النساء الأربعة. ثمّة تدرّج في الصورة في مستوى الوضعية الدلالية: من الوقوف الى الجلوس، بينهما دلالات مشحونة بالدموع التي تصبح أكثر غزارة  ممّا ينتج دلالة  ثقل العبء وإنهاك البدن ومزيد من الحزن وزمن قد مرّ بويلاته فأثقل كاهل المرأة التي تتقاطع على جسدها وتساوم على أحزانها كلّ الكوارث. غير أنّ القيمة الفلسفية لهذه الصورة التي هي بمثابة “فكرة مرئيّة” بتعبير رشيق لرودلف ارنهايم (1973) هو التأريخ للعرب المعاصرين لا من وجهة نظر الدول وأجنداتها الكاذبة بل من وجهة نظر الحروب والنكبات، أي من وجهة نظر تاريخ الضحايا . إنّ أهمّ ما يميّز هذا الرسم هو تدرّج عمليّة شحن الصورة بمضامين مأساويّة أكثر في كلّ مرّة،-على أنّ الشحن هنا أي جعل العبء يبدو أثقل فأثقل إنّما هو المعنى اللغوي الأصلي لفنّ الكاريكاتير نفسه،- حيث يبدو الفرق بين النساء الأربعة هو فرق في حدّة قساوة وفظاعة ما يحدث، وحيث يتدرّج التاريخ العربيّ  سقوطا نحو الكارثة. وتمثّل دموع المرأة وتعبيرات وجهها ونظرتها في كلّ مرّة سرديّة سيميائيّة تذهب بنا بعيدا في مجال التهكّم الأسود الى مقام فنّي مذهل. ويبدو أنّ الرمزية العميقة لا تكمن هنا في قدرة المرأة على التعبير عن مأساوية ما يحدث فحسب، بل وخاصّة في كونها تحمل مفتاح الوطن وتحفظه جيّدا بوصفها المؤتمن النهائي على ما تبقى من الأوطان المغدورة.  لكنّ الأهمّ جماليا وفلسفيا هو قدرة هذا الرسم على تحرير صورة المرأة من التمثيل النمطي التقليدي لها بوصفها حرمة أو بوصفها ضحيّة الهيمنة الذكوريّة..فالفن هنا أبعد من كلّ استثمار ايديولوجي للمرأة سواء كان لاهوتيا  أو ليبيراليا يسوّق للمرأة بوصفها حرمة أو بوصفها سلعة. إنّ سارة قائد تمنح المرأة قيمة إبداعية جمالية وسيميائية فيما أبعد من كلّ المعارك الكلاسيكية لتحرير المرأة. فالمرأة هنا ليست هويّة جندرية بل هي مفردة تشكيلية ذات بعد رمزيّ عميق إنّها رمز الوطن، وهي المؤتمن الوحيد على مفاتيح الأوطان ومستقبلها. والنساء الأربعة هنا أيقونة سيميائية على امكانية وحدة الشعوب العربية المنكوبة على نحو فنّي: تفرّقنا السياسات ويوحّدنا الفنّ. وبالإضافة الى ذلك علينا الاشارة هنا الى البعد الرمزي العميق للعدد “أربع نساء”: وهنا تفتكّ سارة هذه الرمزيّة الدينية (أربع نساء شرّعتها  المؤسسة الدينية للرجل..) من سجلّ اللاهوت، وتخترع لها بيئة فنّية جديدة وتمنحهنّ سيميائيّة إبداعية راقية، حيث يقع ههنا تهجير المعاني خارج مواضعها : إنّ المرأة هنا هي حارسة لكينونة هذه الشعوب المنكوبة في وقت فشل فيه الرجل في ذلك. والرجل ههنا لا ينظر اليه هو الآخر بوصفه هوية جندرية، بل بما هو منظومة استبدادية هو نفسه ضحية لها.

ولعلّ أهمّ صورة شحنتها الرسّامة سارة قائد في هذا السياق الفنّي للكاريكاتير في لغة المؤنّث، هي صورة بعنوان “ثواني”..وفيها نرى سبع نساء يتمسّكن بساعة زمنيّة كما لو كان التمسّك بالزمن حتى وهو في أضعف انفعالاته إنّما هو الأمل الوحيد لمحاولة تغييره. وفي الصورة وضعية دلالية مستحيلة يعبّر عنها تقابل تشكيلي لا مخرج منه : من جهة بين النساء المربوطات في عجلة الزمن كما لو كنّ يشرفن على السقوط خارج التاريخ، في كاووس وشواش وسديم مظلم، ومن جهة ثانية تظهر يدان لرجل مغلولتان من بين قفص حديدي يبدو أنّه أسير هناك.  فالرجل هنا أسير الزنزانة، والنساء أسيرات عجلة الوقت في آخر ما تبقى من الثواني،والعلاقة المستحيلة ههنا بين النساء والرجل تكمن أيضا في عدم قدرته على مساعدتهنّ على إدراة عقارب الساعة من جهة، وعدم قدرتهنّ أيضا على فكّ أغلاله من جهة ثانية لأنّهن عالقات بعجلة الزمن، ورهينات تلك الدائرة التي لا ترحم. ولكنّ كلّ امرأة من هنّ هي عبارة عن ثانية في عجلة الزمن، تحاول أن تتمسّك أكثر ما يمكن بها حتى تصحّح مسار هذا التاريخ البائس، وهي رغم ذلك لا يمكنها التعويل على الرجل من أجل مساعدتها، لأنّ الرجل نفسه يبدو ضحية النظام ولا يستطيع مجاراة ساعات الزمن.

أمّا عن العنوان فطريف وفاتن معا: فالثواني هنا تحتمل دلالة مضاعفة : فالنساء من جهة كائنات ثوان أو ثانويّة في التمثيل التقليدي لها، ومن جهة ثانية النساء هنّ من بوسعهن التمسّك بآخر ما تبقى من إمكانية تغيير عقارب الساعة وذلك في الثواني الأخيرة ممّ تبقى.

ثمّة صورة أخرى على درجة عالية من التعبيريّة بعنوان “الساقطين عنها ..فلسطين..” وفي الصورة تظهر المرأة ممسكة بخريطة فلسطين أو ما تبقى منها، وهي تظهر في أعلى الصورة في حين يحتشد جمع من الرجال ويتزاحمون على الخريطة كل يريد أن يضع يده عليها وهؤلاء هم الحكام العرب الذين خانوا القضية الفلسطينية وباعوها ولازالوا يتكالبون على المتاجرة بأحلام أطفالها.

لكن وبالرغم من اشتغال الرسّامة سارة قائد الدائم على ما يحدث في أوطاننا من بؤس وكوارث، وبالرغم من تفنّنها في أساليب التهكّم الأسود، فإنّ رسوماتها تتقن التحديق بالنور أيضا، ذلك أنّه ثمّة أيضا الوجه المشرق من الكارثة. إنّ فنّ الكاريكاتير تحت ريشة سارة قائد ليس فنّا حزينا بالرغم من اكتظاظه بدلالات النكبات ودماء الضحايا وصمم الحكّام عن أوجاع شعوبهم. فنحن أمام مدوّنة تعد بالأمل وبالقدرة على اختراع عالم أفضل. وتلك  هي رسالة الفنّان الحقيقي. لقد كتب ستاندال أنّ “الجمال وعد بالسعادة” وقد كرّر بعده كل من نيتشه  وأدرنو أنّ “الفنّ وعد بالسعادة”، أمّا دريدا فقد كتب بعد بول سيزان أن “فن الرسم وعد بالحقيقة”. لكن بين الحقيقة والسعادة ثمّة دوما أمل في تغيير العالم. وهذا هو ما كتبه ألان باديو قائلا :” إنّ الرغبة في تغيير العالم هي السعادة الحقيقية”.من أجل ذلك ترسم سارة قائد “نعم نستطيع” وأنّ “هناك أشياء لا تتجمّد”. وترسم الأمّ في شكل شجرة حبّ وثمارها كلّ بناتها القادمات من المستقبل. أليست المرأة هي مستقبل الرجل كما كتب لويس أراغون؟

وخلاصة القول: تشهد أعمال الفنّانة البحرينية سارة قائد -الفائزة بجائزة ابن رشد للفكر الحرّ (2019)- على قدرات تخييلية فائقة وذكاء فاتن في اختراع الأشكال وتنضيد الرسومات وإنتاج المعاني والدلالات، وبأساليب فنّية طريفة واستثنائية. ولعلّ مدونتها الشاسعة وغزارة أعمالها لأكبر شاهد على روعة ما تنتجه هذه المبدعة العربية من فنّ مناضل متهكّم من الأنظمة واللوبيات والحكومات العربية الكرتونية، دافعة الى مزبلة التاريخ بطغاة العرب، والساقطين عن القضايا العادلة، والمتاجرين بالخرائط والدماء.. إنّها تبدع سرديّة تشكيلية لأبناء المستقبل علّ المستقبل يمرّ قريبا من هنا، بأقلّ الخسائر والضحايا..ومن دون مأدبة دموية جديدة.

د.أمّ الزين بنشيخة المسكيني – أستاذة فلسفة الفنّ – جامعة تونس- المنار

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial