صادق جلال العظم في الذاكرة

Deutsch

صادق جلال العظم ومؤسسة ابن رشد

بقلم نبيل بشناق مؤسس ابن رشد للفكر الحر

أتذكر ونحن في فترة الشباب في الستينات والسبعينات كنا نتطلّع إلى التقدم الفكري في العالم العربي نقرأ كتب تنويرية  مثل : الايام و “مستقبل الثقافة في مصر” لطه حسين و”الإسلام واصول الحكم” لعلي عبد الرازق و”تحرير المراة” لقاسم امين يملئنا الأمل في انفتاح عصر جديد للحرية والتقدم والتصالح مع الفكر العالمي الحاضر في فترة خرج منها العالم الثالث من تأثير الاستعمار المباشر.

مرت عواصف سياسية شديدة على المنطقة العربية مثل احتلال إسرائيل لثلاثة أرباع فلسطين 1948 وفي حرب خاطفة 1967 سقطت فيها باقي فلسطين والجولان السوري وسيناء المصرية. أحداث كانت وقتها صادمة بكل المعاني وعسيرة الهضم جداً على  السياسيين والعامة على حد سواء جعلت المجتمعات العربية ومفكريهم  يبحثون عن أسباب السقوط الصاعق. ساهمت كل الايديولوجيات في جهد التحليل وكان أقواها تأثيراً اتجاه الإسلام السياسي.  ومما زاد من تأثيره واستفحاله دعمه مالياً من دول النفط في الخليج والفكر الوهابي الأصولي ولا يقل عن هذه الاسباب تاثيراً: تحوّل الانظمة  “الوطنية” الى دكتاتوريات صارمة مستهترة بالموطن/الإنسان وحقوقه ودون تحقيق العدالة الاجتماعية. لم يكن من السهل أبداً الوقوف أمام مد الفكر الديني خصوصاً لميل الناس الفطري نحو الإيمان والغيبيات باسم المقدس.

وبعد هزيمة 1967 المدوّية، تصدى عدد من الكتاب لنقد ما حصل ونقد ذلك الفكر الغيبي كان اهمهم تأثيراً في رايي المفكر الشباب صادق جلال العظم متسلحاً بالفكر الفلسفي العقلاني ومؤيداً  كبيراً للحرية والعقلانية والعلمانية فكتب “نقد الفكر الديني” و”النقد الذاتي بعد الهزيمة”  مما سبب له الكثير من المتاعب والملاحقات القضائية. وقد أشار في كتبه بوضوح لأسباب الهزيمة عسكرياً واجتماعياً أجملها بضعف الثقافة العامة وقلة متابعة المعارف الفكرية والعسكرية الحديثة مثل  اهتمام العدو بها فكان الفرق الكبير في الفكر السياسي والعسكري والانضباطي بين فريقي المعركة لغير صالح العرب.

جذبني ذلك الرجل بشجاعتة وتصميمه، بتفكيره الصافي وهو يبرهن أن وقت التفكير الديني كتعليل للسياسة و التاريخ قد ولّى فوجدته يفتح امامي طريق الامل في الانتقال من مجتمع محافظ تغلب عليه افكار مشبّعة بأحداث الماضي منذ مئات السنين إلى مجتمع الحداثة السياسية العلماني والفكر الديمقراطي عن طريق نقد الماضي من التراث والتاريخ وغربلته لولادة الحاضر العقلاني المعلل بالأسباب وليس بالتمنيات. أجاب العظم عن التساؤلات الكثيرة حول إمكانية توافق الدين الإسلامي مع العلمانية والديمقراطية بإيجابية واضحة.

يقول السيد كرستن كنيب في مقال له في القنطرة2009 بمناسبة عيد ميلاد العظم الخامس والسبعين  ما معناه:

“يُعدُّ صادق جلال العظم، داعية التنوير العربي ورجل الاشتباك الفكري والديني، من أشهر النقّاد في العالم العربي وأكثرهم حدة. تعرّض العظم نتيجة لذلك لنيران العديد من الجبهات، غير أنه رغم ذلك احتفظ بمكانته المميزة لعشرات السنين. تربيته الارستقراطية الراقية سمحت له كما يقول أن يلتفت إلى الواقع الحقيقي وإهمال كل ما له علاقة بالميتافيزيقيا فاخذ ينظر إلى العالم نظرة عقلانية مادية تحميه من أشكال التعصب الفكري.
يمثل العظم ظاهرة في العالم العربي. ليس هناك سوى مثقفين قلائل استطاعوا انتقاد الدين مثل ما فعل. وجّه العظم نقده لكل مسارات الأحداث مثل : حرب ال 67، الفتوى ضد سلمان رشدي، الجدال الذي تفجر إثر كتاب إدوارد سعيد ” الاستشراق” ثم الحرب على العراق والاصولية الإسلامية. في عقود عمره الاخيرة نكاد أن لا نرى أحداثاً لم يدلِ العظم بدلوه فيها”.

 عندما تشبع فكري بآراء صادق العظم في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت الموجة الوطنية العارمة من سنوات الخمسينات والستينات قد تراجعت شيئاً فشيئاً لصالح الحركات الدينية والإسلام السياسي مدعومة من اموال البترول العربي. خفتَ صوت معظم حاملي الفكر الوطني التقدمي بفروعه أمام زخم تلك الحركات الدينية فكان زملائي الوطنيين التقدميين عندما اناقش معهم هذا الامر بضرورة إنشاء تيار للفكر الديمقراطي مقابلاً للفكر الديني ، يقولون لي امام هذه الموجة العاتية يجب ان نحني رؤوسنا حتى تمر العاصفة.

في ذلك الوقت 1998 بدأت فكرة إنشاء مؤسسة ابن رشد للفكر الحر تنضج لدّي ولدي بعض الاصدقاء والزملاء والزميلات وذلك لمنح جائزة ابن رشد للفكر الحر سنوياً لأحد المبدعين /ات العرب في مواضيع تساهم في تطوير العالم العربي. بدأت أتواصل مع كبار الكتاب والمفكرين في العالم العربي مستفسراً عن آرائهم حول هذا الموضوع. جاء الجواب من العديد منهم إيجابياً مشجعاً بضرورة تنفيذ الفكرة، أذكر منهم كمثال وليس للحصر: حيدر عبد الشافي/فلسطين ونصر حامد أبو زيد ومجمود أمين العالم وحسن حنفي /مصر ومحمد عابد الجابري/المغرب ثم كلوفيس مقصود/لبنان /الولايات المتحدة  وصديقنا في الفكر والإنسانية صادق جلال العظم كتب بخط يده من دمشق مؤيداً يقول:

“طبعاً فكرة إنشاء مؤسسة ابن رشد للفكر الحر تهمني كثيراً كما تهم العديد من الزملاء هنا وأريد أن أعبّر لك عن استعدادي للتعاون معكم ومع المؤسسة لما فيه خدمة أغراضها وأهدافها. كما أريد أن أعبر لكم عن إعجابي الكبير بالمبادرة التي قمتم بها والتي تستحق منا جميعاً كل إعجاب ومساهمة وتعاون. لذا أرجوكم تقبل أحر التهاني من جانبي بالمشروع كله. كما أشكرك جزيل الشكر على اهتمامك بنشاطي الفكري والثقافي ومتابعتك لكتاباتي ومؤلفاتي”.

لم أعرف صادق العظم شخصياً آنذاك في 1998 بل كان لي الشرف مقابلته بعد أكثر من عقد من السنين هنا في برلين فوجدت فيه كما في كتاباته : الإنسان المنطقي العقلاني الهادئ، كان بمواقفه الفكرية يسمو فوق السياسة وفوق الأيديولوجية،  أمضى طيلة حياته في السجالات الفكرية مدافعا عن الحق والعدل والإنسانية للانتقال بالمجتمعات العربية إلى عصر الحداثة وحقوق الإنسان.

رحم لله صادق جلال العظم وسيبقى دائما في وجداننا حياً. ولان فكر صادق العظم سابق لوقته، سيكون لفكره على الاجيال العربية القادمة أعظم الأثر.

نبيل بشناق
مؤسس مؤسسة ابن رشد للفكر الحر

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial