صادق جلال العظم والثورية السورية

Deutsch

بقلم محمد شاويش (رابطة الكتاب السوريين)

الصديقات المحترمات: الأصدقاء المحترمون:

حين اتصل بي الزميل حسام الدين محمد ليقترح علي إلقاء كلمة “رابطة الكتاب السوريين” في أمسية مخصصة لصادق جلال العظم أحسست أنني يجب أن أتكلم عن ستين عاماً على الأقل من تاريخ الثقافة  والسياسة في سوريا في مدة وجيزة للغاية، ذلك لأن صادق كان منشغلاً وفاعلاً في السياسة والثقافة لا على مستوى القطر السوري فقط بل على مستوى المشرق العربي بأسره، ولو تصفح المرء كل ما أصدر من كتب وكتيبات فسيجد أن الفلسفة لم تكن الصومعة التي انعزل فيها العظم ولم يشأ أن يرى غيرها، بل كان موجوداً في السياسة المشرقية ومحاولات العرب التغييرية منذ الستينات. وحيثما ذهبت في كتبه ستجد محاوراته ونقاشاته وصراعاته الفكرية أيضاً مع الفاعلين في المجال العام في بلاد الشام.

هيهات أن يتسع هذا الزمان المحدود للمرور بكل هذا التاريخ لهذا الفرد المنخرط في هموم الجماعة. اختار العظم أن لا ينضوي تحت الإجماع، وغالباً ما كان يجد نفسه في صراع مع هذا الاتجاه السياسي أو الفكري أو ذاك. كان في قلب الصراعات الفكرية في سوريا وفي لبنان وفي الحركة الوطنية الفلسطينية، وكانت له وجهة نظر بعيدة عن “الأورثوذكسية” كما كنا نقول ذات يوم، فهو لم يجد نفسه يواجه الأورثوذكسية الدينية فقط إن شئتم، بل واجه الأورثوذكسية الماركسية أيضاً، وكانت بعض كتبه لا تجد اعترافاً مثلاً بأنها منسجمة مع أصول “المنهج الديالكتيكي” كما تقرر في الأحزاب الشيوعية القديمة والمنظمات اليسارية الجديدة، ولا أزال أذكر موقفاً يسارياً وصف كتاب “نقد الفكر الديني” أنه على وجه التحقيق كتاب لبرالي لا ماركسي! ذلك أن الأورثوذكسية الماركسية يومها كانت تتطلب من “ذي التفكير القويم” الاهتمام بالبنية التحتية أولاً على حين أن العظم كرّس كل الوقت لمحاولة البحث في كيفية تغيير البنية الفوقية (أي مكوّنات ثقافة المجتمع) منعزلة عن “أساسها” الذي هو البنية التحتية!

وفي هذا الإطار لم تكن كتب مثل كتابه عن “النقد الذاتي بعد الهزيمة” أو عن “الحب والحب العذري” لتندرج في إطار “ثوري صحيح” كما كان كثيرون من أفراد ذلك الجيل يفهم “الثورة الصحيحة”. وما من ريب أن كتبه اللاحقة لم تكن أقل “إثارة للجدل” ولعدم الرضا عند أطراف فكرية تبدو متعارضة، فكتابه عن “ذهنية التحريم” مثلاً أغفضب المتدينين الجدد كما أغضب بعض اللادينيين.

لقد كان العظم حقاً “مثيراً للجدل”! لكن ساحتنا الفكرية تحتاج إلى من يثير الجدل فيها. ولتفسير مقدرة سوريا الغريبة على “تحمل” أفكار العظم التي نرى أنها في بلاد أخرى ما كانت لتحتمل بحال يجب أن نقوم بدراسة شاملة لتلك الكتلة التاريخية المؤلفة من أوساط اجتماعية – ثقافية شكلت النخبة السورية منذ الاستقلال في منتصف الأربعينات ووهبت المجتمع السوري  نوعاً من الإجماع الذي يقبل التنوع، هذه الكتلة التاريخية تفككت في العقدين الأخيرين بفعل سياسات النظام الاقتصادية – الاجتماعية وشهدت نقطة انهيارها المدوي مع الثورة، وعند انفجار الثورة وقف العظم معها وكان قبل ذلك في سنوات حكم بشار الأسد الأولى ممن عمل على تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني.

 بعد انفجار الثورة وقف معها مخالفاً لمثقفين آخرين عارضوا الثورة بدعوى طابعها الديني أو خروج المظاهرات من الجوامع لا من الجامعات، ولم يكتف العظم بأن يقوم بدور النظري أو الكاتب المفكّر بل أسّس منظمة اجتماعية خاصة هي “مؤسسة صادق جلال العظم للثقافة والتعليم”، ولم يتردد في الإنفاق عليها من دخله الخاص بالتعاون مع مؤسسات إغاثية وخيرية أخرى. ومن نشاطات هذه المؤسسة مشروع “للتعليم البديل” في “كفر نبل” بإدلب ويتضمن ست مدارس لتعليم الأطفال المهجرين، ومعهد تقوية للمواد الأساسية ومعلمين للخياطة.

كان العظم من مؤسسي “رابطة الكتاب السوريين” وقد انتخب بالأكثرية رئيساً لها، وكان رئيساً لتحرير مجلة الرابطة “أوراق”، وكانت له مشاركات مهمة في مناقشات المرحلة التأسيسية وكان يتابع الاجتماعات الأسبوعية للمكنب التنفيذي للرابطة.

لم ينه العظم حياته فيلسوفاً منعزلاً مع كتبه ودفاتره أو كمبيوتره، بل أنهاها مشاركاً في ذلك الحراك السوري الهائل متنوع الوجوه والأشكال، وقد كتب لي الزميل حسام الدين محمد المتابع اللصيق للعظم وعلاقاته مع الوطن والعالم الكلمات التالية التي أنهي بها هذه الكلمة: “متأثرين بحالته الصحية الحرجة، قام بعض محبّي العظم عدّة مرّات بالاستعجال بإعلان وفاته، وهو أمر يعكس، من ناحية، الإحساس بدور العظم الكبير في الثقافة السورية، كما أنه يعكس، من ناحية أخرى، هذا الميل للفجائعيّ والمأساوي لدى السوريين.

قام آخرون أيضاً، مخدوعين بنبأ موت مزعوم، باستغلال المناسبة لتهديم العظم من خلال الإساءة لعلاقته بالثورة السورية، وبالتالي لعلاقته بالرابطة التي عمل جهده، وللحظة الأخيرة، على دعمها وتوطيد أركانها، وهو ما اعتبرته الرابطة شكلاً من أشكال الحرب ضد الشعب السوري، الذي غدا بعد أكثر من خمس سنوات على بدئه ثورته العظيمة، موضوعاً للتدخلات الخارجية والاستعصاءات العالمية والإقليمية وأشكال القتل والتجويع والحصار والتهجير الجماعي.

العظم هو شعبه وهو رابطة الكتاب السوريين، وذهابه الفيزيائي لن يعني إلا بقاءه الفكري معنا. هذه هي فلسفة العظم وهذا هو الفكر الذي علّمنا إياه.

رد العظم على المستبدين وأتباعهم الأذلاء كان واضحاً: مع شعبي حتى الموت”.

محمد شاويش

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial