أعمال صادق جلال العظم وأهميتها في أوروبا

Deutsch

بقلم فيرنر انده

خطاب البروفسور فيرنر اندة عن اعمال صادق

السيدات والسادة،
الزملاء والأصدقاء الأعزاء، الضيوف الكرام،

اسمحوا لي، أن  أبدأ  كلمتي ببعض الملاحظات حول الظروف التي أحاطت بلقائي الأول مع صادق العظم. كان ذلك في خريف 1969. وكنت قد جئت في شهر أيلول/سبتمبر إلى بيروت، لتولي وظيفة مساعد باحث في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية. تأسس هذا المعهد عام 1961 ولا يزال موجودا حتى اليوم. وتتمثل مهمته بتقديم امكانية استضافة العلماء الالمان – من الجنسين – من مختلف مجالات الدراسات الشرقية لفترة من الزمن لتعزيز مؤهلاتهم المهنية الذاتية ، عبر وجود المستشرقين في بيئة محفزة وعلى اتصال مع زميلاتهم و زملائهم العرب.

كانت المجالات في ستينيات القرن الماضي، التي تقف في مقدمة اهتمام معظم هؤلاء الأشخاص (وأغلبهم من الشباب) في الدراسات العربية التقليدية، العلوم الإسلامية أو مجالات مماثلة، منها على سبيل المثال النصوص المحررة أو دراسات حول الأدب العربي الكلاسيكي. أحرز بعض من هؤلاء الباحثين نجاحاً كبيراً في ابحاثهم، لكنهم قلما اهتموا بالتطورات الثقافية الراهنة في لبنان والدول المجاورة. حاول آخرون التآلف مع المشهد الثقافي العام في البلاد – من ضمنهم كذلك اثنان من الباحثين من ألمانيا، اللذان عملا بالمعهد في أعوام 1962 و1963-1964: وهما ستيفان فيلد Stefan Wild وجوزيف فان إيس Josef van Ess.

كان فان إيس قد التقى صادق على الأرجح في عام 1963، وبعد عودته الى المانيا  ، لفت الانتباه لمحاضرة عقدت في “النادي الثقافي العربي” في بيروت بتاريخ 10 كانون الثاني\ ديسمبر 1965  قدمها صادق، والذي كان وقتها أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت. كانت المحاضرة بعنوان “مأساة إبليس” بمعنى “تراجيديا إبليس” (أي الشيطان) والتي أثارت ضجة كبيرة في لبنان. وكانت حول موضوع تكرر ذكره في القرآن، وهو رفض إبليس لأمر الله، أن يركع لآدم، وحول التأويل اللاهوتي لهذا العصيان. كان مغزى وخطورة ما حاول عرضه صادق واضحاً ، بمعنى– تقديم رؤية جذرية تنزع الصورة الاسطورية واعادة تقييم لهذه القصة القرآنية وهي، كما أكد، لا تعكس بأي حال حدثاً فعليا. والشيطان لم يكن متمرداً على الله، ولكن في الواقع كان كبير المؤمنين الحقيقيين. لن استطيع في هذا المقام، ان أتطرق الى الخلفية اللاهوتية لهذه القصة ونتيجة تأويلها الجديد.

نشر فأن إيس في عام 1968 في المجلة العلمية المتخصصة للدراسات الاسلامية المعروفة “عالم الإسلام” مقالا بعنوان “دفاعا عن الشيطان وتداعياته”، والذي عرض فيه منطق صادق وردود فعل جزء من المشتغلين بالشأن العام اللبناني. من خلال هذا المقال عُرف صادق لأول مرة على نطاق أوسع الى جمهور غربي متخصص، إضافة إلى عدد كبير أخر كنت أنا من بينهم.

حين وصلت إلى بيروت في عام 1969، سألني الباحث السابق والذي اصبح في حينها مديرا لمعهد الدراسات الشرقية، ستيفان فيلد، إذا كنت مهتما بمرافقته لزيارة صادق جلال العظم في داره. حدثني فيلد عن كتابين، كان صادق قد نشرهما، وهما “النقد الذاتي بعد الهزيمة” (1968) – والمقصود هنا هزيمة حرب حزيران 1967)، و كتاب “نقد الفكر الديني ” (1969) . وكانا قد تسببا بردود فعل قوية حتى انها في الكتاب الثاني قادت الى إجراءات قضائية ضده.

وبطبيعة الحال، كان لدي رغبة قوية في مرافقة زميلي في زيارته. ما زال ذلك المساء ماثلا حيا في ذاكرتي حتى اليوم. خاصة حديثنا نحن الثلاثة، وايضاً لأن صادق كان وقتها يعاني من أوجاع شديدة في الظهر، ومضطراً كل الوقت على نقاشنا وهو طريح الفراش. فعل ذلك بإصرار وخفة ظل وسخرية. ما اثار اعجابي.

إذا سمحتم لي بتداعي الأفكار: في أعقاب ذلك اثبت صادق بمعنى أوسع صلابة ظهره وشاهدنا بأم اعيننا مقدرته على السير” بشكل مستقيم”.

نشر ستيفان فيلد في عام 1972 مقالا خاصا في المجلة العلمية المتخصصة “الإسلام” حول كتاب “نقد الفكر الديني”، قدم من خلاله دور صادق كمفكر جذري من ذوي التوجهات العلمانية، وأصبح علاوة على ذلك معروفا في أوساط المستشرقين الأوروبيين. وقد ساهمت هذه المقالة بلفت انتباه بعض وسائل الإعلام الغربية أيضا. وقد كان – وبقي حتى وفاته – منشوداً لإجراء المقابلات. وهذا لم يتأت من حقيقة كونه على معرفة عميقة بالتراث الثقافي العربي (ناهيك عن الفلسفة بالطبع) فحسب ، بل و لأن لديه ايضا سعة اطلاع غير عادية في التاريخ الأدبي والفكري الغربي.

وهو ما جعله مثيراً للاهتمام كمحاور ومحاضر، على نطاق واسع. لكنه لم يكن مثيراً للاهتمام فحسب، بل وغير مريح أيضاً، خاصة بالنسبة لبعض المحاورين الغربيين: وكان ناقداً للعناصر الأساسية لسياسة الولايات المتحدة الامريكية ودول غربية أخرى تجاه الشرق الأوسط، بقي وظل على ذلك مصرا. من ناحية أخرى، واصل الصدام مع أيديولوجية وممارسة العديد من حكومات الدول العربية. وقد أظهر ذلك بالفعل في كتابه الموسوم “النقد الذاتي بعد الهزيمة”: وهو ما تحدث عنها صراحة، وكان هذا اعتقاد عدد غير قليل من المثقفين العرب الآخرين أيضا، ولكنهم لم يجرأوا على النطق به. صراحة صادق أكسبته بالطبع الكثير من الأعداء وعرضته للخطر من وقت لآخر. هذا ما حدث ايضاً في انحيازه الحازم لسلمان رشدي وكتابه “آيات شيطانية”. أشتهر هذا الانحياز في الغرب عبر مقال طويل نشر في عام 1991 في مجلة سبق ذكرها هنا “عالم الإسلام”: “أهمية أن تكون جاداً ومخلصاً عن سلمان رشدي” (“The Importance of Being Earnest about Salman Rushdie”.) وقف صادق ليس ضد فتوى الخميني والمدافعين المسلمين عنها فحسب، بل وضد بعض الكتاب الغربيين غير المسلمين، الذين في رأيه، لا موقف لهم بما يكفي من الحسم دفاعاً عن حرية الرأي.

في الوقت نفسه كان متابعاً ومحاورا ومناقشاً جيداً لآراء نقاده. لذلك أحتوى كتابه “ذهنية التحريم. سلمان رشدي وحقيقة الأدب”، الذي صدرت الطبعة الثانية منه عام 1994 في نيقوسيا، على ملحق شامل ضم تعليقات 16 من الكتاب الذين لم يشاركوه كلياً أو جزئيا في موقفه من قضية رشدي فقط. في بداية هذا الملحق كان هناك مقال لمصطفى طلاس.

وبالرغم من أنه كان له نقادا في الغرب، وجد صادق مرة أخرى في أوروبا وأمريكا الشمالية المؤيدين والأصدقاء أيضا. وهذا ما ساهم في دعوته،  خصوصا في سنوات المنفى، من جامعات عديدة لإلقاء محاضرات أو أستاذا زائرا. هكذا أيضا – ومن دواعي سروري الكبير – تكريمه عن طريق “جامعتي”، جامعة هامبورغ، التي، منحته في عام 2005 شهادة الدكتوراه الفخرية. كما حصل صادق من توبنغن في عام 2004، على جائزة الدكتور ليوبولد لوكاس وعلى جائزة ايراسموس في نفس العام، و في عام 2016 قلد وسام غوته في مدينة فايمار.

وقد ساهمت جوائز التكريم هذه أن أصبح صادق حاليا من أكثر المفكرين العرب شهرة. الكثير مما كان يتمناه، ولاسيما في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، للدول العربية لم يتحقق. إذ جرت الأحداث عكس ذلك. ولكن التاريخ لم ينته بعد.

شكرا لاهتمامكم.

فيرنر انده


ترجمة فادية فضة
مراجعة د. حامد فضل الله

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial