بقلم إيفان العظم
خطاب بمناسبة حفل تأبين الفيلسوف السوري صادق جلال العظم في برلين في فبراير 2017
الحضور الكریم،
السیدات والسادة الكرام، مساء الخیر
بدایة، أوّد ان اوجه خالص الشكر باسم اخي عمرو العظم وبإسمي و باسم مؤسسة صادق جلال العظم لمؤسسة ابن رشد للفكر الحر لتنظیم ھذه الفعالیة في قلب مدینة برلین وفي هذه القاعة الممیزة لتاریخ هذه المدینة.
بعض منكم متواجد الیوم لتكریم صادق المفكر والمثقف والفیلسوف وصادق الأستاذ والبعض الآخر أتى لإحیاء ذكرى صدیق عزیز. أما انا فمعكم الیوم لتكریم صادق الأب.
لقد عاش صادق حیاته مثلما راقت له، حیث وصف بنفسه رحلة حیاته بأنها “غزیرة وغنیّة. رحلة حیاة استمتعت بها بشكل كبیر ولا أشعر بالندم تجاه أي شيء فعلته”. أي انه عاش الحیاة بحلوها ومرها وطولها وعرضها بطریقته. مثل أغنیة (My way) لفرانك سناترا
ممكن تقسیم حیاة صادق إلى ثلاث مراحل: – المرحلة البیروتیة – الستینات والسبعینات في بیروت، -المرحلة الدمشقیة- الثمانینات والتسعینات في دمشق و –المرحلة العالمیة- أي بدایات القرن ال ٢١ والتي قضاها ما بین دمشق وعدة عواصم ومدن بالعالم والتي تضمنت منفاه في السنوات الأخیرة. ورحلة حیاتي مع والدي تضمنت أیضاً ثلاث مراحل.
الطفولة البیروتیّة، المراهقة الدمشقیة وسنوات النضوج بین الانتقال من بلد لأخر وعلاقتي بصادق في سنوات منفاه الأخیرة.
أوّد ان اشارككم بعض الذكریات من رحلتي مع صادق،
ترعرعت بین بیروت ودمشق، هاتین المدینتین اللتان كتب فیهما صادق أكثر كتبه أهمیة وتأثیراً. تربیت في بیت ذو ثقافیة غربیة متحدثاً تداخل من العربیة والانجلیزیة في حیاتنا الیومیة. بیت مثقف وأكادیمي، نابضاً بالأفكار من كثر شغف أمي وأبي بالمعرفة والثقافة. كنت محاطاً بالكتب والفن والنقاشات الأكادیمیة والفنیة والسیاسیة الشیّقة. تواجد النشطاء والمفكرین والفانین والدبلوماسیین كان من طبیعة هذا البیت الذي حضن الجمیع. ولحسن حظنا تمكنا من التعرف على المسرح والبالیه والفنون المختلفة من خلال زیاراتنا العدیدة – وذلك في سن مبكرة – الى أوروبا. هذا الاكتشاف المبكر في طفولتي للمسرح والفنون قادني إلى عالم السینما لاحقاً.
سنوات بیروت
كنت كارهاً للمدرسة والمدرسین، ولزیادة بؤسي – من وجهه نظري آنذاك- كان عندي استاذین في البیت، أمي فوز استاذة اللغة الإنجلیزیة وأبي صادق استاذ الفلسفة. حیث لم یثنوا جهداً بمتابعة واجباتي واجباري على اعادتها في حال كانت خاطئة او غیر مكتملة. علموني بذل الجهد للحصول على النتائج.
خلال كتابتي لهذه السطور أرى أمامي شارب صادق الكثیف والسیجار في یده، واستذكر الطفولة المبكرة ومشاركته لأخي ولي في لعبة المونوبولي، والمشاویر لمطار بیروت الدولي لمراقبة إقلاع وهبوط الطائرات أثناء تناول البوشار. وفرض یوم الأحد وهو زیارة الجدّ والجدة لتناول الكبّة اللبنیة او الفول بالأرز والرز بالحلیب المقیت.
سنوات دمشق
في دمشق بدأت تقدیر أحادیث ونقاشات والديّ (المثنى ومش المفرد) المسائیة. واتذكر النقاشات حول الكتب التي كتبها صادق او مخططاته لكتب مستقبلیة. واستشارة صادق لأمي حول المراجع والمصادر العربیة منها والإنجلیزیة واعتماده على معرفتها العمیقة بالأدب الإنجلیزي وبالأخص بتاریخ الروایة الانجلیزیة.
قام صادق بكتابة جمیع كتبه بخط الید، وتمر في ذاكرتي أكوام الأوراق البیضاء حین كان یعید نسخ المسودات لتقوم امي بتدقیقها لاحقاً.
كأي مراهق، كنت ارید الثورة على والديّ والبیت، ولكن كیف لي ان أثور وانا في كنف ثوري، اترعرع بین موسیقى جوان بیز، بوب دایلن، جوني كاش، جوني میتشل، البیتلز والرولینغ ستونز. وحیث اني حملت كرهي للمدرسة من بیروت الى دمشق، أصبحت اغنیة طوبة أخرى في الجدار لبینك فلوید نشیدي الخاص.
لدهشتي أحب صادق أغاني بینك فلوید ایرون مایدین، وكم كان مندهشاً حین اكتشف أني أحب سماع طرب ناظم الغزالي، من أحب المطربین الى قلبي. مع ان صادق لم یكن ن مریدي الطرب لكنه كان مھتماً بهذه الموسیقى.
شاء القدر ان یكون أستاذ الفلسفة في المدرسة أحد تلامذة ابي، ولم یستطع فهم حقیقة كیف اكون ابن صادق العظم وعلى هذا المستوى الرديء في مادة الفلسفة. أخذ صادق على عاتقه متبعة مادة الفلسفة معي وبذل جهداً بأن یشرح لي المنطق الفلسفي وتطبیقاته وأهمیته خاصة في الفكر النقدي. تلازمني تلك المهارة التي علمني إیاها لغایة الیوم.
قررت دراسة السینما بعد مشاهدتي فلم المخرج بیتر غرینوي ” الطباخ واللص وزوجته وعشیقها”، مع ان صادق لم یعجبه الفلم، لكنه شجعني ان اتابع شغفي دون تردد، وأعتبر ذلك جزءً من حبه وتقدیره للثقافة والسینما.
سنوات المنفى
مما لا شك فیه ان رحلاته العدیدة الى أوروبا سنحت لنا الكثیر من فرص اللقاء وأنهینا خلالها فناجین القهوة في المدن المختلفة.
في آب ٢٠١٦ ، صورت مقابلة خاصة مع صادق، أحدى آخر المقابلات معه، لاكتشف الرجل خلف هذه الكتب وهذا الفكر. كان عندي العدید من الأسئلة والكثیر من الفضول حول نشأته، تربیته، الامور التي أثرت فیه، القضایا السیاسیة.
القصص التي سمعتها وانا طفل وكیف التقى بوالدتي. كان لقاءً منفتحاً وصریحاً وكم انا سعید بأنني صورت هذه المقابلة.
الحضور الكریم، یشرفني وجودي معكم الیوم ویشرفني بهذه المناسبة أن أعلن وبكل فخر عن إطلاق مؤسسة صادق
جلال العظم، دور هذه المؤسسة الحفاظ على ارث صادق الفكري والثقافي ونشره. الإرث وقیم الانسانیة والعقلانیة والعلمانیة والتسامح التي حملها صادق في رحلة حیاته . تتعهد المؤسسة بدعم ونشر الأبحاث العلمیة والنقاشات والمنشورات والكتب وأنشطة أخرى التي تتناول الإرث الفكري والثقافي لصادق جلال العظم. بالإضافة للتعاون مع جمیع الأشخاص والمؤسسات المعنیة بهذا الإرث ونشره. هذا الموقع الالكتروني سیتضمن جمیع كتابات صادق المنشورة وغیر المنشورة بالإضافة الى الصور والأوراق والتسجیلات، لتكون بمتناول المهتمین والباحثین من افراد ومؤسسات.
وسینطلق الموقع باللغة العربیة أیضا لإیصال ارث صادق جلال العظم الى الجیل الشاب من الباحثین والمهتمین في العالم العربي. www.sadikalazmfoundation.org
اشكر لكم حضوركم لتكریم صادق ولروحه السلام.