بقلم د. حبيب حداد
شغلت مسالة العلاقة بين العلمانية والديمقراطية من جهة، وكذلك العلاقة بين كل من الهوية الوطنية والدين، اي الدين الإسلامي، العلمانية والديمقراطية من جهة ثانية، حيزا واسعا كما هو معروف في الرؤية الفكرية والسياسية للنخب والأحزاب والحركات الاصلاحية على امتداد القرن الماضي وفي كل المجتمعات العربية تقريبا. وبطبيعة الحال فقد كان الجدل والصراع حيال هذه القضايا على اشده في هذه المجتمعات وخاصة بعد الانتقال من مرحلة الكفاح الوطني لنيل الاستقلال من الاستعمار المباشر الى مرحلة الكفاح والتحررالمجتمعي الذي كان هدفه المحوري بناء الدولة المدنية الديمقراطية على اسس الحرية والعدالة والحداثة ومواكبة مسار العصر. واذ نكرس حديثنا هنا لهذا الموضوع فان مانرغب في توكيده هو اننا لا نرمي من وراء ذلك الغوص في مسائل نظرية او ايديولوجية بحتة فليس هذا هو مكانها ,وليس الأن هو زمانها، حيث بلادنا تغرق في خضم ماساة مصيرية تهدد مستقبلها بل ووجودها من اساسه، وتستدعي منا قبل أي شيئ آخر توحيد ارادتنا واستعادة وتمتين وحدتنا الوطنية والمبادرة الجماعية للقيام بكل مامن شأنه انقاذ وطننا. لكن الاستعراض الوجيز للموقف من تلك القضايا وفي مرحلة. المد التحرري لشعوبنا العربية في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي وكيف كان نهج واسلوب التعامل معها ,وبالتالي الى اي مدى امكن التعايش معها ,ومن ثم مقارنة دروس تجارب تلك المرحلة التاريخية بما نشهده من ازمة شاملة تعيشها بلداننا اليوم بعد اخفاق مشاريع الثورات التحررية التي جاءت في سياق ما سمي بالربيع العربي , ان ذلك هو امر ضروري وحيوي كي نعي وندرك الى اين نحن سائرون؟ وما هي صورة المستقبل الذي ينتظرنا اذا نحن لم نستعد ذاتنا المغيبة ونمتلك مصيرنا المرتهن ونستعيد مسارنا في الاتجاه الصحيح ؟ واني اعتقد انني استطيع وبأفضل كيفية تلخيص ما قصدته من عرض هذا الموضوع والغاية التي ارمي اليها، بطرح السؤالين التاليين: هل كانت هذه القضايا والمهام التي لم يكتب لها النجاح سابقا ولم تصبح جزءا اساسيا في وعينا العام وفي تكوين هويتنا الوطنية وفي ثقافتنا الجمعية وبناء دولنا وأنظمتنا، خاطئة اساسا وغير واقعية وليست قابلة للتطبيق والحياة؟ والسؤال الآخر: هل ان ما نواجهه اليوم من مشاكل وتحديات ومحن، وما يطرح من شعارات وبرامج ماضوية ومتخلفة لا علاقة لها بتاريخنا القريب والبعيد ولا صلة لها بروح العصر من قبل اطياف ومجموعات واسعة من المعارضات، هي البديل المطلوب الذي يجسد تطلعات شعوبنا او يمكن اعتبارها التصحيح المنتظر وفي الإتجاه الذي يتجاوز اخطاء وعثرات الماضي، والذي يكفل انجازتلك القضايا والاهداف التي لم يمكن استكمال تحقيقها في خمسينات وستينات القرن الماضي اي في مرحلة الصعود التحرري وعبر معارك ومحطات مواجهة تحديات التخلف والتبعية والتجزئة.
بالنسبة للدول الديمقراطية الحديثة يمكن القول ان مقومات واسس بناء هذه الدول لم تتكامل وتتوطد بصورة متميزة الا منذ منتصف القرن الماضي وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية وحيث انقسم المجتمع الدولي الى ثلاث مجموعات من حيث شكل وطبيعة انظمة الحكم فيها , فهناك الدول الديمقرطية الليبرالية الغربية التي كانت تشكل ما سمي بالمعسكر الرأسمالي او الغربي وهناك الدول الشيوعية التي كانت تشكل ما سمي بالمعسكر الاشراكي او الشرقي، وهناك بقية دول العالم التي كانت تحكمها انظمة هجينة بمقوماتها وبنية مجتمعاتها التي تراوحت أوضاعها بين الاستقلال الشكلي والتخلف والتبعية والتي كانت تسمى تارة بدول العالم الثالث، وتارة اخرى بالدول السائرة في طريق النمو. . .
على صعيد النخب الفكرية والسياسية العربية وخاصة في أقطار المشرق كان النقاش والحوار المحتدم بينها حول هذه القضايا يمثل معظم اهتماماتها النظرية والعملية، وكان الدافع لذلك في راينا ثلاث غايات اساسية : اولها يرجع الى مسالة ذاتية تتمحور حول مهمة تكامل وتطور مستوى الوعي المطلوب عند هذه النخب، وثانيها طموحها المشروع في ان تقنع فئات المجتمع ,التي تطرح نفسها ممثلة لها، بصدقها وباهليتها في اكتساب ثقتها ,وثالث تلك الغايات كي تبرهن للرأي العام في بلدانها انها هي لا غيرها تمتلك الرؤية السياسية الصحيحة والبرامج العملية الواقعية لتنفيذ مشاريعها الاصلاحية والتنموية فيما اذا وصلت الى السلطة. وحتى ننتقل من افق القضايا الكلية والعامة الى نطاق القضايا المحددة والمعاشة فيما يتعلق بموضوعنا هذا ,فان من المناسب هنا العودة للتذكير باهمها واسترجاع كيف كانت المواقف منها سواء من قبل الاحزاب والحركات السياسية وفصائل حركة التحرر الوطني عموما ام من قبل النخب الفكرية والثقافية.
اولا – حول الموقف من الديمقراطية الليبرالية البرلمانية : كان موقف معظم التيارات القومية والاشتراكية واليسارية والماركسية والاسلامية سلبيا منها ان لم نقل معاديا لها، وذلك من منطلق انها رات ان هذه الصيغة من الديمقراطية ما هي الا بضاعة غربية مستوردة وان الغاية من الأخذ بها في نظم الحكم عندنا هي تمكين الطبقات البورجوازية والإقطاعية المستغلة لادامة تسلطها واستغلالها لجماهير الشعب الكادحة والمنتجة , وخدمة مصالح الدول الغربية التي ترتبط بها وتعمل كوكيلة لها. اما ما يحقق العدالة والفرص المتكافئة والحرية الحقيقية لكل مواطن فقد كانت بنظر هذه التيارات هي الديمقراطية الإجتماعية. اما الليبراليون العرب الذين اضطلعوا بدور تنويري هام ومقدر والذين كانوا طلائع دعاة نشر افكار وقيم الليبرالية والعقلانية والديمقراطية والعلمانية في وعي مجتمعاتنا فلم تكلل جهودهم بالنجاح وذلك راجع لاسباب عديدة في مقدمتها بلاشك بنية تلك المجتمعات التي يهيمن عليها طابع التخلف والعطالة والقدامة.
ثانيا – حول الموقف من الأنطمة الوطنية والتقدمية في العالم العربي: كان النقاش طوال ستينات وسبعينات القرن الماضي يتواصل على اشده بين مختلف احزاب وفصائل حركة التحرر العربية تجاه التقييم الصحيح والموقف الذي ينبغي اتخاذه من الانظمة الوطنية والتقدمية القائمة في تلك المرحلة. وعلى سبيل المثال كان الماركسيون العرب ينظرون الى هذه الانظمة على انها انظمة وطنية وعلمانية وان لم تكن ديمقراطية، وذلك حسب رأيهم راجع الى مواقف هذه الانظمة المعلنة من المشروع الصهيوني ودعمها لكفاح الشعب الفلسطيني من اجل استرداد حقوقه المشروعة وتاسيس دولته المستقلة ,وراجع الى سياسات هذه الأنظمة الداخلية في مجال الاصلاح الزراعي والتأميمات الواسعة في مختلف الميادين الاقتصادية ودور القطاع العام القيادي في خطط التنمية والنهضة التعليمية والصحية والاهتمام بتطوير الأرياف . بينما كان تقييم احزاب وفصائل اخرى لهذه الأنظمة يختلف عن ذلك. فقد رأت ان المرحلة التي تمر بها تلك الدول لم تعد مرحلة تحرر وطني للخلاص من الاستعمار المباشر بل ان المهمات التي تواجهها هي بالدرجة الأولى مهمات التنمية والتطور الاجتماعي وقاطرة الإنطلاق للسير نحوتحقيق هذه الأهداف تتمثل في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تجسد ارادة شعبها في قيادة عملية التطور والمؤهلة للمساهمة الفعالة في تحرير الأرض المحتلة والمبادرة نحو اقامة كل صيغ التعاون والتكامل بين اقطار الأمة التي تهيؤها ظروفها لذلك . وبالنسبة لسياسات تلك الانظمة على الصعيد الداخلي فبرغم كل ايجابياتها في مجال النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وفي غياب ثورة ثقافية وفكرية جذرية تتناول اول ماتتناول تحديث تطوير برامج الثقافة والتربية والتكوين فان هذه الأنظمة الوطنية وغير الديمقراطية لا بد ستواجه مأزقها القاتل وهذا ماحدث فعلا في نهاية الستينات في كل من مصر وسورية حيث اغتيلت من داخلها بفعل ارتداد الأجنحة اليمينية فيها وانقلابها على مسارها وتحولت السلطة الشمولية المستبدة بعد ذلك , والتي تحكمت بالقرار السياسي وبالأمن والاقتصاد، الى شكل من اشكال المافيات الجشعة المستغلة لرأسمالية الدولة، عاملة على نشر وتعميم الفساد في مختلف قطاعات المجتمع وربط الاقتصاد الوطني كاقتصاد طفيلي بعجلة السوق الراسمالي العالمي.
ثالثا – لقد كان الاسلام على امتداد حقب التاريخ المتعاقبة بكل مذاهبه، وكذلك المسيحية المشرقية بكل طوائفها ,واليهودية كدين، ركنا اصيلا في ثقافتنا، وستظل الثقافة العربية الاسلامية، والتي كانت نتاج مساهمة مسلمين عرب وغير عرب ومساهمة عرب مسلمين وغير مسلمين , ستظل بلا شك مقوما اساسيا في تشكيل هويتنا الوطنية. وكما اثبتت تجارب دول العالم المتقدمة ,بما في ذلك بعض دول العالم الاسلامي مثل تركيا وماليزيا… ان النطام الديمقراطي العلماني بطبيعته هو النظام الوحيد الذي يوفر للأديان المناخ المناسب لها ويكفل الحيادية التامة تجاهها كي تقوم برسالتها الإنسانية الروحية في نطاق الفرد والمجتمع. لكن الاشكالية التي ينبغي التصدي لها اليوم والتي طرحت نفسها بقوة في عدد من الأقطار التي شهدت انتفاضات ما سمي بالربيع العربي وفي مقدمتها سورية والعراق ومصر هي المتعلقة بدور الدين في تكوين الهوية الوطنية وبناء انظمة ديمقراطية وبالتالي هل يمكن ان تكون الدولة الديمقراطية دولة المواطنة الحرة المتساوية، التي يقوم كيانها على مؤسسات سياسية ومدنية تعلو على روابط كل الأفراد ماقبل الوطنية مهما كانت انتماءاتهم ومراتبهم العرقية والدينية والاجتماعية، هل تكون دولة ديمقراطية حقا، اذا تاسس نظام الحكم فيها على مرجعية دينية ؟ ان السبب الأساسي في استمرار هذه الاشكالية التي كانت وما تزال عائقا في طريق تاسيس دولة المواطنة الحديثة في مجتمعاتنا هو اخفاق عملية الاصلاح الديني الجذري الذي بدات بواكيره في مطلع عصر النهضة على يد العديد من رموزها التنويرين والتي توقفت جهودها بعد رحيل الإمام محمد عبده الذي كان يؤكد دائما على مبدأ لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. نتيجة لذلك ظلت ممارسة الدين اي عملية التدين في بلادنا تتسم بماضوية الوعي المركزية الاستبدادية التي ترى انها تملك الحقيقة المطلقة تجاه الشأن الإلهي ولا تعترف بمشروعية الاختلاف وتعددية مناهج التفكير في هذا المضمار. لقد اصبحت هذه الاشكالية بالنسبة لعلم الاجتماع السياسي المعاصر من تركة الماضي البعيد، فبالنسبة له فان الديمقراطية والدين يمضيان في النهاية في طريقين مختلفين. اذ أن الديمقراطية تستند الى منظومة من القيم الإنسانية المتجددة وتستخدم اليات ومناهج متطورة باستمرار بما يؤهلها لتحقيق غايتها في عمل كل ما من شأنه مصلحة الإنسان في حياته الدنيوية بينما الدين عقيدة ايديولوجية مقدسة هدفها الأساس ترقية ضمير الانسان وحفزه على التقيد بسلوكه وفقا للتعاليم الالهية بكل ما يعزز كرامة اخيه الإنسان. وكما يرى مارسيل غوشيه في كتابه :الدين في الديمقراطية، (فان من الضروري الا يخضع التنظيم السياسي او اي من منظمات المجتمع المدني لغايات دينية ,بهذا المعنى ان لم يوجد فصل قانوني بين المؤسسة الدينية والدولة فان هناك من حيث المبدأ انفصال بين العامل السياسي والعامل الديني كما ان هناك ضرورة لأن تكون الدولة حيادية تجاه الدين). خلاصة القول ان الديمقراطية ليست ضد الدين كما تعلن ذلك غالبية تنظيمات الاسلام السياسي في بلادنا وكل منظمات الاسلام الجهادي ,فهي ترعى الدين وتحميه من استغلال السلطات الحاكمة له، كما انها تحميه من التأويلات الجامدة المتخلفة للعديد من نصوصه، وبذلك تمنع الدين من ان يكون ضد حرية الانسان او ضد المساواة في الحقوق والواجبات والكرامة الانسانية بين جميع البشر نساء ورجالا. وكما تعلمنا دروس التاريخ يمكن للدين حسب طريقة ممارسته ان يلتقي مع الاستبداد في ظروف واوضاع معينة ويمكن له ان يكون القوة الدافعة للشعوب في مقارعة الظلم والاستبداد والتهميش .ونعتقد ان هذا هو ماقصده ماركس بقوله الذي غالبا مايساء استخدامه وتفسيره مجتزءا وهو ان الدين افيون الشعوب وزفرة المضطهدين.
رابعا – ليس صحيحا اذن ما شاع لدى الحركات السياسية الأصولية والسلفية في مجتمعاتنا العربية ان العلمانية تحارب الدين وتعطل وظائفه الاجتماعية، ذلك ان سيرورة تطور المجتمعات الحديثة تؤكد في هذا المجال حقيقتين :اولهما ان العلمانية تناصر سيادة النظرة العلمية في كل حقول العلم بما فيها طبعا العلوم الاجتماعية والإنسانية. اي انها تعمل على دنيوة كل مجالات حياة الانسان في هذه الحياة وعلاقته بالطبيعة كما أنها تعمل على انسحاب الدين من مجال بعد أخرمن مجالات المعرفة. فليس هناك ونحن نعيش في هذا العصر تشريع ديني مؤهل ليكون بديلا للتشريعات الوضعية الحديثة، وليس هناك في اي دين من الأديان ميثاق يصلح كي يكون بديلا او متقدما على الميثاق العالمي لحقوق الانسان. ونحن نتطلع للعودة الى غابر الأزمان اذا اقتنعنا بان هناك اقتصاد ديني اوطب ديني اوكيمياء دينية او فلسفة اورياضة دينية او اي شيئ آخر من هذا القبيل . ولعل طه حسين قد عبر عن هذه الحقيقة اصدق تعبير عندما رأى في كتابه : مستقبل الثقافة في مصر ,أن لا خصومة ولا توافق بين الدين والعلم لأن لكل منهما مرجعيته ووسيلته وغايته المختلفة تماما. فمرجعية الدين هي القلب ووسيلته الايمان وغايته مرضاة الله. أما العلم فمرجعيته العقل ووسيلته البرهان وغايته اكتشاف الحقيقة. اما الحقيقة الثانية التي يمكن استخلاصها من سيرورة التطور في عصرنا فهي ان العلمانية لم تكن ضرورة مجتمعية للصراع ضد الدين لكنها كانت في اوريا مثلا مطلبا جماهيريا للخلاص من تسلط المؤسسة الدينية المتحالفة مع الملكية المستبدة كما هو الحال بالنسبة للثورة الفرنسية وكل حركات الإصلاح الديني التي شملت القارة الأوربية، أما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث الأمة ,حديثة العهد ومتنوعة المصادر الثنية والثقافية ,هي التي اسست دولتها، فان مختلف الكنائس والطوائف الدينية هي التي طالبت بكل اصرار على ترسيخ علمانية الدولة من اجل ان تمارس هذه الكنائس والطوائف الدينية حريتها التامة في القيام بوظا ئفها بعيدا عن تدخل اوهيمنة الدولة، ولا غرابة ان تتطور تلك الوظائف مع تطور اوضاع المجتمعات، وان تصبح في مناخ العلمنة اكثر روحانية واستجابة لترقية وتعزيز كرامة الإنسان.
خامسا – لا بد لنا في نهاية بحثنا هذا ان لا نغفل التطرق الى اشكالية نظرية أخرى كانت وما تزال, وعلى امتداد نصف القرن الماضي ,تثير المزيد من الاختلافات والشقاقات بين فصائل حركة التحرر العربية وهي كما اسلفنا مسالة العلاقة بين العلمانية من جهة وبين الديمقراطية من جهة ثانية. والتي ينجر عنها الموقف من الأنظمة الوطنية الشمولية أي غير الديمقراطية. بداية لابد من التذكير أن الأنظمة العلمانية الاستبدادية الشمولية التي كانت تشكل المعسكر الاشتراكي ,هي نمط من الأنظمة التي طوى التاريخ معظمها، ولم يبق اليوم منها الا دولتين هما الصين وكوبا اللتان تتهيئان طال الزمن ام قصر للتحول الى الحياة الديمقراطية. وفيما يتعلق بالعلمانية التي هي قبل كل شيئ منهج متطور وثمرة صيرورة التقدم الانساني لتنظيم حياة مختلف المجتمعات التي تساعد ظروفها على الأخذ بها فهي وان كانت في جوهرها واحدة الا انها تختلف بين مجتمع وآخر من حيث مرونة صيغ تطبيقها ,فهناك كما ذكرنا دول المعسكر الاشتراكي السابق التي تمثل نمطا من العلمانية الفوقية المهيمنة التي كانت تشجع الإلحاد وهناك صيغة العلمانية المتشددة كما هي الحال في فرنسا وهناك العلمانية الليبرالية المرنة كما هي في امريكا وبقية الدول الغربية واليايان وكوريا وغيرها. والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه المقدمة هو: هل كل نظام ديمقراطي هو نظام علماني بالضرورة، ومن جانب أخر هل كل نظام علماني هو نظام ديمقراطي حتما؟
نعتقد ان الاجابة على هذا السؤال قد اصبحت واضحة كل الوضوح من خلال استعراضنا لخريطة طبيعة وهويات الأنظمة في عالمنا المعاصر. فمن الخطأ القاتل مزاوجة العلمانية بالديمقراطية اذ ان هذا يعني ان الأنظمة السلطانية المستبدة التي انتفضت الشعوب العربية للتحرر من استعبادها كانت انظمة ديمقراطية هذا سلمنا بادعاءات هذه الأنظمة بانها كانت انظمة علمانية!!! وكما اتفقنا فان انظمة دول المعسكر الاشتراكي السابق كانت انظمة علمانية استبدادية . وبطبيعة الحال قد تكون هناك انظمة علمانية ديمقراطية اذا انطلقنا من الهوية العلمانية اولا. ولكن وفي كل الحالات ليست هناك انظمة ديمقراطية غير علمانية. والحياة الديمقراطية السليمة في اي مجتمع، والتي تكرس مبدأ المواطنة الحرة دون اي تمييز بين مواطن وأخر على اساس الجنس او الاثنية او القومية او اللون او الموقع الاجتماعي. هي التي توفر الشروط لكل اعضائه لممارسة حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية على قدم المساواة، وممارسة عقائدهم وحرياتهم الدينية والإيمانية في افضل مناخ وكيفما كانت تعدديتها، وهذه الحياة الديمقراطية بجماع مقوماتها هي التي تمتن وتصلب عرى الوحدة الوطنية وتصوغ على اكمل وجه ممكن صورة الهوية الوطنية الجامعة المعبرة عن فسيفساء الوحدة الوطنية.