ظــاهــرة ثــقــافــيــة الأرشيف والسلطة: من يكتب التاريخ ومن يصنع التاريخ؟

جلسة حوارية خلال جلسات مؤتمر: “التاريخ الشفوي في أوقات التغيير: الجندر والتوثيق وصناعة الأرشيف” انعقد بتاريخ 13 أيلول 2015 بالقاهرة ببقلم فيحاء عبد الهادي

خلال جلسات مؤتمر: “التاريخ الشفوي في أوقات التغيير: الجندر والتوثيق وصناعة الأرشيف”، الذي نظمته مؤسسة المرأة والذاكرة بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وبتاريخ 13 أيلول 2015؛ خصصت جلسة حوارية/ مائدة مستديرة، ساهم فيها باحثون/ات، ووثائقيون/ات، حول “الأرشيف والسلطة”.

أدار النقاش د. عماد أبو غازي/ وزير الثقافة المصري الأسبق، وطرح إشكاليات العلاقة بين الأرشيف والسلطة، من خلال ثلاث قضايا رئيسة: إنتاج الوثيقة التاريخية، ومدى إتاحتها للباحثين/ات، ومدى مصداقيتها. وأوضح أن المقصود بالسلطة: سلطة الدولة. كما أوضح أن المقصود بالأرشيف: الجهة الرسمية التي تحفظ الوثائق، “وتسمى هذه المؤسسة منذ أواخر القرن الثامن عشر بالأرشيف القومي”.

السؤال الأول الذي أثارته القضية الأولى: إذا كان إنتاج الوثيقة قد ارتبط في الماضي بسلطة الدولة؛ فماذا عن الوثائق في العصور الحديثة، حيث ثورة المعلومات، وعصر التكنولوجيا، وثورة المعرفة؟ هل تفقد الدولة احتكارها لإنتاج الوثائق؟

والسؤال الثاني الذي أثارته القضية الثانية: هل نجحت السلطة في مصر، والسلطات في العالم العربي، في السيطرة على الأرشيف؟ وإذا كانت الدولة هي المتحكمة، وهي التي تؤسس المكتبات القومية، والمتاحف الوطنية؛ إلى أي مدى تتيح الاستفادة منها للباحثين/ات؟

أما السؤال الثالث الذي استدعته القضية الثالثة: إلى أي مدى نستطيع اعتبار الوثيقة التاريخية مصدراً صادقاً لا يكذب أو يزوِّر التاريخ؟

*****

بالإضافة إلى الحوار الثري الذي تخلل الجلسة الخاصة بالأرشيف والسلطة، وجلسات المؤتمر الأخرى؛ امتدَّ الحوار خارج قاعات المؤتمر، من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ومن خلال الصحافة التي كتبت عن الموضوعات التي نوقشت في المؤتمر؛ ليشارك فيه بعض المعنيات والمعنيين بالحفاظ على الذاكرة الفردية والجماعية للشعوب العربية.

أستضيف اليوم، ضمن مساحة للحوار، مشاركة الكاتب والباحث الفلسطيني د. خليل نخلة، علَّها تجيب على بعض الأسئلة التي أثارتها الجلسة الحوارية حول “الأرشيف والسلطة”، وآمل أن يمتد الحوار ليشارك فيه المزيد من أفراد المجتمعات المدنية العربية، والمنظمات النسوية، والمراكز البحثية، والحقل الأكاديمي.

*****

“أثيرت مجموعة من التساؤلات المهمة حول تدريس التاريخ، وأيّ تاريخ ندرس، في مقالتك بتاريخ اليوم: 20 أيلول 2015، والتي قرأتها بتمعن. أود أن أشاركك بعض النقاط والملاحظات التي قدمتها في “قراءة نقدية” لكتيبات “بنية التفكير في التعليم الفلسطيني” التي كتبها ناجح شاهين وأصدرها مركز بيسان للبحوث والإنماء، خلال العام 2014، وعلى وجه الخصوص “كتابة تاريخ الشعوب”:

– الغالبية العظمى من السلطات الرسمية في العالم تسرد وتسجِّل تاريخها الرسمي من منطلق نظرتها لذلك التاريخ في فترة زمنية معينة. وتنقل، بالتالي، هذه السردية الرسمية للأجيال الصاعدة من خلال الكتب المدرسية المقرَّة رسمياً، بهدف ترسيخ هوية رسمية في أذهانها، وبهدف ترويضها لتسلك فقط في مسار السردية الرسمي، وتتغنى به كإنجاز ملفت. وتصبح، بالتالي، على أهبة الاستعداد للدفاع عن هذا المسار، بأجسادها وبأرواحها وبعقولها، ومحاربة كل من يتردد في سلوكه، أو من يجرؤ على إثارة  بعض الشكوك حول شرعيته.

– بهذا نحن لا نتميَّز عن الآخرين. التاريخ الذي نلقِّنه في مدارسنا هو السردية الرسمية وفق تحديد السلطة الفلسطينية لمعالم هذه السردية ومقوِّماتها. الإشكالية المميتة في هذه الحال هي أن السردية الرسمية “السلطوية” هي جزء منقوص ومشوَّه من السردية الفعلية للتاريخ الفلسطيني. والأنكى من ذلك هو أن هذه السردية تتماهى مع الأيديولوجية الاستعمارية، انعكاساً لحال السلطة الرسمية الفلسطينية. كما أن هذه السردية لا تأبه للمحاولات الجادة العديدة لإعادة صياغة السردية التاريخية الأيديولوجية الاستعمارية بانحياز جلي وضروري للشعوب، وخاصة الفئات المسحوقة منها.  لننظر على سبيل المثال، الكتاب المشهور للمؤلف هوارد زن:
A People’s History of the United States (1999)، والكتاب الذي تبعه خلال العام المنصرم وفي نفس التوجه، للمؤلفة ركسان- دنبر أورتيز، تحت عنوان:
 An Indigenous People’s History of the United States

هذا يثير عدة تساؤلات: لماذا لا ندرِّس كتاب تاريخ منحاز لتاريخ شعبنا الفعلي ولنضالاته، على الأقل خلال الخمسمائة سنة المنصرمة؟
– لماذا لا نموضع سرديتنا التاريخية في صلب تاريخ حركات التحرر العالمية، ونفرد لذلك حيزاً وافياً لتتبع جميع محاولات الإبادة الممنهجة للشعوب الأصلانية واقتلاعها من وطنها، بدءا من السكان الأصلانيين في أميركا، ووصولاً إلى محاولات إبادتنا واقتلاعنا خلال المائة عام المنصرمة؟ ولماذا يعترينا الخجل والتردد في ربط أيديولوجية الحركة الصهيونية مع عمليات الإبادة الممنهجة هذه؟

–  لماذا نصرّ على تدريس تاريخنا مختزلا ومنقوصا ومشوَّها؟ والسؤال الأعمق: هل الهدف هو اطلاع الطلبة على فكر أيديولوجي مدمِّر وإغراقهم به؟ على نمطية “في البدء كانت أوسلو”! كمنهج لاستدخال الهزائم التي حلت بنا، وعدم الشك في صدقية هذه السردية؟

– هل الحقيقة تختفي إذا أرادها الحكام أن تختفي؟ من الواضح أن عدم المعرفة الحقيقية تسهِّل إمكانية التسلط على العقل، وتحوِّل الشك والإلحاح في الأسئلة إلى “جرائم فكرية” يعاقب عليها القانون.

د. خليل نخلة

*****

إذا كان التاريخ المدوَّن هو ملك للمنتصرين، وهو التاريخ الذي يكتبه من يملكون السلطة؛ فإن التاريخ الاجتماعي هو تاريخ الناس العاديين/ المهمَّشين، نساء ورجالاً.
وحين يُكتب التاريخ الاجتماعي من منظور الجماعة وللجماعة، من منظور ديمقراطي شعبي، يوثق تجارب الناس العاديين الذين لا يحفل التاريخ الرسمي كثيراً بهم، رغم أنهم هم الذين أحدثوا التغييرات التاريخية؛ يساهم الناس في صناعة أرشيفهم، ويستعيدون المعرفة كشكل من أشكال المقاومة السياسية، في مواجهة الأرشيف الرسمي، الذي يحاول التحكم في المعرفة. حينها تبرز روايات بديلة، تشتبك مع الرواية الرسمية، وتحافظ على الذاكرة الفردية والجماعية للشعوب/ صانعة تاريخها.

بعض الإجابات، ومزيد من الأسئلة التي تحكّ الأسئلة، وتبقى عطشى للمزيد من الحوار.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial