يثير كتاب وائل حلاق “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” الكثير من الأسئلة التي يقف اليوم أمامها العالم الإسلامي، وعلى رأسها لا ريب سؤال الدولة. طبعا، إن الكتاب يجيب منذ عنوانه على هذا السؤال، ولكنه في الآن نفسه ومنذ عنوانه يربط المأزق الإسلامي بالمأزق الحداثي، على رغم التباين الكبير بين المأزقين في الواقع. إذ يصعب علينا أن نصف ما تعيشه الحداثة من انحرافات بالمأزق، بل وأن ننعت المأزق نفسه بالأخلاقي. ليس فقط لأن الحداثة تملك قدرة ذاتية على النقد والتجاوز والتصحيح الذاتي؛ ولكن أيضا لأن صفة الأخلاقي تذكرنا هنا بكل تلك الخطابات الثالثية والدينية منها، خصوصا التي درجت على وصف نفسها وبرنامجها بالأخلاقي ورمي المشروع الحداثي الذي أسس لحقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية المعتقد باللاأخلاقية.
منذ عنوان كتابه إذن يقع الحلاق فيما يعتقد أنه يفنده؛ أي -وفي لا وعي- يعيد إنتاج الخطاب الأخلاقوي نفسه. يؤكد الحلاق بأن التيار الإسلامي فشل في فهم طبيعة الدولة الحديثة، وهو أمر لا شك فيه، بل الأدهى من ذلك، وهو ما لم ينتبه إليه الحلاق، أنه فشل في فهم دور الدين وطبيعته فهما حداثيا، ولهذا كان لا بد له أن يقف على النقيض من كل إنجازات الحداثة الحضارية. ومحق الحلاق حين يتهم هذه التيارات التي أدمنت الشعارات والخطب والمواعظ بغياب الروح النقدية، التي تميز المشروع الحداثي وتصنعه. إن الأطروحة الأساسية للكتاب والتي يعبر عنها عنوانه ويبدأ بها الحلاق مقدمة كتابه تقول بأن “مفهوم “الدولة الإسلامية” مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة”. إذن، وبلغة أخرى: إن مفهوم “الدولة الإسلامية” يتعارض مع مفهوم الدولة في الحداثة.
لكن، ومنذ مقدمة الكتاب، نقف على توصيفات إشكالية في كتاب الحلاق ومنها أن الشريعة أنشأت “مجتمعا جيد التنظيم” ولمدة اثني عشر قرنا، ولا ريب أنه من الصعب الحديث عن مجتمع كما هو من الصعب الحديث عن دولة في ظل الإقطاع، كما أن إطلالة على تاريخ الإسلام وفي مراحله كلها، من صدر الإسلام وحتى عهود الانحطاط، ستظهر، بما لا يدعو إلى شك، بأن الشريعة كانت سيفا مسلطا على الرقاب أكثر منها قانونا أخلاقيا، وستكشف النقاب عن ذلك الزواج المشؤوم بين السلطة السياسية ورجال الدين، والذي لم يستطع حتى الاستعمار القضاء عليه، واضطر للتحالف معه، وستؤكد، إذا استعملنا مفاهيم من تاريخ المغرب، أن تلك “المجتمعات” الإسلامية، عاشت في كرّ وفرّ بين “السيبة” و”المخزن”.
ولهذا يمكن الرد أولا على الحلاق، بأن الحكم الإسلامي ما زال قائما، وهو طبعا حكم معارض للحداثة، إنه مازال قائما، لأن هذا الزواج المشؤوم بين الدين والسياسة ما زال مستحكما بالدول العربية – الإسلامية، حتى تلك التي درجنا خطأ على تسميتها بالدول العلمانية غير المعلنة، وأن الاستعمار لعب دورا كبيرا ولربما ما زال في دعم هذا التوجه. وليس بإمكان أيا كان اليوم أن يصدر حكما على الشريعة الإسلامية، كما تحققت تاريخيا، دون إلمام بالتاريخ السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي. كما إنه لا يمكننا أن نزعم مع الحلاق بأن الغالبية العظمى من مسلمي العصر الحديث تتمنى عودة الشريعة، لأن ما تتمناه فعلا هذه الأغلبية هو التمتع بإنجازات الحداثة وحريتها، وهو ما يظهر لا ريب في ممارساتها اليومية وإقبالها النهم على منجزات الحداثة وتعلم لغتها وتقنياتها وتقليد نماذجها الحياتية.
فلا أعتقد بأن أغلبية المسلمين تفضل العيش تحت نظام طالبان مثلا أو أي نظام إسلاموي آخر، خصوصا أن مثل هذه الأنظمة أثبتت فشلها. إن نقطة الضعف الكبيرة في موقف الحلاق هو اشتراطه وجود بيئة أخلاقية من أجل تحقيق حكم إسلامي، ويربط كل ذلك بمشكلات الحداثة الأخلاقية، أي بلا أخلاقية الحداثة، والأكثر من ذلك يخلط بين النقد الحداثي لانحرافات الحداثة واتهامات الإسلاميين لها، وهو بذلك يسيئ فهم الحداثة وواقع أنها تقوم على النقد والنقد الذاتي، ويسمي اتهامات الإسلاميين بالنقد، في نوع من الخلط المفاهيمي. كما إنه يخلط فيما لا يدعو إلى الشك بين الحداثة والتحديث، حين يصف ما تعانيه دول العالم الثالث من مشاكل، طبعا لا وجود لحداثة دون تحديث، ولكن يجب أن لا ننسى أن تحديثا دون حداثة، أي دون قيمها التحررية، لا يعيد أكثر من إنتاج النظام القديم في حلة جديدة.
يتحدث الحلاق عن إنسان الحداثة كإنسان نرجسي، وهو يغفل هنا لا ريب الأبعاد التحررية للنرجسية. ففي الوقت الذي تخلق فيه النرجسية الثقافوية للجماعيين على الطريقة الإسلاموية فردا خاضعا وجسدا مدجنا ووعيا مستقيلا، تؤسس الحداثة لنرجسية فردية، تؤكد حرية الفرد واستقلاله ومسؤوليته عن مصيره، وتفصل لحم الذات عن لحم الكوسموس والجماعة.
إن انحرافات الحداثة وأخطاءها الجسيمة يجب أن نفهمها كسيرورة تعلم مستمرة. ونحن لا نحتاج إلى تقويم أخلاقي للحداثة من خارجها، فقيم الحداثة المؤسسة، هي قيم أخلاقية بامتياز، لأنها ربطت الأخلاق بالنقد، وهو ما لم يتحقق في السياق الإسلامي الذي ربطها بالسلطة، وكل من يطلب البحث “عن مصادر أخلاقية في تقاليد أخرى” من أجل “تصحيح” مسار الحداثة، الذي لا ريب أنه يحتاج إلى تصحيح، فهو يعيد إنتاج الشعارات المعادية للحداثة من حيث لا يشعر، ويختزل من جهة الحداثة في بعدها التقني والاقتصادي، أي في التحديث.
يشير وائل حلاق إلى فشل المشروع العلماني في العالم العربي، ويضرب مثلا على ذلك بإخفاق الناصرية والاشتراكية وصعود الإسلام السياسي، لكنه يغفل أن مثل هذه الأيديولوجيات لم تكن بالضرورة علمانية، وأنها تعاملت مع العلمانية ومع الحداثة بانتهازية وحولتها إلى سلطة أو دين للدولة، إلى تبرير للاستبداد. يخطئ حلاق حين يدعي بأن الإسلام السياسي يقدم نقدا أخلاقيا للمشروع الحداثي. لأن النقد الأخلاقي يقوم على قيم تنويرية، وكل نقد ينطلق من مرجعيات ماضوية ويعتمد الماضوية منهجا، يعمل ضد النقد ويؤبد العلاقات القائمة التي يقوم ضدها، لأن النقد الخاطئ، أي ذلك الذي يأتي من خارج سياق الحداثة، وإن كان يتقمص أحيانا لغة حداثية، يكسب علاقات القوة القائمة شرعية أكبر، ويسفه من جهة أخرى، عن لاوعي، التراث الذي يستند إليه.
إن الشعوب التي لا حاضر لها، تسقط، في حركة نفسية دفاعية، في فخ أمثلة التاريخ، وتحُول هذه الأمثلة دون فهم الشعوب لتاريخها فهما تاريخيا، وتحُول أيضا دون ارتباطها بحاضرها، وتفقدها بذلك القدرة على المبادرة. يعمل الإسلامويون، ضمن هذه الحركة الدفاعية، على أمثلة المصدر، الماضي، التراث، ولكن متى قرأنا ذلك الماضي قراءة نقدية – تاريخية، سيتبين لنا أنه لا يستحق كل ذلك الحنين. يخبط المؤلف خبط عشواء حين يقرأ الإسلام السياسي كمحاولة “للبناء على الذات التاريخية من أجل التوجيه الأخلاقي”، وتجنب انحرافات الحداثة. إنه يتناسى أن الأخلاقوية الإسلاموية لا تنادي بالحقوق إلا بعد أن تكون قد أفرغتها من مضمونها التحرري.
نعم، إننا نعيش اليوم كما يؤكد العديد من نقاد الرأسمالية وعلى رأسهم السوسيولوجي فولفغانغ شتريك أزمة الديمقراطية الرأسمالية، لكنا نعيش أيضا وعيا بالأزمة داخل الحداثة؛ فالعقل الغربي -وأستعمل هذا المفهوم هنا بشكل تبسيطي ومبتسر، لأنه لا وجود لعقل غربي بالمطلق- الذي أنتج الأزمة، يظل، ورغم كل النقد الذي يمكننا توجيهه إليه، قادرا على مجابهتها. إذ لا يمكن البتة وصفه بالعقل المغترب أو وصف الذات الغربية بالاغتراب؛ لأنها في ارتباط صميمي مع واقعها، رغم كل الانتقادات المشروعة التي يمكننا توجيهها لصناعة الوعي، ونموذج الحياة الأحادي، ومجتمع الاستهلاك وسيطرة القطاع المالي على الحياة السياسية… إلخ. أما الذات المسلمة، فاغترابها، اغتراب تاريخي مزدوج، فهي في ماضويتها تؤبد جهلها بالماضي، وفي الآن نفسه، انسحابها من الحداثة.
علاوة على ذلك يختزل المؤلف الإسلام في البعد الأخلاقي، لكن الإسلام أنتج من المعرفة أكثر مما أنتج من الأخلاق، أما تلك القيم العليا، فالسؤال هو عن تحققها في التاريخ، وهذا ما يغفله المؤلف في تأريخه لما فوق التاريخ. وفي هذا السياق أيضا، يتوجب أن لا ننسى أننا نقف أمام قيم مشتركة، يقتسمها الإسلام مع الديانات التوحيدية والشرقية القديمة. فالإسلام نفسه نتاج حوار مع ثقافات سابقة ولاحقة عليه. كما لا يمكننا البتة أن نوافق على الربط التعسفي الذي يقيمه المؤلف بين تهمة الماضوية وفكرة التقدم. لأن تهمة الماضوية، وهي في الواقع ليست تهمة؛ بل نقدا تاريخيا يستند إلى وعي بالتاريخ، قد يتخذ هذا الوعي أحيانا طابعا أيديولوجيا مغلقا، وينحو إلى جدل يجب الاختلاف، لكن نقديته تكمن في تاريخيته. أما الماضوية، فإنها تؤبد الاغتراب وتشجع على التسول وتخلق ذاتا منفصمة ومنفصلة عن واقعها.
وحين أقول الماضوية، لا أقول الدين، لأن الدين لا يموت في الحداثة، بل يموت استغلاله السياسي. وأضرب مثلا هنا بالنقد المسيحي كما تمثل في الشخصانية أو اليهودي الذي عبرت عنه الفلسفة اليهودية الألمانية إزاء الاختزال الهيغلي للحداثة والتاريخ، وهي انتقادات تتأسس على قيم دينية حداثية، تعلمت من الحداثة وتصالحت معها وأضحت مؤهلة للدخول في حوار نقدي مع إنجازاتها. إنها أديان حديثة. أديان ما بعد التنوير. إن الحداثة تظل طريقنا إلى فهم الماضي، لأنها من أماطت اللثام عنه، من حررته وأسقطت عنه قناعه المقدس، من كشفت اللصوص الذين يختفون خلف النصوص.
إن أخطر أنواع الاستبداد، هي تلك التي تحكم، وتجعلك تعتقد بأن الله من يحكم. وهذا هو الاستبداد الشرقي الذي فضحته الكتابات الغربية، والتي لا يريد المؤلف أن يعترف بها، وقد نسمع غدا من يصف القائم بأمر الله، الخليفة الفاطمي الدموي، بأنه كان حاكما عادلا، يحكم بالشريعة وتحكمه الشريعة. إن كل من يطلب تحديد مفهوم الإسلام، اختزاله في تأويل محدد، يطلب لا ريب الهيمنة، ويخلط بينه وبين الأرثدوكسية السنية، ويؤبد ما درج محمد أركون على تسميته بالسياج الدوغمائي المغلق. إن الإسلام هو تاريخه، ومن يقرأه خارج هذا التاريخ، يمارس الأيديولوجيا. ومحق بابر يوهانسن حين يؤكد أن التاريخ مؤسس للمعايير الأخلاقية ومؤثر فيها بقدر تأثيرها فيه.
بفضل ثورات الحداثة المعرفية والتقنية، صرنا نعرف الماضي بشكل أفضل وأعمق. وهكذا تظل الماضوية عائقا أمام فهم هذا الماضي، لأنها تطلب السلطة لا المعرفة، أو تخضع المعرفة للسلطة. بل إن الكتب المقدسة نفسها، لم تكشف عن حقيقتها التاريخية إلا في الحداثة. إن مفهوم المؤلف عن الحداثة، يظل مفهوما جوهرانيا، ثابتا ومطلقا، فإذا كانت الحداثة هي التي أطلقت العنان لاستغلال الطبيعة، فهي أيضا التي أسست للوعي بضرورة الحفاظ على البيئة. إنها تملك قدرة على التصحيح الذاتي، لأنها تجربة تاريخية بامتيازـ ولا يمكن في النهاية لأي تحول حضاري كبير من حجم الحداثة، أن لا تكون له نتائج سلبية أيضا.
ويتجلى هذا الفهم الأيديولوجي للحداثة، في نفيه صفة الأخلاقية عن الدولة الحديثة. طبعا إن الدولة الحديثة دولة علمانية، لكن العلمانية لا تعني اللاأخلاقية. كما إنه لا يمكن أن نتحدث عن دولة الحداثة بالمفرد، فهناك أشكال مختلفة للدولة داخل الحداثة، من دولة الرفاه، إلى الدولة النيوليبرالية، والتوتاليتارية، بل ونحسب على الحداثة أيضا دول العالم الثالث الفاشلة، لأنها أيضا، بشكل أو بآخر نتاج للحداثة.
إن وائل حلاق يحلق لحية الماضي حتى يظهر بشكل لائق، لكنه يغفل أن علينا أحيانا، إن لم نكن مضطرين، لحلق الرأس أيضا. وحتى نقول ذلك في لغة ماركسية:
إن الحلاق نفسه في حاجة إلى حلاقة!
——————————–
ولد رشيد بوطيب في المغرب، درس الأدب العربي والعلوم الإسلامية في الرباط والفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية في ماربورغ وفرانكفورت. وقد عمل كصحفي ويكتب باللغتين العربية والألمانية. يعيش في برلين.
نشر في جزئين : الإثنين 2 مارس 2015 والأحد 8 مارس 2015 في صحيفة التقرير Altagreer باب “فضاء الرأي”