ان محنة العقل العربي ,او بصورة اكثر تحديدا محنة العقلانية العربية, التي تواصلت عبر حقب التاريخ المتتالية منذ العصر الوسيط وحتى يومنا هذا هي من وجهة نظرنا السبب الرئيس في تخلف مجتمعاتناعن ركب التطور العالمي .وهي في الوقت نفسه تتماهى وجذر الخلل العميق الذي حال وما يزال يحول دون أن تتجاوز هذه المجتمعات أزماتها الشاملة التي تطال كل جوانب حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية .ولنذكر هنا مثالا واحدا لتلك الإشكاليات التي ظلت تعرقل مسار التطور الطبيعي في بلداننا وهو الموقف من التراث وكيفية التعامل معه كي يكون حافزا لا كابحا لتقدم مجتمعاتنا وهي تتطلع لامتلاك كل المقومات الذاتية التي تؤهلها للسير في ركب الحضارة الانسانية المعاصرة. أليست هذه واحدة من المعضلات التي استمر دورها المعطل وتأثيراتها السلبية نتيجة غياب التعامل الصحيح معها بسبب ضمور العقلانية في الوعي السياسي العربي.
قد يتصور البعض منا أننا نتقصد في حديثنا هذا تناول مسائل نظرية لا علاقة لها بالواقع المعاش حيث مجتمعاتنا وخاصة في الدول التي شهدت انتفاضات الربيع العربي تواجه تحديات مصيرية وجودية.نعم ان تلك التحديات التي تواجه معظم دولنا ليست من طبيعة تلك التحديات الناشئة عن ازمات أو مشاكل تعترض عملية التطور والتنمية الإنسانية المستدامة لكنها ازمات تتعلق بالحاضر والمستقبل وتستهدف المصير الوطني من أساسه. فمنذ سنوات أربع انطلقت انتفاضات الربيع العربي التي توحدت في أهدافها العامة التي جسدت ارادة الشعوب العربية وتصميمها على تحقيق أهدافها المشروعة في الديمقراطية والكرامة والتقدم.غير أن النتائج التي تحققت حتى الآن لم تكن تتوافق مع تلك الأهداف ولم تتناسب مع التضحيات الجسام التي قدمت في سبيلها.أين الخلل اذن ومن المسؤول عن تعثر تلك الانتفاضات التي كان المأمول فيها أن تكون مشروع ثورات تحررية شاملة قادرة على بلوغ غاياتها واستكمال صيرورتها في تحقيق الإنتقال الديمقراطي وبناء المستقبل المنشود؟
كثيرون ما يزالون يرددون أن سبب تلك الأزمات التي غرقت في وحولها دول الربيع العربي,اذا اسثنينا تونس طبعا,انما يعود بالدرجة الأولى الى تخاذل المجتمع الدولي وعدم اضطلاعه بمسؤولياته وواجباته القانونية والأخلاقية من جهة, أو الى تحالف اطراف من هذا المجتمع الدولي مع انظمة الحكم القائمة ووقوفها وراء قوى الثورة المضادة من جهة ثانية.
قد يكون هذا التفسير صحيحا في حدود معينة ولكنه لا يمثل السبب الرئيسي فيما تعانيه انتفاضات الربيع العربي ولا في المآل الذي انتهت اليه اليوم.هل كانت طبيعة المجتمعات العربية والصعوبات التي تعترض عملية التحول الديمقراطي فيها غائبة عن وعي وتقدير القوى السياسية وقوى الحراك الثوري الشعبي التي تصدت لقيادة تلك الأنتفاضات؟ وهل اخطأت هذه القوى في تقييمها لطبيعة بنية سلطات التخلف والفساد والاستبداد الحاكمة, ومدى الأجرام الذي يمكن أن تمارسه دفاعا عن بقائها ودوام تسلطها؟
اذن الى ماذا نعزوا تخلف القوى الوطنية والديمقراطية وكذا هيئات المجتمعين المدني والأهلي وقصورها عن تحمل مسؤولياتها في هذا المنعطف المصيري الذي تجتازه شعوبها ؟ لماذا عجزت حتى الآن عن تحقيق أبسط صيغ العمل الوطني المشترك التي تكفل توحيد رؤيتها السياسية وبرنامج عملها وتكامل جهودها وطاقاتها لانجازمهمات المرحلة الانتقالية على طريق التغيير والتحول الديمقراطي المطلوب؟ هل يمكن أن نقنع أنفسنا بأن استمرار هذا الوضع غير السوي يمكن أن يعود الى تعارض المصالح الفئوية المجتمعية أوالحزبية أو الأثنية اوالشخصية؟
لكن ونحن ننطلق من قناعتنا الأكيدة بأن الجسم الأساسي للقوى الوطنية الديمقراطية السورية وللتيار الأوسع في الحراك الشعبي يحملان بلا شك أهداف الثورة ويعملان باخلاص وباستعداد تام لتقديم كل التضحيات لتحقيقها فكيف نفسر تغليب العديد من هذه الأطراف تناقضاتها وخلافاتها الثانوية على تناقضها الرئيسي مع نظام القهر والطغيان؟ وكيف نفسر اختلافها بشأن طبيعة الدولة الديمقراطية اذا كانت صادقة فيما تعلن دوما بأنها تسعى الى بناء سورية المستقبل, الدولة المدنية الديمقراطيية الحديثة ,دولة الحق والقانون والمؤسسات التي تكرس مبدأ المواطنة الحرة المتساوية دون أي تمييز. وكيف ظلت حتى اليوم بعيدة عن فهم موحد لطبيعة ومضمون الهوية الوطنية، وفشلت كذلك نتيجة ممارساتها المدمرة في تجسيد الوحدة الوطنية التي تتعرض اليوم بنتيجة ذلك لأشد الأخطار. ولنبسط الأمر اكثر اذ كيف يمكن ان نفسر تلك الظاهرة التي نشاهدها تطفو وتتسع على سطح العمل الوطني السوري منذ اربع سنوات وهي وجود شخصين معارضين، أواكثر، عاشا معا لعدة عقود في تيار فكري أو سياسي واحد، وربما في حزب واحد: علماني أوماركسي، اشتراكي أو قومي أو ليبرالي أو اسلامي، نجدهما الأن يتخذان مواقف متناقضة من المسائل الأساسية المتعلقة بمسيرة ومستقبل الثورة:مثل عسكرة الثورة والتدخل الخارجي,والوحدة الوطنية وصيانتها، والموقف من المحافظة على ماتبقى من مؤسسات الدولة, ودور الخارج واهمية التمسك بالقرار الوطني المستقل.والموقف من الصراعات الطائفية والحروب الأهلية… وغيرها من المسائل الحيوية ولا نستغرب بعد ذلك اذا وجدنا أن رفاق وأخوة الأمس القريب نتيجة وعيهم القاصر الذي يفتقر الى ابسط بذور العقلانية أخذوا يتصرفون بردود الفعل ويتهمون بعضهم بعضا بالانحراف والخيانة وبالعمالة للنظام أو للدول والدوائر الأجنبية. كما يمكن هنا الأشارة الى ظاهرة أخرى وهي المتمثلة بتكوين تلك التكتلات والتجمعات التي لا تستقر على حال معين بل سرعان ماينفرط عقدها ويذهب اعضاؤها في اتجاهات متعددة ليكونوا تشكيلات جديدة تعيد بدورها انفراطها وتشكيل غيرها وكل تلك العمليات المتلاحقة تتم طبعا تحت شعار خدمة المصلحة الوطنية.
اسباب هذه الظواهر من وجهة نظرنا انما تعود اساسا الى العوائق والى الخلل البنيوي في سياق تطور العقل العربي وفاعليته في الممارسة على ارض الواقع أي العقلانية العربية، منذ العصر الوسيط الى العصر الحديث الى بدايات النهضة القومية نهاية القرن التاسع عشروالصدمة الحضارية الأوربية التي ترافقت بالاستعمارالمباشر لمعظم اقطار الوطن العربي وبالمشروع الصهيوني الذي كان ومايزال في ابعاده يمثل خطرا وجوديا وحضاريا يستهدف الأمة كلها، مرورا بالحربين العالميتين ومن ثم نيل معظم الأقطار العربية استقلالها الوطني اعتبارا من منتصف القرن العشرين لتواجه بعدها معركة الجهاد الأكبر والمتمثلة ببناء دولة- الأمة الحديثة، تلك المعركة التي ماتزال متواصلة والتي لم تنجح اكثر الأقطار العربية ان لم نقل جميعها في كسبها حتى اليوم.عبر هذه الحقب التاريخية شهد مسار حركة التنوير في الفكر العربي حالات تقدم وتراجع كما وتميز ذلك المسار بفترات من الانقطاع والجمود والعزلة والانكفاءعن التفاعل مع المجرى العام لتطور الفكر الإنساني وكانت حصيلة هذا الوضع مستوى الوعي الذي يهيمن على مجتمعاتنا اليوم وبخاصة الوعي الذي تتسلح به النخب السياسية والفكرية.ولقد ترافق ذلك بعلاقة جدلية مع الاخفاق في عملية التصنيع والتنمية المستدامة وتوفير مقومات الاستقلال الحقيقي والتطور المجتمعي المتواصل وخاصة ما يتعلق بدور الطبقة الوسطى التي هي عماد استقرار أي مجتمع وقاعدة ارساء اسس حياة ديمقراطية سليمة. وحتى لا نسترسل في حديث العموميات فلنسترجع هنا وبايجاز دور بعض الرموز الفكرية والاصلاحية في تاريخنا القريب التي اسهمت بدور كبير في حركة التنوير والنهضة على مستوى الوطن العربي ولنقارن تدهورالواقع الفكري والمجتمعي اليوم في اكثر من بلد عربي ومدى علاقته وصلته بالدور الذي اضطلع به كل من هؤلاء الرواد الأوائل.فهل كانت مقدمات التنويروالاصلاح التي نادى بها رفاعة الطهطاوي وخيرالدين التونسي وبطرس البستاني وشكيب ارسلان والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم هي نفسها القواعد المؤسسة لما تشهده دول الربيع العربي اليوم, وهل أن مستوى الوعي الذي تتسلح به النخب الفكرية والسياسية في هذه الدول اليوم هومتابعة وتطوير لمستوى العقلانية الذي مثله جيل فرح انطون وشبلي الشميل ولطفي السيد وطه حسين وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق، وما علاقة مايعيشه ومايواجهه العراق اليوم وسورية ومصر وليبيا واليمن …من صراعات وفتن داخلية بافكارساطع الحصري وقسطنطين زريق أو معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وعلي الوردي ..والآخرين.
انها بايجاز المحنة التي أحاقت بالعقل العربي منذ أن انطفا آخر شعاع في فضاء العقلانية العربية نهاية العصور الوسطى برحيل ابن رشد، المحنة التي كبلت العقل العربي ومنعت تطوره الطبيعي,فجعلته يترنح امام رياح التغييرويفتقد قابلية ودينامية التطور الحضاري الإنساني المتواصل,فلا يقدر أن يكون الدليل والمرشد في مواجهة هذه التحديات ولا أن يكون طوق النجاة لتجاوز وضعية التخلف والفوات التاريخي من أجل مستقبل أفضل.