ابن رشد: فيلسوف التنوير بقلم علي خليل حمد

1-    المقدمة
     ولد محمد بن أحمد بن رشد، عام (520 = 1126م) في قرطبة، التي كان جده كما كان والده قاضياً فيها؛ وقد أتاحت له البيئة العلمية التي نشأ وترعرع فيها التمكن من كلتا العلوم الشرعية والعقلية في سن مبكرة من حياته.
   ولعل أدق ما يوصف به إقبال ابن رشد على المعرفة ونشرها، أن يقال إنه نذر نفسه وحياته لهما؛ حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقَل، إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله، وأنه سوّد فيما صنّف وقيّد وألّف وهذّب واختصر نحواً من عشرة آلاف ورقة.
 وقد دفع ما اشتهر به من تضلع من العلوم، ومن استقامة ونزاهة، وبصيرة ثاقبة_ دفع ذلك الخليفة الموحدي الأول، عبد المؤمن، إلى أن يطلب منه المشاركة في لجنة إعداد”الأطر”الشابة التي أراد لها أن تصبح قيادات المستقبل في دولته الناشئة.

    أما الحادث الأكثر أهمية، وربما يكون الحادث المصيري، في حياة ابن رشد، فكان استدعاء الخليفة الموحدي المتنور، يوسف بن يعقوب له، وطلبه منه إعادة كتابة أرسطو بما يقرّبه من أفهام الناس؛ وقد روى ابن رشد نفسه كيف بدأت هذه الحادثة بقوله(الجابري، ص ص 46-47):
    “لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل، ليس معهما غيرهما. فأخذ أبو بكر يثني عليّ، ويذكربيتي وسلفي، ويضم، بفضله، إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحنى به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء، يعني الفلاسفة أقديمة هي أم حادثة. فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل. ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم. فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له. ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك. فلما انصرفت أمرلي بمال وخلعة سنية ومركب”.

    شهدت فترة حكم الخليفة المتنور، يوسف بن عبد المؤمن(1163-1184م) ازدهار النشاط الفكري والعملي عند ابن رشد؛ ففي حين انكبّ على مؤلفات أرسطو(وجالينوس) تلخيصاً أو شرحاً بين وجيز ومطول، تقلب في مناصب إدارية مختلفة، فقد عينه الخليفة قاضياً لإشبيلية سنة 1169، ثم قاضياً في قرطبة سنة 1171، ثم أصبح طبيب الخليفة وجليسه سنة 1182، ليعود إلى قرطبة سنة للقضاء فيها (قمير، ص9).

       بقي ابن رشد يتمتع بتلك الحظوة في عهد الخليفة المنصور(1184-1198) بعد وفاة والده يوسف؛ وذلك حتى سنة 1195، التي وقعت فيها نكبة ابن رشد، عندما حرض الفقهاء والعوام الملك المنصور ضده، أو عندما  حرض المنصورالفقهاء والعوام ضده، كما يقول محمد عابد الجابري، وذلك لاعتباره كتاب ابن رشد”الضروري في السياسة”طعناً في سياسته ونظام حكمه؛ وانتهى الأمر باتهام ابن رشد بالزندقة، وبإحراق كتبه، ونفيه، حيث بقي أربع سنوات في المنفى، قبل عودته إلى بلاط المنصور سنة 1198، وهي السنة التي توفي فيها الاثنان: المنصور وابن رشد.

    دفن ابن رشد في مراكش، ثم نقل جثمانه إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر، ليدفن في مقبرة أجداده. وقد قال ابن عربي الذي شهد نقله:
“ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر.”

   يبلغ عدد مصنفات ابن رشد أكثر من ستين كتاباً ومقالة، تتوزع في أربعة مجالات معرفية: علوم الفلسفة، وأكثرها تلخيصات وشروح لمؤلفات أرسطو؛ والطب، وأكثرها تلخيصات لكتب جالينوس؛ والفقة، وأكثرها من تأليف ابن رشد نفسه؛ واللغة، وتتألف من كتابين في النحو والصرف.
    تبنّى ابن رشد فلسفة المعلم الأول أرسطو، وخلصها من الشوائب التي علقت بها عبر مئات السنين، وبخاصة مثاليات أفلاطون وأفلوطين، ولم يزل يتعهدها بالدرس والشرح والإكمال إلى أن أصبح اسم الشارح الأكبر علماً عليه يذكر كلما ذكر المعلم الأول.

    وكان إنجازه المهم الثاني دفاعه المقتدر عن الفلسفة في المغرب العربي، بعد أن بطش بها الغزالي  والأشعرية وسلاطين الظلام في المشرق، وقد تجلى دفاعه الجبار هذا في مؤلفاته التي تعانقت فيها الحكمة أي الفلسفة، وأختها الرضيعة، أي الشريعة عناقاً حاراً، وهي:”فصل المقال”، و”الكشف عن مناهج الأدلة”، و “تهافت التهافت”.

   أما أعظم إنجازات ابن رشد فهو الذي لم يقم به بنفسه، بل قام به تلامذته الرائعون في أوروبا، ليخرجوا العقل الأوروبي من ظلمات القرون الوسطى إلى أنوار النهضة، متجاوزين فيها وفي الحداثة التي تلتها آباءهم العرب وأجدادهم اليونان، كما هو حال أجيال الفكر في كل مكان وزمان.
    لا يتسع المجال هنا لمقارنة ابن رشد مع غيره من الفلاسفة العرب والمسلمين، ولكن شيئاً واحداً لا يمكن القفز عنه، ألا وهو موقفه المتميز تجاه المرأة، بالدعوة إلى مشاركتها في المجال العام، ومساواتها الرجل في التعليم والجندية وتولي مختلف المناصب العامة.

    كما ينبغي أن لا ننسى أهميته الحاضرة، والتي لخصها فريد العليبي(2007، ص24-25)، بقوله:
     “لقد طرق فيلسوف قرطبة إشكالية السياسة وما تتفرع إليها من قضايا من زاوية عقلية، ومن البيّن أن الكثير من طروحاته لا تزال محافظة على قيمتها بالنسبة إلى العرب على وجه الخصوص، مثل موقفه من المرأة، ونقده للجور والاستبداد، ودعوته إلى النظر في الشأن السياسي من موقع التفكر والرويّة، وتصديه لتدخل رجال الدين في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، ودفاعه عن تأصيل الفلسفة في التربية العربية. وعندما نلقي نظرة على ما يحدث راهنا في دنيا العرب من انتشار التكفير وغياب التسامح وتفشي الطائفية إلخ…نتنبه إلى راهنية ابن رشد، ونقف على مدى الحاجة للإفادة من الموروث الزاخر الذي تركه لنا.”

2–     مبادئ الحوار
أسهمت عدة عوامل في تشكيل علاقة خاصة بين فكر ابن رشد وعالم الحوار، وفي تعميق هذه العلاقة وإرهافها، ومن هذه العوامل: أولاً: اهتمام فيلسوف قرطبة بالفكر الإغريقي الذي شغل فيه الجدل السفسطائي وما يقابله، أي منطق أرسطو، حيزاً كبيراً؛ وثانياً: مهنة حياة ابن رشد وهي القضاء الذي يستلزم تمحيص الأقوال وتلمس الحقائق؛ وثالثاً: حساسية الصراع بين الفلسفة الرشدية والمذهب الكلامي الأشعري الذي اتسع نفوذه في الأندلس في زمن ابن رشد؛ ورابعا وأخيراً: كون ابن رشد فيلسوفاً بمعنى الكلمة أي محبة الحقيقة، والبحث عنها وتجليتها بما يصلح الناس ويساعدهم على بلوغ كمالاتهم الإنسانية.

يجد الباحث ملاحظات مهمة حول الحوار في مؤلفات ابن رشد الأصلية، ولا سيما “تهافت التهافت”؛ ومن الممكن الاستفادة منها في استخلاص مبادئ الحوار عنده؛ وهذا هو ما قام به المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، ودوّنه في تقديمه لكتاب “تهافت التهافت “و مواضع أخرى ( حمد، 2011، ص 175)؛ وسنقدم هذه المبادئ – بتعديل طفيف – فيما يأتي:
الهدف من الحوار التوصل إلى الحقيقة.
اعتماد المنطق – البرهاني – وقواعده في الحوار.
تفهم الآخر وعدم التنكر للاستفادة منه.
الاعتراف بالحق في الخطأ والاختلاف.
الاجتهاد في فهم آراء الآخر ضمن مرجعيتها الخاصة.
التزام الأمانة العلمية.

لا يتسع المجال، هنا، لتفصيل القول في هذه المبادئ، إلا أن من المفيد تقديم بعض الأمثلة التوضيحية لبعضها، من تعليقات ابن رشد على مسائل الخلاف بينه وبين الغزالي والأشعرية، في كتابه “تهافت التهافت”بوجه خاص.

5: الاجتهاد في فهم آراء الآخر ضمن مرجعيته الخاصة
من الحق أن يأخذ المحاور في الحسبان المسلمات التي تستند إليها أقوال الآخر، ولا يحاكم تلك الأقوال بناء على  مسلماته الخاصه أو أية مسلمات أخرى، وفي هذا الشأن يقول ابن رشد (ص 363 ):
“كلام الفلاسفة مع هذا  الرجل، في هذه المسألة، ينبني على أصول  لهم يجب أن يتقدم فيتكلم فيها: فإنهم إذا سلم لهم ما وضعوه منها، وزعموا أن البرهان قادهم إليه، لم يلزمهم شيء من هذه الإلزامات كلها.”
ويقول (ص 248 ):
“فانظر هذا الغلط ما أكثره على الحكماء! فعليك أن تتبين في قولهم هذا: هل هو برهان أم لا . أعني: في كتب القدماء، لا في كتب ابن سينا وغيره، الذين غيروا مذهب القوم في العلم الإلهي، حتى صار ظنياً .”
ويقول ( ص 258):
“وأمثال هذه الأقاويل لا ينبغي أن يتلقى بها آراء العلماء وأهل النظر. وقد كان الواجب عليه إذ ذكر هذه الأشياء أن يذكر الآراء التي حركتهم إلى هذه الأشياء. حتى يقايس السامع بينها وبين الأقاويل التي يروم بها هو إبطالها .”

6: التزام الأمانة العلمية
يتكرر تنديد ابن رشد في أكثر من موضع في كتابه “تهافت التهافت “، بعدم  التزام الأمانة العلمية، من قبل الغزالي بوجه خاص، وذلك ممالأة منه للحكام وأصحاب النفوذ، ومن ذلك قوله (ص 134 ):
“فإتيانه بمثل هذه الأقاويل السفسطائيه قبيح، فإنه يظن به أنه ممّن لا يذهب عليه ذلك. وإنما أراد بذلك مداهنة أهل زمانه وهو  بعيد من خلق القاصدين لإظهار الحق. ولعل الرجل معذور بحسب وقته ومكانه، فإن هذا الرجل امتحن في كتبه. ولكون هذه الأقاويل ليست بمفيدة نوعا من اليقين .”
ويقول ( ص 231 ):
“هذا الجواب هو من أمثال البطالين(= يبطلون الحقائق ) الذين ينتقلون من تغليط إلى تغليط، وأبو حامد أعظم مقاماً من هذا، ولكن لعل أهل زمانه اضطروه إلى هذا الكتاب لينفي عن نفسه الظنة بأنه يرى رأي الحكماء.”


3–     المرأة
ينفرد ابن رشد من الفلاسفة والمفكرين الآخرين بآرائه وتوجهاته المنصفة للمرأة، وبدعوته إلى المساواة بين الجنسين، مخالفا بذلك أستاذه الجليل أرسطو، القائل بدونية المرأة؛ وتتجلى هذه الآراء والتوجهات الإيجابية من ابن رشد في كلتا مقاربتيه السياسية والفقهية.

المرأة  في السياسة

تتجلى آراء ابن رشد التقدمية، تجاه المرأة في جانبها السياسي من خلال عرضه ومناقشته للقضية التي طرحها أفلاطون في كتابه “الجمهورية “، بشأن تقلد النساء مناصب ووظائف مماثلة للرجال، وقيامهن بأدوار مجتمعية مماثلة للأدوار التي يقومون بها في مدينته الفاضلة؛ ويعتمد الأمر عند أفلاطون على إمكان وجود طباع لدى النساء مماثلة لطباع الرجال في مختلف أصنافهم، أو عدم وجود مثل تلك الطباع لديهن، كما عرضها ابن رشد في كتابه “الضروري في السياسة”:
“فإن كان الأمر الأول [ أي المماثلة في الطباع ]، فقد يصح أن تقوم النساء بأعمال هي من جنس الأعمال التي يقوم بها الرجال، أو بعينها؛ فيكون من بينهن محاربات وفيلسوفات وحاكمات وغيرهن. وإن كان الأمر عكس هذا [أي الاختلاف في الطباع] فإن النساء إنما يكن في المدينة مهيآت من أجل أفعال لا يتهيأ لها الرجال في الغالب، كالإنجاب وتربية الأطفال وما شابه ذلك”.

هذه هي المسألة. أما الإجابة فهي:
“قلت: إن النساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد في الغاية الإنسانية، فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم فيها [ الأفعال الإنسانية ] وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف. أعني أن الرجال أكثر كداً في الاعمال الإنسانية من النساء. وإن لم يكن من غير الممتنع أن تكون النساء أكثر حذقاً في بعض الأعمال، كما يظن ذلك في فن الموسيقى العملية؛ ولذلك يقال: إن الألحان تبلغ كمالها إذا أنشأها الرجال وعملتها النساء. فإذا كان ذلك كذلك، وكان طبع الرجال والنساء واحداً في النوع، وكان الطبع الواحد بالنوع إنما يقصد به في المدينة العمل الواحد، فمن البيّن، إذن، أن النساء يقمن في هذه المدينة بالأعمال نفسها التي يقوم بها الرجال؛ إلا أنه بما أنهن أضعف منهم، فقد ينبغي أن يكلفن من الأعمال بأقلها مشقة .”

و يزكي هذه القناعة من أفلاطون وابن رشد الواقع العملي؛ إذ:
“إنا نرى نساءً يشاركن الرجال في الصنائع، إلآ أنهن في هذا أقل منهم قوة، وإن كان معظم النساء أشد حذقاً من الرجال في بعض الصنائع، كما في صناعة النسيج والخياطة وغيرهما. وأما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها، فذلك بيّن من حال ساكني البراري وأهل الثغور. ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة .”

أما الاختلاف مع الشريعة – الإسلامية – وهذا الرأي لابن رشد، فهو اختلاف محدود فيما يرى؛ إذ إنه
“لما ظُن أن يكون هذا الصنف نادراً في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الإمامة،  أعني الإمامة الكبرى، ولإمكان وجود هذا بينهن أبعدت ذلك بعض الشرائع “.

ولا ينسى ابن رشد أن يعلق على واقع المرأة في المجتمع العربي المعاصر له، وبخاصة في الأندلس، فيقول:
“وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهن، و كذا للإنجاب  والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهن (الأخرى) . ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل الانسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب. ولكونهن حملاً ثقيلاً على الرجال صرن سبباً من أسباب فقر هذه المدن. وبالرغم من أن الأحياء منهن فيها ضعف عدد الرجال، فإنهن لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية، وإنما ينتدبن في الغالب لأقل الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسيج، عندما تدعو الحاجة إلى الأموال بسبب الإنفاق، وهذا كله بيّن بنفسه .”
ترى، هل يمتلك القارئ العربي، بعد فراغه من قراءة هذا النص، إلا أن يقول لنفسه: ما أشبه الليل بالبارحة !

المرأة في الفقه
مثلما عرض ابن رشد آراءه الخاصة بالمرأة من الزاوية الفلسفية في كتابه “الضروري في السياسة “الذي هو تلخيص لجمهورية أفلاطون، كذلك عرض آراءه الخاصة بالمرأة من الزاوية الشرعية، في كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”الذي يعد من أعظم كتب الفقه المقارن، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق.
وفي هذا الكتاب، كما في كتاب “الضروري في السياسة “نجد الروح الانساني وعدم الانحياز الذكوري ماثلين أيضاً، ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
يرى ابن رشد أن الولاية ليست شرطاً من شروط صحة النكاح، وأن المرأة بإمكانها أن تزوج نفسها .
في مسألة القصاص، يقر مساواة الرجل بالمرأة في القصاص، ومسوغ ذلك عنده هو المصلحة العامة.
في قسمة الغنائم التي تشارك المرأة في المعارك ذات الصلة بها، يرى أن يرضخ للمرأة ببعض المال؛ وبالطبع كان الأولى أن يتبنى حصولها على قسط من الغنائم، ولعل عدم رغبتة في الصدام مع المذهب المالكي الذي اتبع خياره في المسألة، والذي كانت له السيادة المطلقة في بلده وعصره كان السبب في هذا الخيار الذي لا ينسجم مع حديثه عن النساء المحاربات في “الضروري في السياسة .”
في مسألة أم “الولد”، رفض ابن رشد بيع أمً الولد، مؤكداً البعد الأخلاقي في الموضوع، الذي يمنع بيع الرجل أم ولده.
إذا كانت “بضدها تتميز الأشياء “كما يقول سيد الشعراء، أبو الطيب المتنبي، فإن من حق ابن رشد، في مسألة المرأة وفي غيرها أيضاً، أن يقارن بغيره من الفلاسفة والمفكرين العرب، على قلة من تعرض لهذا الشأن (حمد،2008، ص 207) ومنهم ابن مسكويه صاحب كتاب “تهذيب الاخلاق”الذي يقتصر دور المرأة عنده على تدبير شؤون البيت، وابن حزم الذي يرى في المرأة كائناً سريع الانفعالات “ما لم يسيره الرجل بالإصلاح، والغزالي الذي يرى “النكاح نوع رق، فالزوجة رقيقة الرجل، وعليها طاعته في كل ما يطلب، بما لا معصية فيه. “
ويخلص الباحث في المقال نفسه إلى الاستنتاجات الآتية بشأن أفكار ابن رشد بشأن المرأة:
ابن رشد هو أول من نادى بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، بين الفلاسفة والمفكرين العرب وغيرهم.
لا يرى ابن رشد أي مسوغ نظري أو عملي لعدم قيام المرأة بالأعمال الإنسانية نفسها التي يقوم بها الرجل؛ وقد يتفوق الرجال على النساء في بعض الاعمال والعكس، ولكن ذلك يقع في حالات خاصة فحسب.

يرفض ابن رشد حصر المرأة في المجال الخاص، ويرى ضرورة مشاركتها في المجال  العام بمختلف قطاعاته ومستوياته.
يعزو ابن رشد تدني مكانة المرأة في عصره إلى هيمنة الذكور، وهو وضع ضارً لكلا الطرفين: الذكور والإناث؛ فالمرأة لا تحقق إنسانيتها، والرجل يحتمل عبئاً كبيراً لعدم مشاركة المرأة له في بعض الأعمال.

4–    التربية والتعليم

تشير بعض الروايات إلى أن علاقة ابن رشد بالتعليم “الرسمي “قد بدأت في سن مبكرة ( وعمره 27 سنة )، وذلك حين استدعاه الخليفة الموحدي، عبد المؤمن، من إشبيلية للمشاركة في لجنة تشرف  على تنشئة “الأطر الثقافية- السياسية”للدولة في مراكش.

وتتحدث رواية أخرى عن أن الفيلسوف الأندلسي المعروف، ابن طفيل، هو الذي قدم  ابن رشد إلى الخليفة الموحدي المتنور يوسف بن عبد المؤمن، وأن هذا رغب إلى ابن رشد في “الانكباب على شرح أرسطو، وتقريبه إلى  أفهام عامة الناس المتعلمين “. وما من شك في  أن تحقيق هذه الرغبة المحببة إلى ابن رشد قد لازمه أربعين عاماً من حياته العلمية الخصبة.

ولم يكن ابن رشد، في إقباله غير المحدود على شرح أرسطو مدفوعا برغبة الخليفة وحدها، فقد كان ابن رشد فيلسوفا بمعنى الكلمة، أي  محبا للحقيقة وباحثا عنها، وقد وجد ضالته المنشودة في فكر أرسطو الذي شرحه أحسن شرح وأوفاه، حتى لقب بالشارح، أي شارح أرسطو.

ولم  يكن بد من أن يراعي ابن رشد في شروحه تلك نظام التعليم السائد في عصره، وهو نظام مختلف اختلافاً جذريا عن نظام التعليم الحالي في أمور كثيرة، منها المنهاج أي مواد التعليم وكذلك الترتيب الزمني المتبع في تدريس هذه المواد.

كانت مواد التعليم التي تعطى للصبيان هي بالترتيب: القران الكريم، والآداب وعلوم اللغة، والفقه ( المالكي ) والتفسير والحديث؛ أما العلوم العقلية، أو علوم الأوائل كما كانت تسمى آنئذ, فكانت تعطى خفية في بعض البيوت، وهي بالترتيب: الرياضيات، والمنطق، والطبيعيات، والطب، والإلهيات.
وكذلك لم يكن التعليم ميسوراً ولا ممكنا في تلك الأيام، إلا لقلة قليلة من الناس؛ مما ولد انطباعا بالاستعلاء لدى المتعلمين، ولا سيما المتقدمين في التعليم منهم، وأصبح هؤلاء يسمون الخواص، أي خواص الفكر، في حين سمي الآخرون بالعوام، وهي كلمة تحمل معنى سلبيا ازدرائياً يشي به عنوان كتاب الغزالي “إلجام العوام عن علم الكلام .”

وقد أدت الاعتبارات السابقة وغيرها إلى توزيع شروح ابن رشد لمؤلفات أرسطو في أربعة أصناف هي:
– المختصرات:
وهي تحمل العنوان “مختصر …. “أو “المختصر في …..” أو “الضروري في ….”، ويعالج كل منها موضوعا محددا؛ ومن أمثلتها: المختصر في المنطق، والمختصر في النفس.

– الجوامع:
ويقدم فيها ابن رشد (في كل منها ) بعباراته الخاصة الأقاويل العلمية في كتاب معين من كتب أرسطو, ومن أمثلتها: السماع الطبيعي ( الطبيعيات )، والكون والفساد.

– التلاخيص:
يقدم ابن رشد في كل منها، أحد كتب أرسطو، في هيئة مسائل متتابعة، تبدأ كل منها بجملة من جمل الكتاب، ويعالج فيها ابن رشد النص ذا الصلة، ومن أمثلتها: تلخيص المنطق، وتلخيص العلم الطبيعي .

– الشروح على اللفظ:
وهي شروح مطولة لمؤلفات أرسطو، يشرح فيها ابن رشد كل كتاب من كتب أرسطو جملة جملة، كما هو الحال في كتب التفسير، ومن أمثلتها: العلم الطبيعي، وما بعد الطبيعة.

أما أوثق كتب ابن رشد صلة بالتربية والتعليم، وأوسعها مجالاً، فلم يكن مرتبطا بأرسطو بل بأستاذه أفلاطون، وهو كتاب “الضروري في السياسة “الذي قدم فيه  ابن رشد مختصراً لجمهورية أفلاطون.
في هذا الكتاب تبنّى ابن رشد آراء أفلاطون الخاصة بالتربية والتعليم بوجه عام، ومما يدل على ذلك تقديمه أمثلة من الواقع الأندلسي  لتوضيح بعض الآراء، واقتراحه بدائل لرأي أفلاطون في الحالات النادرة التي خالفه فيها.

ومن هذه الحالات اختلاف الغاية من التعليم عند أفلاطون عنها عند ابن رشد أو أرسطو، فهي عند أفلاطون محكومة بنظرية جمعية سكونية، فحواها ثبات مجتمع المدينة الفاضلة واستقراره في حالة معينة (زكريا، ص 80)، في حين أن الغاية من التعليم عند ابن رشد ( وأرسطو) هي تمكين أهل المدينة الفاضلة من بلوغ كمالاتهم الإنسانية ( الجابري، ص 248) وهي الفضائل بأبعادها الأربعة: الفضائل النظرية ( العقل الفلسفي )، والفضائل العلمية ( العلم وتطبيقاته ) ولها الأولوية، والفضائل العملية ( الأخلاق والسياسة )، والفضائل الخلقية ( السلوك الأخلاقي).

ومن حالات الاختلاف أيضاً، رفضه للرأي الذي يشتبه بوجوده لدى أفلاطون وهو أن عند الجنس اليوناني  الاستعداد الفطري  للحكمة دون سائر الأجناس؛ يقول ابن رشد:”وقد نسلّم أنهم في الغالب معدّون بالطبع لقبول الحكمة، ولكن لا يلزم عن هذا أن ننكر وجود كثير من هؤلاء أعني المعدّين للحكمة، أمثال أولئك الذين كانوا في بلاد اليونان، وما جاورها، وفي بلدنا هذا أعني الأندلس، وفي بلاد الشام والعراق ومصر …… “

منهاج التعليم

يعرض ابن رشد مسألة التعليم في جمهورية أفلاطون بدرجة كبيرة من الموافقة، مع بعض الاعتراضات هنا وهناك؛ وتتركز هذه المسألة عند أفلاطون في برنامج التعليم الموجه من أجل تربية فئة مختارة من المواطنين وحدها، وهي فئة الحراس أو الحفظة.
يتوزع برنامج التعليم لهذه الفئة على ثلاث مراحل :

1: المرحلة الأولى:

التربية البدنية الموسيقية
الهدف من التعليم في هذه المرحلة هو تنمية الجسد والروح، أو القوة الغضبية والقوة العقلية في النفس، في الوقت ذاته. وهنا تعني الموسيقى ما تعنيه الآداب  والعلوم الانسانية في الوقت الحاضر، ومنها القراءة والكتابة بالطبع.
أما التسمية بالموسيقى فلأن الموسيقى كانت تصاحب الأقاويل المحكية عند اليونان؛ مما يجعل تلك الأقاويل أقوى أثراً وأكثر تحريكاً لنفوس المتعلمين الصغار؛ وأما الأقاويل فهي عندهم أنواع: برهانية، وجدلية، وخطابية، وشعرية، وهذه الأخيرة أي الشعرية هي الأخص بالصبيان.
ويرفض أفلاطون اشتمال الأقاويل التي تحكى للصبيان على قصص أسطورية أو كاذبة، ويضرب ابن رشد أمثلة لهذه  القصص التي ينبغي رفضها في الواقع الأندلسي والعربي، القصص التي تتحدث عن شياطين يهدون الجدران على الناس، ويفتحون أقفال الأبواب  … لأن مثل هذه الأشياء، كما ذكر في كتابه “الضروري في السياسة”(ص 89) تغرس في نفوس الصبيان الخوف والجبن، ومثلها أيضاً القصص المحركة للّذات، التي يقول ابن رشد إنها كثيرة في أشعار العرب، ومنها أيضاً الأقاويل التي تحث على كسب المال. وهنا يضيف ابن رشد: “وأنت تعلم أن أشعار العرب مليئة بهذه الأمور الساقطة.”(ص 92).

2: المرحلة الثانية:
تدرس في هذه المرحلة الرياضيات ( الحساب والهندسه )، والفلك، والموسيقى، أو ما يسمى بعلوم التعاليم. وهي وإن كانت ذات فائدة في العلوم الحربية، إنما اختارها أفلاطون  ليسرها من جهة، ولأنها تدرب المتعلم على تقبل المعقولات  بعد خبرته في المحسوسات، أي أنها تعد تمهيداً  لعلوم الطبيعة، وعلوم ما بعد الطبيعة.
وفي حين يدافع أفلاطون عن ضرورة البدء في هذه المرحلة بتدريس الحساب  بصفته أيسر تلك العلوم  وأكثرها اشتراكاً مع جميع الأشياء (تقبّلها جميعا العدّ)، نجد ابن رشد يطرح المنطق بديلا للحساب، ويقول في ذلك (ص ص 161- 162):

“فهذا ما يراه أفلاطون فيما يبدأ به في التعليم . وإنما رأى هذا الرأي لأن صناعة المنطق في أيامه  لم تكن قد وجدت. أما وقد وجدت هذه الصناعة التي أحكمها أرسطو، فإن الأصوب  أن يبدأ التعليم بصناعة المنطق، ثم بعدها ينتقلون إلى علم العدد ثم إلى علم الهندسة، فعلم الفلك، فالموسيقى، ثم إلى علم المناظر، فعلم الأوزان، وبعدها إلى علم الطبيعة، ثم إلى علم ما بعد الطبيعة.

المرحلة الثالثة:
الإلهيات/ الديالكتيك
وهي مرحلة الانتقاء النهائي في تكوين الحكام الفلاسفة؛ وفيها تختار الدولة أصلح الحراس، ممن اجتازوا  مرحلة تعليم الرياضيات، للإنتقال إلى أسمى مراحل التعليم، أي مرحلة مشاهدة الخير في ذاته، ومعاينة سر الكون وكشف الحقيقة العليا عن طريق الديالكتيك ( زكريا، ص ص 138-141).
وربما يكون من المناسب هنا الإشارة إلى توصيف ابن رشد لدارس الفلسفة بقوله، في كتابه “فصل المقال”(ص 94 )، بأن يكون:
“جمع بين أمرين، أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية .”

5–    ابن رشد والسياسة

   كان من الطبيعي، بعد فراغ ابن رشد من تلخيص كتاب أرسطو في الأخلاق، أن يتقدم لتلخيص كتابه في السياسة؛ وذلك أن علم الأخلاق وعلم السياسة يشكلان معاً صنفاً واحداً من العلوم عند أرسطو، وهو”العلم المدني”، إلا أن فقدان كتاب أرسطو في السياسة اضطره إلى استخدام بديل له، وهو كتاب “الجمهورية”لأفلاطون أستاذ أرسطو، وهو الكتاب الذي اختصره ابن رشد، وأصبح يحمل اسم “الضروري في السياسة”، أو”مختصر كتاب السياسة لأفلاطون”.
وهكذا يتضح لقارىء هذا الكتاب تأثر ابن رشد برؤية أرسطو للعلم المدني، في القسم الأول منه؛ أما في الأقسام الأخرى فقد قدم ابن رشد خلاصة أفكار أفلاطون وآراءه الأساسية في السياسة، مستغنيا عن شكليات الحوار والاستطرادات وبعض المقالات غير الضرورية.

   تقوم فلسفة أفلاطون السياسية، كما تتجلى في كتاب الجمهورية، على مفهوم موجه وهو العدالة، وعلى مبدأ أساسي وهو تقسيم العمل، وغاية رئيسة هي سعادة الإنسان في المدينة(العليبي، ص 314).

   ويشمل مختصر ابن رشد للجمهورية على محاور رئيسة هي: علم السياسة، وأصناف المدن، وقضايا العدل والحرب والحرية، وعلاقة الفيلسوف بالمدينة، والموقف من المرأة أو النوع الاجتماعي (العليبي، ص 43) . وسيتركز الحديث فيما يأتي على أصناف المدن، أي المدينة الفاضلة، والمدن الأخرى(الضالة أو المنحرفة)؛ أما بقية المحاور فيتوزع الحديث عنها في مواقع مختلفة من هذا الكتاب.

•    المدينة الفاضلة
           ينقسم مجتمع المدينة الفاضلة إلى ثلاث طبقات:
– الحكام وهم الفلاسفة.
– الحراس وهم الجند أو الحفظة.
– المنتجون والقائمون بالخدمة، وهم الصناع  والفلاحون  والعبيد…
وتناظر هذه الطبقات الثلاث قوى النفس الثلاث بالترتيب: العقلية، والغضبية، والشهوانية.
    وفي هذا التناظر، يشترك كل متناظرين في فصيلة خاصة بهما؛ فالحكام والقوة العقلية لهم فضيلة الحكمة، والحراس والقوة الغضبية لهم فضيلة الشجاعة، والمنتجون والقوة الشهوانية فضيلتهم العفة، وإن كانت هذه الفضيلة مطلوبة في جميع الأحوال.
    يضيف أفلاطون إلى هذه الفضائل فضيلة رابعة وهي العدالة، فحواها التوافق بين مختلف القوى، وقيام كل منها بما هي مؤهلة له فحسب.

    أما كيف يتم غرس هذه الفضائل في النفوس، وترسيخها فيها، فيكونان من خلال التربية والتعليم، اللذين خصّ أفلاطون بهما طبقة الحراس (انظر التربية والتعليم في هذا الكتاب)؛ ومن هؤلاء يتم اختيار الحاكم الفيلسوف، الذي يفترض أن يتمتع بالخصال الآتية (فخري، ص 128):
– أن يكون محبا للعلوم النظرية، ملما بماهيّة الأشياء على حقيقتها.
– أن يكون حسن الذاكرة، غير نسيّ.
– أن يحب الصدق ويكره الكذب.
– أن يكون مبغضاً للّذات معرضا عنها.
– أن يكون كبير النفس.
– أن يكون شجاعاً، لا يصرفه عن الحق  خوف أو يثني عزيمته مرض أو لذة أو إكراه.
– أن يقبل على ما يراه خيراً بملء عزيمته.
– أن يكون حسن العبارة.
    ويضاف إلى هذه الخصال الطبيعية صفات مكتسبة، منها: أن لا يملك شيئاً يتميز به عن جمهور الناس كالقصور، والآنية، والذهب والمتاع…، ومنها الإقبال على العلوم المختلفة والتوفر على دراستها…

     واضح أن من الصعوبة بمكان توافر هذه الشروط في الفرد الواحد، الذي يراد له أن يكون الملك الفيلسوف؛ ولذا ففي حال عدم وجوده، يمكن أن يقوم بالحكم عدد من الحكام الفلاسفة يكمل بعضهم بعضاً، وتسمى الحكومة في هذه الحالة حكومة الأخيار(الأرستقراطية).
    ويورد ابن رشد أشكالاً فرعية لنمط حكم الملك الفيلسوف، وهي: الملك الحق (شروط أقل)، وملك السنة، والفقية والمجاهد.
    من خصائص المدينة الفاضلة الطابع العقلي الذي ينتظم كل أمورها، ومشاعية الملكية منها وبخاصة تحريم امتلاك العسكر الثروات والأموال، ذلك أن الشياع (المساواة) في المنافع والمضار يقود إلى تضامن أهل المدينة وتآلفها (ص 130).
    وفي الحديث عن نشوء هذه المدينة، وقول أفلاطون إن ذلك يحدث في حال مصادفة وجود ابن ملك أو حاكم ما، له صفة الفيلسوف، يضيف ابن رشد إنها يمكن أن تنشأ بالتراكم، أي بتعاقب ملوك فضلاء يستمرون في ترقية المدينة شيئاً فشيئاً حتى تصير على أفضل تدبير( ص 194).

•    المدن الضالة
    فضلاً عن المدينة الفاضلة، بشكليها الملكي والأرستقراطي، يشير أفلاطون إلى أربع مدن- ضالة- وهي:
•    المدينة الكرامية، أو التيمقراطية أي حكم النبلاء، وفيها تبنى الرئاسة على الشرف والمجد.
•    مدينة الخسّة، أو الأوليغاركية أي حكم الأقلية الثرية، وتتصف بالإسراف في جمع المال والإنفاق.
•    المدينة الجماعية، او الديمقراطية، أي مدينة الجمهور، وتتصف بحرية التنوع فتجمع بين الكرامة، والثروة، والتغلب… إلى حد الفوضى.
•    مدينة وحدانية التسلط، أي حكم الفرد المستبد.
         ويضيف ابن رشد شكلين أخرين من المدن: مدينة الضرورة( الحاجات الأساسية)، ومدينة الشهوة (اللذات الحسية).

        ويشتمل الكتاب على تفصيلات كثيرة حول تحول المدن من شكل إلى آخر؛ وهي تفصيلات لا مجال لإيرادها؛ ونكتفي هنا ببعض الأمثلة التي قدمها ابن رشد من الواقع العربي حول هذا التحول:
– العرب(حاكوا) السياسة الفاضلة ثم تحولوا أيام معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر (الجزيرة= الأندلس)(ص.184).
– يتبين لك هذا من المدينة الجماعية في زماننا، فإنها كثيراً ما تؤول إلى تسلط، مثال ذلك الرئاسة التي قامت في أرضنا هذه أعني قرطبة بعد الخمسمائة( للهجرة)، لأنها كانت قريبة من الجماعية كلية، ثم آل أمرها بعد الأربعين وخمسمائة إلى تسلط.”( ص ص 194_195).

    ومما تجدر الإشارة إليه في حديث ابن رشد عن تحول المدن من شكل إلى أخر، رفضه لرأي أفلاطون القائل إن الانتقال من أكثر المدن إيجابية (الفاضلة) إلى الأكثر سلبية ( وحدانية التسلط) يجب أن يمر بالمدن الأخرى  الواقعة بين الطرفين، أي من ملكي إلى أرستقراطي أو  كرامي؛ إلى حكم الخسّة، إلى ديمقراطي، إلى وحداني التسلط؛ ويقول( ص 203):
   “إنما هذا يوجد في الأشياء الطبيعية؛ إذ الطبيعة هي التي من شأنها أن يأتي المتقابلان(فيها) عن طريق الوسائط . وأما هذه الأمور وهي إرادية كلياً، وجميع هذه الطبائع، أعني التي وصفنا توجد في هذه المدن، فكيف أمكن لكل مدينة منها أن تتحول إلى الأخرى؟”.

6–    بين الفلسفة والدين
كان الانغلاق الفكري يوشك أن يكون محكما في المشرق العربي. في القرن الثاني عشر الميلادي، وقد  تمثل ذلك في الحط من شأن الفلسفة، ومنها المنطق  والعلوم العقلية الأخرى، وتكفير أصحابها أحياناً  كما فعل الغزالي وآخرون.
ولم يكن بوسع ابن رشد السكوت على تلك الهجمات الضارية التي راى فيها افتراء على الحق، وجهلاً بالفلسفة، وإغفالاً للنصوص  الدينية الداعية إلى إعمال العقل ومحاولة أيديولوجية أساءت إلى كل من الفلسفة والدين.
لم يكن بوسع  ابن رشد السكوت على هذا الشطط الفكري، وهو من هو معرفة بكلا الموضوعين: الدين والفلسفة؛ فهو الذي قتل مؤلفات المعلم الأول أرسطو  فهما وتفسيراً، وهو كذلك صاحب كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد ” الذي قيل عنه إنه أعظم ما كتب في الفقه _ المقارن _ من مؤلفات.
من أجل توضيح العلاقة الصحيحه بين الدين والفلسفة، ألف ابن رشد كتابه “فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعه من اتصال “؛ والحكمة هي الفلسفة، والشريعة هي الدين؛ ومن أجل ذلك  استثمر ابن رشد معرفته الفلسفية والدينية واللغوية الفائقة في إثبات أن الدين لا يقتصر على الدعوة  إلى دراسة الفلسفة، فحسب؛ بل إنه يوجبها أيضاً، وذلك لأن دعوة الدين إلى التفكير في الموجودات، كما يتبين بوضوح في القرآن الكريم، تستلزم استخدام الآلة المثلى للتفكير السليم، وهي المنطق، الذي اتخذ أسمى أشكاله في القياس العقلي.

يقول ابن رشد في “فصل المقال “(ص ص، 86-87):
“فأما  أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل  وتطلّب معرفتها  به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى
– مثل قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار “، وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي والشرعي معا.
– ومثل قوله تعالى: “أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء”وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات.
….. وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه وهذا هو القياس، أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.

 وبيّن أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع، وحث عليه،  هو أتم أنواع النظر، وأتم أنواع القياس، وهو المسمى برهاناً.
ويتوقع ابن رشد أن يعترض معترض على رأيه  في استخدام المنطق، وهو من صنع اليونان الوثنيين،  فيرد عليه بأن المنطق هو آلة التفكير. وما دمنا نستخدم الآلات المصنوعة في الخارج، دون اعتراض بشان مصدرها، فإن استخدام  آلة المنطق مسوغ تماماً، يقول (ص 91 ):
“وإذا كان غيرنا قد فحص عن ذلك  المنطق، فبيّن أنه  يجب علينا أن نستعين  على ما نحن بسبيله، بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصحّ فيها التذكية، ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الاشياء من القدماء  قبل ملة الإسلام.”

بعد فراغ ابن رشد من الحديث  عن آلة التفكير والمنطق، ينتقل إلى الحديث عن التفكير نفسه وهو “الاعتبار في الموجودات “من حيث دلالة الصنعة فيها، ومن ثم معرفة المصنوع والصانع؛ وهذا هو عين ما تفعله الفلسفة، التي ينتقل الدارس فيها من الرياضيات إلى الطبيعيات إلى ما وراء الطبيعة أوالإلهيات، وبذلك تكون الفلسفة مسوغة تماماً، شأنها شأن المنطق  أيضاً.

يقول ابن رشد ( ص 93 ):
“وإذ كان هذا هكذا، فقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا  من الأمم السالفة نظراً في الموجودات  واعتبارا لها  بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق  للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم .”

“فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع- إذ كان مغزاهم في كتبهم  ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه …. .”
من الأفكار التي تنسب  خطأً الى ابن رشد، فكرة “الحقيقتين أو الحقيقة المزدوجة”، وهي فكرة اختلقها ورسخها الرشديون اللاتين في أوروبا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وفحواها أن هناك حقيقتين:  حقيقة دينية وأخرى فلسفية، وأن الحقيقتين قد تتعارضان.

وإذا كان ابن رشد قد فصل بين الدين والفلسفة، بمعنى أن لكل منهما طريقا خاصا به؛ إذ إن الدين تنبع حقائقه من الوحي، في حين تتوصل الفلسفه إلى حقائقها بالعقل، فإن هذا لا يعني بالضرورة تعارض الحقائق بينهما، بل إن كل الحقائق الدينية القابلة للتعقل يمكن أن تتوصل إليها الفلسفه بالاعتماد على العقل.
ويذهب الجابري ( ص 182) إلى القول بوحدة شاملة للحقيقة لدى ابن رشد، لا بين الفلسفة والدين فحسب، “بل في الحقول العلمية أيضاً. لم يكن ابن رشد مشغولاً ببيان وتأكيد “موافقة الحكمة للشريعة “والشريعة للحكمة فقط، بل كان مهتما كذلك بإبراز موافقة التصور الذي تعطيه الفلسفة عن الكون  للتصور الذي يقدمه العلم عن الظواهر الكونية.”

وكذلك زعم بعض الدارسين أن ابن رشد يتحدث أحياناً عن حقيقتين متعارضتين: إحداهما للخاصة والأخرى للجمهور. وهو زعم خاطئ، وإنما يتجه الأمر في أقوال ابن رشد ذات الصلة إلى نوعين مختلفين من الإدراك لحقيقة واحدة فحسب: أحدهما إدراك العلماء والآخر إدراك الجمهور لها؛ وذلك  أن معرفة الجمهور مبنية على الحس، ومن ثم كانت مخاطبة الشرع لهم باللغة التي يفهمونها: لغة المحسوسات وضرب الأمثال، خلافاً للعلماء الذين يزيدون على هذا الإدراك الحسي الإدراك بالبرهان.

أما في حال إختلاف ما تؤدي إليه علوم الفلسفة مع ما يدل عليه ظاهر الشرع، فإن الحل عند ابن رشد هو التأويل،  بحيث يرتفع التعارض مع الحقيقة الفلسفية، والتأويل عنده تأويل لغوي لا أيديولوجية فيه كما هو الحال لدى المتكلمين، وهو يعرفه بقوله في كتابه “فصل المقال”( ص 97):
“معنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو بلاحقه أو بمقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.”

لقد كان العنت الذي عاناه ابن رشد من خصوم الفلسفة أليم الوقع في نفسه مما جعله يختتم كتابه “فصل المقال “بقوله ( ص 108 ):
“إن النفس (= نفس ابن رشد) مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة، في غاية الحزن والألم، وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قِبل من ينسب نفسه إلى الحكمة؛ فإن الإذاية من الصديق هي أشد من الإذاية من العدو: أعني لأن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة. فالإذاية ممن ينسب إليها هي أشد الإذاية مع ما (يوقع) بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة. وقد آذاها أيضا كثير من الأصدقاء الجهال ممن ينسبون أنفسهم إليها، وهي الفرق الموجودة فيها. والله يسدد الكل، ويوفق الجميع لمحبته، ويجمع قلوبهم على تقواه، ويرفع عنهم البغض والشنآن بفضله ورحمته.”

7–    قضايا شائكة:
يناقش ابن رشد، في كتابه “فصل المقال”وغيره، اعتراضات المتكلمين_الأشعرية_على الفلاسفة في بعض القضايا، ومنها ثلاث قضايا كفّر الغزالي الفلاسفة فيها، وهي قولهم ب: قدم العالم، واقتصار علم الله على الكليات دون الجزئيات، وإنكار المعاد الجسماني.

قد يكون من المفيد قبل تقديم هذه القضايا، التذكير ببعض التصورات الأرسطية للموجودات المادية والنفس والعقل.
•    يعتمد وجود أي شيء مادي عند أرسطو على أربع علل أو مقومات، هي(في حالة الكرسي مثلا): المادة (الخشب)، والصورة (صورة الكرسي)، والفاعل(النجار)، والغاية (الجلوس).
 ويطرح أرسطو تصورين لوجود الصورة: الوجود بالقوة، والوجود بالفعل.
فصورة الكرسي بالقوة موجودة في الخشب، وما يفعله النجار هو تحويلها من صورة بالقوة إلى  صورة بالفعل.
•    للنفس خمسة أجزاء هي: النفس النباتية (الغاذية)، والنفس الحسّاسة، والنفس المتخيلة، والنفس الناطقة (العقل)، والنفس النزوعية.

  والعقول عند ابن رشد ثلاثة: العقل الهيولاني، والعقل النظري أو العقل بالملكة، والعقل الفعال.
   ولتوضيح هذه الثلاثية من العقول، نقارنها بثلاثية الحسّ، وهي: القوة القابلة للحسّ، وتاثير الشيء المحسوس، والشيء المحسوس.

   وكما هو الحال في تاثير قوة الحس بالمحسوس، وحصول التاثير الحسّي، كذلك يتأثر العقل الهيولاني الذي هو عقل بالقوة، بالعقل الفعال الذي هو عقل بالفعل، فيعقله أولاً بوجود ناقص، وهو العقل الذي بالملكة، الذي هو صور الموجودات الهيولانية؛ ويعقله بعد زمن بوجود تام، ويسمى عندئذ العقل المستفاد.

1–    قدم العالم

   يرى ابن رشد أن الأختلاف بين المتكلمين والفلاسفة اختلاف لفظي لا غير. ولتوضيح ذلك يصنّف الموجودات في ثلاثة أصناف:
1: الحادث أو المحدث.
    وهو عبارة عن موجود: 1) وجد من شيء غيره؛ و2) وجد عن شيء، أي علة فاعلة ومادة؛ و3) الزمان متقدم على وجوده. ومثاله الحيوان والنبات وغيرهما من أشياء العالم.
2: القديم
   وهو عبارة عن موجود: 1) لم يكن من شيء؛ 2) لم يكن عن شيء؛ و3) لم يتقدمه زمان؛ وهو الله تبارك وتعالى.
3: العالم
وهو يتوسط الصنفين السابقين؛ فهو موجود: 1) لم يكن من شيء؛ و2) موجود عن شيء؛ و3) لم يتقدمه زمان.
   ويذكر ابن رشد أن الكل متفق على هذه الصفات الثلاث للعالم، وأن المتكلمين يسلّمون بعدم تقدم الزمان عليه أو يلزمهم ذلك؛ إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام؛ كما أنهم متفقون مع الفلاسفة على أن الزمان المستقبل غيرمتناه وكذلك الوجود المستقبل.

   إن توسط العالم بين الطرفين الحادث والقديم يمنح حرية التسمية لمن أراد في تسميته حادثاً أو قديماً. ولا معنى للتعصب لرأي منهما.”فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفّر بعضها ولا يكفّر.”
   “أما القول بخلق العالم من عدم فليس في ظاهر الشرع ما يؤيد من يقولون به_ المتأولون_ بل يشير تصفح الآيات الواردة في القرآن الكريم إلى “أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمرمن الطرفين [الماضي والمستقبل]، ومن ذلك الآية: “وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء”.(هود: 7)، والآية “ثم استوى إلى السماء وهي دخان”(فصلت: 11).
ويضيف ابن رشد:
   “إنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصاً أبداً”.

2:علم الله بالكليات وليس الجزئيات
    يرفض ابن رشد دعوى الغزالي بأن الفلاسفة يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات، وإنما هم يرون أن يعلمها تعالى بعلم غير مجانس لعلمنا بها؛ ذلك أن قضية الجزئي والكلي إنما تنطبق على علم الإنسان الذي هو معلول (= تالٍ أو نتيجة)، للمعلوم، أما علم الله فهو علة للمعلوم الذي هو الموجود.
   ويعني هذا أن علم الله “منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي. فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أولا تكفيرهم(ص 104).

3:المعاد للنفوس دون الأجساد
    المعاد عند ابن رشد مبدا من مبادىء الدين لا يجوز تأويله؛ أما صفاته، أي أنه للنفوس والأجساد أم للنفوس فقط فالتأويل فيه جائز إذا كان”لا يؤدي إلى نفي الوجود”.

ويرى ابن رشد أن مسألة الصفات هذه خلافية، إذ ينبغي لمن ليس من أهل العلم(=الجمهور) الإيمان فيها بالظاهر، وأن تأويلها له كفر. أما أهل البرهان فلهم حق التأويل بعضهم لبعض.

وبإزاء عدم الوضوح والتحديد في نصوص ابن رشد بشأن المعاد،  اختلفت آراء الدارسين حول رأيه الشخصي في المسالة، ولعل أقربها إلى الحقيقة أن يكون رأي ماجد فخري في كتابه “ابن رشد قيلسوف قرطبة”(ص 117).
   “يتضح بالدليل الفلسفي أن في النفس عند ابن رشد جزءاً واحداً قابلاً للمفارقة أو الخلود، هو العقل بقسميه: الهيولااني والفعال. أما سائر أجزائها (أي الغاذية والحاسة والنزوعية والمخيلة) فهي تتقوم بموضوع طبيعي خاضع لسنة الكون والفساد، هو الحرارة الغريزية كما رأينا؛ فاستحال إسناد الخلود أو المفارقة إليها. فإذا بطل خلود النفس، وهي صورة الجسد، وكان الجسد من المركبات التي تنحل لدى الوفاة إلى عناصرها الأصلية، بطل ضرورة المعاد الفردي، أي معاد الشخص المرّكب من نفس وجسد، وهو ما يعرف بالحشر الجسمائي في المناقشات اللاهوتيه والفلسفية التي دارت بين الفلاسفة والمتكلمين.”

4: القضاء والقدر
    تعد مسألة القضاء والقدر واحدة من أعوص المسائل الشرعية، كما يقول ابن رشد؛ ويعود ذلك إلى تعارض دلائل السمع (الآيات والأحاديث النبوية) فيها، وكذلك الحال مع حجج العقول (الجابري،279).

   وقد أتاح هذا التعارض انقسام المتكلمين إلى فرقتين: تقول إحداهما إن الإنسان مكتسب أعماله وهم المعتزلة، وتقول الأخرى بعكس ذلك، اي أن الأنسان مجبرعليها، وهم الجبرية؛ أما الأشعرية الذين”يدّعون”التوسط بين الفرقتين، فيعدهم ابن رشد من الجبرية، ويرى أن مسوغاتهم في التوسط ليست سوى مسوغات لفظية فحسب.

    أما التوسط الحقيقي_الجمع بين الطرفين_فينسبه ابن رشد إلى نفسه، حيث يقول (ص 281):
    “الظاهر من مقصد الشرع ليس هو تفريق هذين الاعتقادين. وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في المسألة. وذلك أنه يظهر أن الله تبارك وتعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكسب أشياء هي أضداد. لكن لمّا كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا”.
يستفاد من هذا النص أن ابن رشد يدخل عاملا ثالثا – غير الله والإنسان – في قيام الأفعال التي تنسب إلى الإنسان؛ وهذا العامل هو الأسباب  – التي تحكم العلاقات بين موجودات الكون وتأثير بعضها في بعض.

   إن هذه الأسباب توفر للإنسان إتاحة القيام بالفعل_في حال مواتاتها_وهي معلومة (غائيا) لعلم الله. وقد يمكن التوقف هنا، فتجمع الأفعال المنسوبة إلى الإنسان بين اكتسابه بما فيه من قوة الاختيار، ومواتاة الأسباب؛ ويكون هذا تفسيرا محتملاً.
   ولكن ابن رشد يتجاوز هذا الوضع إلى القول بضرورة الانسجام بين الأسباب الخارجية (والداخلية أيضا) وأفعال الإنسان، في إطار النظام الكوني العام.
   والآن،إذا كان تفسير ابن رشد ينظر إلى أفعال الإنسان من منظور الأسباب والمسببات، كما هو الحال في العالم الفيزيائي، فكيف ينسجم تفسيره هذا مع اتفق عليه المسلمون من أنه”لا فاعل إلا الله”؟

  يقترح ابن رشد إجابتين لهذا السؤال:
_ الأولى أن الفاعل الحقيقي هو الله، اما الأسباب التي سخرها فليست تسمّى فاعلة إلا من باب المجاز.
_ والأخرى، وفيها يفضل ابن رشد استعمال لفظة الخالق بدلاً من الفاعل لله تعالى، وهو الذي يخلق”الجواهر والأعيان”، أما الفعل الإنساني فيتعلق بالأعراض فقط. مثال ذلك أن”الفلاّح إنما يفعل في الأرض تخميراَ وإصلاحاً ويبذر فيها الحبّ، وإنما المعطي لخلقة السنبلة فهو “الله تبارك وتعالى”(ص 284).


8–    ابن رشد وعلماء الكلام
    يشترك الفلاسفة والمتكلمون في اعتماد كل من الحس والعقل في محاجّاتهم، ولكنهما يختلفان في أمور شتّى، منها(المغربي، ص ص 119_121):
•    منطلق كل منهما: فهو العقيدة والنّص الديني عند المتكلمين، وهو العقل عند الفلاسفة.
•    موجّه التفكير في العالم: فهو دلالة الموجودات على الفاعل (الخالق) عند المتكلمين، وهو تفسير الطبيعة عند الفلاسفة.
•    المنهج: فهو القياس الجدلي القائم على مقدمات مشهورة أو ظنّية عند المتكلمين، وهو القياس البرهاني(اليقيني) عند الفلاسفة.

  وتجدر الإشارة إلى اختلاف تأثر المتكلمين بالفلسفة عبر الزمن؛ إذ كان هذا التأثر ضعيفاً في البدء، أي في اوائل حركة الاعتزال، ولكنه أصبح قوياً جداً فيما بعد، كما يتمثل لدى الغزالي والرازي ونصير الدين الطوسي وغيرهم.

   تشغل مناقشة ابن رشد لأقوال المتكلمين حيزاً لا بأس به من إنتاجه الفكري، وبخاصة في كتبه: “فصل المقال”، و “الكشف عن مناهج الأدلة”، و”تهافت التهافت”؛ وأكثرها موجهة ضد الغزالي والأشعرية.

   أما المعتزلة فكانت أقواله عنهم مقتضبة جدا؛ ويغلب أن تكون على نحو: لم تصلنا كتبهم أو ينطبق عليهم ما ينطبق على الأشعرية بصفتهم متكلمين؛ إلا أنه في حالات معينة_ ومهمة في الوقت نفسه_ كان يستثني المعتزلة في مهاجمته للأشعرية والمتكلمين، أو يصفهم بأنهم أقرب إلينا (أي الفلاسفة) من الأشعرية؛ وهو موقف متوقع، لأن المعتزلة كالفلاسفة كانوا يضعون العقل قبل النقل، خلافاً للأشعرية الذين ألغوا مبدأ السببية، وهو عماد العلم كما يرى ابن رشد.

   سنقدم، فيما يأتي، بعض القضايا المهمة التي أيد فيها ابن رشد، بدرجة أو بأخرى، موقف المعتزلة المضاد لموقف الأشعرية:

1–    التوحيد(صفات الله)
يتفق المعتزلة والأشعرية في تقسيم صفات الله إلى قسمين: ذاتية وفعلية؛ والأولى هي التي لا تنفك عن الذات، ولا يمكن تصوّر الذات من دونها، ولا يمكن أن يوصف الله تعالى بضدّها، في جميع الأحوال؛ وهي عند المعتزلة: العلم، والحياة، والقدرة(والسمع والبصر عند بعضهم)؛ أما عند الأشعرية فهي:الحياة، والقدرة، والعلم، والإدارة، والسمع، والبصر، والكلام.

    ويرفض المعتزلة قدم هذه الصفات_الذاتية_كما  أنهم لا يرون لها وجوداً حقيقياً غير الذات؛ فهي عندهم عين الذات، وليست شيئاً آخر سوى الذات.
   أما الأشعرية فيرون قدم الصفات، وأنها ليست هي الذات، وليست شيئا آخر سؤى الذات (؟)، وإنما هي زائدة على الذات.

   أما الصفات الفعلية فتحتمل الأختلاف بالحال والشخص، ويجوز وصف الله تعالى بضدّها، مثل: أن يرحم في حال، ولا يرحم في حال آخر.
   يقول ابن رشد في هذا الشأن، في كتابه “تهافت التهافت”( ص 279):
“لذلك كانت المعتزلة في وضعهم هذه الصفات في المبدأ الأول]= المحرك الأول عند أرسطو، والخالق عند علماء الكلام[ راجعة إلى الذات لا زائدة عليها، على نحو ما يوجد عليه كثير من الصفات الذاتية لكثير من الموجودات، مثل كون الشيء موجوداً وواحداً وأزلياً وغير ذلك، أقرب إلى الحق من الأشعرية؛ ومذهب الفلاسفة في المبدأ الأول هو قريب من مذهب المعتزلة”.

2: الحسن والقبح
   يختلف المعتزلة والأشعرية في مصدر الحسن والقبح؛ فهو الشرع عند الأشعرية بينما هو العقل عند المعتزلة.
   يقول ابن رشد، في هذا الشأن(العليبي، ص.155):
    “أما هؤلاء القوم ممن يعرف بالمتكلمين من أهل ملتنا ]الأشعرية[ فقد قادهم نظرهم في الشرع إلى ]القول[ بأن إرادة الله لا تتعلق بما له طبيعة خاصة، وأن كلّ شيء جائز، وإرادته هي وحدها المخصص لمراداتها، وعليه فلا حسن ولا قبح إلا بالوضع”.

3: العدل
   العدل:أحد المبادىء الخمسة عند المعتزلة، و المقصود من وصف الله تعالى بالعدل، عندهم، هو أنه لا يفعل القبيح ولا يختاره، ولا يخلّ بما هو واجب عليه  ]أي تقتضيه الحكمة[ وأن أفعاله كلّها حسنة.
   أما وجهة نظر الأشعرية فتتبين في حديث ابن رشد نفسه، في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة”(ص ص 194-195)، حيث يقول: “ذهبت الأشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جداً في العقل والشرع. أعني: أنها صرّحت بما لم يصرّح به الشرع، بل صرّح بضده. وذلك أنهم قالوا: إن الغائب في هذا بخلاف الشاهد. وذلك أن الشاهد إنما اتصف بالعدل والجور لمكان]= بسبب[ الحجر الذي عليه في أفعاله من الشريعة. فمتى فعل الانسان شيئا هو عدل بالشرع، كان عدلا. ومن فعل ما وضع الشرع أنه جور فهو جائر. قالوا: وأما من ليس له مكلفاً ولا داخلاً تحت حجر الشرع، فليس يوجد في حقه فعلٌ هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدل. والتزموا أنه ليس هاهنا شيء هو في نفسه عدل، ولا شيء هو في نفسه جور.”

    وهذا في عاية الشناعة. لأنه ليس يكون هاهنا شيء هو في نفسه خير ولا شيء هو في نفسه شر. فإن العدل معروف في نفسه أنه خير وأن الجور شر، فيكون الشرك بالله ليس في نفسه جورا ولا ظلماً، إلا من جهة الشرع. وأنه لو ورد الشرع بوجوب الشريك له لكان عدلاً. وكذلك لو ورد بمعصيته لكان عدلاً. وهذا خلاف المسموع والمعقول.”
  ويقول أيضا:
      ظهر أنه (=الله) لا يتصف بالعدل على الوجه الذي يتصف به الإنسان. لكن ليس يوجب هذا أن يقال إنه ليس يتصف بالعدل أصلاً، وإن الأفعال كلها (تكون) في حقه لا عدلاً ولا جوراً، كما ظنه المتكلمون. فإن هذا إبطال لما يعقله الإنسان، وإبطال لظاهر الشريعة.”

4: خلق الأفعال ومبدأ السببية
    يرى المعتزلة أن الأنسان هو الذي يخلق الفعل المنسوب إليه، ومن ثم يكون مسؤولاً عنه، ويستحق العقاب أو الثواب على فعله، في حين يرى الأشعرية أن الفعل المنسوب إلى الإنسان هو من خلق الله تعالى، وأن دور الانسان فيه إنما هو الطاعة او المعصية ( الكسب) ومن ثم تنتج مسؤوليته عنه.

    وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى إنكار الأشعرية  طبائع الأشياء (ليس من طبيعة النار الإحراق، وإنما هي إرادة الله إن شاء أحرقت وإن شاء لم تحرق) وكذلك إنكار مبدأ السببية الذي يربط بين الأسباب والمسببات، أي أن تكرر الشروط نفسها يؤدي إلى تكرر النتائج نفسها؛ وفي مقابل ذلك قالوا بالجواز أو التجويز، أي أنه لا توجد علاقة ضرورية بين الأسباب والمسببات، وإنما هي إرادة الله فإذا أراد أن تختلف النتائج مع تكرر الشروط حدث ذلك؛ وفي الواقع، يعني إلغاء مبدأالسببية إلغاء العلم نفسه.

    يقول ابن رشد حول إنكار الطبائع في كتابه “الكشف”( ص ص 169-170): “وأما الذي قاد المتكلمين من الأشعرية إلى هذا القول(فهو)الهروب من القول بفعل القوى الطبيعية التي ركبّها الله تعالى بالموجودات التي هاهنا، كما ركب فيها النفوس وغير ذلك من الأسباب المؤثرة، فهربوا من الأسباب لئلا يدخل عليهم القول بأن هاهنا أسباباً فاعلة غيرالله. وهيهات! لا فاعل هاهنا إلا الله: إذ كان مخترع الأسباب، وكونها أسباب مؤثرة، هو بإذنه وحفظه لوجودها.”

ويقول في الجواز ونفي السببية في كتابه “الكشف”(ص 193):
    “ينبغي ان تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم. وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها (=الفاعلة)، والحكمة هي المعرفة بالأسباب الغائية. والقول بإنكار الأسباب جملة قول غريب جداً عن طباع الناس. والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب، لأن الحكم على الغائب من ذلك إنما يكون من قبل الحكم بالشاهد. فهؤلاء لا سبيل لهم إلى معرفة الله تعالى: إذ يلزمهم ألا يعترفوا بأن كل فعل له فاعل.”ويقول أيضاً في “الكشف”( ص 169)”:
   “القول بالجواز هو أقرب أن يدل على نفي الصانع من أن يدل على وجوده، مع أنه (=علاوة على أنه)  ينفي الحكمة عنه، هو أنه متى لم يعقل أن هاهنا أوساطاً بين المبادىء والغايات في المصنوعات(بحيث) ترتب عليها وجود الغايات، لم يكن هاهنا نظام ولا ترتيب. وإذا لم يكن هاهنا نظام ولا ترتيب، لم يكن هاهنا دلالة على أن لهذه الموجودات فاعلاً مريدا عالماً؛ لأن الترتيب والنظام وبناء المسببات على الأسباب هو الذي يدل على أنها صدرت عن علم وحكمة. أما وجود الجائز على أحد الجائزين، فيمكن أن يكون عن  فاعل غير حكيم، عن الاتفاق (=العشوائية،المصادفة) عنه، مثل أن يقع حجر على الأرض عن الثقل الذي فيه، فيسقط على حهة دون جهة، أو على موضع دون موضع، أو على وضع دون وضع، فإذن:هذا القول يلزم عن ضرورة، إما إبطال وجود الفاعل على الإطلاق، وإما إبطال وجود فاعل حكيم عليم، تعالى الله وتقدست أسماؤه عن ذلك.”

5: قضية الرؤية
    ينفي المعتزلة إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة في حين تقول الأشعرية بهذه الرؤية.
يقول ابن رشد في هذا الشأن في كتابه “الكشف”( ص 153): “وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين، أعني انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحسّ، فعسر ذلك عليهم، ولجئوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة، أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة”.


9–    الرشدية والنهضة الأوروبية
يستلزم تحقق النهضة، في بلد متخلف، اجتماع عاملين رئيسين معا: جماعة مصالح قوية ذات مصلحة مباشرة في التغيير، وفكر تقدمي أو أيديولوجية تستخدمها القوى الداعية للنهضة في مواجهة قوى التخلف وأيديولوجيتها.

ولقد وقع هذا الاجتماع لأوروبا القروسطية في نهضتها الرائعة عندما تمكنت البورجوازية الأوروبية الصاعدة من هزيمة قوى الإقطاع والكنيسة، مستخدمةً في معركتها الظافرة فلسفة المعلم الأول أرسطو، أيديولوجية لها، كما عرضها وشرحها فيلسوف قرطبة _ ابن رشد.
وفي أقل من نصف قرن، بعد وفاة ابن رشد (1198م)، كانت شروحه الوافية لمؤلفات أرسطو قد ترجمت إلى اللاتينية، وأصبحت هذه الترجمات المراجع الفكرية المعتمدة في جامعات أوروبا حديثة العهد ولا سيما الجامعات الفرنسية والإيطالية  وكانت أكثر هذه الجامعات تأثرا وتأثيرا هي جامعة باريس التي احتدم فيها الصراع الأيديولوجي بين قوى التغيير وقوى الجمود.

و تجدر الإشارة إلى أن لغة التدريس في أوروبا آنذاك كانت اللغة اللاتينية، وإليها وإلى العبرية ترجمت مؤلفات ابن رشد وغيره من الفلاسفة والمفكرين العرب، وقد اشتهر من مراكز الترجمة آنذاك مركزان هما:
مركز طليطلة، الذي كان يرعاه الأسقف المستنير رايموند؛ وكان من أشهر مترجميه يوحنا الاسباني وجيرار دي كريمون.
بلاط فريدريك الثاني، ملك نابولي وصقلية (1197-1250)، ومن أشهر مترجميه ميشيل سكوت (الاسكتلندي) وهرمان الألماني.

أما في ترجمة آثار ابن رشد الفلسفية إلى العبرية فكان من أهم المترجمين إلى العبرية موسى وصموئيل ابنا تيبون، ويهودا بن سليمان الطليطلي، وكالونيم بن كالونيم؛ وذلك في القرن الثالث عشر.

ولقد كان لهذه الترجمات اللاتينية والعبرية الفضل في الحفاظ على ما تعرض للضياع أو الإتلاف من مؤلفات ابن رشد العربية بعد نكبته وإحراق كتبه؛ ومن هذه الكتب “الضروري في السياسة “الذي بقيت ترجمته العبرية، وعنها نقل إلى العربية في أواخر القرن الماضي. .
وكان انتشار أفكار أرسطو، أو ما عرف بالرشدية سريعا، بالغ السرعة، في أوروبا، فلم تكد تنشأ جامعة باريس في عام 1200م حتى اقتحمت الرشدية قاعات التدريس في كلية الآداب بالجامعة، وبادرت الكنيسة الكاثوليكية الغاضبة إلى إصدار قانون بتحريم بعض مؤلفات أرسطو عام 1210م، وتلاه قانون تحريم مماثل في 1215م؛ ولكن الرشدية بقيت متحصنة في كلية الآداب بالرغم من تلك القوانين، وكان من أشد أنصارها الرشدي الكبير “سيغر دي برابانت “الذي دافع عن مبدأ السببية وشموله حتى المسيحية نفسها؛ وقد أدى ذلك إلى اتهامه وأصحابه بالرشدية المضلّة، وإلى التخلص منهم بعد تنفيذ قانون التحريم عام 1277م.
أما قضايا الاتهام الموجهة للرشديين، والتي اعتبرت معارضة للعقيدة المسيحية، فكثيرة العدد، وإن لم تكن بالضرورة ممثلة لآراء ابن رشد؛ ومن أهمها (فخري، ص ص 141، 142):
•    إنكار حرية الإرادة، أو قول الرشديين: “إن الإرادة  قوة منفعلة، لا فاعلة، وإن المراد يحركها باضطرار “.
•    إنكار العناية الإلهية، أو قولهم: إن الأفعال البشرية ليست خاضعة للعناية الإلهية، وإن كل الموجودات الدنيا خاضعة، ضرورة، لفعل الجرم السّماوي”.
•    قولهم بأزلية العالم، وباستحالة الخلق من عدم.
•    قولهم بحقيقتين مختلفتين: فلسفية ودينية، صادقتين معا.
•    قولهم بوحدة العقل البشري، واستحالة المعاد الفردي.
•    إنكارهم علم الله للجزئيات الحادثة.
•    تقديم الفلسفة، أو الحكمة، على الشريعة عندهم.
•    إنكارهم الخوارق أو المعجزات.

لإلقاء المزيد من الضوء على الرشدية اللاتينية وعلاقاتها بفلسفة ابن رشد نفسه، قامت زينب الخضيري في كتابها “أثر ابن رشد”، بمقارنة آراء الجانبين في ثلاث من القضايا الكبرى، وهي: مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، ومشكلة قدم العالم وخلقه، ومشكلة النفس العاقلة. وسنكتفي هنا بما قدمته في تلك المقارنة بين ابن رشد واثنين من المفكرين اللاتينيين هما: سيغر دي برابانت المفكر الأكثر إخلاصا لابن رشد، وتوما الأكويني الذي استثمر فلسفة أرسطو / ابن رشد في دراساته اللاهوتية، رافضا منها ما تعارض مع عقيدته المسيحية:

التوفيق بين الفلسفة والدين، والقول بحقيقة واحدة أو حقيقتين:
يتفق توما الأكويني مع ابن رشد في الفصل بين الدين والفلسفة، مستثمرا الفلسفة الأرسطية الرشدية في اللاهوت المسيحي، كما تابع ابن رشد في القول بحقيقة واحدة ولكنها الحقيقة الدينية عنده.
أما سيغر دي برابانت، فيتبنى رأي أستاذه ابن رشد في كل من الفصل بين الدين والفلسفة، والقول بالحقيقة الواحدة وهي الحقيقة العقلية، وإن يكن قد تراجع تراجعاً ظاهراً بفعل الإرهاب الكنسي فيما بعد عن بعض آرائه.

قدم العالم و الخلق
يخالف الأكويني ابن رشد في رفضه (الأكويني) قدم العالم، ويقول بخلق العالم من عدم، متفقا في ذلك مع الدين المسيحي؛ ويتفق الأكويني مع ابن رشد في فكرة الخلق المستمر.
أما سيغر فيتفق مع ابن رشد في قوله بقدم المادة وإن كانت مخلوقة، وكذلك في قوله بقدم الزمان والحركة، ولكنه يخالفه في اعتقاده نظرية الفيض الأفلوطينية.

النفس العاقلة
في حين يرى ابن رشد أن العقل المادي (الهيولاني) الفردي فانٍ، بخلاف العقل المادي الكلي (لمجموع البشرية ) الخالد، وكذلك العقل الفعال (المفارق) الخالد أيضا  يرى الأكويني أن العقل الفعال هو داخل النفس الفردية (ومن ثم يتعدد بتعدد النفوس )، ويستتبع ذلك خلود النفس الفردية والعقل الهيولاني الفردي.
أما سيغر فتتطابق وجهة نظره مع وجهة نظر ابن رشد لمختلف العقول وخلودها أو فنائها.

يتبين من هذه المقارنات وغيرها وجود تطابق شبه تام في وجهات النظر بين سيغر وابن رشد؛ ولقد نكب سيغر كما نكب ابن رشد، وحرم من مواصلة التدريس في الجامعة، فواصل التدريس خارجها؛ مما عرضه للاضطهاد والملاحقة، وإلى الموت قتلاً في عام1281م.

بيد أن الحركة الرشدية الأوروبية لم تتوقف، بالرغم من الاضطهاد المتصل الذي عانته أشد المعاناة في الجامعة الفرنسية في القرن الثالث عشر؛ إذ وجدت معقلاً آخر تحصنت فيه، وهو جامعة بادوه (بادوفا) الإيطالية، حيث بقيت تغالب الأفكار القروسطية المتخلفة حتى القرن السابع عشر؛ وفي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان الفكر الأوروبي قد تمثل الرشدية، وتقبلها بجميع أطيافه، حيث كان العقل الأوروبي يواكب البورجوازية الأوروبية في مسيرتها الظافرة، ليصنع الأعاجيب في مختلف ميادين الفكر والمعرفة.

والمسألة التي تفرض نفسها هنا هي: لماذا نجحت الرشدية هذا النجاح الباهر في رفع العقل الاوروبي من حضيض القرون الوسطى إلى ذرى النهضة والتنوير، في حين فشلت في زحزحة العقل العربي فشلاً ذريعاً ؟

ناقش المفكرون العرب هذه المسألة الخطيرة، وعزوا ذلك الفشل إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية؛ ولا يتسع المجال هنا لتقديم مختلف التفسيرات المقدمة، وسنكتفي بمثال منها للمفكر المغربي الكبير محمد أركون، الذي يقول في كتابه “قضايا في نقد العقل الديني “(1998، ص ص 300-301 ):
“تاريخ الجمود يؤرخ له بموت ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، والدخول في عصور الانحطاط الطويلة منذ بداية القرن الثالث عشر … الأطر الاجتماعية للمعرفة هي التي تستقبل الفكر الفلسفي أو لا تستقبله، وهي التي تتيح له أن يزدهر أو تضيق عليه الخناق. وقد كانت هذه الأطر متوافرة في القرون الأولى من الإسلام، وبخاصة في القرنين الثالث والرابع فازدهرت العلوم والفلسفات بشكل لم يسبق له مثيل وشكلت ما يسمى بالعصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، ثم ابتدأت هذه الاطر الاجتماعية تتقلص وتضيق بعد مجيء السلجوقيين في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، وأصبحت محبذة للفكر الطرقي – الصوفي أو الفقهي – الشعبوي، ومعادية أكثر فأكثر للفكر الفلسفي، وهكذا دخلنا في ما يدعوه المؤرخون بعصور الانحطاط أو إقفال باب الاجتهاد …. نقصد بتقلص الأطر الاجتماعية المحبذة للمعرفة ما يلي: انهيار “البورجوازية “التجارية في بغداد والعواصم الإسلامية الأخرى. وكانت هذه البورجوازية هي التي تشكل الدعامة المادية لعقلانية المعتزلة والفلاسفة والعلماء في آن معاً. ونقصد بها أيضاً الخوف الذي ابتدأ يلف المجتمع بسبب الخطر الصليبي في الخارج، وبسبب النزاع الداخلي مع الخلافة الفاطمية (الإسماعيلية ) في الداخل.

وعندما يخشى المجتمع على نفسه ويشعر بأنه مهدد بالأخطار، فإنه لا يعود يفكر بشكل عقلاني هادئ، وإنما يصبح ميالاً إلى الفكر الأيديولوجي التعبوي الذي يجيش الجماهير من أجل الجهاد أو الكفاح ومكافحة الأخطار. وهكذا انتصر الفكر التقليدي المحافظ على الفكر النقدي العقلاني. الفكر الفلسفي لا يستطيع أن يزدهر في أي جو، وإنما تلزمه أطر اجتماعية ملائمة لكي يتفتح ويزدهر.”
ربما يكون هذا التفسير الذي قدمه أركون قابلاَ للتطبيق في العصر الحاضر أيضاً وإن اختلفت المسميات.

10–     فيلسوف التنوير
يقوم الفكر التنويري على عدة مبادئ، يمكن تمثـّلها عند ابن رشد فيما يأتي:

العقلانية
      يشغل العقل أرفع المراتب عند ابن رشد، فهو المرجع الأخير في تفسير العالم، وحل المشكلات ذات الصلة بالنص وغيرها.
     ويماهي ابن رشد العقل مع النظام الكوني العام، الذي يحكمه مبدأ السببيه، وفحواه “وجود ارتباط ضروري بين الأسباب والمسببات”، وهو مبدأ اعتبره ابن رشد عماد العلم، واعتبر الخروج عليه قولاً بعشوائية الحوادث، ونفيا لحكمة الصانع.

     يقول في كتابه “الكشف عن مناهج الأدله”(ص 193):
“ينبغي أن تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها(=الفاعلة)، والحكمة هي المعرفة بالأسباب الغائية”.

   وإذا كان ابن رشد لم ينكر الإرادة البشرية، فإن هذه الإرادة  تشكل عنده جزءاً من نظام الكون العام السائر في طريق التقدم.
   ومن تجليات العقلانية عند ابن رشد قوله بتأويل النص الديني في حال تعارض ظاهره مع الفلسفة بما يتفق مع الفلسفة، ومناداته بأولية المنطق في التعليم، أي أن يكون المنطق الموضوع الأول الذي يدرسه المتعلم قبل غيره من الموضوعات.

الانفتاح على الآخر
     يصدر الانفتاح على الآخر عند ابن رشد، عن رؤيته لتكامل الخبرة البشرية في المعرفة، وموضوعية الفكر الإنساني الذي لا يعتمد على الهويات والعصبيات؛ يقول في كتابه “فصل المقال”(ص90):
“إنه عسير أو غير ممكن أن يقف واحد من الناس، من تلقائه وابتدائه، على جميع ما يحتاج إليه من ذلك [علم المنطق]، كما أنه عسير أن يستنبط  واحد جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك. وإذا كان غيرنا  قد فحص عن ذلك فبيّن أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسببه بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان(ذلك) الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة”.

    لم يقتصر الانفتاح على الآخر عنده،على الأخذ والعطاء في المحتوى الفكري أو المادي، بل تجاوز ذلك إلى وضعه القواعد التي ينبغي أن يلتزم بها في الحوار مع الآخر، بحيث يكون الحوار بينهما مثمراً وبناء.
    وربما كان المثال الأوضح  على الانفتاح على الآخر ما نجده لدى ابن رشد نفسه، في علاقته الحميمة بأستاذه أرسطو، وإعجابه الشديد به، والإشادة بعلمه وفضله في مختلف المناسبات.

مرجعية الطبيعة والواقع
  تنتمي فلسفة ابن رشد الأرسطية الجذور، إلى الفلسفات المادية التي يتقدم الواقع فيها على الفكر؛ ويتبين ذلك من قول ابن رشد في “فصل المقال”(ص 64): “نحن لا نعلم إلا ما هو موجود، فوجود الأشياء سابق لعلمنا”. وفي الكتاب نفسه (ص 85):
    “إن فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع.”

بل إنه يرتفع بالتفكير في الطبيعة إلى القداسة، حيث يقول: “إن الشريعة الخاصة بالحكماء (الفلاسفة) هي الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة”.

   والعامل المشترك في الحالتين: التفكير في الطبيعة والعبادة إنما هو مبدأ السببية، كما يتبين من قوله في كتابه “الكشف”(صن 193):
“القول بنفي الأسباب في الشاهد (عالم الواقع) ليس له سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب (عالم الغيبيات)، لان الحكم على الغائب من ذلك إنما يكون من قبل الحكم بالشاهد”.

تاريخية النص
       تتمثل تاريخيه النص- الديني- عند ابن رشد، في مراعاة بنية ظاهر النص لإدراك الجمهور، الذي يعتمد في تفكيره على المعطيات الحسية في غالب الأمر، كما ذكر في  كتابه “فصل المقال”(ص 111).
  ومن القضايا ذات الصلة التي ناقشها ابن رشد، مسألة المعاد الأخروي، حيث يمثل ظاهر الشرع المعاد بالصور والتشبيهات الجسمانية لأن ذلك أقرب إلى فهم الجمهور، وأقوى تأثيرا فيه؛ يقول في “الكشف”(ص ص 203-204):
   “وأما التمثيل الروحاني فيشبه أن يكون أقل تحريكا لنفوس الجمهور إلى ما هنالك. والجمهور أقل رغبة فيه وخوفاً له منهم في التمثيل الجسماني. ولذلك يشبه أن يكون التمثيل الجسماني أشد تحريكا إلى ما هنالك من الروحاني، والروحاني أشد قبولاً عند المتكلمين المجادلين من الناس”.
ويضيف:
    “والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد أن لا يكون نظراً يفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود (= وجود المعاد) جملة.”

دور الإنسان في صنع التاريخ
      يتبين دور الأنسان في صنع التاريخ عند ابن رشد، في التفسيرات التي قدمها لتحول المدن الفاضلة وغيرها- الواحدة إلى الأخرى، من خلال تأثرها بعوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية؛ وينطبق هذا القول أيضا على التطبيقات التي قدمها لتحول الدول في التاريخ العربي القديم والمعاصر له.
     كما يتبين هذا الدور أيضاً من مخالفته رأي افلاطون القائل بصعوبة تحقق المدينة الفاضلة عمليا، وذلك لافتراضه أن هذا لا يتأنى إلا بمصادفة وجود شخص تجتمع له صفات الملك وصفات الفيلسوف، وهو أمر بعيد الاحتمال؛ ويطرح ابن رشد، بديلاً آخر  هو تراكم التحسينات الممكنة الوقوع في الدولة إلى أن ينتهي الأمر فيها بقيام الدولة\المدينة المطلوبة.
وبعد:
    فإذا كان ابن رشد قد أسّس بمبادئه هذه للتنوير في أوروبا، سابقاً لقيامه بسنوات قليلة، فإن دعوته التنويرية للمساواة بين الجنسين قد جاءت سابقة لانتشارها فيها بخمسة قرون.
هذا هو ابن رشد.
____________________________________________

المصادر
ابن رشد. (1997). فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال. إشراف محمد عابد الجابري. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
ـــــــــــ.(1998). الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. إشراف محمد عابد الجابري. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
____.(1998). الضروري في الساسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. إشراف محمد عابد الجابري. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
ــــــــــ.(1998). تهافت التهافت. إشراف محمد عابد الجابري. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
بدوي،ع. (1954). أرسطوطاليس في النفس. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية.
قمير،ي. (1986). ابن رشد. بيوت: دار المشرق.
شرف الدين،ج. (1979). ابن رشد. بيروت:مكتبة الهلال.
فخري،م. (1992). ابن رشد: فيلسوف قرطبة. ط2. بيروت: دار المشرق.
نصار،ن. (2011). الإشارات والمسالك: من إيوان ابن رشد إلى رحاب العلمانية. بيروت: دار الطليعة.
زكريا،ف. (1974). جمهورية أفلاطون. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
العليبي،ف. (2007). رؤية ابن رشد السياسية. بيوت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الجابري،م.ع. (1998). ابن رشد سيرة وفكر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الخضيري،ز. (2007). أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى. بيروت: دار التنوير.
أركون،م. (1998). قضايا في نقد العقل الديني.
حمد، ع.خ. (2008). المرأة في الفكر الفلسفي عند العرب. مجلة تسامح. عدد 21 . رام الله: مركز رام الله            لدراسات حقوق الإنسان.
حمد، ع.خ. (2011). التسامح في فكر محمد عابد الجابري. مجلة تسامح. عدد 32 . رام الله: مركز رام   الله لدراسات حقوق الإنسان.
المغربي، ع.ع. (1986). الفرق الكلامية الإسلامية: مدخل ودراسة. القاهرة: مكتبة وهبة.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial