نشر في جزئين يوم الخميس 11 ديسمبر 2014 ويوم الإثنين 15 ديسمبر 2014 في مجلة altagreer.com
في مجلة Polar الألمانية، العدد الثالث 2007 ينشر راينر فورست أحد وجوه الجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت مقالًا بعنوان: “الفن السامي للتسامح: خارطة طريق في أزمنة الصراعات الدينية”. يفتتح مقاله بالتساؤل التالي: “ما الذي يعنيه التسامح بالضبط؟”. ويرى بأنه لا يمكننا “أن نتحدث عن التسامح إلا إزاء القناعات التي نعتبرها خاطئة أو سيئة”. لكن التسامح يدفعنا إلى قبول بالآخر رغم رفضنا لقناعاته، إنه لا يغير من موقفنا السلبي من قناعاته ولكنه يجعلنا نعترف بحقه في الوجود. وفي لغة فورست: “سيكون من الخطأ أن لا نتسامح مع الخطأ”. لكنه يحذرنا من أن يكون الرفض الذي يؤسس للتسامح قائمًا على أحكام مسبقة خطيرة أو على حقد أعمى. فمن يحقد في رأيه على شخص بسبب لونه، عنصري لا غرو، ولا يمكنه أن يكون متسامحًا، والأمر نفسه، يقول فورست، يصدق على من يرفض الأديان الأخرى. “فلا يتوجب على العنصري أن يصبح متسامحا، بل يتوجب عليه أن يتجاوز عنصريته”.
ويرد فورست في مقاله أيضًا على أولئك الذي يطالبون باقتلاع الأفكار غير المتسامحة من جذورها، ويعنون بذلك الدين، ويؤكد بأن التاريخ يعلمنا بأن استئصال الدين لم يصل بالبشرية إلى عالم متسامح، بل الأكثر من ذلك دفع بها لخلق أديان جديدة، كانت في أغلب الأحيان أكثر دموية. “إن اللاتسامح ضد اللاتسامح يقود في الأغلب الأعم إلى النتيجة نفسها”.
قدمت لهذا المقال بهذه الأفكار من مقالة راينر فورست، ليس لأنها أفكار غير متداولة، ولكن لأنها تلخص فكرة التسامح بدقة. وقد نقول انطلاقًا منها بأن الموقف المتسامح يتعارض مطلقا مع الموقف الاستئصالي. وأينما وليت وجهك اليوم ستجد أن الموقف الاستئصالي هو السائد في منطقتنا العربية وليس في منطقتنا فقط، وهو الموقف الذي ننعته اليوم بالطائفية، وللأمر علاقة لا ريب بفشل المشروع التحديثي داخل مجتمعاتنا وانهيار الدولة الوطنية، وما يتضمنه ذلك من فشل للتعليم الحديث وانحسار ومحاصرة للقيم الديمقراطية ولكنه يعود أيضا ـ
وبعيدا عن كل نظريات مؤامرة لسياسات خارجية تشجع على تأبيد علاقة شعوب المنطقة بمنطق ديني متخلف، فقيم الإسلام الذي يعترف بحق الآخر في الوجود ويدعو إلى التعامل معه بالحسنى، كما تخبرنا نصوصه المؤسسة ويخبرنا تاريخه، تنحسر وتتراجع حين تسود الطائفية أو القومية أو القبلية أو الإسلاموية، وكلها دعوات لا تؤسس للإنسان؛ ولكن لإنسان الغلّ ولا للوطن ولكن لحكم العسكر ولا للحوار ولكن للدم والتضحية بالآخر. وهي نزعات تسود مجتمعات التخلف التي لا تملك مصيرها والتي تظل عاجزة عن فهم واقعها وفهم نفسها، حاضرها وماضيها، وغير قادرة على مراجعة تاريخها مراجعة نقدية.
فأين تظهر الطائفية اليوم؟ هناك لا ريب حيث لا تسود القيم الديمقراطية، ولا حتى القيم الدينية التقليدية. إنها تسود في بيئة التخلف والاستبداد، والتي تحسن اللعب على الوتر الطائفي من أجل تحويل أنظار شعوبها عن القضايا الحقيقية، وتؤسس لشخصية مغلقة ومهووسة وقابلة للانفجار في كل لحظة أو لشخصية غير متسامحة، أو بلغة عالمة النفس الأمريكيةـ -الألمانية الأصل- Else Frenkel- Brunswik شخصية غير متسامحة مع الالتباس، وهو ما يمثل جوهر الشخصية المتسلطة وحقيقة الثقافات المغلقة.
تتصف هذه الثقافات المغلقة في رأيي بتضخم في الذاكرة، بحيث إنها تعيش في ذاكرتها ولذاكرتها وتصر على فرضها على الآخرين، وتصر على فهم الواقع انطلاقًا منها، كأن أحاول فهم واقعي اليوم انطلاقًا من معركة اسمها كربلاء أو من شخصية اسمها معاوية أو ما إلى ذلك.
ولا تستطيع مثل هذه الثقافة أن تتجاوز ذاكرتها، أي أن تحرر ذاكرتها ونفسها، بدون صدمة حداثة، أي بدون انفتاح غير مشروط على الثقافات الأخرى واستعداد للتعلم من الآخرين. فمن يتذكر لا يفكر، ولا يعرف معنى اللقاء وحيوية هذا المفهوم بالنسبة لكل عيش مشترك. إن التذكر نسيان لبعد اللقاء أو نسيان للآخر، لأنه يقوم على منطق الأبيض والأسود، وعلى الأحكام المسبقة النهائية وعلى تجاهل للواقع كما تقول بورنشفيك، على حكم تاريخي لا يقبل المراجعة. ولربما تكون منطقتنا فعلًا ضحية للحداثة وعنفها، لكنها أيضًا ضحية فشلها في اللحاق بركب الحداثة.
لقد ذهب المستشرق الألماني توماس باور نقلًا عن دونالد ليفين، ولكن اعتمادًا على نصوص من داخل الثقافة الإسلامية الكلاسيكية، إلى اعتبار أن الحداثة الغربية هي التي أجهزت على التسامح مع الالتباس داخل الثقافة العربية-الإسلامية.
ورغم أن رؤيته أحادية الجانب وتغفل العناصر الداخلية التي ساهمت في تدمير التعدد الذي ميّز الثقافة العربية-الإسلامية، وأبرزها الاستبداد السياسي والتطرف المذهبي، ورغم أن رؤيته للحداثة تتسم بكثير من الاختزال؛ إذ لا يمكننا في نهاية المطاف أن نتحدث عن الحداثة بالمفرد، فالأنوار الفرنسية تختلف عن مثيلاتها الألمانية أو الإنجليزية، إلا أنه يمكننا الحديث عن الخط الغالب داخل الحداثة كخط يؤسس للسيطرة وعدم التسامح، والنظر -كما بيّن عالم الاجتماع البولندي تسيغمونت باومان- إلى الآخر المختلف، كـ”سم قاتل”، أو كـ”خطر على نظام الأنا”، يجب التخلص منه ومن جرعة الالتباس التي يحملها؛ بل إن دونالد ليفين صاحب كتاب The Flight from Ambiguity يرى أن هذا العداء للالتباس الذي أسس له المثقفون الغربيون منذ القرن السابع عشر، أمر انفردت به الحداثة الغربية ولم يكن له وجود في الثقافات السابقة على الحداثة.
يتحدث ليفين في كتابه أيضًا عن المذهب البروتستانتي الذي يرفض الاختلاف الديني وقيام مذاهب أخرى إلى جانبه، كمذهب طهراني، تقشفي معاد للتصوف، ويرى في هذه النزعة الطهرانية أساس الرغبة داخل الثقافة الأمريكية في السيطرة على الطبيعة بشكل لم يسبق له مثيل، كما يعتقد أن نزعة السيطرة هذه ساهمت في النفور الأمريكي من الالتباس. يذكرنا ذلك لا ريب بمذاهب شبيهة داخل ثقافتنا الإسلامية لم تتورع عن تكفير أتباع المذاهب الأخرى التي تعتقد بوجود أكثر من طريق داخل الإسلام، وأن الإسلام لم يكن يومًا مفردًا وإنما دين يؤسس للتعدد ولا يمكنه الاستمرار بالوجود إلا كدين متعدد.
وكنت شخصيًا أندهش من أبناء بعض البلدان الإسلامية خلال تواجدهم في الغرب ومن حقدهم المرضي على الإسلام أو من تشبثهم المرضي بمذهبيتهم المغلقة، وأعني من انتقالهم من موقف متطرف إلى موقف متطرف آخر، يظل في النهاية عرضًا من أعراض المرض نفسه رغم الاختلاف الظاهري بين التطرف الديني واللاديني. أندهش لذلك، لربما لأني قادم من بلد عشنا ونعيش فيه الإسلام كدين للفرح والحميمية، أو كعيد يومي وليس كواجبات ثقيلة ومظاهر تؤسس للقبح والكبت. إن الله يعيش مع المغربي في بيته ويرافقه إلى كل مكان، وحتى في اللحظة التي يضرب فيها المغربي الأوامر الدينية بعرض الحائط، حتى في عصيانه يظل أقرب ما يكون من الدين إن لم يزدد اقترابًا منه.
لا يخطئ البتة من يتحدث عن إسلام مغربي رغم أننا لم نبذل مجهودًا حتى الآن لتحديد ما الذي نعنيه بذلك، ولربما في رفضنا لتحديد ذلك نكون أكثر تسامحًا أو بالأحرى احتفاء بالالتباس. لن يعجب مثل هذا الكلام بعض الرؤوس الطائفية والمغلقة، غير المتسامحة مع الالتباس، والتي استمرأت الكسل والتعصب والتدخل بشؤون الآخرين وتنغيص حياتهم، ولكن علينا أن لا نتأثر بلغتهم ولا أن نعيد إنتاج العنف نفسه الذي يصدر عنهم، بل علينا أن نتذكر دائمًا الآية الكريمة: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}. “هونًا” هنا بمعنى التواضع، والموقف المتواضع هو غالبًا موقف يقبل بحق الآخرين ولا يدعي الحقيقة لنفسه فقط، أما “الجاهلون” في هذا السياق، فهم من يطلبون فرض رأيهم بالقوة والكبر والقهر، والشاعر يقول: ألا لا يجهلن أحد علينا؛ فالجهل مرتبط بالعنف، وكل تيار ديني أو سياسي يتخذ العنف منهجًا، هو تيار “جاهلي”، جاهل بدينه أولًا وبحقيقة الظاهرة الإنسانية التي يخترقها التعدد والضعف ثانيًا. إنه موقف يقترب من الموقف الطهراني الذي تحدث عنه ليفين في كتابه، لكنه هنا يتحقق في سياق غير ديمقراطي وبلغة أخرى يظل بدائيًا في تفكيره وعنفه.
أذكر أني حضرت مائدة إفطار في مدينة ألمانية جمعت فيمن جمعت سلفيًا جهاديًا وتابعًا لجماعة الإخوان المسلمين، ولولا تدخلنا في آخر لحظة لانقض أحدهما على الآخر، وذلك بعد أن صلّيا وأفطرا رمضان معًا؛ حينها أدركت بأن كل ربط للدين بالحقيقة هو إجهاز على حركية الدين وتعددية المجتمع، وبلغة أخرى على تسامحنا مع الالتباس. وحين أقول الحقيقة هنا، أعني خصوصًا ربط الدين أو اختزاله بتأويل مغلق ونهائي، لا يقبل نقاشًا ولا مراجعة، وبلغة أخرى، إسقاط قدسية الدين على تأويل بشري، غالبًا ما يؤسس للاستبداد بالرأي أو للقهر.
إن ثقافة الالتباس تقوم على تعدد المعاني والحقائق والمراجع وتعايشها، بشكل لا يسمح لأحد بادعاء امتلاكه للحق والحقيقة ووصم الآخرين بالباطل؛ بل إنها تقبل بتجاور معايير متناقضة في الآن نفسه، وهذا ما ميز الثقافة الإسلامية بنظر الألماني توماس باور نقلًا عن نيتشه- عن نظيرتها اليونانية، على الأقل في خطها الأرسطي، وعن الثقافة الغربية الحديثة، والتي، وإن شهدت نوعًا من “التسامح مع الالتباس” في المرحلة السابقة على الحداثة -ما سمي بعصر “الباروك الأوروبي”- إلا أن “التنوير” سرعان ما أجهز على ذلك، فمشروعه قام على تجاوز الالتباس وبناء لغة واضحة، تجب اللبس وتنفر من الاختلاف.
ملحوظة
حين نخرج أحكامًا نقدية من سياقها العام الذي ظهرت فيه ونستعملها، وفي روح غير نقدية، في سياق آخر، تتحول هذه الأحكام في الأغلب الأعم إلى أيديولوجيا أو إلى أحكام مسبقة، مثل الحكم الذي أطلقته الحداثة الغربية بحق على المسيحية الغربية، فهل من حقنا إصداره على الإسلام الذي قام ضد كل أشكال الكهنوت، والذي ولد علمانيًا، وبلغة أخرى، الذي أسس للحرية، أساس كل تعدد؟