من الصعب استخلاص موقف منسجم واضح لابن رشد من القضية النسوية لأنه، أولا، لم يكتب في هذا الموضوع رسالة أو مقالة خاصة، شأنه في ذلك شأن جل الفلاسفة السابقين واللاحقين عليه. وهذا يدل على أن موضوع المرأة، أو الأنوثية، لم يرق إلى مرتبة الموضوع الفلسفي بعدته المنهجية والمفهومية والإشكالية. وهذا التقليد استمر حتى لدى الفلاسفة المعاصرين الذين سكتوا عن المرأة بالرغم من الثورات الجذرية التي قاموا بها والتي بوأت الإنسان مكان الصدارة في الكون.
وتعود صعوبة فرز موقف صريح لابن رشد من قضية المرأة من ناحية ثانية، إلى كونه لم يتطرق إليها بالقصد الأول، أي مباشرة وبالذات، ولكن بالقصد الثاني، أي عرَضا أثناء تناوله لقضايا قريبة أو بعيدة عن قضية المرأة، يمكن إحصاؤها في أربع قضايا تنتمي إلى مجالات أربعة: (1) قضية تعريف الإنسان بعامة، التي تنتمي إلى سياق ميتافيزيقي-منطقي (2) قضية تخيل بناء دولة عادلة فاضلة تحظى فيها المرأة بأهمية خاصة، وهي قضية تنتمي كما هو واضح إلى سياق الفلسفة السياسية، (3) مسألة الإنجاب، وهو سياق بيولوجي واجتماعي، (4) وأخيرا مسائل الحقوق والواجبات الدينية المتعلقة بالجوانب الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية (العقود والرق والتجارة والشهادة والإرث الخ)، وهي مسائل تنتمي إلى المجال الفقهي.
صعوبة استخلاصنا لموقف رشدي متكامل من القضية النسوية يعود إلى كون ابن رشد وجد نفسه عندما كان يفكر في هذه القضية أمام ثلاثة تصورات متقابلة: تصور فلسفي أفلاطوني-أرسطي، وتصور علمي-بيولوجي، وتصور ديني-إسلامي. لهذه الأسباب لا نستغرب إن وجدنا موقف ابن رشد من المرأة ملتبسا يتأرجح بين إيلاء المرأة حقوقها الكاملة، وسلبها تلك الحقوق تحت هذه الحيثية أو تلك.
قصدنا من هذه التوطئة أن ننبه إلى أن قراءتنا لموقف ابن رشد من المرأة لن تكون قراءة إسقاطية ترى في نصوصه ما نود أن نراه فيها، مفترضة مثلا على نحو مسبق أنه كان صاحب نزعة مساواتية إزاء النساء، وإنما هي قراءة لابن رشد كما هو لا كما نريده أن يكون قبل أوان الأفكار النسوية المنتشرة اليوم.
وعند الإنصات إلى ابن رشد كما هو، نفاجأ بأننا لسنا أمام ابن رشد واحد، وإنما إزاء اثنين متعارضين يتخذ كل واحد منهما من المرأة موقفا مضادا لموقف الآخر: (1) الموقف المساواتي الذي ظهر في أعماله المتصلة بفلسفة الوجود وفلسفة السياسة، أي عندما كان يفحص موضوع الإنسان فحصاً عاماً سواء من الناحية الوجودية أو السياسية ؛ (2) والموقف اللامساواتي الذي ظهر في أعماله الطبية والفقهية، أي عندما كان ينظر إلى علاقة الرجل بالمرأة من زوايا عملية تجريبية، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات.
سيقتصر كلامنا على استعراض الأسس الفلسفية للموقف الأول، أي للموقف المساواتي، على أن نتكلم عن الموقف اللامساواتي في مناسبة أخرى. ومن شأن هذا الاقتصار أن يعفينا من الإجابة على السؤال المحرج: لماذا لم يشأ ابن رشد أن يربط موقفه النظري المساواتي من المرأة بموقفه العملي (الفقهي والطبي) اللامساواتي؟ هل السبب يعود إلى أنه لم يكن يتكلم عن نفس المرأة بل عن نوعين من المرأة، المرأة ذات الحقيقة الميتافيزيقية العامة والمرأة ذات الحقيقة الاجتماعية-السياسية-الحقوقية الملموسة؟ أم السبب يعود إلى الوضع التاريخي والمعرفي والعقدي الذي لم يسمح له بإدراك تناقضه، أي بربط الحقيقة العملية بالحقيقة النظرية، حقيقة الشريعة بحقيقة الفلسفة؟ وعندئذ أين نحن من المبدإ الذي أعلنه جهارا في كتابه فصل المقال “بأن الحق لا يضاد الحق”؟
سأعرض للموقف المساواتي في محورين، (1) المحور الأول يتكون من لحظتين، لحظة أولى سأقدم فيها المبدأ أو المبادئ النظرية التي تؤسس للوحدة في الطبيعة بين الرجل والمرأة، ولحظة ثانية نعالج فيها كيف أن هذه الوحدة تقتضي شيئا من الاختلاف، إن لم يكن من التضاد، أي كيف أن هذا الاختلاف الضدي لا يهدد الوحدة النوعية بين الرجل والمرأة، وسأعتمد في استعراض هذا المحور على المتن الفلسفي أي على الشروح التي كتبها ابن رشد على كتاب ما بعد الطبيعة؛ (2) المحور الثاني سيكون مستندي فيه المتن السياسي لابن رشد، الذي سيسمح لي بتقديم المقتضيات التي جعلت المرأة في مجال الفلسفة السياسية تصبح على قدم المساواة مع الرجل.
أولا: خطاب المساواة بين الذكورة والأنوثة في فلسفة الوجود:
1) الوحدة النوعية بين الرجل والمرأة:
تُعرّف الرشدية نفسَها على مستوى الوجود والمعرفة والشريعة بأنها فلسفة وحدوية. فبالنسبة إليها، إذا كان هناك إله واحد ووجود واحد وحق واحد، وعقل واحد، فلماذا لا يكون هناك إنسان واحد؟ وبوسعنا أن نختصر الطريق بالقول بأنه لمّا كانت الفلسفة الرشدية تؤمن بوحدة العقل، فسيكون عليها حتما أن تؤمن كذلك بوحدة الإنسان، أي بالمساواة بين الرجل والمرأة.
وهذا ما فعله ابن رشد في تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، حيث رفع “الوحدة النوعية” بين الذكر والأنثى إلى مستوى البديهة قائلا: “الذكر والأنثى… هما من نوع واحد هو هو”. ومعنى هذا أن إنسانية الإنسان لا تقبل الزيادة والنقصان، ولا التفاوت والتفاضل »فالصورة الجوهرية [التي هي العقل]، ليس تقبل الأقل والأكثر. فإنه لا يكون إنسان أكثر إنسانية من إنسان«. لذلك، عندما ينظر ابن رشد إلى الإنسان، فهو ينظر إليه بما هو إنسان، لا بما هو رجل أو امرأة.
ويمكن تعزيز هذه الوحدة النوعية، أي الوجودية، بين الذكورة والأنوثة، بالوحدة الدلالية عن طريق اسم الإنسان. فهذا الاسم (وبخاصة في اللغة العربية التي تنفرد بكون اسم الإنسان فيها غير مشتق من الرجل، بل هو اسم جامد قائم بذاته، أكثر من ذلك، يمكن القول بأن اسم المرء، وهو اسم مرادف لاسم الإنسان، مشتق من المرأة) اسم محايد إزاء الرجل والمرأة، غير منحاز لأحدهما دون الآخر، بل هما ينتسبان إليه على حد سواء. ويضفي هذا الحياد على اسم الإنسان صفة السلم، ففي رحابه لا وجود للصراع بين الرجل والمرأة. لكن يبدأ الصراع متى تخلينا عن حياد اسم الإنسان وأشرنا إلى إنسان ما بأنه رجل أو امرأة، وهنا نكون قد فتحنا الباب أمام انحياز اسم الإنسان.
غير أن هذه الوحدة في الحقيقة البشرية لا تستطيع أن تلغي الاختلاف بين الرجل والمرأة. هنا نتساءل ما هي طبيعة هذا الاختلاف؟ هل هو اختلاف ذاتي، أم عرضي، أم إنه بالأحرى اختلاف تقابلي ضدي؟ وإذا سلمنا بأن الاختلاف بين الرجل والمرأة يصل فعلاً إلى مرتبة التقابل الضدي، فهل هذا التضاد هو من النوع الاستبعادي أم من النوع التكاملي؟
2) الاختلاف العَرَضِي بين الرجل والمرأة
يقر ابن رشد أولاً بأن الاختلاف بين الرجل والمرأة هو من نوع الاختلاف العرَضي. لكن هذه العرضية ليست من النوع الذي لا يحدث الانقسام في الموجود، كأن نصف الإنسان بأنه أبيض أو أسود، موسيقي أو فلاح، بل إنها من نوع العرَض الذاتي الذي يحدث انقساما في الإنسان ذي طابع تقابل بين الرجل والمرأة. ومما يدل على ذاتية الانقسام التقابلي لنوع الإنسان أنه يؤدي إلى إطلاق اسمين مختلفين على المتقابلين (الرجل والمرأة، الذكر والأنثى)، بخلاف الإنسان الأبيض أو الإنسان الموسيقي الذي لا يمكن أن يكون لهما اسم جامع، وإنما اسم مشتق. ويشبه انقسام الإنسانية إلى ذكر وأنثى انقسامَ الواحد، من حيث هو مبدأ العدد، إلى فرد وزوج، فالواحد في نظر ابن رشد يوجد خارج الفردية والزوجية. وهنا تجدر الإشارة إلى كيفية استعمال ابن عربي هذا التشبيه الرياضي لفهم مكانة المرأة بالنسبة للرجل، فالشيخ الأكبر على خلاف الشارح الأكبر اعتبر في كتاب الألف »آدم فردا، وحواء واحدا«، مما يعني في نظره بأن »الواحد [موجود] في الفرد، مبطون فيه«، أي أن المرأة مشتقة من الرجل، كاشتقاق الواحد من الفرد! أما بالنسبة لابن رشد فعلاقة الرجل بالمرأة ليست شبيهة بعلاقة الواحد بالكثير، وهي علاقة الكائل بالمكيل، أو علاقة العلة بالمعلول، وإنما هي شبيهة بعلاقة الواحد المحايد إزاء الفردية والزوجية، بحكم تعاليه عن الدخول في جنس العدد، وإنما هو مبدأ الزوجية والفردية، شأنه في ذلك شأن الإنسان الذي لا يمكن أن يكون رجلا ولا امرأة، لأنه هو أصلهما معا على جهة التساوي.
فإذا اعترفنا بأن الانقسام الضدي للإنسان إلى ذكر وأنثى هو انقسام ذاتي، فهل يرقى إلى أن يكون انقساما جوهريا، فيكون جوهر المرأة مختلفا عن جوهر الرجل؟ أو بعبارة ابن رشد، إذا كان انقسام جنس الإنسان إلى ذكر وأنثى انقساما بالذات لا بالعرَض، فلماذا لا »يكون الذكر نوعا، والأنثى نوعا آخر؟«، أي »لِمَ لا يكون الذَّكر مخالفا للأنثى بالنوعية، إذ كان الذكر ضد الأنثى، والخلاف بالضدية هو خلاف بالصورة؟«، أي بالنوع؟
كان جواب ابن رشد في تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة مباشرا وواضحا وهو أن انقسام الإنسان إلى ذكر وأنثى، وإن كان انقساما بالذات، لا يؤدي إلى انقسام نوعي، لأنه »ليس كل ضد يفعل نوعية«. لكن، »لِمَ كان بعض الأضداد يفعل نوعية، وبعضها ليس يفعل؟«. اتخذت الإجابة على هذا السؤال عدة صيغ أحصيناها في سبع حجج تلونت حسب المجالات الوجودية والمعرفية والمنطقية التي اقتبست منها مفاهيمها وعناصر حلها.
لن نذكر كل هذه الحجج، وإنما سنكتفي بأهمها. من بينها أن الانقسام الذي تحدثه الذكورة والأنوثة في نوع الإنسان لا يكون في الجزء العقلي، أي الماهوي من الإنسان، وإنما في جزئه الجسمي أو الحيواني. بعبارة ابن رشد نفسه »ليس يوجد غيرية للإنسان من جهة العنصر [أي الجسم]« ، وإنما »الغيرية […] توجد إذا كان تضاد في الصورة [العقل]«. هذه الغيرية، التي يسميها ابن رشد بالغيرية التامة وهي التي تتباعد فيها الصورتان المتضادتان غاية التباعد في الوجود، لا توجد بين الرجل والمرأة، إذن هما نفس الشيء الواحد.
وعند الاستئناس بمبدإ استحالة التضاد داخل الماهية بالنسبة للموجود الذي لا تضاد فيه، تنشأ حجة أخرى: بما أن الإنسان واحد لا تضاد فيه، فلا يمكن أن تدخل ضدية الذكورة والأنوثة في تعريف ماهيته، مما يعني أن ماهية الرجل والمرأة واحدة لا تضاد بينهما: »السبب في أن الإنسان واحد في صورته أنه ليس يؤخذ في حده فصول متضادة«. وإذا أخذنا بعين الاعتبار بأن »الواحد بالصورة، هو النوع الأخير الذي لا ينقسم إلى نوع آخر، بل إلى الأشخاص«، لأنه هو النوع الأخير في الجنس، أمكن صياغة حجة أخرى تقضي بأن النوع الإنساني لا يقبل الانقسام إلى أنواع، وإنما إلى أشخاص.
من جهة أخرى، نعثر في المتن الرشدي على حجة طريفة تنتمي إلى حقل البيولوجيا. تنسب هذه الحجة وحدة النوع البشري إلى وحدة المادة التي يتكون منها الذكر والأنثى لا إلى الصورة، في حين تُرجِع الاختلاف بينهما إلى تباين الانفعالَيْن اللذين يؤثران في المادة، فالذكر يكون نتيجة انفعال الحرارة، بينما الأنثى تكون وليدة البرودة : »ولهذه العلة كانت مادة الذكر والأنثى بالجملة واحدة، مثل المنيّ، فإن المنيّ الواحد بعينه إذا انفعل انفعالا ما كان منه ذكر، وإذا انفعل انفعالا مضادا لذلك كان عنه أنثى… ويحتمل أن يريد بالانفعال ما يعرض له من الحرارة والبرودة«.
ونستخلص من هذا أنه بالرغم من أن الذكورية والأنوثية انفعالين ذاتيين للحيوان، فهما لا يرقيان إلى مستوى الفصلين الذاتيين اللذين يتجوهر بهما الحيوان، بل يظلان في مستوى العرضين الذاتيين وحسب. وهذا ما يعبر عنه بقوله: »الذكورية والأنوثية، وإن كانا انفعالين ذاتيين للحيوان وخاصّين به، فليس من نوع الفصول الذاتية الجوهرية، أي ليس هذان الفصلان مما يتجوهر به الحيوان، بل هي أعراض ذاتية لعنصر الحيوان، والحيوان المأخوذ في حدهما، لا أنهما في حد الحيوان على ما شأن فصول الأنواع الجوهرية أن يؤخذ في حدودها أعمها«.
إجمالاً، تلتئم هذه الحجج، كل من جهتها الخاصة، لإثبات أن لا فرق بين الرجل في الماهية، بالرغم من الاختلاف العرضي الذاتي بينهما. معنى هذا أن الرجل والمرأة لهما نفس العقل، أو أن المرأة هي المرء نفسه، ولا فرق بينهما بالرغم من تضاد “الجنس” الذي ينتمي كل واحد منهما إليه. الاختلاف، والتقابل، بين الرجل والمرأة ليس اختلافا جوهريا، ولكنه أيضا ليس اختلافا عرضيا، وإنما هو اختلاف عرضي ذاتي. فالإنسان ذكر وأنثى بالعرض، لكن لا بالكيفية التي نصف بها زيد أو عمرو بأنه أبيض أو أسود، أو موسيقي أو محارب، لأن هذه الأعراض غير ذاتية تعرض للإنسان دون أن تكون قادرة على تقسيمه، بل بالكيفية التي تجعل الذكورة والأنوثة عرضين ذاتيين تقتسمان الإنسان قسمة تقابلية. ومما يعزز ما ذكرناه أن الذكورة والأنوثة لا تدخلان في تعريف الإنسان، فلا نعرّف الإنسان بأنه ذكر أو أنثى، وإنما نعرّفه بأن “حيوان عاقل” أو “مدني بالطبع”. باختصار، الاختلاف بين الرجل والمرأة يكون داخل المساواة، داخل الوحدة النوعية لا خارجها. فهل يسمح هذا الاختلاف “الجنسي” داخل النوع البشري بالزيادة والنقصان، فيكون الرجل مثلا أكثر إنسانية من المرأة، والمرأة أقل إنسانية من الرجل، مما يحرمها من الاضطلاع بالمهمات الجليلة في تأسيس الدولة العادلة والحفاظ عليها؟ هذا ما سنختبره أولا في الخطاب الفلسفي السياسي حول المرأة.
ثانيا) خطاب المساواة بين الرجل والمرأة على مستوى الفلسفة السياسية
هل سنجد للأفكار الفلسفية بشأن وحدة الحقيقة الإنسانية بين الرجل والمرأة صدى في جوامع سياسة أفلاطون لابن رشد، أم أن الأفكار المساواتية التي وردت في هذا الكتاب كانت لها أصول مختلفة عن تلك التي وردت في كتب الفلسفة النظرية؟
نعتقد أن هذا الكتاب كان بجهة ما محاولة لتطبيق الأفكار النظرية التي وردت بشأن الإنسان على محك الممارسة. إن فكرة الوحدة النوعية بين الرجل والمرأة ستتحول إلى فكرة المساواة السياسية بينهما. بهذا النحو يمكن القول بأن هذا الكتاب كان هو المناسبة المواتية للارتقاء بمسألة المرأة لأن تصبح مسألة فلسفية، لاسيما وأن موضوعه هو العدالة السياسية القائمة على الحكمة الفلسفية. وحتى إن لم يحدث ذلك، أي إن لم تتحول مسألة المرأة إلى مسألة فلسفية في هذا الكتاب، فإنها ستصير على الأقل موضوعا سياسيا بامتياز، أو بالأحرى موضوعا للفلسفة السياسية. باختصار، حققت مسألة المرأة في هذا الكتاب نقلة نوعية من مستوى الفلسفة النظرية إلى مستوى الفلسفة السياسية.
ويعود هذا التحول إلى أن موضوع كتاب جوامع السياسة لابن رشد هو البحث في شروط تشييد الدولة الفاضلة. هذه الشروط التي يمكن اختصارها في ثلاثة، الشرط الأول عملي يتمثل في القيام بثورة تربوية، والشرط الثاني عملي أيضا وهو ربط السياسة بالأخلاق من أجل إقامة نظام حكم عادل وفاضل، والشرط الثالث نظري وهو ضمان الوحدة للدولة. وبالرغم من الطابع النظري للوحدة، فإنها تلعب في هذه المعادلة السياسية دورا هاما في تحقيق العدالة، فلا وجود لعدالة سياسية بدون وحدة الدولة. لكن هل الأمر يتعلق بوحدة واحدة، أو أكثر من وحدة؟
من فحصنا لبناء الدولة العادلة الفاضلة لدى ابن رشد سواء في كتاب جوامع سياسة أفلاطون أو في إشاراته المتفرقة في كتبه الفلسفية والمنطقية، بدا لنا أن ذلك البناء يقوم على نوعين من الوحدة: الوحدة التناسبية والوحدة النوعية. وبينما كانت الوحدة التناسبية هي أداة تنظيم هرم الدولة الطبقي والوظيفي، فإن الوحدة النوعية كانت هي أداة فصل القول في العلاقة بين الرجل والمرأة. ومن مقارنة سريعة وبسيطة بين الوحدتين، يظهر أنهما متضادين، لأن الأولى تقوم على “مساواة تناسبية”، أي على تفاوت وتبعية بين الطبقات الاجتماعية، بينما الوحدة الثانية تقوم على “مساواة جوهرية” بين الرجل والمرأة. ومعنى ذلك أن الوحدة، أو المساواة المطلقة بين الفئات، لا تصلح في نظر ابن رشد لبناء مدينة فاضلة، لأن الخدمة المتبادلة بين تلك الطبقات المتفاضلة هي التي تضمن كمال المدينة الفاضلة. ومع ذلك، أي بالرغم من التضاد بين الوحدتين، فقد ظهرت الوحدة النوعية بالضبط في فضاء الوحدة التناسبية. بعبارة أوضح، في ظل “الوحدة التناسبية” القائمة على مبدإ التفاوت بين الفئات والأفراد ظهرت المساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة، لكن فقط وخاصة في طبقة حماة المدينة، لا بين كل الفئات. لكن كيف يمكن تفعيل المساواة بين الرجل والمرأة؟
من المعلوم أن الإيمان بالمساواة على الصعيد النظري، أي الجوهري، لا يكفي، بل لا بد من تفعيل هذه المساواة على المستوى العملي. هنا تدخل مقولة التربية باعتبارها أداة تفعيل هذه الوحدة أو المساواة بين “الجنسين” على مستوى فئة حُماة الدولة. ولا يمكن أن تكون التربية وسيلة فعالة لتحقيق المساواة الجنسية بين الرجل والمرأة إلا إذا انطلقت من اعتبار الاختلاف بينهما عرضيا لا ذاتيا.
تنطلق عملية التربية، إذن، من “الوحدة النوعية”، أي الوحدة في الطبيعة أو الغاية. ويمكن ترجمة هذه الوحدة ترجمتين مختلفتين في الشكل، وإن كانتا تؤمان نفس الغاية الواحدة، وهما الترجمة المعرفية والترجمة السياسية. فالترجمة المعرفية للوحدة في الغاية تعني أن للرجل والمرأة عقلا واحدا، والترجمة السياسية للوحدة في الغاية تعني أن الإنسان، رجلا كان أو امرأة، مدني أو سياسي بالطبع. هكذا تكون الغاية من التربية هي تأهيل المرأة لتحقيق كمالين: كمال سياسي يمكّنها من أن تصبح حافظة وحامية للدولة، وكمال معرفي وجودي يؤهلها أن تكون حاكمة، أي فيلسوفة. بهذا النحو ستضمن التربية للمرأة أن تكون حافظة بالمعنيين البيولوجي والسياسي. بالحفظ البيولوجي تحقق المرأة استمرار الحياة، وبالحفظ السياسي تؤَمّن استمرار الدولة العادلة. ولمّا كان الحفظ خلقا جديدا، فإن المرأة بهذا النحو تكون أداة الخلق البيولوجي والسياسي معاً.
نفهم مما سبق أن القول بالوحدة النوعية فتح الطريق واسعا أمام تربية المرأة بنفس الروح والمنهج الذي يُربى به الرجل بدون فرق أو تمييز، »لأن الأنثى تفعل هي أيضا نفس ما يفعله الذكر«، كالإقدام والشجاعة والهمة والحميّة والحكمة، ولا تنتظر هذه الاستعدادات سوى تحويلها إلى ملكات وكفاءات. نعم، لا يمكن لابن رشد أن ينكر وجود تفاوت بين الرجل والمرأة، لكنه يبقى تفاوتا عرَضيا، ويمكن استثماره بتوجيهه نحو الأفضل. فحتى على المستوى البيولوجي للرجل مثلا ثدي كالمرأة، غير أنها لا تقوم بنفس الوظائف البيولوجية التي تقوم بها عند المرأة، وبالمِثْل »العادات التي تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل«. لكن إذا كانت المرأة أحدق من الرجل في بعض الصناعات، والرجل أكثر كدّا من المرأة في صناعات أخرى، فيمكن توجيه الطاقات التي تميز كل منهما نحو ما يناسبه من أفعال ومهمات.
وللثورة التربوية الجديدة مظهر آخر يتصل بالمرأة يمكن اعتباره بجهة ما سلبيا لأنه يذهب في اتجاه حرمانها من حقها في امتلاك أسرة خاصة بها. فبما أن “الملكية الفردية” هي السبب في انتشار أنواع من الحقد والضغينة والصراع وكل الشرور في الدولة، وبما أن الثورة التربوية الجديدة تهم خاصة الجيش الذي يتطلب الالتحام المطلق بين صفوفه، فقد قامت بتفعيل الوحدة في اتجاه الاشتراك في النساء والأطفال والثروة. ومن الواضح أن الغاية من ذلك لم تكن اجتماعية أو اقتصادية، وإنما كانت سياسية لضمان الولاء المطلق للدولة وحدها. وفي نظر ابن رشد يصبح الاشتراك هو ”الخير الأعظم في المدينة“، لأنه بفضله سينحصر موضوع الحب عند حماة الدولة. بعبارة أخرى، يقوم مبدأ الاشتراك في النساء والأطفال والثروة على تحرير حماة الدولة من أي تعلق آخر غير التعلق بالدولة، وكأن الدولة في هذا النظام العادل تغار من أن يقاسمها غيرها المحبة والولاء لها. ووحدة التعلق بالدولة يؤكد من جديد المبدأ القائل بأن وحدة الدولة هي أفضل خير، والتعدد هو أكبر الشرور.
قصارى القول، أرسى ابن رشد مكانة المرأة سياسيا، في المدينة العادلة دون غيرها، على كمالين سياسي ومعرفي. الكمال السياسي متصل بالحماية العسكرية، التي تقتضي أعلى درجات الأهْبة والتصميم الذهني والإقدام النفسي، وأقصى مراتب الانضباط والكفاءة العقلية والأخلاقية لحماية الدولة. ولا شك أن أهمية فكرة إثبات كون النساء قادرات على تحمّل مقتضيات التربية العسكرية والمذهبية لا تعود إلى قابليتها أو عدم قابليتها للتطبيق، وإنما تعود إلى كونها تدحض جملة من الأحكام المُسبَقة التي تصور النساء وكأنهن كائنات رخوة لا تملكن جسداً قويا، ولا نفسا أبية، ولا قلبا ثابتا، ولا ذكاء وقادا، ولا أخلاقا عالية، ولا قدرة على الانضباط. إن الغاية من البرنامج التربوي الجديد هو خلق صورة أخرى للمرأة بموجبها تكون ندّا للرجل في كل شيء، وبخاصة تحمل المسؤوليات الجليلة. إنه حل رؤيوي حالم قد يكون غير قابل للتطبيق، ولكنه مع ذلك ضروري لتغذية الأمل في تحرير المجتمع لنفسه عن طريق المرأة.
أما الكمال الثاني، الكمال المعرفي المتمثل في الحكم بالحكمة، والذي لا يقتضي فقط كفاءات نظرية عالية وتفرّغا للعلم وزُهدا في الحياة الاجتماعية، ولكنه يتطلب أيضا ضربا خاصا من البصيرة وبعد النظر ومنهجا للتفكير الكلي المطلق، فقد أثبت ابن رشد قدرة المرأة على تحصيله ولو بشيء من التحفظ. بهذا النحو صار بإمكان المرأة أن تكون حاكمة ومحبة للحكمة، أي أنها صارت في المدينة العادلة متمتعة كالرجل بالقابلية لتحقيق الكمال الوجودي المتمثل في بلوغ الغاية في العقل والحكمة؛ والكمال السياسي الذي هو بلوغ الغاية في العدل والفضيلة.
لكن إذا كانت المرأة تحظى، على المستوى النظري، بنفس القدر من الاعتبار الذي للرجل عبر تطبيق الوحدة النوعية، فلماذا يشهد الواقع عكس ذلك؟ لماذا نرى المرأة على المستوى العملي لا ترقى إلى مرتبة الرجل في تحمل كل المسئوليات وحيازة كل الحقوق؟ أو بكيفية أدق لماذا لم يتأثر الخطاب العلمي البيولوجي والخطاب الحقوقي الفقهي لابن رشد بالمبادئ المساواتية لفلسفته السياسية والوجودية؟ نترك الإجابة على هذه الأسئلة إلى مناسبة أخرى.
خاتمة
نعتقد بأن إثبات الاختلاف بين الذكورة والأنوثة على المستوى الفلسفي لا يثير أي قلق بشأن إمكانية تحوله إلى تمييز نوعي بينها، لأن الاختلاف أو التقابل بينهما كان داخل إطار المساواة في الإنسانية. لكن المشكل يبدأ متى انتقل الاختلاف من المستوى الفلسفي، الذي يتميز بالشمولية والإطلاق، إلى المستوى الثقافي، الذي يرتبط بصراعات المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول السلطة والنفوذ. عندئذ يتحول الاختلاف إلى تمييز، فتغدو المرأة أدنى عقلا، وأحط أخلاقا، وأبعد عن الاهتمام بشئون السياسة والرئاسة من الرجل. فتكون الثقافة هي الثغرة التي يتسرب منها الاختلاف الثقافي لنسف المساواة الأونطولوجية. وقد سقط في فخ هذا التناقض جل المفكرين القدامى والمحدثين.
وهذا معناه أن الحقيقة التي تقول بها الفلسفة غير الحقيقة التي تؤمن بها الثقافة. فحقيقة الفلسفة واحدة وشاملة، أو على الأقل تسعى لأن تكون كذلك، لأنها تنظر إلى الشيء كما هو، لا كما ينبغي أن يكون. أما حقيقة الثقافة فهي حقيقة متعددة متحيزة بشعوب وقبائل محددة في الزمان والمكان، وتقوم على الأخبار والأساطير والقصص والأمثلة والاستعارات بدل البراهين والحقائق. هكذا تكون الثقافة هي سبب نزول المساواة من سماء الماهية إلى أرض اللامساواة الواقعية، فتنشر تصورا دونيا عن المرأة بالقياس إلى الرجل. وقد كانت الثقافة من القوة إلى حد أنها أقنعت المرأة نفسها بوضعيتها المنحطة إزاء الرجل، حيث تحولت إلى داعية لنشر التمييز وتكريسه. هكذا تكون المرأة نفسها قد أسهمت في نشر جو من العداوة ضدها والمتمثلة في الثقافة الذكورية التي روجت لدونية المرأة الأخلاقية والاجتماعية والشرعية وحتى العلمية. ولم تتمكن الإنسانية من تجاوز هذه الوضعية الشاذة إلا بعدما دخلت في زمن الحداثة، هذه الحداثة التي عملت شيئا فشيئا على إعادة الاعتبار للمرأة على المستويين النظري والعملي.
أما بالنسبة لابن رشد، فقد كان موقفه من المرأة مزدوجا. ففي فضاء الفلسفة، ومن زاوية العقل النظري، وجدناه ينظر إلى المرأة ضمنيا من خلال نظرته العامة إلى الإنسان، هذه النظرة التي أقرت بالمساواة الأونطولوجية بينها وبين الرجل. وتعززت هذه النظرة على مستوى العقل العملي، أقصد مستوى “المدينة الفاضلة” التي كانت فيها السياسة تساوي الفلسفة، حيث ذهب بعيدا في تكريس وتفعيل المساواة بين الرجل والمرأة. فسمح لها بالحق في تلقي نفس التربية التي يتلقاها الرجل، الأمر الذي جعلها، نظريا، قادرة على استثمار كل طاقاتها، وتأهيلها لتقلد كل المناصب العليا في الدولة، كالرئاسة العسكرية والسياسية والفلسفية. نعم، لم تكن مساواة المرأة جزءً من استراتيجية عامة تتبناها “المدينة الفاضلة” بالنسبة للجميع، لأن السياسة في هذه المدينة كانت قائمة على عدالة “تناسبية”، أي على عدالة “لا مساواتية”. ومع ذلك دخلت المساواة بين الذكر والأنثى في إستراتيجية خاصة تهم الجانب التربوي من المدينة، هذه التربية التي تهم خاصة فئتي المحاربين والقادة السياسيين. وضمن هذا الفضاء الفلسفي بشقيه الأونطولوجي والسياسي، حرص ابن رشد على أن لا يوجد فرق جوهري بين الرجل والمرأة، طالما أنهما ينتميان معا إلى ماهية واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان، علماً بأن هذه الوحدة لا تنفي وجود الاختلاف، الذي، وإن وصل إلى درجة التقابل الذاتي الذي يترتب عنه وجود اسمين مختلفين للمتقابلين (الرجل والمرأة، الأنثى والذكر)، فإنه -أي الاختلاف التقابلي- لا يُحدِث تميزاً نوعيا، أي في الماهية بين الرجل والمرأة.
ولكنه في فضاء البيولوجيا والشريعة نجده يتخلّى عن هذا التراث الفلسفي السياسي المساواتي لصالح تراث مضاد ينطلق من رؤية لامساواتية تعتبر المرأة إما أنها نصف الرجل، أو أنها موجودة من أجله.
ويبقى السؤال المحيّر هو لماذا لم يشأ ابن رشد أن يقرن خطابه الفلسفي السياسي بخطابه الفقهي، عِلما بأنهما ينتميان إلى مجال واحد، هو العقل العملي؟ لماذا لم يحاول استثمار المادة الحقوقية الخام التي بسطها في كتاب بداية المجتهد ليحولها إلى مفاهيم وآليات ورؤى حقوقية وسياسية جديدة بشأن المرأة في إطار المدينة بصفة عامة؟ وإلا فما قيمة الأفكار الطريفة والمدهشة التي تبناها حول مساواة الرجل بالمرأة في شرحه لسياسة أفلاطون إذا لم تؤثر في آرائه الفقهية التي تتصل بتدبير المجتمع في بنياته التحتية، بل ما قيمة مقولته الشهيرة بأن ”الحق لا يضاد الحق” إذا لم يتم تفعليها فقهيا خصوصا فيما يتصل بالحق الشرعي والحق الماهوي للمرأة؟ لماذا لم ير المرأة في “وجودها” على غرار ما رآها في “ماهيتها”، هل بسبب فصل الماهية عن الوجود أم بسبب أسبقية الوجود على الماهية؟ لكن من جهة أخرى، هل يمكن اعتبار الأفكار التي دافع عنها في كتابه السياسي بشأن المساواة السياسية والأونطولوجية للمرأة بالرجل خارطة طريق لتحرير المرأة (أي وجود بالقوة)، ومن خلالها تحرير المجتمع والرفع من مستواه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمعرفي، أم أنها مجرد رؤية حالمة مستحيلة التطبيق، ولكنها محفِّزة للتفكير في واقع آخر لعلاقة الذكورة بالأنوثة؟ بل أكثر من ذلك، من حقنا أن نتساءل فيما إذا كانت المرأة التي كان يتكلم عنها أبو الوليد على المستوى السياسي-الفلسفي هي نفس المرأة التي يتكلم عنها على المستوى الفقهي؟ هل المعنى الأونطولوجي للمرأة الذي استخلصناه من ماهية الإنسانية، والذي تدخل فيه الأنوثة على حد سواء مع الذكورة، ولو على جهة التقابل، هو نفس المعنى الفلسفي السياسي ذي الطبيعة الاستشرافية التي لا يحدها لا زمان ولا مكان، والذي بمقتضاه تصبح المرأة ندّا للرجل في القيام بكل الأفعال التي كان يحتكرها هذا الأخير، كالحماية والحكم والتفكير الفلسفي، وذلك بحكم امتلاكهما لنفس الطبيعة، وهل المعنيان السابقان هما نفس المعنى الفقهي للمرأة الذي يخضعها لسلاسل لانهائية من الأحكام الشرعية والأحكام المسبقة والأخبار والاجتهادات التي تقيد حريتها إلى درجة تجعل وضعيتها أقرب ما يكون من وضعية الصبيان والعبيد والمعتوهين؟
لم نكن ننوي في هذا البحث التمهيدي أن نجيب على مثل هذه الأسئلة التي تتطلب بحثا آخر يتجاوز الحدود التي رسمناها لأنفسنا في هذه المناسبة. وحسبنا هنا أن نشير إلى إن هذه الفجوة التي تركها لنا ابن رشد بين وضعية المرأة في الفلسفة ووضعيتها في الفقه هي منبه لنا من أجل أن نملأها لا فقط بالبحث الحقوقي والسياسي والفقهي والكلامي والصوفي والفلسفي المعمق، ولكن أيضا بالنضال المدني والحوار الديمقراطي وبثقافة الاعتراف بالآخر حتى وإن رفض المساواة بين الذكورة والأنوثة. ولا يمكن أن يُكتَب النجاح لهذا الشرط المزدوج لملء الثغرة بين الفلسفي والفقهي، أو بين الوجودي والشرعي إذا لم تحركه الرغبة المشتركة بين المتحاورين في الوصول إلى حلول وسطى تأخذ بعين الاعتبار كل الحساسيات والظروف، على أن يتفق الجميع على أن المرأة تبقى هي راعية الحياة وضامنة المستقبل وحاضنة للحداثة.
إننا نعتقد أن إنصاف المرأة والاعتراف بكرامتها يجب أن يأتي من الداخل، من ذات المرأة، لا من خارجها، أي من القوانين والدساتير والأعراف والتقاليد. فكما أن الصحة، كما يقول ابن رشد أن تأتي أولا من الذات لا من الأدوية، فكذلك إنصاف المرأة. لكن ليس معنى هذا أن إنصاف المرأة ليس بحاجة إلى القوانين والدساتير والمساطر التي تتولد عبر حوار ديمقراطي يشترك فيها الجميع ويؤخذ برأي الجميع دون استثناء، ولكن ما أعنيه أن المرأة إذا لم تكن مؤمنة بحريتها، فإنه مهما تضمنت القوانين من مبادئ وقواعد إجراءات عملية تقر بمساواتها مع الرجل وتضمن إمكانية إنصافها وتفسح المجال أمام حريتها، فإنها ستبقى حبرا على ورق ما لم تؤمن المرأة بقضيتها وتكف عن التمتع والإشادة بقيودها! يجب أن تكون المرأة حرة في ذاتها، مساوية لذاتها بذاتها، لكي تكون حرة في مجتمعها، مساوية للرجل ندها وشريكها في الحياة. كما أن على المرأة أن تظل في كامل يقظتها حتى لا تصبح مجرد موضوع انتروبولوجي، أو موضوع للاستخدام السياسي أو الثقافي، بأن تثبت أنها ذاتا مستقلة، لكن لا ذلك الاستقلال السلبي الرافض لكل التراكمات الإيجابية البطيئة، وإنما ذلك الاستقلال الذاتي الذي يقود إلى حرية إيجابية مسئولة وبناءة.
منتهى القول، يتطلب إصلاح وضعية المرأة ثورة ثقافية وتربوية جذرية ذات نفَس طويل، لأن الثقافة التقليدية راكمت منذ آلاف السنين أحكاما مسبقة تمييزية لا يمكن محوها بين ليلة وضحاها.
إن سلب المرأة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية هو مؤشر على أن زمن السياسة بمعناها القوي، أي بالمعنى الذي يعترف فيه المجتمع بالمواطنة للجميع من أجل المشاركة سواسية في العملية السياسية، لم يحِنْ بعد. ومن ثم نعتقد بأن دخول المرأة، باعتبارها ذاتا واعية ومستقلة، معترك السياسة هو شهادة ميلاد عالَم السياسة، وإلا فإن السياسة بدونها هو أشبه بالنظام العشائري أو ما في معناه.