ما لا يدركه بعض المشتغلين بالسياسة أن أهم المشكلات ليست تغيير السلطة، بل بناء دولة بالمعنى الحقوقي والسياسي تنهض بها المؤسسات المستقلة عن أية سلطة
تعني كلمة “الغُنم” الفوز بالشيء من غير مشقة، وغنم الشيء غنماً فاز به،
وغنم الغازي في الحرب ظفر بمال عدوه. وليس مصادفة أن تشير كلمة الأغنام إلى القطيع من الماعز والظأن ولا مفرد للأغنام وإنما مفردها شاة.
وقد جاء حين من الدهر كان الرسول يوزع الغنائم على المقاتلين. ثم لما توسعت الفتوحات ونشأت فكرة الدولة أيام عمر ألغى هذه الطريقة وصارت الغنائم في بيت مال المسلمين لإدارة شؤون الدولة والإنفاق المنظم على حاجاتها وأسس لمفهوم الخراج.
غير أن المتأمل في سلوك حكامنا بالسلطة سيقع على أس مشكلة السلطة في الوطن العربي. ذلك أن الجماعة الحاكمة وبخاصة الدكتاتوريين المحليين لا يتعاملون مع السلطة إلا بوصفها غنيمة ظفروا بها من عدوٍ هو الشعب.
ينحصر همّ الدكتاتور المحلي في السلطة والحفاظ عليها فقط، على عكس الديكتاتور المشروع الذي يجعل من السلطة أداة لتحقيق مشروع سياسي- اقتصادي. هذا هو الفرق بين عبد الناصر وعلي عبد الله صالح وبين بورقيبة وبن علي.
وتتحول الجماعة التي مازال وعيها بالسلطة وعياً بالغنيمة إلى حارسة للغنائم من جهة وإلى الحصول على الغنائم من الغنيمة- السلطة من جهة ثانية، فينشأ الديكتاتور المحلي الذي هو مسخرة الديكتاتور.
فالدكتاتور المحلي الذي ظفر بالسلطة -الغنيمة يعي- تماماً- أنه سلب السلطة من الشعب وهذا الظفر بالسلطة- الغنيمة يحوله إلى قاتل وإلى مشروع قاتل عند الضرورة. ولكي يحافظ على السلطة الغنيمة فإنه يوزع بعض الغنائم على الأقربين فتتشكل حوله جماعة الغنيمة وتنشأ آلية السيطرة بالقوة على العدو- الشعب الذي يبحث عن استعادة السلطة بوصفها حقاً كلياً.
السلطة الغنيمة، وهي وعي مدمر للعقد الاجتماعي العفوي، تفقد المجتمع أي نوع من أنواع التعاقد، لأنها تقود بالضرورة إلى السلطة المطلقة، حيث لا تنحصر السلطة المطلقة في رأس السلطة فقط، بل في الأولاد والأقرباء وما شابه ذلك. وهنا يكمن الخطر الأكبر. ذلك أن تحطيم العقد الاجتماعي الشفاهي دون عقد اجتماعي مكتوب يعني تحطيم المجتمع تحطيماً كلياً، ذلك من المحال تصور المجتمع دون أي عقد اجتماعي يحافظ على السلم الأهلي والحق والعيش المشترك. أجل لقد حطم عقل الغنيمة كل هذا وحدد مصيره بـ”إما قاتل وإما مقتول”.
فلقد تعارف أهل القرية السورية على أن القتل ممنوع منعاً باتاً دون أية صحيفة مكتوبة. وإذا حصل فهناك قاتل محدد اسمه فلان وله أهل وعشيرة سيقوم أهله بالمصالحة وإلا فالقتل للقاتل أو لأحد الأقربين. ولهذا كان من النادر أن تحصل عمليات قتل في القرية. ومخفر الشرطة يفض الخلافات ويحوّل المذنب إلى المحاكمة.. ظل هذا الأمر حتى عام 1963 تقريباً. ومع تحول السلطة- الغنيمة إلى قاتل لم يعد هناك أي عقد يحمي من القتل، فصارت السلطة- الغنيمة قادرة على قتل آلاف الناس دون أية مسؤولية. وهنا تحطم العقد الاجتماعي العفوي بوصفه حامياً للحياة وظهر قاتل يختال بقوته وقدرته على القتل.
لكن عقل الغنيمة والنظر إلى السلطة على أنها غنيمة قد شاعا لدى جماعات تعارض السلطة بوعي مشابه، بوعي أن السلطة غنيمة. وهنا يبرز المأزق التاريخي الذي ينذر بتأخر البديل- العقد الاجتماعي المكتوب الذي يفضي إلى السلطة بوصفها حقاً.
ففي العراق مثلاً قاد تحالف الأحزاب الدينية الشيعية مع الولايات المتحدة الأميركية إلى تحطيم السلطة الديكتاتورية، غير أن هذا التحطيم تم بعقلية السلطة الغنيمة. حيث قاد الوعي الشيعي- الطائفي السياسي العراق إلى نمط من السلطة- الغنيمة أسوأ بما لا يقاس من ديكتاتورية صدام.
فلم يشهد العراق أيام صدام خطاباً طائفياً ووعياً طائفياً بالسلطة. غير أن البديل جاء سلفاً بوعي مزدوج: وعي غنيمي ووعي طائفي. الوعي الغنيمي بالسلطة لدى المالكي وما شابه ذلك من الأحزاب الطائفية قاد العراق إلى الحرب الأهلية الدائرة الآن.
والشيء نفسه في مصر.
فالإخوان المسلمون تصرفوا وفق مبدأ السلطة الغنيمة وراحوا يستولون على الغنائم وكأن مصر بلا تاريخ، وكأن الثورة هي ثورة الاستيلاء على الغنائم، مع أن ثورة الشباب في مصر هي ثورة ضد ذلك المنطق.
وقس على ذلك سوريا. فالجماعة الحاكمة في سوريا جماعة السلطة- الغنيمة سلطة إما قاتل أو مقتول، ووضعت نفسها والمجتمع برمته في حال المأزق التاريخي الذي يحتاج إلى ثمن باهظ جداً للخروج منه. ففي الوقت الذي أشاعت فيه الجماعة الحاكمة في سوريا وعي السلطة- الغنيمة عند الجزء الأكبر من الطائفة العلوية عبر تنامي الشعور بالقوة والبأس والسيطرة، أشاعت في الوقت نفسه وعي السلطة- المسروقة من الأكثرية فكانت النتيجة التي نراها اليوم.
هذا لا يعني أن ليس هناك جماعات مناهضة لعقل الغنيمة السلطوي الحاكم من هو غارق في المنطق نفسه. فالأصولية الإسلامية التي تقاتل الجماعة الحاكمة تفكر هي الأخرى في السلطة كغنيمة، وهذا إعادة للمأزق وليس خروجا منه.
والحق أن منطق السلطة – الغنيمة إذا ما استحكم في جماعة من الجماعات أفقدها القدرة على التفكير في الآخر المختلف وفي المستقبل. وحماس وحزب الله مثالان بارزان على حالة ما كان يمكن أن يتم ويستمر دون منطق السلطة – الغنيمة.
فغزة التي تحتاج إلى أسباب الحياة والتي يمكن أن تتوافر لها هذه الأسباب عبر استعادة العلاقة الاقتصادية والسياسية والثقافية مع الضفة الغربية تحرم منها بسبب أن السلطة في وعي حماس غنيمة لن تتخلى عنها أبداً. وجنوب لبنان الآن والضاحية الجنوبية خاضعان إلى سلطة حزب الله التي أسسها بامتلاك القوة العسكرية والمالية. ومن الصعب على عقل كهذا أن يتصور نفسه خاضعاً لسلطة الدولة.
واللافت إلى النظر أن كلا الجماعتين تتحدثان عن سلاح المقاومة لإسرائيل الآن وقد أبرمتا اتفاقيتين مع العدو لتأمين حدوده. وهذا يدل دلالة واضحة على أن الظفر بالسلطة على أنها غنيمة والاحتفاظ بالغنيمة هو الشيء المهم فقط وليس الأهم. هذا الأمر ينطبق على الجماعات الحاكمة للدول أو للمناطق.
والأسوأ من حاكم مالك للغنيمة ظهور مثقف الغنيمة. المثقف الذي يدافع عن مالك الغنيمة وهو يرى النتائج الكارثية المتولدة من منطق السلطة – الغنيمة وخاصة في هذه المرحلة بالذات من الانقلاب التاريخي الذي تشهده المنطقة العربية. والمثقف الأسوأ من المدافع عن الحاكم هو الذي يواجه الحاكم بمنطق السلطة- الغنيمة نفسها.
ففي الوقت الذي يحتشد المثقفون العرب الديمقراطيون دفاعاً عن عقد اجتماعي يعيد السلطة إلى فكرة الحق والواجب والحرية والديمقراطية ترى الأسافل من مثقفي الغنيمة من الطرفين يؤكدون منطق السلطة الغنيمة.
المثقف السلطوي والمثقف الأصولي يتحدثان بمنطق واحد. الأول يدافع عن حاكم أو جماعة حاكمة تحتفظ بالغنيمة وتبذل كل ما أوتيت من قوة وعنف وقتل وتدمير لمثل هذا الاحتفاظ. والثاني يتحدث عن استرداد الغنيمة من الأول. فيما الشعب الذي استيقظ مرةً وإلى الأبد إنما أراد أن يتحرر ويحرر السلطة من منطق الغنيمة. السلطة من حيث هي إنتاج مجتمعي لا يملكها أحد.
فالاعتقاد بملكية السلطة أدى إلى ملكية الدولة والتماهي بين الدولة والسلطة. ولهذا نرى مقدار الجهد المبذول والذي قد يطول لبناء الدولة.
إن مالا يدركه بعض المشتغلين في السياسة أو في الفكر السياسي عندنا هو أن أهم المشكلات ليست تغيير السلطة، بل بناء دولة بالمعنى الحقوقي والسياسي تنهض بها المؤسسات المستقلة عن أية سلطة. مؤسسات تمثل صورة العقد الاجتماعي الجديد. دولة لا تتغير ولا تتأثر ولا تهتز بتغير شخوص السلطة، لأن السلطة فيها ستكون سلطة الدولة.
ولهذا فالثورات الراهنة هي ثورات لأنها تريد الانتقال من دولة السلطة المعبرة عن عقل الغنيمة، إلى سلطة الدولة المعبرة عن العقد الاجتماعي.
وهذا ما يفسر استمرار الصراعات حتى داخل البلدان التي شهدت زوال السلطة القديمة. بكلمة واحدة: دون هزيمة منطق السلطة- الغنيمة وعقلها نظرياً وعملياً لا أمل في التقدم التاريخي الإنساني التحرري المنشود.
12 يناير 2014