اشتعال الذات… تسونامي بوعزيزي بقلم د. خالد سيفي

عزيزي القارئ: أخاف منك وعليك في هذه المقالة فلا تقرأها، وإذا قررت قراءتها اتمنى عليك أن تكملها للآخر

  “لحل مشاكل مستوى معين من الوعي يجب الإنتقال لمستوى أعلى منه” ألبرت اينشتين


استوحيت العنوان من كتاب ” إشتعال الذات” لمحمد المسعودي والعنوان الفرعي له “سمات التصوير الصوفي في “كتاب الإشارات الإلهية” لأبي حيان التوحيدي، دار الانتشار العربي،2007. وقد تثير هذه المقالة الاستهجان، فتستغرب الاستنتاجات العجيبة، وتُنكر عليَّ المقاربات الغريبة، وقد تتهمني بعدم التوازن ، وفقدان الرزانة والشططان ، فاحتميت وراء مقولة اينشتاين واستعنت بها تُرسا في ذكرى ميلاده (14 مارس 1897 –18 ابريل 1955) لصد بعض شكوكك.
أقول الحق، أنني مجبر في هذه المقالة لا مخيّر منتصرا ومتحيزا ومشفقا، ولك إدانتي بخلط الحابل بالنابل. لكن الحدث جلل، وأنت محظوظ لتعيش فتحضره.


أنا نفسي لا أصدّق ما وصلت إليه وقد رفّ قلبي واقشعرّ دماغي لمجرد التفكير فيه، كنتُ أخشى التصريح، إلا أنّ سكوني أَعْمَلَ صدري و قَلَب كياني، فلم أعُد احتمل القبض على مكنوني.
أنا من طبعي البحث في الكليات، لذا ادقق المقاربات والمفارقات، فعندما تولّى اوباما الحكم في أمريكا قلت لشدة الشعور بالذنب استعانت أمريكا البيضاء بالأسوَد ليبيّض صفحتها السوداء.


زَحْفِ الجموع وقصْف الدروع، تلاحق الثورات وحلاوة الانتصارات شغلنا، فأخفى عنا المشهد الكامل لما يجري حولنا، فبعثر الصور وشتت البصر فخرج بوعزيزي من اللوحة وأصبح بجانب  المنظار ففاتنا الاعتبار، إذ يصرح وليم جيمس (توفي 1910) الفيلسوف والتربوي الصوفي ومن آباء البحث النفساني الحديث “ليس وعينا اليقظ السويّ، أو وعينا العاقل كما ندعوه، سوى نمط خاص مِن أنماط الوعي، ففي كل مكان مِنْ حوله ثمة أشكال ممكنة من الوعي مختلفة تماما، لا تفصله عنه سوى أرقّ الغلالات… وما مِنْ تناولٍ للكون في كلِّيته يمكن أنْ يكون مكتملا ما دام يترك هذه الأشكال الأخرى من الوعي دون أن يحسب لها كل الحساب”.


لا يَعرف الكثير منا أن التعمق والتركيز في الحدث يؤدي في نهاياته إلى سراديب فرعية فيتشابك معها ويفتح أبوابها التي كانت مغلقة على البصيرة،  فالإحاطة بالكبير تأتي من تأمّل الصغير حسب ديفيد بوم (مات 1992) مساعد اينشتين ومخترع الهولوغرافية الفيزيائية والتي ملخصها انه من الصورة الجزئية للفلم يمكن إعادة بناء الصورة الكاملة، أي الجزء يحتوي على معلومات الكل جميعها، وبعيْنيْ الفيزيائي الحديث، في كتابه “الكلية والنظام الباطن” يصيغ: ” الواقع كلٌ متلاحم غير قابل للتجزئة مندرج في سيرورة لا نهاية لها من التغيير… إنّ جميع بُنى الكون الثابتة ليست سوى تجريدات. يمكن لنا أنْ نبذل صنوف الجهد في وصف الأشياء أو الكيانات أو الحوادث، غير أنّ علينا إن نسلّم في النهاية بأنها مشتقة جميعا من كلٍّ غير قابل للتعريف وغير قابل للمعرفة، بل إنّ استخدام الأسماء في وصف ما يحدث في هذا العالم، حيث كلُّ شيء في تدفّق وفي حركة دائمة، لا يسعه سوى أن يضللنا”.، فاترك الموج على الصخر، وتعال معي إلى قاع البحر.


من نبض الشارع انطلقْتُ بتسارع لأعقد الندوات شارحا في الاجتماعات الأسباب والدلالات. نحلّل، نُشرّح ونقشّر، ونؤشّر إلى أسباب ومفاعيل الثورات. كيف لا وهذه الهِمّة تنبع من القضية المُهمّة. أليست فلسطين شُغلُ ومَهَمَّة هذه الأمّة، فنبشْنا الماضي عن كل النكبات، وتتبعنا الحاضر في الحواجز والنكسات. هذا هو سر اندفاعي ودفاعي وشوقي واهتمامي وحماسي.
أنتَ لا تعرفني!؛ فلي في كل مدينة جولة، وفي كل محاضرة صولة. أنا رُبّان السفينة، أنا فارس الساحة، أنا قائد الحملة، أنا بطل الملحمة، أنا الذي لا يُشق له غبار، أنا نشيط شديد عنيد عميد، متمكّن متوقّد متيقّظ، مسيطِر قوي مرن مستفِز متوازن، سلس ساخر حاد جاد جارح مضحك بسيط ، إلى أن لطمتني إحداهن “هل تألّم بوعزيزي عندما أشعل في جسده النار “؟.
 
هنا … كل غروري تبخّر، فاجأتني باغتتني صعقتني، التخمت ترنحت اتكأت ارتطمت تألّمت، خِفْت اختنقت عرقت عطشت تقيّأت وتقريبا بلت (بال يبول).
دار رأسي فانعقد لساني، مجذوبا مندهشا سارحا سابحا محلقا مفارقا غائبا فاغرا فمي، والدمع في عيني. خيّم صمت طويل رهيب، هُيِّأ لي ساعات، غرقت في شرود أفسّر قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم). صحوت من غيبوبتي أُلَمْلِم شتاتي مستعينا ببعض الأصوات التي سارعت لنجدتي بالإجابة على السؤال القنبلة، التفَفْتُ وراوغت ولم أصرّح بما خطر على بالي.
سارت قافلة الأحداث، يمسك الحدث فيها بيد الآخر، لا على التوالي بل بالتوازي في تونس ومصر واليمن وعُمان والبحرين وليبيا والأردن والجزائر ولبنان، حدث يسلمنا لذاك، وما زال السؤال يدور في احشائي ويصيح في رأسي، فأسمع  صداه في صدري.
أرى بوعزيزي في صور الشهداء هاتفا ملوحا بين آلاف المحتجين، ملاحقا البلطجية، متصديا للبوليس، منطلقا ليسقط طائرة، ليمنع قذيفة، لينقذ مصابا، ليسعف جريحا ليودع شهيدا.


بوعزيزي دبّ النار في جسده فاشتعلت في الأنظمة ودكّت القصور فاحترق الدكتاتور. وإذا كنتِ تتساءلين عن الألم الذي عاناه بوعزيزي من النار، فلا تنسيْ أنّ ما ألمّ به قبل ذلك من طحن المشاعر والأحاسيس والعواطف والفكر والوجدان لا يمكن وصفه، هذه العذابات غارت في عمق ذاته بحيث لم يعد يضاهيها شيء.


نحن نعرف أبسط الصدمات العصبية والشائعة بين الناس فعند الغم أو الفرح الشديدين نقول فقد أعصابه، لكن بوعزيزي تعرض لصدمة روحية هائلة تفاعلت مع مُسْتَعِراتِ ما خزّنه من ضغط دفين. هذه الصدمة الروحية كانت من الشدة بمكان بحيث في لحظة حرجة ودقيقة جدا قذفَتْه خارج المنطق والواقع المادي المُعاش الذي نحن فيه، لينطلق ويدخل منطقة اللاوعي ويتخطاها إلى ما بعدها، إلى مجال ما فوق الوعي لينتصر لكرامته وروحه وينفس عن غضبه، لان الواقع لم يحل له أي مشكلة. كارل جوستاف يونغ (توفي 1961) مخترع مصطلح “اللاوعي الجمعي”، في ” ذكريات وأحلام وأفكار”  يقول ” تقوم النفس بوظائفها في بعض الأحيان خارج قانون السببية الزمكاني. وما يشير إليه هذا هو أنّ تصوراتنا عن المكان والزمان، وتاليا عن السببية أيضا، هي تصورات ناقصة. إن لوحة للعالم كاملة تقتضي إضافة بعد آخر…”


في هذه الرحلة الكونية اتَّحَد بوعزيزي  مع ما يسمى في علم أعماق النفس بـ”الانفجار الكبير” أو بـ”الوعي الكوني” حسب مصطلحات الصوفية، وتماهى مع البشر والطبيعة جمعاء، فشاهد شريط القهر في روابط كيماوية مركزة في لوالب وسلالم مورثاته، أبصر بوعزيزي زفرة المعذبين في الأرض، المسحوقين من فقدان الأمل بالعزة والكرامة، من مراكمة الكبت والاحتقار، من الغضب الدفين الذي عمَّ وطمَّ وتغلغل في جوف وأعماق وجيوب وكهوف لاوعيه، طبقات وطبقات فوق طبقات على مدار الأجيال، يصب كل جيل في فوهة الجيل التالي مالأً شقوق جيناته ليس بلون وطول وطعم المرارة فقط، بل بتقيّح الجرح وارتكاس الفكر وانكسار الروح وفداحة النكبة وخيبة النكسة وخيانة الانتفاضة والتآمر على المقاومة ومحاصرة غزة واستباحة الأرض وبناء الجدران وقطع الشجر وسرقة الحجر، وآهات المعتقلين وصرخات المساجين المخمّرين في سواد الزنازين تحت بساطير السفاحين والجزارين والسيافين بأوامر من السلاطين في باطن الأرض، وبكاء الآباء الرجال، ودعاء وحسرة الأمهات والزوجات والأبناء والبنات، كل هذا تجسد في بوعزيزي.


ستانيلاف جروف الطبيب المعاصر وعالم النفس الشهير في كتابه “العقل المحيط ومستويات الوعي البشري الثلاثة وكيف تصوغ حياتنا”، 2005، ترجمة ثائر ديب، دار العين للنشر… أنا الآن اعتقد جازما أن الوعي ليس مجرد نتاج عرضي لتلك العمليات الفيزيولوجية العصبية والكيماوية الحيوية الجارية في الدماغ. وأرى أن الوعي والنفس البشرية بمثابة تعبيرين وانعكاسين لذكاء كوني يتخلل الكون كله وكل الوجود. فنحن لسنا مجرد حيوانات رفيعة التطور تملك حواسيب بيولوجية مطمورة داخل جماجمها، بل نحن أيضا حقول من الوعي لا حدود لها، تتعالى على الزمان والمكان والمادة والعلّية الخطية… وان البعد الروحي هو العامل الأساسي في النفس البشرية كما في الترسيمة الكونية….وأن حالات الوعي الغير عادية في واقع الأمر هي تجليات طبيعية للديناميات العميقة في النفس البشرية… يتملك فيها المسافر مشاعر التوحد مع الانسانية برمتها، ومع الطبيعة والكون، لتخوض تجارب وأمكنة وأشياء كما لو أنها جزء من الحاضر.


هذا حدث غير عادي، عروجٌ وكشف واتصال روحي عالي الشفافية لا يتشابه الا ولادة دين او انقلاب حضاري او ظهور امبراطوريات جديدة واقلّها اختراع ككروية الأرض أو نسبية الزمكان.


هذه زيارة غير عادية لمجالات مليئة بالطاقة الهائلة التي لا يمكن تخيلها، وتتجاوز مفاعيلها الشخص بعينه بل تتعداه بانعكاسات مهولة على المحيط الواسع ، وهذا ما يفسر اندفاع الملايين والملايين من المتظاهرين، كسيل صهارة مقذوفة من البركان بكل ما في لب الارض من قوة، من كل الخزّانات وبرك الأعماق، من كل الثغرات والجحور والبيوت والبرّاكيات والقبور والخِيَم والحارات والمدارس والقرى والبلدات والمدن والوزارات والشركات والمقاطعات والمحافظات، في كل البلدان والخلجان، هكذا يمكن تفسير ولادة الأديان والمذاهب السماوية والأرضية وتغيّر الحضارات والمعتقدات من حولهم. هنا شري اوروبندو الحكيم الثائر والفيلسوف المتصوف خريج كامبردج والسبّاق إلى مفهوم الوعي الثالث ” ما فوق الوعي”، مات 1950، يقول ” ينبغي أن ننظر إلى الصيرورات جميعا على أنها تطورات تعتري الحركة الجارية في ذاتنا الحقّة وأن ننظر الى هذه الذات على أنها ذاتٌ تقطن الأجسام جميعا وليس جسمنا وحسب. وينبغي أن نكون، في علاقتنا مع هذا العالم، ما نحن عليه فعلا وعلى نحو واعٍ؛ صيرورة هذه الذات الواحدة كل ما نلحظه. ينبغي إن ننظر إلى جميع الحركات، وجميع الطاقات، وجميع الحوادث على أنها حركات وطاقات وحوادث ذاتنا الواحدة والواقعية في وجودات كثيرة.
 
ارادت روح بوعزيزي أن تتحرر، فكسرت القيد، وتخطت الجسد، ألهبت الإرادات، واضاءت الدرب وانتشر النهار وتقهقر الظلام وفرّ الطغاة، فرقصت الأرض طربا وعزفت أمواج البحر موسيقاها متضامنة، رمزية ما بعدها رمزية، احقا هي فقط رمزية شعرية ام…؟؟
أخاف أن أتأمّل زلزال اليابان وطاقته المدمرة وكيف ارتجت الأرض هناك مطيحة بالصروح والمباني الشاهقة لتتخلص من أثقالها ولتخفف أحمالها، فتساءل الناس مالها، ومن ثم مشاهدة ارتدادات تسونامي الغاضب في جبروته مهددا ومتوعدا كل طغاة الأرض أن ارحلوا .


يا إلهي إنها مقاربة مخيفة ومرعبة؟!، والمخيف أكثر أن مصدر طاقة الجماهير هو نفسه مصدر طاقة الزلزال، وإذا كان المصدر واحد فان الزلزال والثورة وبوعزيزي متواصلون يعملون بانسجام، ألم يتوحّد بوعزيزي مع الوعي الكوني؟؟!. و” ثمة ما هو أعظم من البحر، انه السماء؛ ثمة ما هو أعظم من السماء، انه دخيلة النفس” فيكتور هيجو “فونتين”، البؤساء (مات 1885).
الأنبياء سموا هذا وحيا، والمصلحون أسموه إلهاما ومن بعدهم العلماء تحدثوا عن البصيرة، اختلفت الأسماء والمسمى واحد، يأتي في لحظة غير واعية فيؤدي بعد كل تجربة إلى كشف روحي مجتمعي علمي مصحوبا بتغييرات هائلة وشاملة، وإلاّ كيف نشرح كل هذا الانهيار للعروش والكروش والقروش؟.ونحن نشهد الآن أمواج عاتية في البحر وأمواج جارفة من البشر في البر. يهيأ لنا أن هذا عمل طبيعي وذاك بشري وهما مفصولان عن بعضهما، وليام تشاننغ مات( 1842) ” في شؤون البشر، ثمة مواسم من الكشف الباطن والظاهر، حين تتبدى في الروح اعماق جديدة، وتتكشف حاجات جديدة تزاحم بعضها بعضا، ويكون تعطش للخير جديد لا يُحَدْ. ثمة أوقات… تكون الجرأة فيها رأس الحكمة.
 
اغلب الظن، أنّ بوعزيزي، يا عزيزتي لم يتألّم؟!، واعتقد انه غادرنا قبل أن يحترق، بوعزيزي عندما أشعل النار لم يكن ينتمي في مستوى وجوده للمستوى الذي نحن فيه، جسده بقي مرئيا لمن حوله أما هو فلم يكن، غادر بينما أنت معلقة بجسدٍ تراقبين غائبا، في كتابه ” تجارب دينية وروحية مختلفة” وليم جيمس يقول ” يعيش معظم البشر… في حيز بالغ الضيق من كينونتهم الممكنة. وهم لا ينتفعون إلا بجزء يسير جدا من وعيهم الممكن، ومن مصادر روحهم عموما، أشبه برَجُل اعتاد أن يستخدم ويحرك إصبعيه الصغيرين وحسب من بين أعضاء جسمه جميعا”.


البشر والنبات والحيوان والجماد ما هي إلا صور لوعي واحد يتمظهر بإشكال مختلفة. دائما كان هناك بحث عن ما يجمع بين العلوم الطبيعية والنفسية والمجتمعية، هذه أنظمة وسرمديات ما لا نعرفه عنها أكثر بكثير من ما نعرفه. إلا أنها تبقى إشارات كونية، وعلى وعينا أن يلتقطها ويفسرها متجاوزا ما تحت انفه أو ما بين قدميه وربما هذا ما قصده اينشتين ” إن الكائن البشري الفرد هو جزء من الكل الذي دعوناه بالكون؛ جزء محدود في الزمان وفي المكان. وهو يختبر ذاته وأفكاره ومشاعره على أنها شيء منفصل عن البقية، وهذا ضرب من الخداع البصري يعتري الوعي”.


مسارح التفريغ النفسي اعتمدت لغة الدراما لمساعدة الأطفال المرعوبين من القصف الإسرائيلي بالفوسفور الحارق ، وأجمل دراما لتفريغ غضب بوعزيزي تُعرض أمامكِ على مسرح الحياة، بطلها يركب زلزالا وثورة. هذه ملحمة تضحية الروح بالجسد في سبيل الأوطان. وقد يأتي البركان.

تم نشر المقال على صفحات وضمن مراسلات منتدى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني الإلكتروني “PNGOF” في تاريخ 18 مارس 2011

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial