لعل المشهد العربي الذي تتلاحق تطوراته وتداعياته سريعاً، منذ انتصار ثورة الحرية والكرامة في 14 يناير/كانون الثاني الماضي، يشير إلى أننا أمام خريطة طريق جديدة لعالم عربي مغاير. ذلك أنّ غالبية الدول العربية تواجه مشكلات داخلية في التعاطي مع شعوبها، وتعاني من أزمات وتحديات كبيرة: هناك فقر وبطالة وتهميش للإنسان وسوء توزيع للثروات وحريات مفقودة وحقوق منقوصة.
وإذا كان عنوان المرارة والمعاناة هو الذي سيطر على التونسيين في العقدين الأخيرين، فإنّ عنوان التفاؤل هو السائد الآن، على خلفية ثورة الحرية والكرامة والإرث الحضاري والسياسي والنضالي العريق للشعب التونسي الحر، بعد أن احتكرت السلطةُ الاستبداديةُ الوطنيةَ والحقيقةَ, وأسقطت مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان, ومارست الفهلوة وسياسات الإفقار والتمييز والفساد.
وهكذا، من المؤكد أنّ الإنجاز الثوري في تونس خرج من إطاره الجغرافي، ولم يعد ملكاً للشعب التونسي وحده، بل دخل في الذاكرة الجماعية للشعوب العربية. إذ شكلت التحولات المتسارعة في تونس وهروب الرئيس المخلوع والاتجاه نحو التحول الديمقراطي في نظام الحكم فرصة للتأمل في مستقبل الدول العربية، التي حكمتها في حقبة ما بعد الاستعمار نخب فشلت في تحقيق التنمية والديمقراطية والعدالة في توزيع الثروات.
وإذا كنا لا ندّعي أننا نعرف كل العوامل التي أدت إلى انفجار الثورة التونسية، بين الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية وتداعياتها، وبين سياسات التهميش وإقصاء الشباب عن المشاركة في صنع القرار السياسي والوطني، وبين بطالة أصحاب الشهادات الجامعية، وبين غياب الحريات الديمقراطية، فمن المؤكد أنّ مشكلات الفقر والبطالة وقصور العقد الاجتماعي كانت البيئة الحاضنة للثورة.
(1)
تشكل ثورة الحرية والكرامة في تونس لحظة تاريخية، لا على مستوى تونس فحسب بل على مستوى العالم العربي بأكمله. حيث أنها لم تكن انقلاباً عسكرياً تقوده مجموعة من ضباط الجيش، كما جرى في أغلب الثورات العربية السابقة. بل أنّ تونس قدمت مثالاً مختلفاً: انتفاضة احتجاجية شعبية من دون إطار سياسي ناظم، على اعتبار أنّ نظام الرئيس السابق أضعف كل الحركات السياسية المعارضة. وإذا كان صحيحاً أنّ دور الجماعات السياسية والمجتمعية والنقابات مهم جداً، لكنه ليس مهماً إن تأخر بعض الشيء، إذ يستطيع الشعب أن يصنع ثورته وأدواتها السلمية بنفسه، خاصة مع زخم الحراك الشبابي والنسائي التونسي، وبعدها سيحدث كل شيء، سيسقط الجهاز الأمني، وسيهتز رأس النظام ويترنح تمهيداً لسقوطه كثمرة نضجت وبالتالي هروبه، وستلتحق الأحزاب والنخب المثقفة بالثورة الشعبية.
(2)
لا بد من الاعتراف بأنّ الثورة الشعبية التونسية، بالرغم من بعض المظاهر غير الحضارية التي رافقتها، قدمت مثالاً عن دولة وشعب ووعي وثقافة هي أقرب إلى المدنية الحديثة. فلم تتحول إلى مجازر مروعة، وربما يعود ذلك، في جزء جوهري منه، إلى انتظام غالبية الشباب التونسي في جمعيات مدنية، قد تكون شللية أحياناً، جرى تخصيبها سياسياً في لحظة تاريخية حساسة. مما يشير إلى أنّ انسداد أفق الإصلاح السياسي في أية دولة عربية لن يمنع من تحول التنظيمات الشبابية المدنية إلى أدوات تعبئة سياسية عالية الكفاءة.
إنّ أروع وأهم ما في الثورة التونسية هو أنها سلمية، وهي بذلك تخلق أنموذجاً مهماً، يفترض فيه ألا ينسحب لفوضى لاحقة، تضيع منه كل المكاسب التي تحققت. وينبغي الانتباه أيضاً إلى أنّ الحراك الشعبي التونسي كان أقل تسييساً، وأكثر تطلباً، بما يتعلق بالمسائل الحياتية. ولكنه أسقط الخوف بامتياز، وهذا ليس أمراً فردياً، بل حالة جماعية تلبست التونسيين وتغذت بمشاعرهم الجماعية ومواقفهم.
وهكذا، فإنّ المطالبة بالتغيير اكتسبت مصداقية لم يسبق لها مثيل، فرغم أنّ الثورة بدأت بمطالب اجتماعية غير سياسية، فإنها في العمق كانت سياسية بامتياز، بل أنّ الرسالة الأكثر بروزاً كانت في تقديم أولوية التغيير السياسي على كل الأولويات. حين اكتشف المواطن، الذي كان يشعر بأنّ لا حول له ولا قوة في مواجهة الدولة الأمنية التسلطية، أنّ القوة الفعلية تكمن بين يديه.
(3)
لقد ضجر المواطن التونسي من انعدام المساواة بين مختلف الجهات التونسية، ومن تآكل قدرته على الحفاظ على مستوى معيشي معين، والتعرض للمضايقات والمعاملة السيئة من قبل المسؤولين المحليين، وحكايات الفساد المهول والثروة الضخمة في أوساط عائلة الرئيس المخلوع. كما أثبتت الثورة التونسية أنّ قضايا البطالة والفقر والجوع والعدالة الاجتماعية لها صدى أكبر وأكثر فعالية في تفعيل الحراك الشعبي، وأكدت مدى أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا مجال لإهمالها، حيث كانت ثورة على السياسات الاقتصادية وفساد الأسرة الحاكمة اللتين تسببتا بنشر المزيد من الفقر والبطالة.
(4)
أثبتت ثورة الحرية والكرامة أنّ المسألة ذات التأثير البالغ على التنمية الشاملة تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، إذ أنّ المقاربة التنموية طوال العهد البائد كانت تفتقد إلى مؤسسات ديمقراطية تمكّن المواطنين التونسيين من المشاركة في صياغة مستقبل وطنهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
ومن جهة أخرى، يبدو أنّ الصورة الوردية للتنمية التونسية، التي حملتها لنا البيانات الرسمية و التقارير الدولية التي بنيت عليها، لم تكن مجرد صورة مشوهة للواقع نتيجة تزوير حكومي مدبر من طرف النظام السابق. مما يعني أنّ الثورة وقعت رغم التنمية النسبية التي تحققت في البلاد، خلال السنوات الماضية، أو أنها نتيجة هذه التنمية التي جعلت نظام حكم الفرد غير ملائم لما بلغه الشعب التونسي من تطور وحداثة في المجالات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والثقافية، وخاصة توسّع قاعدة الطبقة الوسطى.
لقد كشفت التجربة التونسية، خاصة محدودية نتائج المقاربة التنموية، أنّ القضية المركزية في التنمية هي المشاركة الشعبية، بما يعني تشجيع منابر الحوار وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين وسلطة الدولة، وإفساح المجال أمام المواطنين لتشكيل منظمات المجتمع المدني التطوعية لتأتي تعبيراً عن خيارات المجتمع. كما يقتضي تفعيل المشاركة الشعبية تكريس سيادة القانون العادل، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم التي ينص عليها دستور دولة الحق والقانون، وتمكين المواطنين من الحصول على المعلومات والبيانات الضرورية لفهم الواقع والتأثير فيه، وبذلك يمكن القول: إنّ الديمقراطية تمثل الإطار الذي يوفر أفضل الشروط للتنمية المستدامة.
ولكي ندرك عمق العلاقة بين التنمية والديمقراطية فإنه لابد أن نعي أهمية العنصر البشري في عملية التنمية، وإلى التأثير البالغ الذي تحدثه الديمقراطية لتطوير قدرات هذا العنصر وتفعيل دوره في عملية التنمية. فبقدر ما تتاح له الفرص لتطوير القدرات الكامنة فيه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة المنتجة بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية ذات أبعاد إنسانية. من هنا تأتي أهمية الديمقراطية، فهي بإفساحها في المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار تمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة أولويات عملية التنمية، ولا حاجة إلى القول بأنّ تلبية هذه الحاجات من شأنها أن تعمل على تطوير قدرات المواطن وتوسيع الخيارات أمامه على نحو يساعده على تحقيق ذاته، وإطلاق طاقات الخلق والإبداع الكامنة فيه.
(5)
بعد أن استقر في الوعي الكوني أنّ الشمولية كنظام سياسي، يقوم على انفراد حزب واحد بالسلطة وإلغاء الحريات السياسية وتهميش المجتمع المدني، قد سقطت إلى الأبد، افتتحت ثورة الحرية والكرامة في تونس الموجة الرابعة للتحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، وبذلك وضعت التونسيين أمام تحديات جديدة، تتمثل على الخصوص في إنجاز مهام التحول الديمقراطي والوصول إلى عقد اجتماعي جديد.
إنّ من حق الشعب التونسي الشقيق، وقد حقق التغيير الذي يريده، أن يتطلع إلى المستقبل حتى يتمكن من تحقيق طموحه في إعادة بناء دولته الوطنية الحديثة، مما يستوجب طي صفحة الماضي، مع الاحتفاظ بحق مقاضاة كل من أساء إلى الشعب والمصالح العليا لتونس، وعودة الهدوء والاستقرار إلى كل ربوع البلاد، والتوصل إلى توافق وطني حول سبل إخراج البلاد من أزمتها, وبما يضمن احترام إرادة الشعب التونسي وطموحاته في الحرية والكرامة والعدالة والتنمية المتوازنة بين الجهات.
إنّ الأهم من الثورة هو أن يكون هناك حسابات دقيقة لنتائجها، وألا تكون دماء الشهداء مجرد مطايا للطامعين والمغامرين من أي جهة سياسية أو اجتماعية. المهم هو الحذر من أن تنحرف أو تنجرف هذه الثورة عن مسارها الطبيعي، حتى يُكتب لها النجاح وتمنع ظهور ديكتاتوري آخر، حيث أنّ نهاية الديكتاتور شيء ونهاية النظام الديكتاتوري شيء آخر. فالحذر كل الحذر من خطابات المزايدة السياسية، فالتونسيون أمام فرصة تاريخية لبناء نظام سياسي ديمقراطي أنموذجي يساعد العالم العربي على التحرر من حالة التيه الراهنة التي يعيشها.
لقد اقتضت تجارب الانتقال الديمقراطي تحلّي قيادات القوى السياسية والاجتماعية بقدر كبير من النضج السياسي والسمو الأخلاقي وقيم التسامح والتجاوز والتركيز على المستقبل بدل الغرق في متاهات الماضي و الخصومات الشخصية والحزبية، التي يمكن أن تضيّع على الشعب فرصته التاريخية و دماء الشباب الذين ضحوا بأرواحهم من أجل بناء دولة الحق والقانون.
لقد آن الأوان في تونس وغيرها من الأقطار العربية، لأن يفهم كل تيار فكري – سياسي أنّ الآخر واجب الوجود وأنّ إلغاءه كإلغاء جزء مكوّن من الجسم. ولأنّ التجارب أنضجتنا والحوار الصعب قد بدأ يأتي أكله، بعد بروز ظاهرة التلاقح بين مختلف التيارات على طريق بناء الكتلة التاريخية في كل قطر عربي أولاً وعلى الصعيد العربي ثانياً، فإنه أصبح اليوم من الممكن التفكير في بناء وفاق تاريخي يقوم على: اعتبار الديمقراطية هي المدخل إلى النجاعة التنموية الفعلية. ومن ثمة فإنّ إنجاز التحول الديمقراطي يتطلب احتضان مطلب العدالة الاجتماعية، إذ لا معنى للديمقراطية ولا لحقوق الإنسان دون التمتع بالحرية الأولى وهي التحرر من الفاقة والجوع والمرض والجهل، في كافة الجهات التونسية.
ومما لاشك فيه أنّ الذي يجعل الثورة التونسية قادرة على استكمال إنجاز التحول الديمقراطي هو التكوّن التدريجي لكتلة شعبية تاريخية، متناغمة ومتفاهمة، ضمت أحزاباً ونقابات واتحادات حقوقية وجمعيات مهنية وثقافية وجمهوراً غفيراً من المستقلين وخصوصاً من جيل الشباب.
لقد نجحت الثورة التونسية ليس لأنها أسقطت نظاماً ديكتاتورياً فحسب، بل لأنها ساهمت في أعادة صياغة الوعي السياسي للتونسيين في اتجاه التفاعل العميق مع مفاهيم الحرية والديمقراطية، بما يمكّنهم من اجتياز المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي في اتجاه الجمهورية الثانية. حيث ترسخت قيم المواطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة. إضافة إلى: الوعي بمهام الدستور الذي سيقره المجلس الوطني التأسيسي, وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع, وبمهام الفرد, ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها, وبكيفية تشكيل القرارات السياسية, وكيفية تنفيذها, وبنظم الحكم العالمية, وبشروط التمثيل النيابي, وبكيفية المشاركة في الانتخابات النزيهة والشفافة, وتشكل المجالس النيابية, وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة التونسية ذاتها, وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية, وكل ما يعيق تحقيق دولة الحق والقانون.
إنّ قابلية دولة الحق والقانون لاستعادة دورها التقدمي في الجمهورية التونسية الثانية لا تزال قائمة ومطلوبة، وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني بمختلف فئاته وفعالياته، بما فيه القوى السياسية الأساسية من قوميين ويساريين وإسلاميين وليبراليين، ليمارس دوره في حماية قيم ومؤسسات هذه الجمهورية المنشودة.
وهكذا، من المؤكد أنّ ما حصل في تونس يدل على أنّ أي حاكم، ينعزل عن شعبه ويتجاهل مطالبه وخياراته وحاجاته وحقوقه ويحكمه بالقبضة الحديدية وتكميم الأفواه وحشر نشطاء الرأي والضمير في السجون ومصادرة الحريات، سيفشل وسيلتحق بصنوه زين العابدين بن علي. إنّ بعض ما يقوله الدرس التونسي هو أنّ من يريد الاستقرار فلا يجب أن يستهين بوعي الشعب، ولا يجب أن يسمح بتراكم مشاعر السخط والإحباط لديه.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه ليس هو هل سيتعظ الحكام العرب بما حدث في تونس، وإنما: كيف يمكن للحكام أن يتخلوا عن الأبراج العاجية التي يعيشون فيها مع بطانة أغلبها يضلل الحقائق، ليقتربوا من شعوبهم ويحققوا تطلعاتها وطموحاتها، عبر سياسات إصلاح جريئة في مجالات الحريات العامة والتنمية المتوازنة والعدل الاجتماعي ومكافحة الفساد، وإعادة الاعتبار لحق المواطن في المشاركة الفاعلة في القضايا المصيرية؟
ولعل ما يزيد من ثقة الشعوب في نفسها فشل النظام الأمني التونسي، المعروف ببطشه وشدة بأسه، في احتواء الاحتجاجات التي خرجت عن السيطرة وأرغمت الرئيس وبعض عائلته على الإفلات بجلودهم قبل فوات الأوان.
ولا مناص من الاعتراف أنّ الخيار الوحيد الناجع، لوأد أية انتكاسة محتملة لثورة الحرية والكرامة في تونس، هو تقوية حضور المجتمع المدني بكافة هيئاته كي يقول كلمته لصالح وحدة المجتمع ولتحفيز روح التفاهم والتعاون بين مختلف الأطراف ولتأكيد الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي كخير ضامن لمسار تطور تونس وتقدمها.
تونس في 20/6/2011
الدكتور عبدالله تركماني كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
نُشرت في صحيفة ” القدس العربي” – لندن 25/6/2011.