خطاب الفائز بالجائزة

Deutsch

فادية فضة تقرأ كلمة الفائزة زران زيتونة في حفل تكريمها بجائزة ابن رشد للفكر الحر لعام 2012

ممثلا عن رزان زيتونة يستلم جائزة ابن رشد 2012 عنها الفيلسوف السوري الدكتور صادق جلال العظم. يسلم الجائزة نائب رئيس المؤسسة الدكتور جون نسطة

كلمة رزان زيتونة في حفل فوزها بجائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2012 – 30 نوفمبر 2012

رزان زيتونة

تحيةُ مودّة..
أمَّا عن الشّكر، فلا أحسب أنكم تنتظرونه.. فالشّكر لثورات الربيع العربي عموماً، والسّوريِّ البطلِ خصوصاً، الذي منحني وإياكم هذه الفرصة النادرة حقاً في تاريخنا الشخصيِّ والعامّ، لنكونَ أكثرَ إيماناً وثقةً بحقنا الإنسانيِّ الأصيل في الحريَّةِ والكرامة..


منذُ نحوِ عشرِ سنواتٍ سمعتُ للمرةِ الأولى باسم فارس مراد. روى لي أحدُ المفرجِ عنهم من سجن صيدنايا العسكري قصةَ فارس، وكيف أمضى حتى ذلك الوقت، أي عام 2002، ستة وعشرينَ عاماً في المعتقل على خلفيةِ عضويته في المنظمةِ الشيوعيةِ العربية. دُهشتُ أنني لم أسمعْ باسمه سابقاً! شخصٌ أمضى كل هذه السنواتِ في المعتقلِ على خلفيةٍ سياسيةٍ، يُفترَضُ أن يكون أسطورةً.. كمانديلا.! وبدأتُ حينَها مع عدد من الأصدقاء، بالعملِ على جمعِ وتوثيقِ أسماء المعتقلين القدامى.. عِبْر سؤالِ المفرجِ عنهم، وبالاعتمادِ على ذاكرتِهم، وبالتواصلِ شيئاً فشيئاً مع ذوي المعتقلينَ وعائلاتِهم.


أدركتُ أنَّ فارسَ لم يكن أسطورة، لأن آلافاً مثلَه كانت تقضي عامَها العشرين، أو الخامسَ والعشرين، أو الثامنَ والعشرين في المعتقل. وأنَّ هذه “القصصَ” ليست ماضٍ أُسدِل عليه جدارُ النسيان، كما حاولَ أهالينا- نحنُ الجيلُ الذي لم يعش أحداثَ الثمانينات- إيهامَنا بدافعٍ من خوفهم. بل هو واقعٌ مخفيٌّ يعيشه كلُّ سوريٍّ بمفرده، وحاضرُ وطنٍ يأسـِرهُ الماضي بجميع أحداثِه وآلامِه، ويمتد في نتائجِه إلى أبسطِ التفاصيلِ الصغيرةِ في حياتنا. 


كانت السنواتُ التالية بمثابةِ إعادةِ اكتشافٍ لسوريا وتاريخِها وحاضرِها، عبرَ عملياتِ الرصْدِ والتوثيقِ وإحياءِ الذاكرةِ التي أراد النظامُ طمْسَها، والعملِ على تسجيلِ ما أمكنِ من تلك التفاصيلِ التي تشكلُ تاريخَنا الحديث. أجملُ الأوقاتٍ وأكثرُها إيلاماً، كانت زيارةُ المفرجِ عنهم، سماعُ حكاياتهم، . . كلٌّ منها بحجمِ حكايةِ وطن..


أحنُّ إلى تلك الأيام، إلى تلك المجموعاتِ الصغيرةِ من الأصدقاءِ والنشطاءِ التي عملنا ضمنها خلال العقدِ الماضي. كانت معظم لقاءاتـِنا وأنشطتـِنا تتم ببالغ السريَّة، مستخدمينَ “شيفراتٍ” خاصةٍ للحديثِ والتنقلِ وتبادُلِ المعلومات. وكلما أغلقنا البابَ وراءَنا نتوجس من عيونٍ تراقبُنا، أو من دوريةٍ أمنيةٍ تتربصُ بنا. كلما رن جرس الهاتفِ خشينا أنه استدعاءٌ أمنيٌّ لأحدِ الفروع الأمنيـَّة. معظمُ الأصدقاء لم يسلموا من الاعتقالِ والمحاكمةِ تعسـُّفياً. وحضورُ المحاكماتِ، كانت المناسبةَ الوحيدةَ التي نتمكن فيها جميعاً كنشطاء من التواجدِ بشكلٍ علنيٍّ، رغم أن هذه أيضاً لم تَخلُ من المضايقاتِ الأمنية يوماً.


قضينا خلالَ تلك السنواتِ، نشطاءَ ومحامون وعائلاتُ معتقلينَ سياسيينَ، على رصيفِ محكمةِ أمنِ الدولة، أكثرَ مما قضيناهُ في أي مكانٍ آخر؛ ذلك الرصيفِ الذي يختزلُ حكايةَ نظامٍ جبارٍ بقدرتـِه على الظلمِ، وشعبٍ جبارٍ في تحمـُّلِه الألم. لطالما انتظرنا على ذلك الرصيفِ سيارةَ السجنِ، ولحظةَ وصولها، لطالما سُمعتْ صيحاتُ الأمهاتِ وشوهدتْ دموعُ الزوجاتِ والأطفال. لا يعلمون إن كان أبناؤهم المختفون منذ أشهرٍ أو سنواتٍ، داخلَ السيارةِ أم لا، لكنهم ينتظرونَ دائماً، وبلا كللٍ. هي حكايةُ عشَرات آلافِ المعتقلينَ والمختفينَ قسرياً في سوريا قبلَ الثورة.


كناشطةٍ حقوقيةٍ، كان تركيزي على رصدِ الانتهاكاتِ وتوثيقـِها، لكن الجانبَ الأهمَّ تمثـَّلَ في التعاملِ مع ضحايا تلك الانتهاكاتِ وذويهم. ليس الأمر فقط إظهاراً للتّضامن أو مساعدةً في شأنٍ حقوقيّ. الأهمُّ هو تلك الجدرانُ التي كانت تتهاوى بيننا كسوريينَ وكبشر. جدرانٌ جَهـِد النظامُ عقوداً طويلةً على إعلائِها بيننا، وتخويفـِنا من بعضنا بعضاً، وفِقدانـِنا الثقةَ ببعضنا، وتوليدِ إحساسٍ بشعٍ لدى كل ضحيةٍ أو ذويها بأنها وحدَها، وأن الدنيا تسير من حولِهم بشكلٍ طبيعيٍّ ولا أحدَ يلتفت لآلامهم، ولا أحدَ يتحسسُ معاناتِهم.
في الأشهر القليلةِ السابقةِ للثورة، أصيب النظامُ بتوتُّرٍ كبير، ما بين غيرِ مصدق لإمكانيةِ اندلاعِ احتجاجاتٍ في سوريا، وبين متوجسٍ من ذلك، يسعى كلٌّ جهدَه للقضاءِ على أيةِ ظواهرَ احتجاجيةٍ مهما كانت صغيرة. أكثرُ المواعيدِ التي كنا نتحدثُ عنها حينَها، هي مواعيدُ الاستدعاءاتِ الأمنية؛ تلك الساعاتِ من الرعبِ والمهانةِ التي لا تمكنُ مقارنتُها بأوضاعِ الاعتقالِ في الفروعِ الأمنيةِ وما تشهدُه من تعذيبٍ وحشيٍّ وامتهانٍ، لكنَّها من الناحيةِ النفسيةِ ليست أقلَّ منها قسوة.


مع هبوب رياحِ التغييرِ في تونسَ ومصرَ، أصبح وقعُ القمعٍ في نفوسِنا أكبرَ وأمضى. إذا همُ استطاعوا فعلَها فلمَ لا نستطيع نحن؟! لكن كيف في ظلِّ هذا الخوفِ المعمـَّم الذي زاده وطأةً ازدياد حدةِ القمعِ يوماً بعد آخر؟ كان الإحساسُ ضاغطاً بأن الزمنَ يستعجل السوريينَ كي يهبّوا من أجل حريتِهم. تصريحاتُ النظامِ الرسميةُ كانت تستبعد أيَّ حراكٍ سوريّ، كثيرٌ من المحللين استبعدوا هذا الاحتمالَ أيضاً.


بدأت اعتصاماتٌ صغيرةٌ في العاصمةِ دمشق تضامناً مع الثوراتِ العربية، قُمِعت بشدةٍ ووحشيةٍ! مظاهرةُ سوقِ الحريقة التي هتفَ فيها المتظاهرون “الشعب السوري مابينذل”؛ ثم مظاهرةُ الحميدية، ثم مظاهرةُ وزارة الداخلية، التي اعتُقِل على إثرها معظمُ أصدقائنا. كان ذلك في معظمِه على مستوى النشطاءِ والمثقفين أكثرَ منه على المستوى الشعبي. فعلاً: لا أحدَ كان يعلم أن قلبَ السوريِّ المفعمِ بالمظالم، يغلي في الظلام، وأن مظاهراتٍ عارمةٍ ستنطلق بعد أيامٍ في مدينة درعا تنديداً باعتقال وتعذيبِ عددٍ من الأطفالِ الذين كتبوا للحريةِ على جدرانِ مدرستهم.


في ذلك الوقت كانت معجزةٌ حقيقيةٌ تحدث أمامَنا، ونعجزُ عن جلبِ اهتمامِ الإعلامِ وتصديقـِه بحدوثها. بدأنا العملَ للحصولِ على أكثرِ تفاصيلَ ممكنةٍ حول ما يحدث. أذكر أنني نبشتُ في دفترِ هواتفي عن أرقامٍ قديمةٍ لمعتقلينَ وذويهم من منطقةِ درعا، وبهذه الطريقةِ استطعت الاتصالَ معهم للمرةِ الأولى، والحصولَ على معلوماتٍ من مكانٍ تلو الآخر، والتواصلَ والتحدّثَ مع وسائل الإعلامِ المختلفةِ لتزويدها بها.


بعد أسابيعَ قليلةٍ، ظهر جليّاً أنَّ سوريا ليست مصرَ أو تونسَ بالفعل، وأنَّ النظامَ السوريَّ لا يجد مشكلةً في إطلاق الرصاصِ على شبانٍ ونسوةٍ وأطفالٍ خرجوا يهتفون لكرامتهم ويطالبون “بالإصلاح” . . حينها.
قررتُ التواري عن الأنظارِ تجنباً للاعتقالِ الذي كان آتيا لا مَحالة. كان ذلك بتاريخ 21 آذار/مارس2011. وتركَّز جلَّ اهتمامي وقتَها على الوصول إلى مصادر معلومات حيثما أستطيع، والتواصلِ مع الإعلام لحثهِ على نقلِ الخبرِ والاهتمامِ به؛ فضلاً عن تسجيل ما يجري من انتهاكاتٍ واعتقالاتٍ أو تعذيبٍ أو قتلٍ وسواها. وشيئاً فشيئاً، بدأتْ شبكةُ العلاقات تلك تتحول إلى عمل أكثرَ تنظيماً، يسعى للتواصلِ وتبادلِ المعلوماتِ والخبراتِ والأخبار. ونجم عنه في نيسان 2011 تأسيسُ ما أسميناه: “لِجان التنسيق المحلية في سوريا”. وبدأنا العملَ على تشكيل مكاتبها الإعلاميةِ والسياسيةِ والثورية. مؤمنين بأن الثورةَ انطلقت ولن يوقفـَها شيء حتى تحقيقِ أهدافها، ومحاولين صياغةَ خطابٍ ورؤيةٍ سياسيةٍ للحراك الثوريّ. وخلال الأشهرِ التالية، كانت الانتهاكاتُ السابقةُ للثورة قد أصبحت من الماضي. لم يكن هناك أيّ وقتٍ للعملٍ على غير التفاصيلِ اليوميةِ التي نعيشها ونسجلُها: القتلَ المنفلتَ من كل ضابط، والتعذيبَ الوحشيَّ للأطفال، والمجازرَ المتتالية..


بعد اعتقال زوجي وأخيه في أيار 2011، زدتُ من احتياطاتي الأمنية، تنقلتُ كثيراً من منزلٍ لآخر، ومن حيٍّ إلى آخر. مؤسفٌ أن ابنَ المدينة ليس له انتماءٌ مكانيُّ واضح.
في جميع الضواحي والأريافِ، يبقى النشطاءُ المتوارون في مناطقهم. بينما دمشقُ، تحولت إلى مدينةٍ غريبةٍ عن نفسها وعن أبنائِها. أصبحت ثكنةً عسكريةً مليئةً بالحواجزِ الأمنية التي تقطِّع أوصالَها؛ كلعبةِ المتاهة. يتعين علينا اختيارُ الطريق بعنايةٍ كي نتجنب المرور على تلك الحواجز، بما يعنيه ذلك من التفتيشِ على البطاقاتِ الشخصيةِ والاعتقالِ الحتميِّ للمطلوبين. فلا يزال قلب دمشقَ، وأحياؤها القديمةُ التاريخيةُ بمعزلٍ عن الدمار الذي شهدته جميع المدن الأخرى. جميعناً يعلم أن تلك اللحظاتِ آتيةٌ لا ريب.. وهذا أكثرُ قسوةً من انتظار موتٍ محتَّم، احتمالُ دمار المسجد الأمويِّ، قهوةِ النوفرة، سوقِ مدحت باشا، الشارعِ الطويل، حيِ العمارة…
بتُّ عاجزةً، بعد أشهرٍ عديدة من الأيام المتشابهة، عن تكرار الكلامِ نفسه، عن ذكرِ عددِ الشهداء، وتفاصيلِ تعذيب هذا الطفلِ أو ذاك الشيخ، عن تكرارِ قسوةِ أن يواجه البشرُ مثلَ هذا التوحشِ في القرن الحادي والعشرين. وتولدت لديَّ شكوكٌ في كثيرٍ ممَّا سبق وآمنتُ به. لذلك، فضلت الانشغالَ بالتفاصيلِ اليوميةِ لثورتنا، لأنها وحدَها ما كان يمنحُنا القوةَ للاستمرار، خاصّةً مع فقدانِ معظمِ الأصدقاءِ مع الوقت، منهم من استشهدَ، ومنهم من اعتُقِل ومنهم من غادر البلادَ، ومنهم من افترقتْ بنا الطرقُ، فأصبحنا خصوماً بعد أن كنا أفضلَ رفاق. الثورة بلا الأصدقاءِ الذين بدأنا معهم، موحشةٌ وقاسية. تزيد من وحشتِها حياةُ التواري ومآلاتُها.. وأُدرك أنني تغيرتُ كثيراً خلال تلك الأشهر. فرغم مواصلتي أعمالَ الرصْدِ والتوثيق، لم أعد أشعرُ بجدوى العملِ الحقوقيِّ بالشكل الذي كان عليه، ولا التواصلِ مع المنظماتِ الحقوقيةِ الدوليـّة.


بقدْر الإحساسِ الذي تولد داخلـَنا بأننا قادرون، ولا حدودَ لقدرتـِنا على إحداثِ التغيير، بقدْرِ ما أحسستُ بعجزِ العالمِ عن التعاملِ مع/ أو دعمِ ومساعدةِ شعبٍ ثائرٍ يُقتـَل أمامَ أنظارِ العالمِ كل يوم.. ففي الثورةِ مناسباتٌ كثيرةٌ للنّواحِ بحرقة.. ليست دائماً تتعلقُ بالموت. فقد تنوحُ حين تسمع الأخبارَ الآتيةَ من بُصرى الشام، عن دمارِ آثارها التاريخيّةِ وسقوط قذيفةٍ أودت بسريرِ الأميرة. أو لمشاهدة أسواقِ حلبَ التاريخيةِ وقد أصبحت أثراً بعد عين.. بعد أن حولتها القذائفُ إلى رماد.
لعل التواري لم يعد فقط عن أعينِ جلادي النظام، بل عن كثيرٍ من الجوانبِ داخلـَنا، نسعى لتجنـُّبِها بما تحملُ من آلام. يحنُّ السجين إلى حريتِه وبيتِه وغرفتِه. أما في حياة التواري فلا حنينَ إلى شيء، حتى أنَّ فكرةَ الاستقرار تبدو اعتباطية، وكأننا ولدنا في اللامكان ولا شيءَ يربطنا بالماضي..


في الحقيقة، يصعبُ كذلكَ التفكيرُ بالمستقبل، المستقبلِ الذي كنا لا نكفُّ عن تردادِ كيف نريده أن يكون خلال أشهرِ الثورةِ الأولى. اليوم يبدو هذا المستقبلُ غامضاً يشوبُه الكثيرُ من الخوف. المستقبلُ هو عائلاتٌ وأحبَّة، إنما مع حقيقةِ أنَّ أكثرَ من خمسة وثلاثين ألف شهيدٍ قضوا حتى اليوم، كيف سيحملُ ذويهم وأطفالُهم آلامَهم معهم في نقطةِ العبورِ إلى القادم! المستقبل هو ذكرياتٌ لعشرات آلاف ممن خاضوا تجربةَ الاعتقال وذلَّه وتعذيبَه. هو عدةُ ملايينَ من السوريين أصبحت بلا مأوى، بعد أن أُحيلت منازلُها وممتلكاتُها إلى ركام ورماد..!


فيما يتعلقُ بالنازحينَ في الداخل، فقد عاش كلٌّ منهم حتى اللحظةِ نزوحاً أوَّلَ، وثانٍ وثالث…في كل مرةٍ ينتقلون إلى منطقة، تتحولُ سريعاً من منطقةِ لجوء إلى ساحةِ حرب، ويتعينُ البحثُ عن مناطقَ لجوءٍ جديدة. ولا تنفكُّ الدائرةُ تضيق عليهم. المناطقُ الآمنة نسبياً أصبحت نادرةً ومكتظةً إلى درجةٍ هائلة. اللاجئونَ والنازحونَ، مَثلُهم مَثـَل المعتقلين والشهداء، ليسوا أرقاماً. يسهلُ القولُ إنَّ عدَّة ملايينَ تتنقل من مكانٍ إلى آخر، نساءٌ وأطفالٌ وشيوخ. في كل مرةٍ تُضطرُّ للنزوح بالثياب التي عليها. فالنظامُ ـ بطبيعةِ الحال ـ لا يوجه إنذاراً للمنطقةِ التي يهمُّ بقصفها بطائراتِه ومدافعِه.


أُفكِّر كثيراً في الألم المتولـِّد عن لحظة الانتصار، حيث ستمتنِع على أولئك الناس العودةُ إلى حاراتِهم ومناطقِهم ليعيشوا تلك اللحظةَ علَّها تعوض شيئاً من آلامهم. لا مكان ليعودوا إليه، إلا بعد فترةٍ قد تطول من إعادة الإعمار. وحتى مع ذلك، ما الذي سيعيدُ إعمار ما تهدمَ في قلوبِ الناس، وما سُلب من ذكرياتِهم وتفاصيلِ حياتِهمُ اليوميةِ التي تركوها وراءهم على الجدرانِ والطرقات التي تهدمت..
أفكِّر، أنَّ الإنسان قد لا يتمكن من إنقاذ شخصٍ من رصاص قنـّاصٍ أو قذيفةٍ ذكية. لكن الأكثرَ إيلاماً أنه لا يتمكنُ من سدادِ حاجاتٍ بسيطةٍ وأساسيةٍ كالغذاء والكساءِ لأولئك المرحلينَ قسراً من بيوتهم. الكارثةُ الإنسانيةُ تستولدُ نفسَها مرة بعدَ أخرى في منطقةٍ تلو أخرى. المنظماتُ الدوليةُ عاجزةٌ عن تغطية قدْرٍ بسيطٍ من تلك الاحتياجات.. وكثيرٌ من النشطاءِ تحولوا بعد عسكرةِ الثورةِ خلال الأشهرِ الأخيرة، إلى نشطاءَ إغاثيين. كثيرٌ آخرُ منهم تحولوا إلى نشطاءَ حقوقيين، يعملون على رصد الانتهاكاتِ وتوثيقـِها من واقع خبرتهم التي اكتسبوها خلال الثورة. آخرون تخصصوا في مجالِ الإعلام. المدهشُ، أنَّ السوريينّ لم يكفوا وسطَ كلِّ هذا الدمارِ والموتِ عن بناءِ قدراتِهم ومراكمتِها وتطويرِها. في معظمِ المدنِ والمناطقِ، تم قطعُ خدمات الإنترنت عنها منذ مدة طويلة. كنت أعجِزُ عن تخيلِ القدرة على الصبرِ لدى شبابنا السوريِّ، في قضاء عدة ساعاتٍ لرفع مقطع فيديو عبر إنترنت “الدَّيـْل آب”، أو حضورِ اجتماعٍ كاملٍ عبر الموبايل. أو ابتداعِ والبحث عن شتى الوسائلِ ليتمكنوا من التقاطِ خط إنترنت، الوسيلةِ الأكثرَ استخداماً من قبلهم للتواصلِ فيما بينهم، ومع العالم والإعلام.


وفيما نفدَ صبرُ البعض وقرر المغادرة، لا يزال معظمُهم يقاومون. شعارهمُ المفضَّل “سوف نبقى هنا”. خيار البقاءِ في الداخلِ في مثل هذه الظروف، وبخاصة للنشطاء الذين لا يرغبون في الانخراطِ المباشرِ في العملِ المسلح، ليس بالأمر السهل. والأمرُ ـ بالمناسبة ـ لا يتعلق بالشجاعة على الإطلاق. بل يتعلق بالدرجة الأولى بالدور الذي اختارَ هؤلاء القيامَ به في الثورة، بإيمانِهم به وبها، وبرغبةٍ في المساهمة بمساعدة من حولـَنا على الاستمرار. إنها مقاومةٌ بالعدوى، إحساسٌ بأننا مدينون لأولئك الذين فقدوا حياتَهم كي نصل إلى اليوم، ولمن سيفقدون حياتَهم كي يصل غيرُهم إلى الغد،. . إنها رغبةٌ بتحدي القاتل وما يحمله من موت؛ أملٌ بأنَّ ما نصنعُه اليوم قد يكون لبنةَ إعادةِ الإعمارِ غداً، إعمارِ ما تهدم بيننا وداخلـَنا. هو خليط من ذلك كله. لهذا، أعجزُ عادةً عن الإجابةِ عن سؤال، لماذا اخترتِ البقاءَ في سوريا؟، وبخاصة مع وصولِ الأمورِ إلى ما وصلتْ إليه !


اليوم يطلقُ الكثيرونَ في العالم على ثورتنا مصطلحَ “الحربِ الأهلية”. يحتجُّ البعض بأن هذا هو التوصيفُ القانونيُّ للوضْع، ويصرُّ آخرون على أن هذا هو توصيفُه السياسي.!
فينتابُني الغضب، لأن العالمَ استكثرَ على ثورتنا حتى اسمَها، انطلاقاً من تعقيدِ علاقاتِه ومصالحِه. نعم كثُرت أخطاءُ الثورة مؤخراً، لكنها سنةٌ وثمانية أشهرٍ من القتل والدمار. ومقابلَ كل خطأٍ برزت العديدُ من المبادراتِ والتشكيلاتِ الثوريةِ التي تعمل على مواجهةِ تلك الأخطاء. لا يمكن لصوتِ العقلِ أن يُسمَعَ دائماً في الوقت نفسه مع هديرِ الطائراتِ الحربيةِ وجلجلةِ القصفِ وعويلِ الأمهات الثكالى. ومع ذلك لم يكفَّ السوريون عن نقد أنفسِهم. قد لا يتمكنون من تصحيحِ الأمور في أجواءِ حربٍ ونزوح. لكن صوتهم لم يخفـُتْ يوماً عن قول الحقيقة، عن الانتصارِ للحق. بينما تخاذلَ العالمُ حتى عن قولةِ الحق. ولم يقتصرِ الأمرُ على الحكوماتِ والأنظمة، بل تعداها حتى إلى نُخب العديدِ من دولِ العالم، التي اعتبرتِ الثورةَ السوريةَ بمثابة تصفيةِ حساباتٍ بين الامبرياليةِ وتيارِ الممانعة. وفي كل مرحلةٍ من مراحل الثورة، كانت ذريعةٌ جديدةٌ تُستخدم للحيلولة دون مساندتِها، من إسرائيلَ إلى القاعدة والجهاديين، إلى حمايةِ الأقلياتِ أو إلى ضعفِ وتشتتِ المعارضة السياسية..!
لم يكن حقُّ شعبٍ كاملٍ بتقريرِ مصيره، واختيارِ حكَّامه مما يدخلُ في أولوياتِ أحد. ولم يكنِ التخلصُ من إذلالِ وجرائمِ أربعةِ عقودٍ مما يدخل في أولوياتِ أحد.! والعالم، بشرقه وغربه، لم يخذلِ السوريين فقط، بل وخذل أبسطَ مبادئ التضامنِ الإنسانيّ. النتائج ليست فقط مزيداً من القتل والدمار في سوريا، بل شرخاً سيصعبُ ترميمُه في المستقبلِ القريب، وفِقداناً للثقة، سيكون سبباً للعديدِ من التعقيداتِ التي نتوقع أن نشاهدَها بعد انتهاءِ الثورة.


هذا الواقع لن يجعلـَنا بحال من الأحوال نُغفـِل وقفة الملايين من البسطاء شرقاً وغرباً مع ثورة شعبنا، وتضامنَهم معها بإمكانياتهمُ المتواضعةِ كمواطنينَ في غير موقع مسؤولية. ولن يجعلنا نُغفل وقفةَ أصحابِ الكلمةِ مع ثورتنا، وضمن هذا الإطار تأتي حزمةٌ من الجوائز الحقوقيةِ والثقافيةِ التي منحت لنشطاء وكتابٍ سوريين تكريما لثورة شعبهم وتضحياتِه.


أذكر بُعيدَ الإعلان عن الجائزة أن والدتي، السيدةَ السوريةَ البسيطة، سألتني إن كان “ابن رشد” هو نفسُه الذي ظهر في أحدِ الأفلام وقد اضطُهد وحُرقت كتبُه!… وحين أجبتُها بنعم، ابتسمتْ برضىً وسرَحت بعينيها، وأنا أحسستُ بالامتنان العميق.


هنا شعبٌ يستحق الحياةَ كجميعِ الشعوب، لم يكن هناك من داعٍ للخوفِ من رغبةِ شَعبٍ في الحياة.. على الخائفين الآن أن يخشوْا ما تراكم داخلَه نتيجةَ هذا الموت المستمر وسكوتِهم عنه.
شكرا لوجودكم.. ولكونكم جزءاً من النداءِ الإنسانيِّ من أجل الحريةِ والكرامةِ والعدالة..


رزان

كلمة د. صادق جلال العظم بمناسبة استلامه جائزة ابن رشد نيابة عن الفائزة رزان زيتونة.

كلمة د. صادق جلال العظم بمناسبة استلامه جائزة ابن رشد نيابة عن الفائزة رزان زيتونة.

Razan’s Notes from the Under Ground

I am extremely moved by this privilege of receiving the Ibn Rushd  Award on behalf of the most valiant feminine  face of the Syrian Revolution: Razan Zaitoune. In moments like this, where ordinary language fails to speak and express, I turn to good literature, hence the title of my word this evening.


Since the eruption of of the revolution over 20 months ago, Razan has been Syria’s most eminent Under Ground Woman and Syria’s most shining Invisible Woman around. But unlike Russia’s famous Under Ground Man, Razan is neither nameless nor in self-imposed isolation. And unlike America’s Invisible Man , Razan is not anonymous and never regarded herself from the start, an Invisible Syrian. Hence, I can say with confidence that Syria’s Revolution found in Razan both its most renown Under Ground Woman, with lots of notes for the above ground, and its most visible Invisible participant-observer, documentor, commentator, and critic.


Still, like both these famous literary characters, Razan is also a story to tell on its own. A story about endurance, courage, persistence, oppression, persecution and forced isolation and invisibility.
A lawyer by profession, Razan commited herself from the very start to  the cause of civil society in Syria and what it entails in terms of respect for Human Rights, civil rights and liberties, human dignity,democracy,freedom and the primacy of citizenship. Her Notes from the Under Ground have critically and without fear or favor illuminated much about the Revolution, especially her meticulous documentation of the atrocities, violations, rape, torture death and crimes against humanity committed by the regime and its storm troops most of the time and by the revolutionaries themselves some of the time.


In addition to all that , through a steady stream of commentary, reports, interviews, criticisms and searching questions, Razan became the voice of the Revolution to the outside world, no less than to the Revolutions terbulant inside world.
Unintimidated by the ‘politically correct’ discourses of the revolution, she bravely warned against its dangerous paradoxes, harmful shortcomings and the counter productive courses it could take because of the intensification of religious fanaticism, sectarianism and lawlessness.


We honor her today for her pride, modesty, bravery, unwavering revolutionary commitment and above all for the sacrifices she made and endured for the sake of a better, more democratic, more humane and more dignified future for Syria, for its people, for its civil society and for its new form of government.


Finally, although Razan’s thoughts and actions are anchored in Syrian social, political and legal realities her concerns are universal. As she herself said: ‘this prize honors all those Syrians who dream the dream of freedom.’

Prof. Sadiq Jalal al-Azm, Syrian Philosopher

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial