التخلف والتقدم في البلدان النامية والوطن العربي – جدلية السبب والنتيجة بقلم د. محمد أحمد الزعبي

1- مدخل:

مع انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية القرن الماضي، تراجعت إلى حد بعيد الدراسات النظرية المتعلقة بالبلدان النامية، ذلك أن اهتمام الباحثين والدارسين العالميين عامة، والسوسيولوجيين منهم على وجه الخصوص بهذه البلدان، قبل هذا التاريخ، كان نابعا من كونها كانت موضع شد وجذب بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي ، وبالتالي بين وجهتي النظر البرجوازية الليبرالية والماركسية-اللينينية.
إن هيمنة النظام الرأسمالي العالمي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، على النظام العالمي الجديد، وعودته إلى فرض إيديولوجيته على العالم كله ولا سيما البلدان النامية، بقوة السلاح والاحتلال المباشر و غير المباشر وخاصة بعد أحداث 11/09/2001، قد بدل من اهتمامات العلماء والباحثين وحوَّلها من دراسات لجسرالهوة بين البلدان المتطورة والبلدان النامية إلى كتابات سياسية حول الإرهاب والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعودة حليمة إلى عادتها القديمة فيما يتعلق بالنظام العالمي الجديد، من حيث انطواء بنيته الأحادية على جرثومة استعمار القرن التاسع عشر سيئ الصيت.

وسيحاول الكاتب في هذه الدراسة، إعادة الاعتبار لتلك الإشكالية المتعلقة بالسؤال عن سبب تخلفنا وتقدمهم. وسوف يستخدم بالإضافة إلى مصطلح البلدان النامية، مصطلح العالم الثالث وفق ما أراد له واضعه ألفرد سوفي 1955 ليشير إلى وجه الشبه بين حالة “البلدان المتخلفة” اليوم وحالة “الطبقة الثالثة” في فرنسا عشية الثورة الفرنسية، والتي كانت رغم حجمها الكبير بالقياس إلى طبقتي النبلاء والإقطاعيين والإكليروس، مسحوقة ومضطهدة ومهمّشة.

2- في تحديد المفهوم :

إن الإشكالية التي يطرحها مفهوم التخلف، وبالتالي البلدان المتخلفة، هي إشكالية مزدوجة، تتعلق من جهة بـ “مظاهر التخلف” وتجلياته, ومن جهة أخرى ب “الأسباب”التي جعلت هذه المظاهر ممكنة وموجودة ومستمرة، سواء بالمعنى النسبي (التخلف بالقياس والمقارنة مع البلدان المتطورة) أو بالمعنى المطلق (التخلف باعتباره ظاهرة مرفوضة بحد ذاتها وبغض النظر عن وجود أو عدم وجود البلدان المتطورة) . هذا مع العلم، أنه من الصعب – كما يقرر إيف بينوت – بحق الفصل بين الجانبين، المطلق والنسبي لأنه “من يقل تخلف، يقل في الوقت ذاته أن هناك نموذجاً للتقدم مقبولاًً كمرجع وكهدف مثالي” (إيف بينوت، ما هي التنمية، دار الحقيقة، بلا تاريخ، ص 11). إنه لا خلاف حول أنه ما يزال يهيمن في مجتمعات العالم الثالث – وإن بدرجات متفاوتة بين هذا البلد المتخلف أو ذاك – البنيات التقليدية ما قبل الرأسمالية سواء تعلق الأمر بالقوى المنتجة أو بعلاقات الإنتاج أو حتى – وإن بدرجة أقل – بالوعي الاجتماعي والفردي، والتي هي بنيات متخلفة موضوعياً وتاريخياً عن البنية الرأسمالية التي يصفها كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي بالقول “فالبرجوازية المعاصرة نفسها- كما نرى – هي نتيجة تطور طويل وسلسلة من الثورات في أساليب الإنتاج والتبادل….وكانت كل مرحلة من مراحل التطور التي مرت بها البرجوازية يقابلها رقي سياسي مناسب تحرزه هذه الطبقة …. وإن البرجوازية لا تعيش إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على علاقات الإنتاج، أي العلاقات الاجتماعية بأسرها” (البيان الشيوعي، موسكو، دار التقدم، بلا تاريخ، ص 43-45).

ولكن ابتداء من انتصار البرجوازية ونظامها الرأسمالي، فإن عملية التطور الاجتماعي والاقتصادي في الدول الرأسمالية أصبحت تتم على حساب الدول والمجتمعات الأخرى التي تحول معظمها، وفي ظلِّ سياسة المصنع-المدفع إلى مستعمرات و/أو أشباه مستعمرات، أي إلى دول تابعة، ويبين الجدول التالي بعض الدول الأوربية ومستعمراتها عام 1947:

الدولة المستعمرةمساحتها ( كم2 )سكانها ( مليون نسمة )مساحة مستعمراتها ( مليون كم2 )سكان مستعمراتها ( مليون نسمة )
بريطانية العظمى244.00049.510.2106.9
فرنسا551.20040.311.756.4
البرتغال92.2008.32.112.5
بلجيكا30.5005.52.414.5

هارالد نويبرت النظام العالمي الجديد ومشاكل العالم الثالث، بيروت 1996، ت محمد الزعبي وممتاز كريدي ص 79

وأخذت اعتباراً من هذه اللحظة تتسع الهوة والمسافة بن التابع والمتبوع، وهكذا ظهرت لأوَّل مرة في التاريخ الظاهرة العالمية التي باتت معروفة باسم “التخلُّف” وبالتالي”الدول المتخلفة”.
إنَّ الإشكالية الأساسية التي يطرحها مفهوم “التخلُّف” والبلدان المتخلفة، هي بكلمات توماس سنتش إ نما تدور حول التساؤلات التالية المتعلقة ب “ماهو التخلف؟”:
–    هل هو الفارق النسبي بين البلدان المتطورة والبلدان المتخلفة ؟ وإذا كان كذلك فبأي وحدات يقاس هذا الفارق؟
–    هل هو مجموعة ظواهر معينة تعتبر خصائص مميزة؟وإذا كان كذلك فوفقاً لأي مبدأ يتم اختيارهذه الخصائص ؟
–    هل هو نظام أو بنية كلية؟ وفي هذه الحال ما الذي يجعل منه نظاماً، وما الذي يؤمن ديمومته؟
(أنظر: بروفسور ت. سنتش، الاقتصاد السياسي للتخلف، الجزء الأول، بيروت، 1978، ص 17).

ومن جهتنا، فإننا نرى أن الأمر يتعلق بهذه الجوانب الثلاثة مجتمعة، وتقع مهمة البحث العلمي أولاً في تحديد الجانب الأهم والمركزي من هذه الجوانب الثلاثة، وثانياً، في تحديد وحدات قياس موضوعية لكل من التخلف والتقدم . وبالتالي تحديد الأسباب البعيدة والقريبة الكامنة وراء استمرار وجود هذه الظاهرة غير الطبيعية على المستوى العالمي.

  وبعد اطلاع الكاتب على سلسلة من التحديدات المختلفة لمفهوم التخلف والبلدان المتخلفة، وجد أن الأمر يتعلق بمجموعة البلدان التي لا يسيطر فيها أي من النظامين الرأسمالي أو الاشتراكي والتي بسبب خضوعها للاستعمار القديم والجديد والأجد (استعمارالنظام العالمي الجديد) ما تزال تحتفظ – بدرجات متفاوتة- بالبنيات والأنماط الإنتاجية ما قبل الرأسمالية,إلى جانب البنيات والأنماط الرأسمالية الشوهاء (تناضد وتعاضد الاستبداد الرأسمالي مع الاستبداد المحلّي) الأمر الذي أوقف تطورها الطبيعي وأوقعها في حالة من الركود النسبي الذي يمثل نقطة الاستناد لاستمرار تبعيتها للنظام الرأسمالي العالمي وخلق تلك المسافة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بينها وبين المجتمعات المتطورة ، وحوَّل ظاهرة التخلف فيها من ظاهرة نسبية عارضة ومؤقتة إلى ظاهرة بنيوية على درجة كبيرة من العناد والديمومة.
 (انظر المخطط في الملحق)

وجدير بالذكر هنا، أن هذه البلدان الموسومة بالمتخلفة أو النامية أو بالعالم الثالث هي ليست عالماً واحداً وموحداً . إنها مجموعة من الشعوب والأمم والثقافات الموزعة على قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي لكل منها تاريخه المميز وبالتالي طابع تخلفه الخاص، الأمر الذي يقتضي أن تكون له إستراتيجيته التنموية الخاصة به أيضاً في ظل الإستراتيجية التنموية العامة للبلدان النامية وبالتالي في ظل العلاقة الجدلية  بين العام والخاص والتي تشير إلى أن التوجه التنموي الأساسي في البلدان النامية يتمثل من جهة في التراجع والتقلص المستمر لدور وأهمية القطاعات/الأنماط ما قبل الرأسمالية (الإنتاج الصناعي البسيط، النمط الاقتصادي– الاجتماعي الإقطاعي أو شبه الإقطاعي) ومن جهة أخرى، في الصراع الحاد بين الداخل والخارج وضمنهما على وراثة هذه الأنماط الاقتصادية–الاجتماعية التي في طريقها الى الإنقراض, ولا سيما بين الرأسمال الأجنبي الوافد (الإمبريالية العالمية وشركاتها عابرات الحدود والقارات) والرأسمال المحلي، ولا سيما الرأسمال الوطني غير التابع الذي يعتبرأن سوق بلده المحلية هي حق له وليس للرأسمال الأجنبي .                                                             

3- إشكالات البحث العلمي في البلدان النامية:

لقد علقت بمفهوم البحث العلمي لظاهرة التخلف في البلدان المتخلفة/النامية، جملة من الإشكالات المنهجية التي حالت وتحول دون التحديد الدقيق لكل من مظاهر وعوامل التخلف أبرز هذه الإشكالات:
–    التداخل بين السبب والنتيجة، أو بين ما يسمى بمظاهر التخلف وعوامل التخلف. فمثلاً: هل إن كلا من الأمية والقبلية والطائفية وتغييب الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من مظاهر التخلف في البلدان النامية، هي سبب لاستمرارالتبعيَّة للنظام الرأسمالي العالمي أم هي أثر من آثارهذه التبعية؟. هذا مع العلم أن مثل هذا التداخل بين السبب والأثر، هو مسألة موضوعية لا يمكن استبعادها، وإنما ينبغي فقط تفهمها واستيعاب حركتها الجدلية. فكما يقول هيجّنز “إنه من السهل جداً وضع قائمة بالخواص المميزة للبلدان المتخلفة، ولكن رغبتنا في عزل العلاقات السببية بهذه الطريقة لن تتحقق لسوء الحظ لأن لكل واحدة من هذه المميزات طبيعة البيضة والدجاجة، مما يجعل الفصل بين الأسباب والنتائج أقرب إلى المستحيل. (انظر: بروفسور سنتش، مرجع سابق، ص 45).

–    التداخل بين المنظورين: المطلق والنسبي للتخلف، أي هل استحقت هذه البلدان المسماة متخلفة، هذه التسمية فقط بالمقارنة مع الدول الأخرى المتقدمة (التخلف النسبي)، أم أنها مجتمعات متخلفة بالرغم وبغض النظر عن مقارنتها مع هذه الدول المتقدمة (التخلف المطلق)؟ . وأياً كانت الإجابة على هذا التساؤل فإنَّ هذا التداخل لا يمنع من جهة أن يكون مفهوم التخلف قد نشأ في أحضان النسبية (المقارنة بين الأنا والآخر) ولكنه أخذ فيما بعد طابعاً شبه مطلق، كما لا يمنع من جهة ثانية أن تقوم البلدان المتخلفة في المستقبل المنظور بكسر طوق هذا التخلف وردم تلك الهوة القائمة حالياً بينها وبين الدول المتطورة، ولا سيما في ظل هذا النظام العالمي الجديد، نظام العولمة المتوحشة الذي تضخمت فيه وبسببه أعداد كل من الأغنياء والفقراء على حد سواء إلى مدياتها غير الإنسانية وغير الأخلاقية، حيث أن “حصة الدخل التي تحصل عليها أغنى نسبة 1% من سكان العالم ، تعادل الحصة التي تحصل عليها أفقر نسبة 57%”كما أن “أغنى نسبة 10% من سكان الولايات المتحدة يعادل دخلها دخل افقر نسبة 43% من سكان العالم ، وبعبارة أخرى ، يعادل دخل 25 مليون أمريكي دخل مايقرب من بليوني نسمة” وبصورة أكثر تحديدا ، فإن “دخل أغنى نسبة 5% من سكان العالم يعادل دخل نسبة أفقر 5% من سكان العالم 114 مرّة”(أنظر: تقرير التنمية البشرة الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2002).

–    التداخل بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية والتي تتقاطع عملياً مع الإشكاليتين السابقتين، من حيث أن الخارج هنا هو بصورة أساسية الدول الرأسمالية المتطورة والمتقدمة على البلدان النامية، والتي بسبب أسبقية تطورها التكنولوجي وتسارعه، والناجم عما يطلق عليه الكاتب جدلية المدفع-المصنع، استطاعت أن تحتكر لنفسها التطور العلمي والتقني واللذين هما بالأصل حصيلة للتطور الحضاري العالمي بدءاً من الحضارات المصرية والعراقية والسورية القديمة، وانتهاء بالحضارةالعربية ـ الإسلامية، مرورا بالحضارتين الإغريقية والهلنستية، واستطاعت من جهة ثانية أن تحول دون حصول البلدان النامية على هذا التطور العلمي والتقني بقوة السلاح. وليس الاحتلال الامبريالي للعراق عام 2003، وقرار مجلس الأمن1747 بتاريخ (24 /03/2007) ضد البرنامج النووي الإيراني (مقابل الصمت المطبق على الترسانات النووية للدول المتطورة  نفسها، وعلى الترسانة النووية الصهيونية)  سوى التوكيد الملموس لهذه الحقيقة المرّة !! .
    يقول إيف بينوت حول هذه المسألة بحق: “إن البلدان التي بدأ الأوربيون يفرضون سيطرتهم عليها منذ النصف الثاني من القرن الخامس عشر لم يكن، ولم يكن باستطاعتها أن تكون آنذاك في حال من  الأحوال بلداناً متخلفة، وما كان يمكن أن تكون أيضاً موضوعاً لأي تصنيف تحتل فيه مرتبة دنيا…” .
    (إيف بينوت، مرجع سابق، ص11)

إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا استطاع هؤلاء الأوربيون أن يفرضوا أنفسهم على هذه البلدان؟ إن الجواب الصحيح على هذا التساؤل من وجهة نظر الكاتب هو:                    
                             
–    إن أوروبا (العامل الخارجي) عندما اقتحمت بلدان العالم غير الأوروبي، قد وجدت في أوضاع هذه البلدان (العامل الداخلي) عاملاً مساعداً على تحقيق مشروعها الامبريالي، ألا وهو “الاستبداد الداخلي”، وهكذا تم تزاوج الاستبداد الرأسمالي مع الاستبداد الداخلي، وكانت الثمرة الحرام لهذا الزواج غير الشرعي هو “التخلف” ذلك الابن المدلل للغرب الرأسمالي  منذ أن حط كريستوف كولومبوس قدمه على الأرض الأمريكية عام 1492وحتى يومنا هذا. (أنظر: هورالد نويبرت ، مرجع سابق ، ص 7 ـ 105).

– إن هذه البلدان الأوروبية ذات التطور العالي، كانت قادرة (كما يقول غ. ميردال) على التطور مثل جزر صغيرة وسط محيط واسع من شعوب متخلفة، وقد تمكنت من استغلال هذه الشعوب كمصادر للمواد الخام، وأسواق للسلع الصناعية الرخيصة، واستطاعت أن تبقيها تحت السيطرة الاستعمارية لهذا الغرض” (انظر: بروفسور سنتش، مرجع سابق، ص206)، بل وعملت على منعها من التطور، سواء عن طريق الاعتماد على الذات، أو عن طريق الاستفادة من التطور التكنولوجي والاقتصادي والسياسي الغربي، وليس بعيداً عنا ما فعله ويفعله بوش وبلير في العراق، ويفعلانه اليوم في إيران، من أجل الحيلولة دون تطورهما العلمي والتكنولوجي، كما سبق أن أشرنا.
    إن الإمبريالية العالمية تهدف وتعمل على إبقاء ثروات البلدان النامية المادية تحت تصرفها ، وإبقاء سكانها مجرد كائنات صالحة لاستهلاك منتجاتها، أي ان تفعّل مِعَدهم، وتشل أياديهم وأدمغتهم لتحول بينهم وبين أن يتحولوا إلى مواطنين عاملين ومنتجين بأنفسهم ولأنفسهم .

–    إنَّ هذا يعني أن مسؤولية تصفية الآثار السلبية لدور العامل الخارجي على الوضع الداخلي في البلدان النامية ومنها وطننا العربي إنما تقع على عاتق حكومات وشعوب البلدان المتخلفة نفسها بصورة أساسية، ذلك أنه إذا كان صحيحاً أنه لا تنمية ولا تقدم مع التبعية، فإنه صحيح أيضاً أنه لا يمكن تصفية التبعية مع وجود التخلف.

–   بيد أن نجاح البلدان النامية في مساعيها لكسرحلقة التخلف، سيكون محكوما بالمصاعب والإشكالات إذا ماستمرت الشروط الإقتصادية الدولية الراهنة، وإذا لم تغير الدول الصناعية موقفها وسياستها الإنمائية حيال هذه البلدان، وإذا لم توقف تصدير أزماتها إلى “العالم الثالث” (هارالد نويبرت ، نفس المرجع ، ص 90)

4 .مظاهر التخلف في البلدان النامية والوطن العربي:

إذا كان التخلف هو المرض، والتنمية هي العلاج، فإن صحة وسلامة وفعَّالية هذا العلاج، لا بد أن تكون مرهونة بالتشخيص العلمي والموضوعي والدقيق لحالة التخلف.
إنَّ مظاهر التخلف في البلدان المعنية كثيرة ومتداخلة ومتشعِّبة من جهة، وعلى درجات متفاوتة من الأهمية من جهة أخرى، ذلك أن بعضها يتعلق بالبناء التحتي (تخلف القوى المنتجة وبالتالي علاقات الإنتاج)، وبعضها يتعلق بالبناء الفوقي (أشكال الإدراك والوعي الاجتماعي)، بعضها قطري وبعضها قومي، بعضها يغلب عليه الطابع الاقتصادي وبعضها الآخر الطابع الاجتماعي والثقافي، بعضها قديم
عام يتعلق بكافة جوانب الحياة الاجتماعية، وبعضها يحتاج علاجه إلى فترة تاريخية طويلة حتى في حال توفر كل من النية والإرادة.
إننا نتفق هنا مع سمير أمين وشارل بتلهايم في ضرورة عدم التورط في سرد مطول وعقيم لمظاهر التخلف في البلدان النامية، حيث يمكن أن يؤدي اختلاط السبب مع النتيجة، والكم مع الكيف، والمهم مع العارض، الداخل مع الخارج إلى تضييع الطاسة، والابتعاد عن جوهر القضية. هذا مع العلم أن الكاتب يرجح استخدام تسمية البلدان النامية، بدل البلدان المتخلفة، ذلك أن تعبير البلدان النامية ينطوي بحد ذاته على بعد جدلي يشير إلى كل من التنمية والتخلف في آن واحد.   
 إنَّ هذا يعني أن مهمة الباحث الاجتماعي لا تتحدد بتشخيص المرض (التخلف) فقط، وإنَّما تتعدَّاه إلى وصف العلاج اللازم لهذا المرض (التنمية)، فإنَّه لا يجوز ولا يمكن وصف العلاج قبل التحديد الدقيق  والعلمي للمرض. وكذلك في حال التنمية فإنَّه لا يجوز ولا يمكن التكلُّم عن تنمية صحيحة في البلدان النامية, قبل التحديد العلمي والدقيق لطبيعة وظواهر التخلف الرئيسية في هذه البلدان، والتي تتمثل ـ من وجهة نظرنا ـ  بما هو آت:

–    تخلف القوى المنتجة، ولا سيما، عنصرها الأساسي “الإنسان” وهو أمر يجد تجسيده الملموس في تلك العلاقة غير المتكافئة بين الإنسان والبيئة الطبيعية التي يعيش فيها ومنها. لقد جاء في الأمثال العربية الدارجة، أنَّ “أهل مكة أدرى بشعابها” ونحن إذ نؤكد هذا القول, إنَّما نضيف إليه، ولكن غير أهل مكة(الغرب) هم أدرى من أهل مكة بما هو في باطن هذه الشعاب، بل إنَّهم هم من اكتشف النفط واستخرجه ونهبه ووظفه في إدارة عجلة صناعته وأعاده إلينا سلعاً جاهزة للاستعمال.

–    تخلف العلاقات الاجتماعية، والذي يتجسد في استمرار العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية والبطريركية والقبلية والطائفية، وفي حالة التفكك الاجتماعي وضعف التلاحم الوطني والموقف الرجعي من المرأة وهيمنة الانقسام العمودي (أنظر الشكل في الملحق) وغلبة العنصر الفلاَّحي على التركيب الاجتماعي للسكان.

– تخلف البنية الثقافية الذي يعتبر هنا سببا ونتيجة للانتشار الواسع للاميِّة الأبجدية والوظيفية ، وما يعنيه ذلك من تخلف حضاري وانقطاع عن روح العصر  وتبعية فكرية وثقافية وتعصب أعمى قبلي و/ أو  قومي و/ أو ديني بنتيجة هذه العزلة الفكرية عن الثقافات الأخرى . ويشير الجدول التالي إلى الفارق النسبي الكبير في معدلات الأمية بين البلدان النامية ، ولا سيما العربية منها ، والبلدان المتطوره:   

تطور معدلات الأمية في العالم %

الدول19701980199019952000
دول عربية70.76048.843.838.8
دول نامية51.941.832.629.626.3
دول متقدمة5.73.41.91.41.1
العالم3730.624.622.720.6

(المصدر: المجموعة الإحصائية السنوية لليونسكو 1999 ص 7-11 وما بعد)

–    تخلف البنية السياسية، المتمثل بتغييب دور الجماهير الشعبية، بهذه الدرجة أو تلك، وذلك لحساب طغم عسكرية و / أو مالية، زعماء تقليديين أو جدد، رجال دين، وأيضاً لحساب أشكال مختلفة من العصبية التي يعرِّفها ابن خلدون بأنها “النعرة على ذوي القربى والأرحام أن لا ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة … ” (المقدمة ص 225 – 226)

–  النتائج السلبية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمةعن ظواهر التخلف السابقة ، والتي يأتي في طليعتها : ضعف إنتاجية الفرد، تدني مستوى المعيشة، تفشي البطالة ولاسيما المقنّعة منها ، العلاقة غير السليمة وغير المتوازنة بين الرجل والمرأة (أنظر : الأمم المتحدة ،  يوم المرأة العالمي 2003 ، المساواة بين الجنسين … معلومات أساسية) ،  التأويل والتفسير السطحي لمبادئ الدين بصورة عامة ، ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف من قبل بعض رجال الدين المسلمين بصورة خاصة.    

5 . تحديد مفهوم التنمية :

إنَّ هذه السمات الأساسية للتخلف، هي واقع الحال سمات عامة يمكن العثور عليها – بهذه الدرجة أو تلك – في كافة المجتمعات، بيد أنها تكتسي في البلدان النامية طابعاً خاصاً، من حيث كثافتها وسعة انتشارها، ومن حيث أثرها السلبي على عملية التنمية في هذه البلدان. إنَّ مسألة التفريق بين العام والخاص تقودنا إلى ضرورة التفريق بين مفهومي النمو Growth والتنمية Development، من حيث أن النمو هو ظاهرة طبيعة اجتماعية عامة ومستمرة تتعلق أساساً بالتفاعل الدائم بين الإنسان والطبيعة من جهة, وبين  الأفراد والجماعات بعضهم مع البعض الآخر من جهة أخرى، وهي تشمل كافة المجتمعات المتقدمة منها والمتخلفة دون استثناء، أما مفهوم التنمية فإنَّه يشير إلى عملية النمو الخاصة بالبلدان النامية أي أنها شكل  نوعي خاص من أشكال النمو، اقتضته ظاهرة نوعية خاصة بهذه البلدان، هي ظاهرة التخلف  السائدة فيها باعتبارها – بشكل أساسي – إحدى العقابيل  الأكثر سلبية  للهيمنة الكولنيالية والامبريالية المباشرة و/أو غير المباشرة على هذه البلدان (التبعية) والتي ما تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا.
 إنَّ غياب الاتحاد السوفيتي في نهاية القرن الماضي قد عاد بهذه الظاهرة الاستعمارية إلى المربع الأول ،  على يد  المحافظين العالميين الجدد  في كولنيالية القرن الواحد والعشرين ، التي يمكن أن نطلق عليها كولنيالية مابعد الحداثة ، أو كولنيالية مابعد موسكو، والتي هي أشد خطرا على البلدان النامية ، بل وعلى العالم أجمع من كولنيالية القرن 19 .  
إنَّ مفهوم التنمية، وفق هذا التصوُّر، هو مفهوم حديث من جهة، وينطوي على بعد علاجي من جهة أخرى ويمكن  بالتالي تحديد عملية التنمية بأنَّها “تلك الإجراءات والعمليات المصممة بوعي من قبل المؤسسات والهيئات المعنية في البلدان النامية، من أجل تفتيح كافة الطاقات المادية والروحية الكامنة في مجتمعات هذه البلدان وتوجيهها في سبيل تحرير الفرد والمجتمع من سيطرة القوى الطبيعية والاجتماعية المعرقلة للتقدم، وإذن خلق الظروف المواتية للتطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الأمر الذي يفتح الطريق أمام ظهور مجتمع متوازن مادياً وروحياً، تنتفي منه كل أشكال معوقات التخلف ، ولا سيما معوق التبعية في صورتها الراهنة المرتبطة بقيام النظام العالمي الجديد” .
إنَّ تحديد مفهوم التنمية على هذا النحو، إنما ينطوي  تطبيقياعلى المبادئ التنموية التالية:

ـ ليست التنمية إسقاطاً للجانب الاقتصادي على الاجتماعي، ولا العكس، إنها عملية مركبة تلتقي على صعيدها شبكة من  العوامل والسياسات والإجراءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية المتساندة وظيفياً  والتي يمكن   أن يؤدي غياب واحدة منها، ولا سيما الجانب السياسي، إلى إضعافها وتشويهها جميعاً.

ـ إنَّ الإنسان / الكائن البشري هو الحلقة المركزية في عملية التنموية، ذلك أنه هو من يصنع ويطور أدوات الإنتاج،   انطلاقاً من حاجات ومصالح كل من الفرد والمجتمع، تلك الحاجات التي هي بدورها متطورة ومتغيرة، وبالتالي فهو  يطور نفسه (وعيه وملكاته وقدراته) عبر تطويره لمحيطه، وهي العملية التي عبَّر عنها ابن خلدون بقوله: “إنَّ العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة” .    (المقدمة، مرجع سابق، ص 67) ذلك أنَّ الإنسان بنظره متميزعن بقية الكائنات بالفكر وأنَّ هذا الفكر هو من يخلق العلوم والصنائع وبالتالي الحضارة والعمران(نفس المرجع ص 777)

ـ إنَّ كون الإنسان هو الحلقة المركزية في العملية التنموية، إنما يشير إلى أنَّ الإنسان هو غاية ووسيلة التنمية في آن واحد وبالتالي فإنَّ تنميته (تربيته، تعليمه، تأهيله) وإكسابه المهارات النظرية والعملية التي تجعل منه مواطناً فعّالاً وخلاَّقاً ومشاركاً في العملية التنموية، تعتبر الأساس الضروري لتجاوز حالة التخلف.

ـ  بيد أنَّ هذا الإنسان هو بنية مثلثة، فهو أوَّلاً، كائن بيولوجي، وبالتالي، عليه أن يأكل ويشرب وينام ويخرج …الخ.  أي ينتج ويعيد إنتاج نفسه بنفسه، قبل أن يشتغل بالعلم والأدب والفن والفلسفة، وحتى في السياسة. وهو ثانياً كائن  اجتماعي، بمعنى أن عملية تأمين حاجاته البيولوجية، إنما تتم عملياً عبر الجماعة ومعها، وذلك بواسطة التقسيم  الاجتماعي للعمل، والتعاون المشترك، وتكوين النظام والمؤسسات اللازمة لذلك. وهو ثالثاً كائن مفكِّر/واع، بمعنى  أن حياته الاجتماعية وحصوله على وسائل عيشه لا تتم بصورة غريزية أو عفوية، وإنما وفق تخطيط مسبق يتم  بموجبه تحديد الأهداف ومن ثمَّ طُرق الوصول إليها.

ـ إنَّ هذه البنية المثلثة للكائن البشري، تربطه، من جهة، بالمجتمع الذي يعيش فيه كمواطن ربطاً محكماً حيث أنَّ الغالبية العظمى، من آرائنا وميولنا، ليست من صنعنا، وإنما تأتينا من المجتمع كقوالب جاهزة ومسبقة الصنع، بما في ذلك اللغة والدين ومنظومة القيم السائدة … الخ (قارن: أميل دوركهايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، مكتبة النهضة المصرية . 1961 ص54) وتطرح من جهة أخرى على الفكر الفردي والجماعي التنموي إشكالية نظرية وعملية، تتمثَّل بالسؤال: “من سيُنمِّي من وكيف؟” وهي إشكالية تضعنا وجهاً لوجه أمام إشكالية أخرى، ألا وهي مسألة السلطة السياسية التي تقع عليها مسؤولية قيادة العملية التنموية، والتي عادة ما تملك مفاتيح : المدرسة (التنشئة الاجتماعية), والخزينة (المال)، والسجن (القوة)، وبالتالي مفاتيح القرار التنموي سلباً وإيجاباً.    

  ـ إنَّ التنمية مسألة وطنية داخلية، لا يمكن استيرادها، ولا فرضها من الخارج وذلك لسببين: الأوَّل، هو صعوبة أن يستطيع وعي تكوَّن في ظل ظروف اجتماعية مغايرة، أن يستوعب – انطلاقاً من بنيته الخاصة- الظروف  الاجتماعية لمجتمعات أخرى بصورة صحيحة وشاملة، والثاني هو أنَّ مفهوم التنمية ينصرف أساساً إلى الإنتاج  والإبداع الذاتي وليس إلى الاستهلاك والتقليد الأعمى، وهو ما يعني أنَّ تنمية القوى المنتجة المحلية وعلى رأسها  المواطن والاعتماد  على النفس إنما تقع في صميم مفهوم التنمية في البلدان النامية. إنَّ التنمية وفق هذا التصوُّر هي فرض عين على كل مواطن وليس فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الجميع، الأمر الذي معه تتكافأ التنمية واقعياً  بل وتتماهى مع  الديمقراطية ، أي أن الديمقراطية والتنمية يمثلان وجهان لعملة واحدة في البلدان النامية  .

ـ  التنمية عملية تاريخية تراكمية مستمرة ومتصاعدة تلتقي على صعيدها خبرات الأجيال الماضية مع خبرة الجيل  الحاضر، سواء على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي ،

ـ التنمية قضية إنسانية وأخلاقية، حيث لا يجوز (بحجة تسريع التنمية) استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، سواء ضمن الأمة نفسها، أو عبرالأمم، ولا أن يستحوذ الجيل الحاضر على نصيب الأجيال القادمة من الموارد والثروات الطبيعية   ولا سيما النافذة منها، كما لا يجوز أن تتم التنمية على حساب الإضرار بالبيئة و/ أو تشويهها (كما هي حال ثقب  الأوزون.أو استغلال الغابات بشكل عشوائي مثلاً)، ولا على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني.

ـ  إنَّ إشارتنا إلى أنَّ الإنسان الذي هو غاية ووسيلة التنمية في آن واحد ذو بنية ثلاثية الأبعاد (بيولوجي، اجتماعي، مفكر)، تضعنا أمام بعد خاص رابع يتعلق بمجمل الأبعاد الثلاثة السابقة، ويتمثّل هذا البعد، في أنَّ الإنسان المعني   قد يكون: رجلاً أو امرأة، طفلاً أو شاباً أو شيخاً، عاملاً أو عاطلاً عن العمل، معاقاً أو سليماً، متعلِّماً أو أميَّاً، فقيراً أو غنيّاً، مالكاً أو غير مالك، من الطبقة العليا أو الوسطى أو الدنيا، مسلحاً أو أعزل، مقيماً أو مهاجراً، حاكماً أو محكوماً، عاملاًً أو فلاحاً، طالباً أو معلِّماً، مستغِلاً أو مُستَغَلاً … الخ، وإذن فإنَّ الحقوق والواجبات التنموية المترتبة على هذا الإنسان / المواطن إنَّما تتحدد عمليا  بانتمائه إلى واحد أو أكثر من جوانب هذا البعد الرابع التي أتينا على ذكرأهمها أعلاه.

6 – الدور السلبي لمثقفي السلطة:

يمثل عنصر تنمية الوعي السياسي للمواطن – من وجهة نظر الكاتب- العنصر الأساسي والشرط المسبق لبقية عناصر التنمية (تعظيم الإنتاجية وممارسة الديمقراطية)، ذلك أن تغييب الدور السياسي للجماهير في البلدان النامية، كان وما يزال السبب والنتيجة معاً لتخلف الوعي السياسي لدى كل من المحكوم والحاكم. إنَّ ما تجدر الإشارة إليه بهذا الصدد، هو أنِّه إضافة إلى القوى الامبريالية والفئات الاجتماعية والاقتصادية المحلية المرتبطة بها، فإنَّ شرائح كبيرة من المثقفين غير العضويين (الأفندية / مثقفي السلطان) في البلدان النامية ولا سيما أولئك الذين تربوا على موائد وعوائد الدول الغربية، قد أسهموا في تنمية وعي مشوَّه وزائف لدى جماهير البلدان النامية، والتي في معظمها جماهير فقيرة وبسيطة وأميَّة. ويتمثّل هذا الوعي المشوّه والزائف بصورة أساسية ب.

–    إشاعة الطابع الاستهلاكي الغربي، القائم أساساً على استيراد المنتوجات الغربية الجاهزة.

–    تجاهل دور التبعية في خلق وإدامة التخلف وتشويه تاريخ وثقافة البلدان النامية.

–    محاولة سحب موديلات النمو التي تعلَّموها في الغرب بشكل ميكانيكي على عملية التنمية في بلدانهم.

– محاولتهم تنشئة الأجيال على صورتهم عبر سيطرتهم على مؤسسات التربية والتعليم والتأهيل والإعلام والقمع والتمويل     

–    إضعاف عنصر الإبداع الذاتي والاعتماد على النفس في بلدانهم بترويجهم ل “النموذج المثالي” الغربي الجاهز.
القبول بدور “مثقف السلطة” الذي يسخّر معرفته العلمية في خدمة النظام السياسي القائم، حتى في حال كون هذا النظام قمعياً وديكتاتورياً ومتعارضاً كلياً أو جزئياً مع المصالح المشروعة للأغلبية الساحقة من جماهير                      

7 – الدور المزدوج للأقليات في العملية التنموية :

يتميز التركيب الاجتماعي في البلدان النامية- كما سبق أن ذكرنا- بالتداخل والتشابك بين الانقسامين العمودي والأفقي  ، وغالباَ ما يخلق هذا التداخل والتشابك أمام العملية التنموية إشكالات اجتماعية وسياسية تتمثّل بصورة أساسية بالدور الذي تلعبه “الأقليات” (الدينية، الطائفية، القومية، اللغوية، القبلية، الفئوية، الطبقية، الجهوية) في الحياة العامّة للمجتمع، وبالتالي في العملية التنموية، من حيث أنَّ هذه الأقليات يمكن أن تلعب دوراً ايجابيّاً وبنّاءً عندما تكون في المعارضة (خارج الحكم)، بيد أنَّ هذا الدور الايجابي والبنّاء عادة ما ينقلب إلى نقيضه إذا ما تصادف أن وصلت إحدى هذه الأقليات إلى السلطة عن غير طريق الديمقراطية وصندوق الاقتراع، أي عن طريق الخداع أو القوة (قوة الجيش، أو قوة العصبية من أي نوع كانت)، وآية ذلك – من الناحيتين العلمية والعملية- أنَّ من وصل إلى الحكم عن غيرطريق الديمقراطية وصندوق الاقتراع، فإنَّ استمراره بالحكم لا بد وأن يكون رهناً بتغييبه واستبعاده هذين العنصرين من الحياة السياسية العامة (الديمقراطية وصندوق افقتراع), أي عملياً استبعاد الغالبية الساحقة (الأكثرية) من الشعب عن المشاركة في القرار السياسي وبالتالي عن كافة المجالات الأخرى ذات الصلة، ولا سيما المجالين الاقتصادي والثقافي.وليس بعيدا عنا مثال العديد من الحكام العرب في الماضي والحاضر الذين استعانوا على شعوبهم بالقوى الأجنبية أو بالأقليات المحلية ،  أو بهما معا.

8 – خصووصية الوطن العربي في مجالي التخلف والتنمية :

إنَّ الوطن العربي هو جزء من العالم الثالث، وهو خاضع من هذه الناحية لذات القوانين الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المسيرة التنموية لهذا العالم . وبالاستناد إلى مقولة “العام والخاص” الجدلية، فإنَّ الوطن العربي يمتلك هويته الخاصة وطابعه المميز، وإذن فإنَّ لظاهرة التخلف فيه، وبالتالي للعملية التنموية، أيضاً طابعها الخاص والمميز، والذي يتمثّل بصورة أساسية  بالآتي:

–    العلاقة الخاصة والمميزة بين العرب كأمَّة، والإسلام كدين,

–    التجزئة التي حالت وتحول دون التطابق بين حدود الأمة وحدود الدولة,

–    الحجم الكبير نسبياً لظاهرة الأقليات بمختلف أشكالها وأنواعها,

–    الدور الكبير الذي ما تزال تلعبه العلاقات القبلية والعشائرية في الحياة الاجتماعية والسياسية العامة,

–    القضية الفلسطينية بكل أبعادها القطرية والقومية والدولية,

–    النفط (والبترودولار الريعي المرتبط به) الذي لعب ويلعب دور مسمار جحا في جلب القوى الاستعمارية إلى المنطقة، والسماح لها بالتحكم بمصير الوطن العربي .
وإذا كنا نرى أنه كان وما يزال لكل من هذه الظواهر تأثيرها المباشر و/أو غير المباشر على العملية التنموية، فإننا نرى أيضا أنَّ بعضاً منها هو الذي لعب و يلعب الدور الرئيسي في هذه العملية (سلباً و/أو إيجاباً)  كما سنوضح ذلك لاحقاً.

9 – دور التجزئة القومية :

تتكوَّن الأمَّة العربية الواحدة من أكثر من عشرين دولة ودويلة جعلتها التجزئة والتبعية على درجات متفاوتة من التطور الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي ينطوي بحد ذاته على إعادة إنتاج هذه التجزئة والتبعية بل وتعميقهما، وإذن استمرار الدوران في الحلقة المفرغة التي تبدأ بالتخلف لتعود إليه. وإذا ما عرفنا أنَّ حجر الأساس في التنمية الشاملة هو “التنمية الاقتصادية”، وأنَّ جوهر هذه التنمية هو التصنيع وتطوير القطاع الزراعي، وأنَّ هذا التصنيع لا بد أن يقوم على أساس مجموعة من الصناعات الثقيلة التي لا تكون ذات جدوى اقتصادية إلاَّ ابتداءً من حجم إنتاجي معين – مليون طن من إنتاج الصلب مثلاً – (انظر: إسماعيل صبري عبد الله، في التنمية العربية، القاهرة 1982، ط2، ص 24  ـ 30)، إذا ما عرفنا كل ذلك، فإنَّه يبدو للعيان أنَّ حالة التجزئة القومية التي نحن عليها الآن، إنما تتكافأ إن لم نقل تتماهى مع حالة التخلف والتبعية، بل وتتعيَّش عليهما، إنَّها الضلع الأهم في مثلث التاءات الثلاث (التجزئة، التبعية ، التخلف) حسب تعبير نادر فرجاني (انظر:عن غياب التنمية في الوطن العربي، في عادل حسين وآخرين، التنمية العربية– الواقع الراهن والمستقبل، بيروت1984،ص32) .

هذا مع العلم أنَّه يمكن توسيع هذه التاءات إلى سبع، بحيث تشمل بالإضافة إلى تاءات نادر فرجاني الثلاث المذكورة أعلاه كلاً من التشرّد (تشرّد الشعب العربي الفلسطيني في الشتات) والتسلّط (غياب الديمقراطية السياسية والاجتماعية) والتشدُّق (المسافة الكبيرة بين القول والفعل أو بين النظرية والممارسة ولا سيما عند الحكام العرب)والتطرّف (اليميني منه واليساري) الذي يبتعد بالمرء وبالمجتمع عن الاعتدال والوسطية ، وربما يلقي بهما في أتون الإرهاب والتهلكة . إنَّ القضاء على التجزئة وفق هذه الرؤية هو ضرورة تنموية بقدر ما هي ضرورة وطنية وقومية .

10- دور الإستعمار الإستيطاني الصهيوني:

إنَّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لجزء من الوطن العربي (فلسطين)، إنَّما يمثّل – كما سبق أن أشرنا – مسمار جحا الحلف الامبريالي- الصهيوني، الذي تم ويتم من خلاله المحافظة على وجود وعلى استمرارية تلك السلبيات السبع التي ذكرناها أعلاه، ولا سيما التبعية والتجزئة، ركيزتا التخلف وتعطيل التنمية الأساسيتان، وذلك من خلال:
ـ فرض استهلاك قسم كبير من الفائض الاقتصادي وتوجيهه بدلاً من التنمية إلى شراء الأسلحة الخردة من الدول الصناعية “المتقدمة” والتي عادة ما يجري تنسيقها واستبدالها بخردة جديدة من الدول نفسها كل بضع سنوات، وضمن صفقات مشبوهة بين الأنظمة العربية المعنية وبين شركات صنع واحتكار السلاح الغربية. إنَّ جيوش ما تسمّى بدول الطوق العربية تستهلك من ميزانية الدولة, أي من ثروة المجتمع  منذ عام 1948 وحتى الآن أكثرمن نصفها،  مقابل سلسلة من الهزائم العسكرية المخجلة أمام “إسرائيل” والتي جعلت الحكام العرب المعنيين، يستجدون إسرائيل في   أن تعيد إليهم الأراضي التي احتلتها منهم عام 1967 مقابل أن يتبرّؤوا من فلسطين ومقدَّساتها الإسلامية والمسيحية   (الأرض مقابل السلام !!) ويرفعوا علم “أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل” فوق بيوتهم  بل وفوق رؤوسهم أيضاً(التطبيع) وليست مبادرة السلام التي ابتدأت سعودية في بيروت عام 2002 وانتهت عربية في الرياض عام   2007  سوى التعبير الملموس والمؤسف عن هذا الاستسلام العربي لإسرائيل وبالتالي للولايات المتحدة الأمريكية  وعلى  حساب فلسطين أرضاً وشعباً ومقدسات.

وحسب الدكتور علي عبد الباقي في مقال له استخرجناه من الحاسوب بعنوان “دعوة إلى إلغاء الجيوش العربية”  فإنه بالرغم من “أن الإنفاق على الأسلحة في العالم تراجع بعد انتهاء الحرب الباردة إلى 2.4 % في المتوسط عام 1996 إلاّ أن النسبة ظلت مرتفعة بين العرب عند 7.8 ، وفي عام 1997 أنفقت البلدان العربية 35.7 مليار دولار على الآسلحة ، وارتفع الرقم إلى 38.7 عام 1998” ويعلق صاحب المقال على هذه الأرقام بقوله   “وهكذا فإن العرب ينفقون على أغراض التسلح وشراء الأسلحة الجديدة من الدول الغربية بما يعادل 60 مليار دولار  سنوياً  سرعان ما  تتحول إلى “خردة” في المخازن أو في رمال الصحراء نتيجة عدم الاستعمال. في حين أن ميزانيات البحث العلمي في عموم الدول العربية لا تتجاوز 600 مليون دولار سنويًا، رغم أن الإنفاق على البحث العلمي من   الممكن أن  يساعد العرب على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مرحلة تاريخية معينة في إنتاج السلاح لو كان هناك تخطيط  إستراتيجي بعيد المدى لتعزيز استقلالية الإرادة الوطنية عن الغرب”  

ـ انتهاك الحياة الديمقراطية للمجتمعات العربية نتيجة سيطرة الجيش على الحياة السياسية والمدنية بحجة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” الصوت الذي ينطبق عليه المثل العربي المعروف “أسمع جعجعة ولا أرى طحناً !!”  بل إنَّ الجعجعة نفسها قد اختفت بعد هزيمة أنظمة الطوق عام 1967، لتحل محلَّها المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان والتي نأمل أن لا تخذلنا بدورها، كما خذلنا أولئك الحكام  المحسوبون زوراً وبهتاناًعلى أمَّتنا وعلى ديننا وعلى لغتنا وعلى تاريخنا .

ـ النتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية المترتبة على تشرد الملايين من أبناء شعبنا الفلسطيني في الشتات وبقاءهم بدون هوية أو وطن والمطلوب حالياً(بموجب مبادرة الرياض العربية ! التي لم ولن  يدخل عليها أي تعديل !!!) تجريدهم حتى من الأمل، أي من حق العودة الذي كفله لهم  القرار 194 الصادر في 11/12/ 1948 الصادر عن الجمعية العامة  للأمم المتحدة  وقبله القرار رقم  181 لعام 1947 الذي منحهم نصف أرض فلسطين بدلا من 20% القابلة للنقصان التي يتحسن  بها عليهم الآن مؤتمر القمة العربية في الرياض ، تحقيقا لرؤية بوش  المؤامرة ، والتي راينا ونرى آثارها المؤسفة والمؤلمة في المعاملة الهمجية واللاإنسانية للاّجئين الفلسطينيين في العراق من قبل حكومات وكلاء بوش بعد عام 2003 ، أي في ظل الإحتلال ، والذين تشهد مخيماتهم القائمة الآن على الحدود السورية العراقية والأردنية العراقية على صحة مانقول .

ـ تشكيل حاجز مادي بشري وجغرافي بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وما يعنيه ذلك من عرقلة فعلية لعملية  التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي بين أقطار هذا الوطن، تلك العرقلة التي لم تقم أنظمة الجامعة  العربية وعلى رأسها أنظمة “الصمود والتصدي !!”، بأي جهد حقيقي لتجاوزها وإفشال المخططات الامبريالية  التي راهنت على الدور الإسرائيلي في تعميق التجزئة
وضرب فكرة الوحدة العربية، وتعطيل عملية التنمية.

11. الدور المزدوج للنفط في عملية التنمية في دول الخليج:

وبدوره فإنَّ النفط قد لعب دوراً بارزاً ومتناقضاً في الحياة العربية. فظهور النفط والغاز بكميات كبيرة في بعض الأقطار العربية دون البعض الآخر، قد أضاف عاملاً جديداً إلى عوامل التجزئة القومية بقسمه الأقطار العربية إلى أقطار غنية وأخرى فقيرة من جهة، وإلى تشويهه العملية التنموية في الدول النفطية من جهة أخرى.
 إن النفط الذي هو ثروة طارئة وآيلة عاجلاً أم آجلاً للنفاذ، و ثمرته المتمثلة بالبترودولار الريعي الذي عرَّفه أحدهم بأنَّه “كل نوع من الدخل يحصل عليه الإنسان دون أن يتحمل في سبيله أي عناء” (انظر: مراجعة كامل الزهيري، الموسوعة الاشتراكية، مطبعة دار الكتب ببيروت، بلا، مادة ريع). قد وفَّر للدول النفطية عنصر التمويل الكثيف ولكن – مع الأسف –  غير المشفوع بالأيادي والعقول الوطنية، حيث كان وما يزال اكتشاف واستخراج وتحويل واستهلاك مادة النفط كله بأيادٍ وعقول أجنبية، الأمر الذي حال دون تحول المواطن في هذه الدول إلى إنسان منتج وفاعل في العملية التنموية وليس فقط مستهلكاً كسولاً لما ينتجه الآخرون!. إنَّ توفر رأس المال للتنمية هو “شرط لازم ولكنَّه ليس كافياً” على حد تعبير يوسف صايغ (انظر: يوسف صايغ، مقررات التنمية الاقتصادية العربية، الجزء الثالث، بيروت 1985، ص 95- 97).
ويتمثَّل الخلل في العملية التنموية في الدول النفطية، ولا سيما دول الخليج العربي، بصورة أساسية ب:

ـ لقد أدى التضخم الريعي السرطاني المتواصل لعائدات النفط في الدول المعنية إلى تضخم سرطاني مقابل استيرا د السلع الاستهلاكية الأجنبية، وخاصة من الدول الرأسمالية، علماً أنَّ هذا الاستيراد غالباً ما تركز على السلع الكمالية دون الحاجيّة، وأدى إلى سلوك استهلاكي بذخي اتكالي واغترابي للفرد والمجتمع، وإذن إلى مزيد من التبعية والارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي.

ـ لقد أصبح الريع المتأتي عن تصدير النفط الخام في الدول المعنية هو المصدر الوحيد لتغطية الإيرادات، وهو ما أخلَّ إخلالاً خطيراً بالآلية الاقتصادية في المجتمع، وجعل العلاقة بين مستوى إنتاجية أفراده ومستوى استهلاكهم علاقة شبه معدومة على حد تعبير الدكتورعلي خليفة الكواري.(انظر : مجلة دراسات عربية، نوفمبر 1987، ص 30)

ـ  إنَّ هذا الخلل في العملية التنموية في الدول النفطية / الريعية، وخاصة في منطقة الخليج العربي، أدى إلى أن   تتحول الدولة – العشيرة في هذه المجتمعات إلى المصدر الرئيسي لتوزيع الدخل النفطي، الأمر الذي أدَّى إلى خلل اجتماعي- اقتصادي، تمثَّل في قيام السلطات القبلية الحاكمة في هذه المجتمعات ببناء قاعدة تحتية خدمية واسعة وحديثة ومعتمدة على الخبرة الأجنبية أساسا، دون أن يؤثر ذلك على العلاقات الاجتماعية القبلية السائدة، ذلك إنَّ العنصر المحرَّك لهذه العلاقات ليس هو الإنتاج (الذي هو بيد الأجنبي) وإنَّما هو توزيع عوائد هذا الإنتاج على السكان / المواطنين، وهو حصراً بيد الدولة ـ العشيرة  التي نصّبها هذا الأجنبي. لقد عبر الدكتور محمود عبد الفضيل عن مثل هذا النوع من الإقتصاد باقتصاد الفقاعة،والذي يجد نموذجه الأمثل في الثورة الإسمنتية التي تجسدالفقاعة التنموية في دبي .

ـ إنَّ الاقتصاد المعتمد على تصدير سلعة بعينها كسلعة النفط، لا بد وأن يكون اقتصاداً تصديرياً مفتوحاً ترتبط فيه التنمية المحلية صعوداً وهبوطاً مع اتجاهات العرض والطلب العالمية على النفط .

ـ اتساع الهوَّة الثقافية بين الواقعين المادي والروحي لكل من الفرد والمجتمع . من حيث أنَّ الواقع المادي في دول البترودولار الغنية بات أقرب إلى الحداثة (المنتجات التكنولوجية بمختلف أنواعها وأشكالها) بينما ظلَّ الواقع الروحي (العادات والتقاليد ومنظومة القيم السائدة) أقرب إلى مرحلة المجتمع التقليدي السابق على التشكيلة الرأسمالية.                                                                                                                                                                                                                                                                       
ـ لقد وظفت أموال النفط في العديد من الدول النفطية ، ولاسيما في بعض دول الخليج ضد حركات التحرر الوطني العربية العربية عامة ، وضد المقاومة الوطنية  الفلسطينية بالذات ، الأمر الذي اوقع هذه المقاومة في براثن مؤتمرات القمة العربية ، والتي كان آخرها مؤتمر الرياض الذي استبدل لاءات  الخرطوم الثلاث المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي     (لااعتراف ، لاصلح ، لاتفاوض) بنعمات جديدة ثلاث تفوح منها رائحة النفط  ونتن الإستسلام والذل هي : (نعم لحق إسرائيل في 80% من أرض فلسطين ، نعم لاستجداء التفاوض معها ، نعم للسلام كخيار استراتيجي عربي) ، أي عمليا نعم للتنازل عن كافة قرارات الأمم المتحدة الإيجابية وشبه الإيجابية ، المتعلقة بالقضية الفلسطينية ، ولا سيما القرارين 181 لعام 1947 (قرار التقسيم) ، وقرار 194 لعام 1948 (حق العودة).

ـ كما تم توظيف هذه الأموال ، بصور مختلفة ، مباشرة و/ أو غير مباشرة  في امتصاص النفس الثوري عند العديد من الكوادر والمنظمات اليسارية، وتحويلها بشكل مدروس إلى نوع من خدام السلاطين!!. (لقد عقد أحد أجنحة الحزب الشيوعي السوري مؤتمره السنوي في دمشق، تحت شعاريعلن تأييد الحزب  للديكتاتور حافظ الأسد !!، كما أن الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي قد كان وما يزال عضوا بارزا وفعّالا في كل الحكومات الطائفية التي فبركها الأمريكيون المحتلون بعد عام 2003)

12- الدور المزدوج للتراث في العملية التنموية :

إنَّ الجزء الأكبر من خصوصية ثقافة ما، إنَّما يعود إلى التاريخ الخاص بهذه الثقافة. وبالنسبة للأمَّة العربية فإنَّ أحداً لا يستطيع أن ينكر، أنَّ هذه الأمة قد سجلت ذات حقبة من تاريخها وعبر صلتها العضوية بالإسلام حضوراً حضارياً عالمياً بارزاً أكسب ويكسب أبناءها الثقة بالنفس، ويجعلهم أكثر قدرة على رفض واقعهم المشوه والمتخلف وبالتالي تجاوزه إلى واقع نهضوي جديد أفضل وأرقى، يقوم على الربط الجدلي المتين بين الماضي والحاضر والمستقبل وبالذات بين العروبة والإسلام.
إننا إذا كنا نتفق مبدئياً مع محمد عابد الجابري، في أنَّ الخطاب العربي المبشر بالنهضة، هو خطاب توفيقي متناقض محكوم ب “سلف” (انظر: م.ع. الجابري تكوين العقل العربي، بيروت 1985، ط2، ص 13)، فلا بُدَّ أن نشير إلى أنَّ مسؤولية ذلك الخطاب التوفيقي المتناقض لا تقع على  السلف، وإنَّما على عاتق “الخلف” فالموروث الثقافي لأي أمة أو جماعة عادة ما ينطوي – بحد ذاته- على النقيضين “الحفز والإعاقة” وتقع على الجيل الحاضر مسؤولية التعامل مع هذين الحدين بشكل عقلاني وموضوعي، وبما يؤدي إلى توظيف هذا الموروث الثقافي في خدمة عملية التطور الاجتماعي والاقتصادي ودفعها نحو الأمام والأعلى وليس العكس، ورحم الله ابن خلدون الذي أطلق على كتابه الشهير اسم “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ..”، مشيراً بذلك إلى أنَّ العودة إلى التاريخ/الماضي إنَّماهو لأخذ العبرة فقط، أي لتجنُّب الأخطاء والعثرات التي سبق أن وقع بها من سبقنا، وهو ما يساعدنا على أن تكون خطواتنا نحو مستقبل أفضل أسرع وأرسخ من خطوات آبائنا وأجدادنا، ولا سيما بعد التخلص من نير التبعية، والعوائق الكولنيالية البغيضة. لقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله (ص) “أرى الرجل فيعجبني ، فإذاقيل لي لاصنعة له سقط من عيني” ، وقوله في يد اخشوشنت بسبب العمل “هذه يد يحبها الله ورسوله” وقوله في الحض على العلم والتعلم  “أطلب العلم ولو بالصين” ألا تصلح مثل هذه الأحاديث النبوية ،وغيرها الكثير الكثير  ، لكي تكون منطلقا تراثيا أصيلا لتنمية عربية معتمدة على الذات وتربط بين الماضي والحاضر والمستقبل ربطا عضويا متيناً وخلاّقا يرتكز إلى مايمكث في الأرض ، اي إلى ماينفع الناس  وليس إلى الزبد الذي سيذهب هباء .

13. الجوانب السلبية في علاقاتنا الإجتماعية وأثرها على التنمية:

إنَّ إشارتنا إلى الجانب الايجابي من تاريخنا وتراثنا (عوامل الحفز) لا تمنعنا من الإشارة في ذات الوقت إلى الجوانب السلبية في هذا الماضي وهذا التراث (عوامل الإعاقة)، والتي يمكن تحديدها على النحو التالي:

ـ إنَّه بنتيجة دخول العرب في مرحلة ما سميَّ بـ “عصر الانحطاط” الذي شهد ابن خلدون بداياته، ووصفه بقوله “وكأنَّي بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة”  (المقدمة، مرجع سابق، ص 53)  أخذ الوعي العربي يعوذ بالماضي، حيث “العصر الذهبي” الأمر الذي أدَّى إلى ضمور حس الحاضر والمستقبل عند الفرد العربي والأمة العربية. إنَّ لحظة الماضي لا بد أن تكون  مرتبطة ارتباطً عضوياً بلحظتي الحاضر والمستقبل، وعندما تتراخى هذه الصلة بين أضلاع هذا المثلث الجدلي (الماضي ـ الحاضر ـ المستقبل) عند شعب ما، فإنَّ ذلك سوف يكون بالتأكيد على حساب الحس الاجتماعي والتاريخي السليم لذلك الشعب .                                                 
هذا و تتجسَّد ظاهرة ضمورالوعي الاجتماعي والحس التاريخي في المجتمعات العربية بصورة أساسية بـ :

ـ هيمنة العلاقات الاجتماعية العمودية (العصبيات القبلية والدينية والطائفية والإقليمية) وذلك على حساب الوعي القومي والديني السليم، المنفتح على كافة القوميات والأديان الأخرى من جهة، وعلى حساب الترابط المصلحي ذي البعد الطبقي المشروع (أخوة المستضعفين في الأرض) من جهة أخرى.

ـ الدور السلبي الذي يلعبه جزء من نظام القيم السائدة، والذي لخصه الدكتور حليم بركات بالتالي: “انطلاقاً من إيديولوجية عائلية هرمية على أساس الجنس والعمر (الأب معيل والنساء والأبناء عيال) تعمم دور الأب إلى العمل .. والتربية والسياسة والعبادة (الأستاذ والحاكم ورجل الدين آباء والتلاميذ والمواطنون والمؤمنون أبناء)  ،  (حليم بركات المجتمع العربي المعاصر، بيروت 1984 ص448) .

ـ  ويدخل في إطار الجانب السلبي الذي يلعبه الموروث الثقافي العربي  ظاهرة البطرياركية، التي سمحت لنصف  المجتمع (الرجال) أن يتسلط على نصفه الآخر(النساء) تحت ذرائع وحجج ما أنزل الله بها من سلطان، مع ما لهذه الظاهرة من أثر بالغ السلبية على العملية التنموية ككل.

ـ إنَّ علينا أن نعترف دونما وجل أو خوف، أن جانباً من ماضينا ما عاد صالحاً لحاضرنا ولا لمستقبلنا، ولا بد لنا من تجاوزه، وأن جانباً آخر من هذا الماضي ما يزال مفيداً لحاضرنا ومستقبلنا ويمكن بل ويجب استلهامه ، وأن جزءا ثالثا مايزال ضروريا لحاضرنا ومستقبلنا وينبغي علينا تبنيه ، سواء في حياتنا الاجتماعية عامة  أو في العملية التنموية خاصة ، متفقين في هذا مع تصور مماثل للدكتور الطيب تيزيني (أنظر : الطيب تيزيني ، من التراث إلى الثورة ، داردمشق  ، دمشق 1979 / الفصل الخامس ، ص  721 ـ 798)  .

14.التحدي القوي والإستجابة الضعيفة:

إنَّ ضمور كل من الحس التاريخي والحس الاجتماعي عند العرب في عصر الانحطاط، قد أدى إلى ضمور الحس القومي لديهم أيضاً، وهكذا حين فاجأهم التحدي الأوروبي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكان أكبر وأقوى من إمكاناتهم بما لا يقاس، كانت استجاباتهم على هذا التحدي، بما فيه تحدي اتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور ، عاجزة ومحدودة تجسدت بصورة أساسية بـ :

أ ـ الهروب إلى الوراء حيث السلف الصالح والعصر الذهبي الذي كان فيه آباؤهم  يثيرون رعب آباء الذين يحكمونهم ويتحكومون بمصيرهم اليوم(التياران القومي والإسلامي)(أنظر: فرانس فانون ،معذبو الأرض ،بيروت 1963ص200)

ب ـ الهروب إلى أمام  ذات اليمين و ذات اليسار حيث  النموذج المثالي الأوروبي الجاهز للتنمية والتقدم (اللتياران  الليبرالي  والماركسي)   

ج ـ   الدوران حول الذات في ظل شعارات ومواقف تتراوح بين التوفيق والتلفيق (جماعة الطريق الثالث المتنوعة) .
 وهكذا وفي ظل هذه الإستجابة  الضعيفة والمرتبكة وغير الموحدة ، وغير العلمية ، بل وأحيانا غير الوطنية  لتحدي التفوق الأوروبي ترسخ في وعي الإنسان العربي بهذه الدرجة أو تلك وبهذه الصورة أو تلك  قيم التبعية والتسلط والتجزئة على  حساب قيم الوحدة والديمقراطية والاعتماد الجماعي على النفس.    

15. الأنظمة العربية والتقدم نحو الخلف:

في ظلِّ هذا المناخ والأرضية الملائمة، اجتاحت المدافع والبضائع والمطابع الأوروبية البلاد والعباد، فترسَّخت التجزئة وترسَّخت التبعية، وترسخ بهما ومعهما التخلف  وكان وعد بلفور، وكانت إسرائيل. ولمَّا كان لا بد للمحافظة على هذا الوضع الشاذ والغريب من أداة حكم محلية، تقبل بالتبعية وترعى قيم التخلُّف، وتزيِّف الوعي الفردي والجماعي، وتبقي الأبواب والنوافذ مفتوحة بين الذئب والحمل، فكانت الرجعية العربية والتي تمددت بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر لتشمل كافة النظمة العربية من المحيط إلى الخليج ، ولاسيما كامب ديفيد أنور السادات ،  وحركة حافظ الأسد التصحيحية ، وأوسلو محمود عباس ، ووادي عربة صاحب الجلالة ، وحكومات المنطقة الخضراء الطائفية في بغداد.                                                                                 
إنَّ مفهوم الرجعية العربية يتسع في مفهومنا ليشمل كل الطبقات والفئات والقوى والأنظمة والعناصر الطفيلية  المستغِلِّة والمتسلِّطة ، التي تعيش على حساب الجماهير العربية الفقيرة والكادحة، وترتبط بسبب هذا ومن أجله – بصورة أو بأخرى- بالمشاريع الامبريالية العالمية عامة وببريطانيا العظمى والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وتلتقي مع هذه الامبريالية في معاداة كل من الديمقراطية والوحدة العربية وأيضاً في حرص الطرفين على ديمومة ظاهرة التخلف بوصفه العمود الفقري الذي ترتكز إليه منظومة القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية المرتبطة بهذه الظاهرة في الوطن العربي. إنَّ الديمقراطية هي أقصر الطرق إلى التنمية السليمة، ولذلك فإنَّ أنظمة الأقليات القبلية والدينية والطائفية والعرقية تُعتَبر النقيض الموضوعي للديمقراطية وللتقدم ، وبالتالي للعملية التنموية في كافة البلدان النامية، وهي تدخل حكماً تحت مفهوم الرجعية، حتى ولو رفعت شعارات تقدمية على سبيل التضليل والتدليس.                                                       

16.الجامعة العربية والصعود إلى الصفر:

لقد صدر عن جامعة الدول العربية، قبل أن تشيخ وتتحول إلى جثة شبه هامدة، ولا سيما بعد هزيمة 1967 ووفاة جمال عبد الناصر عدداً من المواثيق والاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ذات الطابع القومي، والتي تبين لنا بعد أن قمنا بقراءتها:

ـ أنِّها مجرد حبر على ورق، لأنَّها مقرَّة أصلاً من قبل الأنظمة المسؤولة عن التجزئة والتبعية والتخلف، ولأنَّ هذه الأنظمة إياها هي المسؤولة عن تنفيذ هذه المواثيق والاستراتيجيات على قاعدة “حاميها حراميها”.

ـ تعكس هذه المواثيق والاستراتيجيات الطبيعة التوفيقية والتلفيقية لفكر السياسي العربي المتربع على سدَّة الحكم، التي تتمثل في تلك المسافة التي تتسع يوماً بعد يوم بين القول والعمل، بين النظرية والممارسة  في سلوك وفي أخلاق معظم  الحكام العرب الحاليين .
إنَّ جامعة الدول العربية هي جامعة حكومات وأنظمة غير شرعية، لأنَّها ليست منتخبة من الشعب، وإنَّما وصلت إلى الحكم عن طريق التسلط الأقلياتي القبلي و/أو الطائفي و/أو الديكتاتوري العسكري، بغض النظر عن محاولة حجبها لهذا التسلط خلف ستار من الإيديولوجيات والشعارات الكاذبة ، ولهذا فإنه ليس من المنتظر من جامعة من هذا النوع أن تخرج الزير من البير ، ولا سيما أن إنشاءها على هذا النحو قد تم بفعل الدول الإستعمارية التي جزّأت الوطن العربي بعد الحرب العالمية الأولى ، ومن ثم
رسّخت هذه التجزئة بإنشاء جامعة الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية  كستار لتمرير هذه التجزئة ـ المؤامرة (أنظر محمد الزعبي ، دفاعا عن نظرية المؤامرة ، صحيفة القدس العربي ،30 / 04 / 2002)  
(لقد استعرنا عبارة الصعود إلى الصفر من عنوان كتاب  لفيصل حوراني يحوي هذه العبارة)                 

17. مفاتيح المثلث التنموي:

إنَّ التنمية هي مسؤولية جماعية . وتشير تجارب الشعوب والأمم إلى أنَّ من يملك مفاتيح مخزن السلاح، هو الذي يملك عملياً مفاتيح القصر الجمهوري أو الملكي (السلطة)، ومن يملك مفاتيح السلطة، هو  الذي يملك مفاتيح مثلث التنمية ممثلاً بالمدرسة والمزرعة والمصنع، ذلك أن بيده من جهة، سلطة وضع القرار ومن جهة أخرى سلطة تنفيذ هذا القرار. إنَّ استقراءً موضوعياً للتاريخ السياسي والاجتماعي العربي بعد سقوط بغداد الأوَّل عام 1258 بيد هولاكو، والثاني عام 2003 بيد جورج دبليو بوش، يشير إلى أنَّ هذه المفاتيح الأربعة كانت في كثير من الأحيان بيد “الأجنبي” إمَّا مباشرة (كما هي حال فلسطين والعراق اليوم)، أو مداورة (كما هي حال بقية الأقطار العربية دونما استثناء).
إنَّ عدم وجود هذه المفاتيح الأربعة، ولا سيما الأوَّل (السلطة) منها بيد الجماهير العربية، كان وما يزال السبب الجوهري الكامن وراء وجود ودوام ظاهرة التخلف، الأمر الذي يعني أنَّ إنهاء ظاهرة التخلف في الوطن العربي يستلزم أن تستنفر وتنظم الجماهير الشعبية نفسها، في حملة وطنية حاسمة، تستعيد بها دورها المشروع في أن تقرر مصيرها بنفسها ولنفسها مستعيدة بذلك مفاتيح مخزن السلاح ومعها مفاتيح المدرسة والمزرعة والمصنع، أي مفاتيح التنمية الوطنية المعتمدة على الذات، والتي ستردم بأسرع وأقصر السبل الهوة القائمة حالياً بين الدول النامية والدول المتطورة إلى غير رجعة.
إن محاربة الإحتلال الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي لكل من فلسطين والعراق ، وهو ماتقوم به المقاومة الوطنية في هذين البلديين العربيين بكافة أجنحتها وفصائلها ، إنما يمثل حجر الأساس في إخراج الأمة العربية من هذا النفق المظلم الذي مابرحت تعيش فيه بشكل أو بآخر ، بدرجة أو بأخرى،  منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم .

                                                        الملحق :
                                    (أنظر المخطط والشكل في الصفحة التالية: 20)

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial