نصر حامد أبو زيد: الإنسان والعالِم.. من قُحافة الميلاد إلى قُحافة الممات بقلم عبدالله آل تويّه

يقدم الباحث العماني هنا أول كتاب كامل عن المفكر الراحل، يتتبع فيه مسيرته الحياتية والعلمية، ويعرض في سلاسة ووضوح باهرين أكثر أفكاره تعقيدا وكثافة، كاشفا عن إضافاته الفكرية والمنهجية، وعن مشروعه العلمي الكبير، فضلا عن الجوانب الإنسانية الحميمة في شخصيته فنشعر مع الكتاب حقا بفداحة الفقد وحرارة الوداع. (مجلة الكلمة).

     «أنا أحب الحياة وأتمنى قبل أن أموت أن أنظر في عيون أحبائي وأقول لهم وداعاً»
     «يكون الإنسان حيّاً فقط عندما يكون عقله يقظان”(1)
     «لا أريد أبداً أن أعطي انطباعاً بأنني ضد الإسلام، أنا بعيد عن ذلك. ولا أريد أيضا أن أعطي انطباعاً بأنني سلمان رشدي جديد. أنا لست كذلك. إن أسوأ ما أخشاه هو أن يعتبرني الغرب ناقداً للإسلام. هذه الصورة ليست دقيقة بالمرة. أنا معلم وعالم ومثقف وباحث. إن دوري هو إنتاج المفاهيم. إنني أتعامل مع القرآن بوصفه نصّاً موحى من الله إلى النبي محمد. ذلك النص وصل إلينا بلغة البشر، اللغة العربية. بالنظر إلى أبحاثي أنا ناقد للخطاب الديني الإسلامي. [من ضمن أهدافي] هو أن أظهر كيف تستخدم المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الدين من أجل الوصول إلى السلطة. إن كتاباتي تهدد بعض أولئك الذين يوظفون تلك السلطة. ومع ذلك فأنا أعد نفسي مسلماً. ولدت مسلماً، وتربيت مسلماً، وأعيش مسلماً، وإن شاء الله سأموت مسلماً” (2) .
     «إذا نظرت إلى المجتمعات العربية والإسلامية، فإنك سترى غالباً أن كل الحكومات جاءت إلى السلطة من دون اختيار الناس لها. وستجد – في الغالب – نظاماً عسكريّاً وعوائل مالكة عفا عليها الزمن ]واقفة[ على رؤوس الشعوب، أو حاكماً ورث السلطة من سلفه. وفي بعض الأحيان تطل السلطة الحاكمة الجديدة باسم جديد ومظهر حداثي: كل ما عليك فعله –في هذه الحالة- هو أن تنبش بأظافرك في قشرة هذا الاسم والمظهر الحداثي الجديدين وسترى نفس الوجه القديم مخبّأً تحت القشرة. العقلية القبلية لا تزال حية وفي أتم عنفوانها. القاعدة هي الطاعة. إن كل مؤسساتنا -السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية- ذات بنية سلطوية. إن عليك إما أن تنتمي إلى اليمين وإما إلى اليسار- وبالتالي فإن عليك أن لا تعصي قاعدة قبيلة المثقفين التي تنتمي إليها أيا كانت. إنها حالة مزرية».(3)

     “بقدر ما أنا ضد الأصولية الدينية أنا ضد الأصولية في أي نظام فكري آخر … العلمانية قد تكون أصولية، الليبرالية قد تكون أصولية، أي ادعاءً بامتلاك الحقيقة ضد أي ادعاء آخر مماثل أعتبره شكلاً من أشكال الأصولية … عليّ أن أقول إنني أتعلم الكثير من طلابي، أنا أشجع طلابي على أن يكونوا نقديين لأفكاري. إنه من دون هذا النقد المتواصل لن تتطور الأفكار. لا أريد من طلابي أن يقلدوني، لا أريد أن أكون إماماً. أنا عالم وأي نتيجة أتوصل إليها من المفترض فحصها… وكم أكون سعيداً حين أرى في رسائل طلابي للماجستير والدكتوراه نقداً لأفكاري. أنا أشجعهم على ذلك. لا أحد يستطيع ادعاء المعرفة المطلقة وإلا سنخلق أصولية أخرى»(4) .

المحتوى:
(1)    من القرية إلى الجامعة: الشاعر والمفكر
(2)    في المنهج
(3)    «المعنى» و«المغزى» في القرآن: حرية المعتقد وإنسانية المرأة
(4)    القرآن: الله والإنسان في اتصال: جامعة ليدن تكرم أبو زيد
(5)     أبو زيد وأركون والعلماء المسلمون والغرب يواصلون الدرس القرآني
(6)    أبو زيد يعيد التفكير في القرآن: القرآن من «النص” إلى «الخطاب”
(7)    العلماء المسلمون يعيدون التفكير في تراثهم: الإصلاحيون وإسلام البداوة
(8)    الدولة الدينية والديكتاتورية والفساد والمثقف والمواطن
(9)    «التفكير في زمن التكفير»: أبو زيد يهزم مكفريه
(10)    أبو زيد ونقد الغرب
(11)    رؤية العالم في القرآن: وضوح أم غموض؟
(12)    رحيمة وابتهال وبدرية وكريمة وآيات ومحمد
(13) أبو زيد كما عرفته
* * *

      الكتابة عن الموت صعبة جدّاً وقاسية ومؤلمة. الكتابة عن رحيل أبو زيد أكثر صعوبة وأكثر قسوة وأكثر إيلاماً. سيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل قول كل شيء عن لحظة وفاة أبو زيد في الخامس من يوليو 2010م في القاهرة. لقد كان خبر وفاته مفاجئاً وفاجعاً ومؤلماً إلى أبعد الحدود، ذلك أنه غادر الحياة باكراً جدّاً جدّاً ولم يفرغ بعد من كتابه الأخير حول نظريته الجديدة في التأويل القرآني: القرآن: من النص إلى الخطاب. ناهيك عن مشاريع فكرية أخرى عن القرآن كان أهمها مشروعه الكبير المشترك مع زميله وصديقه الدكتور علي مبروك – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة – لتأسيس المعهد الدولي للدراسات القرآنية في إندونيسيا، ومشروع ترجمة الموسوعة القرآنية الصادرة في هولندا مؤخرا إلى اللغة العربية. ومع رحيل أبو زيد يكون العالم الإسلامي والغربي قد خسرا واحداً من أهم علماء القرآنيات والإسلاميات العلمانيين وأبرزهم اليوم في العالم قاطبة. لكن خسارة الوطن العربي ومصر على وجه الخصوص لنصر حامد أبو زيد كانت متواصلة في حياته وحتى مماته. لقد كان تكفيره في عام 1993م واتهامه بالردة أكبر تشويه وتزييف للوعي العام حول كتاباته وأفكاره وبحوثه العلمية، عن القرآن بصفة خاصة والتراث الإسلامي بصفة عامة. ولأن العالم العربي لا يقرأ ولا ينتج معرفة، فقد كان كافياً وَصْمُهُ بالمرتد والكافر في عام 1993م، من قبل الإسلام السياسي ومشايخ كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، لقتل صورته الحقيقية التي حُجِبَ أكثر تفاصيلها عن الوعي العام بل وكذلك النخبوي.


     اليوم، بعد رحيل عالم القرآنيات الأميز والأبرز في العالم، الصورة لا تزال مشوهة ومفبركة ومزورة عن نصر حامد أبو زيد. لكنْ هل تحققت أمنية أبو زيد في النظر إلى عيون أحبائه وتوديعهم قبل الرحيل الأخير؟ إنني أشك في ذلك كثيراً، ذلك أن المرض الفجائي الذي ألم به لم يمهله طويلاً كي يقول وداعاً. غادر أبو زيد إندونيسيا إلى مصر قبل انتهاء مهمته هناك التي كان من المفترض أن تنتهي في نهاية يونيو الفائت. هل أحس باقتراب موعد الرحيل؟ هل أراد أن يكون أقرب إلى قُحافة – مسقط رأسه – من أي مكان آخر ليُوارى الثرى هناك؟ لكن المؤكد هو أن صديقه علي مبروك يعرف تفاصيل كثيرة عن حيثيات ما جرى في حياته في الأسبوعين اللذين سبقا رحيله إلى عالم الملكوت. ويكفي هنا اقتباس ما له دلالة في هذا السياق من كلام الدكتور علي مبروك، ويالها من دلالة! فحتى علاج أبو زيد في مصر تدور حوله استفهامات كبيرة!: «لا أستطيع الحكم على أي كلام طبي، ولكن عندما تركته لأول يوم في المستشفى كانت حالته لا بأس بها، فقط لحظات قليلة يبتعد فيها ثم تصبح حالته على ما يرام. وعندما جئنا من المطار كان يتحدث مع السائق بشكل طبيعي جدّاً. لا بد لي من الإشارة إلى أن الخدمة الطبية في مصر سيئة فعلاً، يكفي أننا قضينا عشرة أيام في المستشفى في حالة عدم يقين. لم نكن نعرف مما يعاني نصر بالضبط. الأطباء كانوا يضعون فروضاً ويختبرونها، وكل فرض يقومون باختباره ليومين أو ثلاثة أيام،. قيل إنه يعاني من فيروس، وقيل جلطات صغيرة في الرأس ومالاريا والتهاب سحائي. يبدو أن الانهيار الذي أصابنا في كل المناطق لم يستبعد المجال الطبي.” ويضيف علي مبروك: «لم يدخل أبداً في غيبوبة. حتى الفترة التي انفصل فيها عن العالم، كان ما يزال يتحرك ويفتح عينيه،وجسمه كان يقوم بكل وظائفه الحيوية. أتصور أن معدل الانهيار في إندونيسيا كان أقل منه في مصر، على الرغم من تعاطيه للأدوية التي كان يفترض أن تساعد جسمه على مقاومة الفيروس. عبرت للطبيب عن هذه الملاحظة، ووافقني، بدون أن يعلق أو يفسر. دوماً كان يقال لنا إنه ما دام الجسم قد دخل في منطقة الفيروس فعلينا أن نتوقع أن تظل حالته هكذا لشهرين أو ثلاثة، وعندما يشفي لا يمكن التنبؤ كم سيخسر من قدراته العقلية والذهنية. وقيل لنا إننا نحتاج إلى وقت. أصبت باليأس من كل هذا الكلام. والآن لا أعرف هل يتعلق الأمر بأنه بدأ العلاج متأخراً، أم بالتأخر في القدرة على تشخيص المرض، ولا أعرف أيضاً تفسير الفيروس، هل هو صحيح أم لا”.(5)


     إن تصريحات علي مبروك حول مرض صديقه وكيفية تشخيص حالته من قبل الأطباء تسحب مصداقية الخبر – على الأقل حتى هذه اللحظة – الذي قيل فيه إن موت أبو زيد كان نتيجة فيروس غامض! وكيفما كان من أمر مرض أبو زيد فإنه ليس من المرجح التحقيق في السبب الرئيس لوفاته – المرض – في مصر ولا حتى مساءلة الأطباء الذين فشلوا في تشخيص حالته لعشرة أيام متتالية، لأن التحقيق الذي قامت به مصر كان ضد أبو زيد منذ البداية. كان ذلك هو التحقيق في إيمانه وكتاباته وفكره في محكمة الأحوال الشخصية في القاهرة في 1993م، ومن ثم إعلان التكفير والردة والتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس – أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة – في 1995م، الأمر الذي أجبره على الرحيل مرغماً إلى هولندا. إن تشييع جثمان أبو زيد ظهر ذلك اليوم الحزين جدّاً في الخامس من يوليو الفائت إلى مقبرة القرية في قُحافة كان كاشفاً ودالاًّ على مقدار التشويه والتزييف الذي ألحقه الخطاب الديني بفكره في مصر، التشويه والتزييف اللذين لاحقا أبو زيد حتى قبره. بسبب هذا الخطاب شُيِّعَتْ جنازة أبو زيد «وسط إقبال متوسط من ذويه وأهالي المنطقة، كما خلت الجنازة تماماً من أيِّ شخصيات عامة أو مسؤولين أو وفود رسمية”.(6)


     حقّاً فما كان يخشاه أبو زيد أن لا يشيع جثمانه في مصر باحترام يستحقه أي مسلم غادر إلى الرفيق الأعلى. كان أبو زيد قد أوصى زوجته الدكتورة ابتهال يونس – في وقت مبكر من الحياة في المنفى – بعدم إرسال جثمانه إلى مصر لو وافته المنية خارجها: «كل مصري أعرفه يتوق إلى أن يدفن في تراب مصر. لكنني أخبرت ابتهال أنني إذا مت في المنفى أن لا تعيد جسدي إلى وطني. نتيجة للإعلان الرسمي للمحاكم المصرية بتكفيري، أشعر وكأن أمي نبذتني. كيف يمكن أن أنام في سلام في حضنها بعد أن عاملتني بشكل ظالم؟”(7). وعندما شاهد أبو زيد الإهانة التي وجهت إلى جثمان الشاعر نزار قباني في 1998م، حين وقف الإسلامويون كتفا إلى كتف لمنع دخول جثمان قباني إلى المسجد للصلاة عليه، قام بتأكيد طلبه لزوجته: عدم إرسال جثمانه إلى مصر لو وافته المنية خارجها. ومع أن جثمان أبو زيد لم يهن بالطريقة التي كان يخشاها، إلا أن توديعه إلى قبره في قحافة لم يكن يليق بمقامه الكبير على الإطلاق.


     انتقل أبو زيد إلى الرفيق الأعلى بعد 15 عاماً من المنفى الاختياري في هولندا، مخلفاً نتاجاً نوعيّاً وفيراً في حقل الدراسات الإسلامية والقرآنية باللغتين العربية والإنكليزية. كان جرح أبو زيد من وطنه غائراً وعميقاً جدّاً بحيث إنه زار مصر بعد سبع سنوات فقط (2002/2003م) من رحيله إلى المنفى. وخلال الثماني سنوات المنصرمة زار أبو زيد مصر عدة مرات، وألقى فيها عدداً من المحاضرات بدعوات من أصدقاء ومؤسسات. ولعل أبرز تلك الزيارات كانت مؤخراً إلى مكتبة الإسكندرية حيث ألقى هناك سلسلة من المحاضرات عرَّف فيها بآخر بحوثه وإنجازاته العلمية. وعندما وصل إلى هولندا بصحبة زوجته في أكتوبر عام 1995م رفض اللجوء السياسي والجنسية اللذين عرضتهما عليه الحكومة الهولندية، ورفض تقديم نفسه ضحية، لأنه يعتبر نفسه واحداً من أبناء أمة منكوبة بالكامل. كان أبو زيد مدركاً منذ البداية للسياق التاريخي الذي يمر فيه العالم العربي الذي يرزح تحت سلطة الدكتاتورية والفساد، وأن صراعه في مواجهة الخطاب الديني الإسلاموي في مصر وخارجها هو أحد تجليات تلك الدكتاتورية وذلك الفساد. ومنذ اللحظة الأولى لوصوله إلى ليدن Leiden– وصل قبل ذلك إلى إسبانيا وألمانيا – انخرط في عمل دؤوب لتجديد الفكر الإسلامي. إن اختياره لهولندا وجهة جديدة للحياة بعد التكفير والحسبة ذو دلالة مهمة بالنسبة إلى الفكر الإسلامي، فجامعة ليدن واحدة من أعرق الجامعات في أوروبا وتأسست في 1575م، كما أن بها-مدينة ليدن- واحداً من أعرق المراكز الأكاديمية في الدراسات الإسلامية الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1593م، وهو الأعرق في أوروبا على الإطلاق. وهناك في هولندا كان في جعبة أبو زيد الكثير ليقوله عن القرآن والفكر الإسلامي.


     اليوم ونحن نتذكر أبوزيد يكون لزاما أن نتذكره إنساناً وعالماً معاً. لا تدَّعي هذه المقالة تقديم قراءة نقدية في كتابات أبو زيد، فقراءة نقدية لكتاباته تستدعي الغوص عميقاً في بنائه الفكري الشاهق، وهو ما لا تقوم به هذه المقالة. وبالرغم من ذلك سأحاول هنا موضعة فكره – القرآني على وجه الخصوص – في سياقه المعاصر والإطلال على سيرته الذاتية لمحاولة الربط بين أبو زيد الإنسان والعالم. إن هذه المقالة، بالنسبة إلى كاتبها، وفاء وعرفان لأبو زيد العالم والمفكر والباحث والمثقف والكاتب والإنسان والمواطن والصديق.

الهوامش:

(1) Abu Zayd, Nasr Hamid. Islamic Cosmology and Quranic Exegesis, p. 7 وقد قام كاتب هذه السطور بترجمة هذه الدراسة إلى العربية وستنشر الترجمة بالتزامن مع هذه المقالة تحت عنوان “علم الكونيات الإسلامي والتأويل القرآني”. كما أن كل الترجمات الواردة في هذه المقالة هي للكاتب وقد قمت بترجمتها بتصرف واختصار. ولن أشير إلى أماكن نشر دراسات أبوزيد الإنكليزية لأن لا علم لي بمعظمها فقد حصلت على كل مقالاته ودراساته الإنكليزية منه شخصيا.وبعض من تلك الدراسات منشور على موقعي جامعتي ليدن والإنسانيات.
(2)Abū Zayd, Nasr with Esther R. Nelson, Voice of an Exile: Reflections on Islam (Westport, Connecticut:
Praeger, 2004), 11.
(3)170السابق ص
(4) www.resetdoc.org/story/00000021258 من حوار مصور مع أبو زيد نشر عقب وفاته على الموقع التالي:
(5) انظر أخبار الأدب، العدد 886، الأحد 11 يوليو 2010.
(6) اليوم السابع www.youm7.com/News.asp

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial