نصر حامد أبو زيد: ما في الجبّة أوسع من أفهامنا الضيقة بقلم محمد الأمين سعيدي

تدفع وفاة المفكِّر العربي نصر حامد أبو زيد إلى مراجعة مساراتِ العقل العربيّ في شعابها المختلفة سواءً الحداثية أو الأصولية وغيرهما من التسميات التي تجد إليهما بسببٍ يُدرجها تحتَ إحدى الرايتين، وتأخذُ هذه المراجعة طابع التساؤل ما دام المثقف الحقيقي يمجّ اليقينية الحمقاء التي جعلتْ منا أوصياء على الفكر والثقافة وجعلتْ من بعضنا أوصياء على الدين، وأدّتْ هذه النظرة الدوغمائية الغبية إلى إفراز عديدٍ من الصراعات التي نحن في غنى عنها ما دامتِ النصوص تحملُ في ثناياها مرايا التلوُّن على أكثر من دلالة، وما دامتْ نظرتنا إليها تحدِّدها مرجعياتٌ فكرية وقناعاتٌ دينية تمنح للمنظور إليه عدّة تمظهرات يراها كلٌّ بحسب موقعه ومن زاويته الخاصة. فكلُّ قراءة تتوخّى إنتاج معنى ما انطلاقا من بنية نصية لمتن موروث أو لآيات القرآن الكريم أو حتى لأحداث تاريخية نرتبط بها عربا ومسلمين تنطلق مما يتوفّر عليه ذاك النص أو تلك الحادثة من قرائن لغوية أو من سياقاتٍ سوسيوثقافية لحقبة ما، وهذا الارتكاز على أسس نصيّة سواءً لسانية أو غير لسانية يعطي للقارئ / المؤوّل صلاحية الاقتراب من تخوم الدلالة إلى الحدِّ الذي يُبلغه إليه فهمُه وترسُّبات ثقافته ومرجعياته.

إنّ خصِّيصات البنية النصية التراثية في مختلف مجالاتها تفترض عدّة أنواع من القرَّاء، ومن ثمَّة تنتُج عنها أصناف عديدة من القراءات بمختلف مستوياتها سواءً كانتْ شارحة أو مفسِّرة أو مؤوِّلة، وتتغاير هذه الاجتهادات بقدر ارتباطها بسياقاتِ النصوص التي ترسَّبتْ فيها في محطَّات تاريخية معيَّنة، وأخرى ارتبطتْ بها منذ إنتاجها خاصة فيما يتعلق بأسباب النزولِ التي تؤطّر فهمَ الكثير من الآيات القرآنية الكريمة. وبين قراءة النص في سياقاته وقراءته مجتذعا عنها تتضاربُ الآراء ويحدث الاختلاف لا محالة بين أفهام القارئين. وهذا هو مدار الأمر في نصوص تقوم بنيتها الأساسية وتشكّلاتها اللغوية على فرض الاحتمالية في الفهم وعدم اليقينية في التفسير كأساس أولٍ للقراءة. وحين يتعلَّق الأمر بالقرآن الكريم فإنه ككلام منزل من عند الله عرَّف نفسه كما يقول الله تعالى: ‘ هو الذي أنزلَ إليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات’، ويُصبح الإحكام فيما تقوم عليه العقيدة المشتركة بين جميع المسلمين والتشابه في غير ذلك. وجئنا بهذا الكلام للتدليل على أنّ الإسلامَ في أسسه لم يُغلق باب الاختلاف في الفهم ولا سعى إلى توحيد رؤية المسلمين إلى الأشياء والظواهر.

لكنَّ المشكلة سواءً تعلَّق الأمر بالفكر الظاهريّ الذي لا يتجاوز سطح النصوص، أو بالتفكير الباطني والعقليّ في جهة أخرى، ظلَّت الإقصاءاتُ من كلِّ الأطراف لبعضها البعض هي السائدة لدرجة أنها بلغتْ في عصور سابقة وفي أوقاتٍ قريبة إلى نقل المعركة من حيِّز الأفكار إلى أرض معارك حقيقية لم يسلمْ فيها حاملُ القلم وحامل الفأس من السيوف القادمة من البنية السطحية للنصّ، ولم تبق إلا الخروق الكثيرة في عباءة الحلاّج لتؤكِّد على أنّ جبّة الأمة العربية والإسلامية فيها كلُّ شيء إلا الإيمان بالآخر وتقبُّله في إطار ما تقتضيه الحدود الطبيعية للحوار، ورحم الله الجاحظ إذ قال ‘ أنّ المُفهِمَ لك والمتفَهِّمَ عنك شريكان في الفضل’.

إنّ انطلاق بعض القراءات للمتون التراثية من مساءلة المسكوتِ عنه والغوص في مناقشة المغيّب، جعلها مقصية من طرف عدّة مؤسسات وهيئات فكرية ودينية، وحصرها في زاوية المروق والزندقة، ولعلَّ هذا ما حدثَ مع المتصوِّفة الأوائل في حياتهم فسجنوا وقُتِّلوا ونكِّلَ بهم، وامتدَّتْ يد الضيم لتفتك بمريديهم والتابعين لهم والمؤمنين بأفكارهم، بينما هذا التجنِّي على هؤلاء يبرأ منه الدين كرسالة معروفة المضامين والحدود، ويحمل وزره بعض المتحدثين باسم الدين الذين حكموا على رجل كالحلاّج بموتٍ أكيد لأنه انتبه إلى فضاءٍ واسع كالمحبَّة كامن في أعماق الإسلام، أو ربما لأنه، أي الحلاج، كان يمثِّل في تلك الفترة خطرا على الخلافة لأنه كرجل مسالم ومحبٍّ التفـّتْ حوله طوائف الفقراء والمساكين فصار شخصية صاحبة أتباع ومخلصين فحُكِم عليه سياسيا باسم الدين.

إنَّ القناعة بوضع عربي وإسلامي كهذا تستدعي من المفكرين إعادة مراجعة لكثير من أحداث التاريخ التي استُغِلَّتْ فيها راية الإسلام في أغراض أخرى لا علاقة لها بروحانية الأمة وإنما بحسابات سياسية بين والي من الولاة أو بين خليفة ومن يقف في الضفَّة المعارضة له، والأمثلة كثيرة منها نكبة أحمد بن حنبل المعروفة التي نقلت الحوار من رقعة المناقشة والمثاقفة في فهم الدين إلى تطبيق سلطة السياسيّ بعدما انغلقتْ آفاق التحاور وانعدمتْ إمكانات الاتفاق.

لقد أساءت الكثير من الخطابات المنغلقة على نفسها والرافضة لغيرها إلى الإسلام هذا الدين القائم على التسامح والمحبة، لهذا، يُمثِّل موت أحد كبار المفكرين العرب مدعاة لمراجعة أنفسنا نحن العالقين في حدود ضيقة جدا من الفهم، وتصبحُ المأساة التي عاشها المرحوم وعاشها كثير ممن خاضوا في مساره أو في مسارات أخرى تختلف عنه أو تشابهه تحثُّ المثقف الحقَّ على خوض مغامرة البحث عن الحقيقة في السبل الأكثر احتراما للذات أولا وتقبلا للآخر سواءً العربي والمسلم أو غيرهما، لأنّ ما نسمِّيه ‘ حقيقة’ يتشكَّلُ من روافد عديدة داخلية وخارجية تساهم كلها في تكوين الرؤية الحكيمة والرؤيا العميقة لوجودنا العربي والإسلامي ولأزمات حاضرنا وإشكالياتنا الحضارية العالقة منذ أوّل ‘ غاليليو’ عربي ضَحَّتْ به رؤانا التي هي كالحجارة أو أشدَّ قسوة.
____________________
محمد الأمين سعيدي شاعر وباحث جزائري

المصدر: المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية 20 أغسطس 2010

http://www.airssforum.com

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial