“الســائرون نيامــًا”

مَنْ هُـم؟ وإِلاَمَ يَـسِيرون؟

خيري دومة

(1)

حينما وصل سعد مكاوي (1916-1985) إلى كتابة هذه الرواية في مطلع الستينيات[1] من القرن العشرين، كان قد أصبح كاتبًا متمرِّسًا مكتمل الأدوات؛ فقد بدأ بكتابة القصة القصيرة منذ أواخر الثلاثينيات، ومرَّن فيها أدواته السردية، وحقق إنجازًا ضمن له مكانته الملحوظة على خريطة القصة المصرية القصيرة[2]. هذا بالإضافة إلى أنه كان قد كتب روايته القصيرة “شهيرة”[3]، ورواية أخرى بعنوان “الرجل والطريق”[4].

ولم تكن أدوات سعد مكاوي التقنية وحدها، هي التي تبلورت حينما كتب “السائرون نيامًا”، وإنما كانت قد تشكلت له أيضًا – مثل كثيرين من أبناء جيله – معرفةٌ عميقة وموسوعية بالتراث الإنساني، ورؤيةٌ للواقع المصري والعربي والإنساني. وقد لعبت عوامل ثلاثة أساسية دورها في تشكيل هذه المعرفة، وصياغة تلك الرؤية: أولها، نشأته الريفية التي تركت أثرًا عميقًا في رؤيته؛ فقد نشأ في قرية الدلاتون بالمنوفية، لأب من رجال الدين له مكتبته التراثية العامرة، ورأى في الصغر صراعات هذه الفرية بفلاحيها وحرفييها وهامشييها، وهي الصراعات التي رسمها فيما بعد في مجموعة “الماء العكر”. وثانيها، معرفته باللغة الفرنسية وسفرته إلى فرنسا مبعوثًا لدراسة الطب، ثم تحوله – شأن توفيق الحكيم – إلى دراسة الأدب والفن والثقافة. وهي السفرة التي انقطعت بعد ثلاث سنوات، ودون أن يكمل دراسته، وذلك بمجيء الحرب العالمية الثانية عام 1939. وثالث هذه العوامل، وبعد رجوعه من فرنسا، كان انضواءه الغامض على يسار حزب الوفد وضمن الطليعة الوفدية، في مجموعة الكتاب التي اتخذت من جريدة “المصري” الوفدية منبرًا.

وكان لهذا العامل الثالث أثره الحاسم في تشكيل رؤية سعد مكاوي، وبلورة موقفه من حركة الضباط الأحرار وتطوراتها الدرامية، وهي الحركة التي عاصر مخاضها الأليم في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وكَتبَ مبشِّرًا بها على صفحات المصري، ثم جاءت  ويا للمفارقة لتغلق – ضمن ما أغلقت – جريدة المصري هذه، ولتفتح الباب لأنواع جديدة من صراع العسكر على السلطة، وهو المأزق الذي يئس الرجل – على مستوى الواقع – أن تجد مصر سبيلاً للخروج منه[5]، ولكنه لم ييأس على مستوى الفن، وظل يبحث عن سبيل للخروج.

كتب الرجل عددًا هائلاً من القصص القصيرة والمقالات طوال الخمسينيات، ونشرها في جرائد الثورة التي عمل فيها، من “الشعب” إلى “الجمهورية”، وعبر في بعضها أحيانًا وبشكل أليجوري، عن موقفه هذا[6]. وفي الوقت نفسه، كانت تقنياته السردية تتخلى شيئًا فشيئًا عن الوصف الواقعي الخارجي البهيج بانتصاراته، وتتحرك في اتجاه نوع من المونولوج المتصاعد الذي يصف الداخل وتمزقاته الأليمة[7]. وكأنه كان يحتشد طوال هذه السنوات، لكي يحصل على الصيغة التي يبلور فيها رؤيته في أصفى صورها، وكأنه وجدها أخيرًا في رائعته هذه “السائرون نيامًا”.

لم تكن “السائرون نيامًا” إذن، من صنع كاتب مبتدئ لا يجد المادة التي يكتب عنها، أو لا يملك الأدوات التي يكتب بها،  فيلجأ إلى التاريخ هربًا من العناء ومن المساءلة على السواء. وإنما كانت نهاية المطاف، في بحث ممتد ومضن عن صيغة ملائمة.

(2)

غير أن “السائرون نيامًا” ليست مجرد حكاية رمزية (أليجوري) ساذجة، تستعين بالتاريخ لكي تقول كلمتها في واقع معاصر مرتبك تخافه ولا تفهمه، أوتقيم تطابقًا آليًا بين أمراء المماليك بشخوصهم وطبيعة صراعاتهم المعزولة عن مصالح الشعب وحماية الوطن من ناحية، وعسكر يوليو الصاعدين المتصارعين في ظروف مشابهة من ناحية أخرى. كما أنها ليست مجرد “رواية تاريخية” تبتعث خطوط التاريخ المسجَّل في الكتب، فخرًا أو حزنًا أو إسقاطًا كما هي العادة في الرواية التاريخية. بل هي قبل هذا وبعده، روايةٌ تطرح السؤال الأكبر حول “الرواية التاريخية”: ما هي وما فلسفتها.

أول ما يلفت النظر في هذه الرواية عنوانُها؛ فربما تكون هذه هي المرة الأولى، أو فلنقل إنها من المرات النادرة في الأدب العربي الحديث (وربما في الآداب العالمية الأخرى) التي نقرأ فيها رواية تاريخية، دون أن يكون عنوانها جزءًا من التاريخ، فقد اعتدنا أن يكون عنوان الرواية التاريخية اسم شخصية تاريخية، أو اسم مكان تاريحي ، أو اسم مدينة، أو معركة أو حادثة أو مقولة معروفة في التاريخ ..إلخ.[8]

عنوان الرواية، والرواية التاريخية خصوصًا، هو البوابة التي يدخل منها القارئ، متوقعًا ومتأهبًا أن يفارق عالم الواقع المعاصر، وأن يدلف بخياله إلى عالم التاريخ. حين نقرأ على الغلاف “كفاح طيبة”، أو “طارق بن زياد”، أو “على باب زويلة”، أو حتى “وا إسلاماه”، فإننا سننتقل على الفور إلى فضاء التاريخ، وربما ينقلنا العنوان إلى مكان محدد، فترة أو شخصية أو حادثة محددة سلفًا. أما حين نقرأ على الغلاف “السائرون نيامًا”، فإن الأفق ينفتح على احتمالات متعددة، قد لا يكون من بينها احتمال الرواية التاريخية.

صحيح أن المؤلف سيبادر من البداية إلى تنبيه القارئ في ملاحظة جانبية ومقتضبة، إلى أن “الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث هذه القصة، لا تكاد تتجاوز ثلاثين سنة (1468-1499) من عمر سلطنة المماليك التي حكمت تاريخ مصر والشرق 267 سنة”، وصحيح أن الرواية ستدخلنا من فصلها الأول إلى قاهرة المماليك، وأن المؤلف سيشرح لنا بعض المصطلحات المملوكية الغامضة في هوامش هذا الفصل، ولكننا سنمضي في قراءة الرواية – بأقسامها الثلاثة، وفصولها الثلاثة والخمسين، وشخصياتها الكثيرة التي تتنوع أسماؤها ووظائفها، وتتوالى أجيالها ومآسيها، وتتوزع بين القمة الحاكمة في قلعة الجبل والقاع المطحون في الأزقة والدكاكين، بين مدينة القاهرة المملوكية وقرية ميت جهينة في ريف الجيزة – سنقرأ هذا كله ويستغرقنا، وربما ننتهي من قراءة هذه الرواية الممتعة حقًا، وتظل الأسئلة التي طرحها العنوان معلَّقة: السائرون نيامًا؟ من هم؟ وإلام يسيرون؟

أَهُم المجاذيب الذين “يجأرون بالدعوات”؟ أهم العميان الذين “يدقون الأرض بالعكاكيز في غضب”؟ المشوهون والعرايا الذين لا ينقطعون عن البكاء؟ المجذومون الكثيرون الذين “يضربون صدورهم المتآكلة بقطع الحجارة في مرارة”؟ أهم أبناء العالم التحتي من حرفيي المدينة وأُجَرَاء القرية ومستعبَديها؟ وفي خلفية هؤلاء يقف “الشجر المهذول ورمق الحياة فيه شاحب، والدواجن القليلة منكمشة عند كل سقيفة أو حجر خوفًا من الجوارح المحمومة دانية من الأرض، والحمير والجمال في عيونها أحزان عجيبة وهي ترفع رءوسها عن الأرض المتشققة في يأس ضامر مثلها” – أهًم هؤلاء جميعًا وقد ساروا نيامًا، ونراهم في نهاية الرواية يتجمعون، مدفوعين بكبت تاريخي مركَّب مديد، ليصلوا – وهم السائرون نيامًا!! – إلى ثورة هائلة مقموعة، ربما لم يتحدث عنها التاريخ المكتوب لمصر المملوكية؟

أم أنهم أولئك العسكر من أمراء المماليك وحواشيهم، “يتطاوسون” عند القمة، حولهم بساتينهم وحدائقهم الغناء وموائدهم وطوواويسهم وظباؤهم وجواريهم وملاهيهم وبصاصوهم أيضًا، يتصارعون صراعًا دمويًا على الكرسي، ويلتذون بطحن الحرافيش ودود الأزقة تحت نعالهم، ذاهلين عن الخطر المقترب على الأبواب، وسائرين نيامًا – مدفوعين هم أيضًا بكبت تاريخي مركب – إلى نهايتهم المحتومة؟[9]، وهي نهاية سجلها التاريخ المملوكي المكتوب، بينما لم يكن التاريخ الحاضر قد سجلها بعد.

أم أنهم البشر جميعًا، يسيرون في الأغلال نيامًا، وتتكرر مأساتهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، دون أن يدركوا فلسفة التاريخ العجيبة؟ نحن نعرف كما يعرف المؤلف، أن زمن هذه الرواية لا يزيد عن ثلاثين عامًا في واقع العصر المملوكي الغابر، لكننا – وبمنطق قريب إلى الواقعية السحرية يرسمه مكاوي بمهارة وحرفة – سنشعر بقوة أن هذه رواية أجيال، وأن للزمن فيها منطقًا عجيبًا؛ ففي أربع وعشرين ساعة يتوالى على كرسي السلطنة ثلاثة من الأمراء، حدث هذا أكثر من مرة على مدار الرواية، وفي ميت جهينة تتوالى ثلاثة أجيال وطاعونان على الأقل في هذه الأعوام الثلاثين.

وهذا المنطق العجيب للزمن، هو ما تستشعره أيضًا شخصيات القاع المعذبة بأصفادها؛ فالصبي يوسف نجار النعوش الذي تبدأ به الرواية، سيدهشنا مع بداية الجزء الثالث حين يقول: “زمن يروح وزمن يجيء .. وسبحان من له الدوام”، ويتذكر: “ما أبعد ذلك الزمن!.. ناس غير الناس ودنيا غير الدنيا .. كأنها ثلاثمائة سنة لا ثلاثون..” ، كما أنها “أمم تزول والهمّ ما يزول” كما تقول محسنة “مترحِّمة على كل الأحبة الذين تخطَّفهم الزمن”. إنه الطاعون الذي نظن أنه “انتهى، مات وشبع موتًا”، لكننا نكتشف أن “الطاعون لا يموت، إنه يختفي حقًا، ويلبد في خبث، إلى أن تحين له فرصته، فإذا الفئران راقصة، وإذا الوباء في الناس”. هذه الإشارة إلى الأعوام الثلاثمائة، والأمم التي تزول والهم الذي لا يزول، والطاعو ن المتجدد، ألا تقرِّب في ذهن القارئ، المسافةَ الفاصلةَ بين زمننا وزمن المماليك؟ ألا تضعنا أمام زمن واحد ممتد متكرر الحلقات، لا فاصل فيه بين حلقة وحلقة، بين “حاضر” معيش و”تاريخ” منقض؟

كيف استطاع سعد مكاوي أن يمسك بهذا الزمن الممتد، كيف استطاع أن ينقلنا إلى قاهرة المماليك وقرى الملتزمين وفلاحي السخرة، دون أن نفارق قاهرتنا المعاصرة وقرانا الكثيرة المتشابهة، كيف أقنعنا أننا نقرأ رواية “واقعية” من نوع خاص، أكثر منها رواية “تاريخية”. هذا ما صنعته تقنيات سعد مكاوي، القاص المتمرِّس المحتشد لكتابة هذه الرواية.

(3)

هذه الرواية يحكيها راو عليم، يتنقل في خفَّة الطائر، بين المشاهد/الفصول الخمسين التي لم تنقطع ولم تهدأ، منذ أن رأينا أيوب صانع النعوش وصبيه يوسف في مطلع الرواية، إلى أن وصلنا إلى ثورة الجياع والمهمَّشين في نهايتها. وبين هذين المشهدين المتباعدين، تتوالى المشاهد في إيقاع درامي وروائي متسارع، هو أهم خصيصة فنية تميز هذه الرواية، وتجذب القارئ إلى عالمها.

ولقد استخدم مكاوي كل طافاته الواعية واللاواعية، من أجل أن يصنع هذا الإيقاع الروائي الجاذب، ومن أجل أن يحافظ عليه قدر الإمكان، دون سقطات أو تنشيزات.

لم يكتف الرجل بالحقوق التي تكفلها له صفة الراوي العليم، وهو راو يمكنه دون إخلال بالمنطق، أن ينتقل في أية لحظة، من قلعة الجبل إلى ميت جهينة، من الحمام إلى مخابئ المجاذيب، من سراي الملتزم إلى زريبة ست الكل إلى بساتين الحريم ..إلخ، بل انتزع إلى ذلك حفوفًا أخرى، كفلتها له أصولٌ درامية كلاسيكية ومعروفة للجميع، لكنه التزمها ببساطة وبشكل صارم.

أول هذه الأصول، أن يستقل كل فصل من الرواية بمشهد واحد، لا يجاوزه قيد أنملة؛ فالرواية تتكون من ثلاثة وخمسين مشهدًا، يدور كل مشهد منها في مكان محدد، ويظهر فيه قطاع محدد من شخصيات الرواية، ويعالج حادثة محددة بادئًا بالفرشة الوصفية وصاعدًا بالحوار إلى ذروته؛ بحيث نشعر عندما ننتهي من قراءة كل مشهد، بأننا قد انتقلنا خطوة إلى الأمام في أحداث الرواية وحركتها.

وثاني هذه الأصول يرتبط بالعلاقات التي يقيمها المؤلف بين هذه المشاهد المستقلة، وهي علاقات تتعدد وتتداخل وتتواشج لكي تشكل في النهاية عالمًا روائيًا واحدًا، عالم “السائرون نيامًا” بتنويعاته وطبقاته. وعلاقة القربى الحقيقية التي تربط بين بعض الشخصيات في المشاهد المختلفة، هي أولى هذه العلاقات الرابطة وأبسطها وأكثرها منطقية، ومن خلالها يمكن للراوي وروايته، ودون أن نشعر بقفزة غير منطقية، أن ينتقلا بسلاسة – مثلاً – من عالم أيوب وصبيه يوسف وزوجته ست الكل في القاهرة، إلى عالم الفلاحين في قرية ميت جهينة؛ لأن هناك علاقة قربى وهجرة متبادلة بين العالمين، هربًا من العسف، أوطلبًا للرزق، أو استعدادًا للانتقام.

وإذا كان هذا نوعًا من العلاقات البسيطة، التي يبدو دور المؤلف فيها مقصورًا على النقل، من العالم الواقعي الخارجي الكائن هناك، إلى عالم الرواية الداخلي المتخيل، فإن هناك نوعًا آخر من العلاقات التي يخلقها المؤلف خلقًا، وهي علاقات أكثر تعقيدًا وأشد رهافة، وعلى نخو تبدو معه أحيانًا علاقات مخططة وخطرة، لأنها قد تبدو تحكمية ومختلقة ، وهو ما كان يمكن أن يضر حركة الرواية وإيقاعها ومصداقيتها.

من هذه العلاقات مثلاً، ما يمكن أن نسميه علاقة “الاستباق”، وهي العلاقة التي يستخدمها المؤلف في مواضع كثيرة، ولكنه يستخدمها خصوصًا في التمهيد البطيء وعلى مهل، لثلاث ذرى درامية كبرى في الرواية: 1- الطاعون، و2- اكتشاف الأسرار الميلودرامية المدهشة الخاصة بتداخل النسب في الحرام بين الملتزمين من آل إدريس وفلاحي ميت جهينة، ثم 3-  ساعة الثورة والانتقام التي تأتي بها نهاية الرواية.

على مدار الفصول العشرين في القسم الثاني من الرواية، والذي يجعل المؤلف عنوانه : الطاعون، سنرى علامة الاستباق الأساسية تظهر ثم تختفي، في صورة فئران تتخلل المشاهد، تظهر بشكل عرضي يتخلل حوارات المشاهد في البداية، لكنها تتزايد وتتقدم المشاهد برقصها المذبوح وبدمها المقزز، ثم إنها سرعان ما تنتقل من الفئران إلى البشر، وكلما تقدمنا مع المشاهد تبلور شعورنا بالطاعون المقبل،  إلى أن نصل في المشهد الأخير من هذا الفسم إلى إعلانها صريحة:

“اندفع خليل بعويله المكتوم مارقًا من العتبة إلى الخلاء، وهو يسد أذنيه لبدبه، وقبل أن يبتلعه البعد كان المرعوش قد لحق به في وثبات طائرة، واندفع خيالهما في ضوء القمر ذاهبين إلى الأفق في عدو خاطف وأذرعهما مفتوحة للسماء بكفوفها المبسوطة، وصوتهما الواحد يرج ما بين الأرض والسماء:

– الطاعون! الطاعون! الطاعون!”

وعلامة الاستباق الممهدة للذروة الثانية، هي النغزة المتشابهة على خدود آل إدريس، وخدود أبنائهم وإخوانهم في الحرام من فلاحات مبت جهينة. وهي علامة تبدأ في صورة وصف آلي وساخر أحيانًا، يقوم به الراوي في مشاهد متعددة، ثم يزداد افترابنا مع الوقت من هذا الخد المنغوز المتكرر ودلالته، إذ تتضح الحقائق فصلاً بعد فصل حين تتبادل النسوة اعترافاتهن. إنها النغزة المأساوية التي تتحول إلى كابوس يراه محمد وقد انطبع على كل الكائنات:

“- رأيت سوق ميت جهينة بالناس والبهائم كأنه يوم الحشر، والناس جميعًا في خدودهم نغزة مثل هذه .. وتحول الحلم إلى كابوس عندما أخذت كل بهائم السوق ترفع من الأرض رءوسها، فأرى لكل بهيمة نغزة أيضًا .. يا للكابوس!.. حتى عندما رفعت وجهي إلى السماء وجدت في خد القمر نغزة!”

أما علامة الاستباق الثالثة ، فهي “ساعة الوعد” التي تمثل ذروة الرواية كلها ونهايتها، وهي الساعة التي يرد ذكرها على ألسنة المجاذيب، من الشيخة زليخة حامية الحرافيش في القاهرة، إلى الشيخ المرعوش حامي المجاذيب والمطاريد والغرباء في ميت جهينة. إنها الساعة التي يبدو أن الجميع يسيرون نيامًا في اتجاهها، وهم يعرفون جيلاً بعد جيل كما يقول خالد في أحد مونولوجاته، كيف يبكون في صبر وبلا دموع، ويكِزُّون على أسنانهم وهم ينتظرونها:

 “ساعتنا نحن؟ آه! وحق سيدي المرعوش الذي يسمعنا آه! ساعتنا نحن! ساعة تنتفض قلوبنا مثل قلب واحد، وتزعق الدماء في عروقنا، وتكونين معنا يا ست زليخة أنت وروح عزة الساري في أرضنا، أوله في الصعيد وآخره في البحر المالح، وملء البر أنفاسه الطاهرة.”

ومن هذه العلاقات الرابطة بين المشاهد أيضًا، علاقة أخرى يبدو أن مكاوي استعارها من “اللغة السينمائية”[10]، وأعني بها علاقة “التوليف” بين المشاهد، سواء كان توليفًا “روائيًّا” أو توليفًا “تعبيريًّا”. وعلاقة التوليف هذه تتركز في السطور التي ينتهي بها كل مشهد في الرواية، والسطور التي يبدأ بها المشهد الذي يليه، وربما تكون هي أكثر العلاقات المسئولة عن ضبط إيقاع الرواية بكاملها، وإعطائها الطابع المتلاحم الذي تميزت به.

ولأن الرواية تحتوي على عدد هائل من الشخصيات المتنوعة المشارب والأماكن، لم يكن من السهل توليف المشاهد على أساس التتابع الزمني التقليدي؛ إذ لم يحدث في الرواية أن احتلت شخصية واحدة أو مكان واحد مشهدين متتاليين أو فصلين متتاليين، اللهم إلا الفصول الثلاثة الأخيرة من القسم الثاني(التي تصور ذروة الطاعون)، والفصول الثلاثة الأخيرة من القسم الثالث والأخير (التي تصور ثورة الجياع في اتجاه صوامع الملتزم).

فيما عدا هذا، كان لابد للرواية أن تبني التوليف بين المشاهد على أساس القطع ؛ ومن ثم كان هناك حرص كامل على إغلاق المشهد، سواء بجملة حوارية قصيرة باترة، كما يحدث في أغلب المشاهد، أو بجملة قصيرة يضيفها الراوي متعمدًا بعد انتهاء الحوار، فقط ليغلق المشهد بما بدأ به من وصف، كأن يقول: “وفي الطاقة خفق نور المسرجة خفقة متوهجة”(الطاعون، الفصل الخامس) أو “وسمعت القاعة من حنجرتين حمزاويتين قويتين قهقهة عالية غطت على ثرثرة العصفور المتفائلة في المشربية”(الطاووس، الفصل السابع عشر).

كانت كل شخصية من شخصيات الرواية – وكلها في “السائرون نيامًا” شخصيات أساسية وتحتل مساحات متقاربة – تختفي لفصلين أو ثلاثة وربما أكثر، ثم نعود إليها في قلب ما تقوم به من فعل، متوقعين أن أشياء كثيرة قد حدثت معها. وكان من الطبيعي والحالة هذه، أن تبدأ غالبية المشاهد/الفصول بجملة فعلية، مع أن كل مشهد يبدو في الظاهر على الأقل، مفطوعًا عما قبله.

وفي فصول الفسم الأخير على الأقل، كثيرًا ما يلعب سعد مكاوي لعبة سينمائية واضحة وطريفة، عند الانتقال من مشهد إلى مشهد؛ فالفصل الرابع مثلاً ينتهي بجملة “وقرأ الفاتحة”، بعدها مباشرة يبدأ الفصل الخامس بجملة “قرأت محسنة الفاتحة مترحِّمة على ..”. انتهى مشهد بقراءة الفاتحة ليبدأ المشهد الجديد بقراءة الفاتحة، مع أن الظرف مختلف والشخوص مختلفون، لكنها رابطة سينمائية قائمة على التقابل الساخر بين مضمون المشهدين. وكذلك ينتهي الفصل السادس بموت أم حسن التي يودعها خالد قائلاً: مع السلامة يا أم حسن، وبعدها مباشرة يبدأ الفصل السابع بتشييع جنازة، ولكنها جنازة الشيخ عباس في القاهرة:”خرج عالمه كله يودعه وشيَّغته ..”. وهذا أيضًا ما يحدث مع نهاية الفصل الحادي عشر وبداية الثاني عشر.

كل هذه العلاقات وغيرها، تلعب دورًا حاسمًا في رسم العالم المحتشد بالشخصيات، وفي الإمساك بأطراف الزمن الممتد – بصورة ما – من التاريخ إلى الحاضر. وهو عالم ينقسم بشكل عام إلى معسكرين أساسيين يعيشان في وطن واحد ولكنهما منغصلان: معسكر المماليك من الأمراء العسكر، وتابعيهم من الجواري والغلمان والملتزمين والشيوخ والقضاة أيضًا، وهو معسكر يهتم الكاتب بوصف تفاصيله ونزوعاته وعقده والحلقات التي تصله بالشعب، ولكنه لا يبدأ بهذا المعسكر ولا ينتهي إليه، وإنما يتركه ينسحب في صمت قبل أن تصل الرواية إلى نهايتها بثلاثة فصول على الأقل. أما المعسكر الآخر الذي يبدأ به الكاتب وينتهي إليه، ويعطيه المساحة الأكبر، فهو عالم الشعب المهمَّش، حرفيي المدينة ومجاذيبها، فلاحي الريف الأجراء وفلاحاته.. إلخ

بقيت نقطتان أخيرتان لابد من الإشارة إليهما فبل أن نختم هذه المقدمة التي طالت:

– أولاهما حول البطولة في هذه الرواية؛ فـ”السائرون نيامًا”، وكما يشي عنوانها الساحر هذا، ليس لها بطل فرد، وشخصياتها كلها أساسية كما أشرت منذ قليل، والبطولة فيها جماعية بامتياز. ومع ذلك فإن الكاتب يركز تركيزًا خاصًّا على شخصيتين، إحداهما من معسكر المماليك، وهي شخصية السلطان قايتباي، والأخرى من معسكر الشعب، وهي شخصية خالد. كل منهما يمتلك بعدًا بطوليًّا ملموسًا ؛ فقايتباي كما تقول الرواية ظل مدبد، ينتصر على الطاعون مرتين، ويمقت المحيطين به من المماليك، وتصوره الرواية عند موته وقد سئم لعبتهم وصراعهم على السلطة. أما خالد فيحمل رمز مصر وشعارها على كتفه وفوق لسانه (أخته عزة التي اختطفها المملوك من الحمام في بداية الرواية)، ولا يكف عن تكرار عبارته التي حفظناها منذ قالتها الشيخة زليخة إلى أن انتهت الرواية:” أينما تولي وجهك فثم وجه عزة، يداها في البحر المالح وقدماها، في أرض الصعيد، وملء البر أنفاسها الطاهرة”. ولأن الكاتب يعطي لهاتين الشخصيتين بعض التركيز، كان من الطبيعي أن يرسمهما من الداخل، وأن يستخدم مونولوجاته غير المباشرة، لكي يدخل إلى عقليهما ونفسيهما ويصور ما فيهما من أفكار ومشاعر وهواجس.

– والنقطة الثانية حول اللغة التي كتبت بها هذه الرواية. فلأن سعد مكاوي لم يكن يرغب – كما قال – “في بعث فترة من التاريخ المملوكي، ولأن “السائرون نيامًا” هي موقف فلاح مصري مثقف، عايش عصرنا، وجد في فترة تاريخية معينة من ماضي أمته، ما يمكت أن يكون شاهدًا على عصره”[11]؛ لهذا كله كتبت الرواية بلغة معاصرة لا تختلف كثيرًا عن لغة سعد مكاوي في أعماله الأخرى، ولهذا أيضًالم يحاول الكاتب استعادة لغة شبيهة باللغة العربية في عصر المماليك. يخيل إليَّ أحيانًا أن الرجل لم يكتب روايته لتكون رواية تاريخية، وإنما كان يكتب لونًا جديدًا من الرواية الواقعية. والشيء الذي لابد من الالتفات إليه في لغة هذه الرواية، هو ذلك البعد الباطني المونولوجي، الذي يكشف عنه استخدامه للمجاز وللإيقاع بكثافة وخصوصية.

*******

الآن لابد أن تترك للقارئ الفرصة، لقراءة هذه الرواية الممتعة حقًّا، والحكم عليها بنفسه؛ فهي تستحق دراسة مستفيضة تكشف عن أسرارها، ومقدمة أفضل من هذه المقدمة.


[1] – نشرت “السائرون نيامًا” لأول مرة مسلسلة في جريدة “الجمهورية” (من 10/1/1963 إلى 19/7/1963)، ثم نشرت في كتاب صدر عن الدار القومية للطبع والنشر، القاهرة 1965. ورواية على هذا القدر من العمق والإحكام لابد أنها احتاجت زمنًا طويلاً لإعداد مادتها التاريخية، ومن ثم فإن المتوقع أن تكون مكتوبة قبل عام 1963 بأعوام.

[2] – نشر سعد مكاوي قبل “السائرون نيامًا” عشر مجموعات قصصية، لكن منجزه السردي يتضح على وجه الخصوص في مجموعات مثل:

– في قهوة المجاذيب، دار روز اليوسف، سلسلة الكتاب الذهبي(العدد 35)، القاهرة، أبريل 1955.

– الماء العكر، دار الفكر، القاهرة، 1956.

– مجمع الشياطين، دار روز اليوسف، سلسلة الكتاب الذهبي (العدد 69)، القاهرة، ديسمبر 1959.

– الزمن الوغد، الدار القومية للطباعة والنشر، سلسلة الكتاب الماسي (العدد 1)، القاهرة، فبراير1962.

ولمزيد من التعرف على مكانته في تاريخ القصة المصرية القصيرة يمكن الرجوع إلى:

خيري دومة: القصة القصيرة عند سعد مكاوي، رسالة ماجستير  مخطوطة، كلية الآداب – جامعة القاهرة، 1989.

[3] – نشرت “شهيرة” للمرة الأولى مسلسلة في جريدة “المصري” (من 7/12/1948 إلى 15/1/1949)، ثم ظهرت بعد ذلك في مجموعة تحت العنوان نفسه ضمن سلسلة الكتاب الفضي (العدد 19)، القاهرة،  ديسمبر 1956.

[4] – نشرت “الرجل والطريق” لأول مرة مسلسلة في جريدة “الجمهورية” (من 12/8 1961 إلى 11/11 1961)، ثم نشرت في كتاب صدر عن عالم الكتب بالقاهرة، دون تاريخ.

[5] – نقل لي الشاعر محمود توفيق في حواري معه ( وكان صديقًا مقربًا إلى سعد مكاوي) أنه سمعه أكثر من مرة يشبِّه سقوط مصر في قبضة هؤلاء العسكر بالسقوط في بئر عميق يصعب الخروج منه.

[6] – راجع قصة مثل “عزبة الشيخ الشاذلي” في نهاية مجموعة “الزمن الوغد”.

[7] – تأمل قصته “في خير وسلام” ضمن مجموعة “مجمع الشياطين”، وهي مونولوج واحد ممتد، ثم انظر إلى قصته “الزمن الوغد“، وهي مونودراما من الطراز الرفيع ترسم  بالمونولوج وبمناجاة النفس المستوحدة، صورة لحياة الشاعر عبد الحميد الديب.

[8] – راجعت الببليوجرافيات وسألت الأصدقاء بحثًا عن استثناء آخر يشبه “السائرون نيامًا” في هذه المسألة، فلم أجد سوى “عبث الأقدار” لنجيب محفوظ، على ما في هذا العنوان من بعد غامض يتصل بالتاريخ ومسيرته

[9] – قدم إبراهيم فتحي قراءة كهذه لرواية السائرون نيامًا، نشرها في جريدة الأهالي في 19/6/1986 تحت عنوان “السائرون نيامًا: طواويس على القمة وتيارات الأعماق الشعبية تتوالى“.

[10] – في أوائل الستينيات، كان سعد مكاوي قد ترجم عن الفرنسية كتابًا لمارسيل مارتن عنوانه “اللغة السينمائية“، وقد صدر الكتاب عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، القاهرة، 1964. وقد أخذت عنه مصطلح التوليف بنوعيه الروائي والتعبيري.(ص 35)

[11] – من حديثه إلى عبد الرحمن أبو عوف المنشور ضمن كتاب “حوار مع هؤلاء“، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1990، ص 75.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial