التعذيب وضحاياه ودور مركز ضحايا التعذيب في برلين

بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع ضحايا

التعذيب الذي يصادف 26/6/ من كل عام

د. حامد فضل الله*

سأعالج في هذا المقال وبصورة موجزة ثلاث قضايا أساسية, وهي:

1. تغير وتفاقم الأسباب الكامنة وراء ممارسة التعذيب ضد الإنسان

2. موقف لائحة حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية من التعذيب

3. أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ومركز معالجة ضحايا التعذيب في برلين

وفي بحث لاحق سوف أعالج موضوع التعذيب في دول الشرق الأوسط وعواقبه على شعوب المنطقة.

1. تغير وتفاقم الأسباب الكامنة وراء ممارسة التعذيب ضد الإنسان

يؤكد تاريخ البشرية إلى أن الإرهاب وممارسة التعذيب بمختلف أنواعه قد لاحق البشرية على مر العصور وعانت منه جميع الشعوب. إلا أن أساليب التعذيب الرهيبة, سواء ألجسدية منها أم النفسية, لم تصل في وحشيتها إلى الدرجة التي بلغتها في القرن العشرين والسنوات الأولى من العقد الحادي والعشرين, حيث  أصبح تعذيب الإنسان وسيلة لتدمير شخصية وكرامة الضحية مع التعمد بإصابته بخلل وعاهات جسدية ونفسية مزمنة ترافقه الى نهاية عمره إن لم يكن قد مات تحت التعذيب. لم يبق التعذيب منحصرا في فئة خاصة أو جماعة معينة من الناس، وإنما أخذ يشمل الأطفال والعجائز والنساء والحوامل والمرضى والأصحاء والمتهم والبريء دون مراعاة أي نوع  من الاعتبارات الإنسانية  أو العقائدية أو الدينية.

أما الغاية من التعذيب وأهدافه فقد بقيت في ثابتة دون  تغيير كبير رغم مضي قرون  وقرون على ممارسته.

ومما هو جدير بالذكر أن التعذيب ابتداءً من الفراعنة والبابليين ومروراً بقدماء اليونان والرومان ووصولاً إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في القرن الثاني عشر قد أستخدم أساسا لانتزاع الشهادات والاعترافات والمعلومات عن الأعداء (في الحروب) ومعاقبة مرتكبي الجرائم الكبرى وأحيانا للتسلية أثناء الاحتفالات بالأعياد الكبرى, بما فيها رمي الإنسان للصراع ضد الحيوانات المفترسة. ثم تطورت أساليب التعذيب ابتداءً من القرن الخامس عشر حتى القرن السادس عشر لتصبح رسمية ومصرحّا بها للحصول على الأدلة اللازمة لإدانة المتهم حتى إذا كان بريئاً.

كتب انطونيوس ماتيوس الثاني في هذا الصدد ما يلي:Antonius Mathaeus 2   (1601–1654): “رغم أن التعذيب ليس هو الأسلوب المشروع والمتفّق مع القانون الإلهي والقانون الطبيعي للاستدلال عن الحقيقة إلا أنه من الواضح والثابت أن ذلك الدليل الخطير والمزيّف كان مسموحا به في قانوننا المدني”.

وكان عالم الآداب والفيلسوف والمربي الإسباني جوان لويس Juan Luis  قد عبّر سابقا فلسفيا عن التعذيب من حيث آلامه وانتهاكه للقوانين وقال: “إننا نعذّب البشر حتى يموتوا بدون ذنوب، رغم أن ذلك يؤلمنا أكثر من موتهم”.

وكان الغرض آنذاك تماما مثل الآن ليس الوصول إلى الحقيقة ، بل تزوير الحقيقة ، وذلك ما قاله سيساروCicero   بوضوح: “إن هدف التعذيب ليس هو البحث عن الحقيقة ، وإنما إرغام المعذّب على الإدلاء بشهادة مزّورة”.

وعلى عكس العصر الحالي، فان الضحايا في الماضي كانوا في غالبيتهم جنودا وأسرى حرب وعبيد ومجرمين عتاة. أما المبادئ والمعتقدات فيبدو أنها في الماضي لم تكن من دوافع التعذيب، فلهذا من الممكن اعتبار يوحنّا المعمدّان والمسيح عليه السلام كمثال من أوائل ضحايا التعذيب آنذاك لأسباب روحانية فلسفية، أما في القرون التي أعقبت فقد كثرت التقارير حول التعذيب لأسباب عقائدية في كثير من البلدان. وقد وصل التوسّع في استخدام وسائل التعذيب عن طريق مؤسسات الدولة الى ذروتها في القرن الثاني عشر،حيث تم تقنينها على نطاق واسع أثناء محاكم التفتيش  Inquisition    بواسطة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

وقد استمر ذلك الوضع كما هو حتى القرن الثامن عشر، عندما اندلعت الثورة الفرنسية حيث وضعت حدّا للتعذيب رسمياً على الأقل في أوروبا. وكان تتويج تلك الفترة متمّثلا في إصدار أول “إعلان لحقوق الإنسان” عام 1789، الذي أصبح بمقتضاه الممارس لعملية التعذيب مجرما تنفّذ فيه عقوبة الإعدام بالمقصلة.وقد كانت الحربان العالميتان, وخاصة الثانية, تعمل على إحياء التعذيب في ألمانيا النازية كأداة في يد الدولة ضد الجماعات العرقية والدينية والايديولوجية. وقد وصلت الوحشية في ذلك الوقت حدّا ليس له مثيل في تاريخ البشرية- وقد استعمل التعذيب الحديث المتطوّر على مستوى تكنولوجيا عالية ليس فقط للأغراض التقليدية مثل انتزاع الشهادات والاجبار على الاعتراف، بل من أجل التحطيم المنظّم للضحية وإبادتها أحيانا غير قليلة.

2. موقف لائحة حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية من التعذيب

بسبب تفاقم أساليب التعذيب واتساع عدد الدول التي تمارسه وتنامي عدد الضحايا التي تعاني من وطأته رغم صدور لائحة حقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول/ديسمبر 1948, فأن المجتمع الدولي وجد نفسه ملزماً بإصدار “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية أو المهينة” بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 1984 وفق القرار 39/46 , حيث تحددت فيه آليات تنفيذ مناهضة التعذيب وإساءة المعاملة. جاء في لائحة حقوق الإنسان النص التالي: “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة”[1]. إذ أن التعذيب يعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان ومحرم تحريماً كلياً في القانون الدولي ولا يخضع للاجتهاد وتعاقب الجهة التي تمارسه. ومع ذلك وبعد مرور أكثر من خمسة عقود ونيف على لائحة حقوق الإنسان و21 عاماً على صدور قرار آليات تنفي بنود اللائحة بشأن التعذيب وسب إيقافه, فأن تقارير الأمم المتحدة الصادرة عن اللجنة الدولية لحقوق الإنسان و تقارير منظمة العفو الدولية والتقارير الإقليمية والمحلية تشير إلى أن التعذيب يجري اليوم في أكثر من مئة دولة في جميع أرجاء العالم. وأن جميع دول منطقة الشرق الأوسط, ومنها العراق, دون استثناء تمارسه بقسوة بالغة وبأشكال كثيرة. ولا يقتصر التعذيب على سجناء الرأي والعقيدة والمذهب والدين فحسب, بل يشمل المتهمين بجرائم الحق العام كالقتل والنهب والسلب واللصوصية وقضايا الاعتداء والاغتصاب الجنسي … الخ. ولم تهتد الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية التي تهتم بمسألة التعذيب إلى السبل القويمة التي تساعد على منع ممارسة التعذيب في العالم, إذ لم تقتصر ممارسة التعذيب وإساءة المعاملة على الدول النامية فحسب, بل تشمل الدول الصناعية المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واستراليا وغيرها من الدول التي قطعت شوطاً مهماً في تطوير الحضارة الحديثة ومبادئ حقوق الإنسان. وليس أدل على ذلك تلك الفضائح التي كشف عنها النقاب في سجن أبو غريب على مقربة من بغداد حيث تم تعذيب الموقوفين والإساءة إليهم وإلى كراماتهم بغض النظر عن التهم الثقيلة الموجهة لأي منهم. وكذا الحال بالنسبة إلى معتقل غوانتنامو حيث يوجد هناك مئات المعتقلين الذين تجري معاملتهم بصورة غير إنسانية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. إن من يشجب الممارسات اللاإنسانية في أي مكان في العالم يفترض فيه أن يمارسها أيضاً وإلا فمصداقيته تسقط تماماً أمام أنظار الشعوب. والمهمة التي تواجه المجتمع الدولي وكافة الشعوب تتمحور في هذا المجال في إيجاد آلية أكثر صرامة وأكثر قدرة على تحقيق المنشود وتحريم التعذيب في كل مكان من أرجاء المعمورة بغض النظر عن طبيعة النظم القائمة والدولة التي تمارسها..   

ولا شك في أن وجود مراكز لمعالجة ضحايا التعذيب في أكثر من دولة في العالم يمكن أن يساعد لا على معالجة ضحايا التعذيب وإساءة المعاملة فحسب, بل وفضح العواقب الوخيمة للتعذيب على الإنسان والدول التي تمارسه والإجراءات التي يمكن اتخاذها لوضع حد لكل ذلك. كما يفترض أن لا يقتصر التحريم على التعذيب ذاته, بل يمتد إلى تحريم بيع الأجهزة والأدوات التي تنتجها الدول الصناعية وغيرها وبيعها إلى الدول الأخرى التي تمارسها. فالكثير من وسائل التعذيب يتم استخدامها الآن بأساليب أكثر تطوّرا في بعض مما يسمى ببلدان العالم الثالث دون رادع وعلى نطاق أوسع ضد أصحاب المعتقدات السياسية المختلفة وجماعات إثنية معينة وضد شعوب معينة بأكملها. إن عملية نقل التكنولوجيا في إطار ما يسمى بمساعدات التنميةEntwicklungshilfe   والتعاون التقني وعن طريق بعض الشركات الخاصة تؤدي إلى تجهيز السلطات الحاكمة في تلك البلدان بالوسائل الفنية الحديثة وتزويدهم بالمدربين الأخصائيين لإنتاج وسائل التدمير(الغازات السامة مثل غاز الخردل وغاز الأعصاب والأسلحة البيولوجية) وتدريب القائمين بالتعذيب، مما يخلق وضعا يفوق قدرة وإمكانيات الهيئات والمؤسسات الصحية والطبية المحلية في الوقت الحاضر وفي المستقبل البعيد. إن آثار الوسائل الحديثة للتعذيب تشمل في معظم الأحيان كل أعضاء الجسم فهي تسبّب في الغالب الأعم أضرارا مباشرة تؤدي حتما إلى إصابة الضحية بالعجز إذا لم تتوفّر له وسائل العلاج الطبي الشامل والرعاية الطبية المركزّة. ورغم أن الشفاء التام في غالبية الأحيان غير ممكن، إلا انه يبدو في حالات كثيرة إمكانية علاج واسعة النطاق مع تحسّن ملموس، وذلك ما توصلت إليه وحققته خبرات بعض مراكز معالجة ضحايا التعذيب في أوروبا وأميركا.

3 أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ومركز معالجة ضحايا التعذيب في برلي

بقاً لتقارير مفصلّة تعتمد على فحوص طبية دقيقة في بعض تلك المراكز (وخاصة مركز تأهيل ضحايا التعذيب المشهور في كوبنهاغن[2]
CT: Rehabilitation Center for Torture Victims) ) فانه يظهر عند الضحايا إضافة إلى الأعراض التقليدية مجموعة أخرى من الأعراض المشتركة بصرف النظر عن نوع ومكان التعذيب، مما يطلق عليها اسم متلازمة ومتزامنة مع التعذيب  Folter-Syndrom. ويرجع ذلك بصورة عامة إلى حالات الاضطراب والخوف والضغط النفسي الهائل التي تعاني منها الضحايا. وتجدر الإشارة إلى أن حد ومدى بعض الأعراض, إضافة إلى معالجة المضاعفات, تختلف باختلاف أصل ووطن الضحية. ويبدو أن هذه الظاهرة ناتجة عن مكونات إثنية واجتماعية وحضارية، إذ يجب مراعاة ذلك أثناء العلاج.

وعلى سبيل المثال نذكر في هذا الصدد الآثار العميقة الناتجة عن الاعتداء الجنسي في البلاد الإسلامية، فان الضحية يفقد بعدها كرامته وشخصيته تماما، ليس فقط في نظر الناس، بل أيضا عند الأقارب والأصدقاء. نحن لسنا هنا لنتعرّض للنواحي الاجتماعية والأخلاقية والقانونية للتعذيب وضحاياه، بل نحصر اهتمامنا في بعض النقاط الخاصة بأساليب التعذيب وأعراضه.

ونظرا لأن الضحية تكون معصوبة العينين أثناء عملية التعذيب وبعض من الضحايا يموتون أثناء التعذيب، فان كثيرا من فنون التعذيب تبقى غير معروفة. وهنا نود أن نعدد تمثيلا لا حصرا بعض أساليب التعذيب الشائعة في الوقت الحاضر.

التعذيب الجسدي

–       عصب الأعين ثم الصفع على الأذن أو الأذنين في آن واحد والركل بالأحذية على مناطق حسّاسة من الجسم مثل البطن ومنطقة الكلية والأعضاء التناسلية .

–       الضرب على الأرجل(ما يسمى بالفلقة).

–       الضرب بالسياط والعصي وأعقاب البنادق.

–       المنع من الخروج للسواك أو لقضاء الحاجة أو الصلاة.

–       تقييد المعذب من الأيدي أو الأرجل لفترة طويلة.

–       خلع الأسنان وأظافر اليد والقدم.

–       صب الماء المثلّج على السجين أو الماء الساخن، وملئ البطن بالماء عن طريق الخراطيم.

–       حرق الجلد في أماكن مختلفة باستعمال اللهب أو السجائر.

–       استخدام التيار الكهربائي في أماكن حساسة من الجسم مثل الأعضاء التناسلية والأسنان.

–       إجبار المعذب على الوقوف أو الركوع لساعات أو أيام عديدة لإرهاقه جسديا ونفسياً.

–       إدخال أجسام غريبة مثل الزجاج أو الحطب أو الحديد في الأعضاء التناسلية أو فتحة الشرج والاغتصاب الجنسي بأنواعه المختلفة.

التعذيب النفسي

يشمل الشتائم البذيئة والتهديد بمختلف أنواعه للسجين وأسرته مثل الاغتصاب والإيهام بالإعدامSchein-Hinrichtung  بإخراج السجين معصوب العينين”للإعدام” ثم إعادته مرة أخرى لغرفة مظلمة ضيقة.

–       الحرمان من النوم عن طريق أبواق كبيرة وطرق النوافذ.

–       الاستجواب لساعات وأيام متواصلة.

–       استخدام التنويم المغناطيسي والتخدير والعقاقير المسكنّة.

أما عن أعراض التعذيب،فمن الممكن أيضا تقسيمها الى قسمين :

الأعراض الجسدية:

التي تشمل بالأخص العمود الفقري والأسنان والجهاز البولي والتناسلي والجلد والأذن والعين.

الأعراض النفسية:

وتشمل الأرق (الحساسية المفرطة) والكآبة النفسية بمختلف أنواعها-فقدان الذاكرة والرغبة في الانتحار أو القيام بمحاولات الانتحار-الانعزال وحالات الخوف المزمن والمشاكل الجنسية ومضاعفاتها مثل الخجل وفقدان الكرامة والشخصية أمام نفسه وأمام أسرته ومعارفه .

أما طرق العلاج فهي كثيرة ومتنوعّة ولاتنحصر في الوسائل الطبية البدنية والنفسية فقط, وانما تشمل أيضا النواحي الاجتماعية، ولا مجال للتعرّض لها في هذا

  إن فكرة تأسيس مركز لعلاج ورعاية ضحايا التعذيب بدأت في اغسطس 1990 من قبل بعض الأطباء الألمان الذين يبحثون في آثار ومضاعفات التعذيب في فترة الحكم النازي، ومن بعض الأطباء العرب وبعض أطباء كرد العراق، ولقد لقيت التشجيع والمساندة التامة من قبل المجلس الطبي ببرلين ومن بعض الشخصيات السياسية والثقافية والقانونية البارزة من مختلف الاتجاهات السياسية والعقائدية.

وبعد الاتصالات والاجتماعات المتواصلة وتسجيل المركز لدى السلطات القضائية والحصول على مبنى داخل حرم المستشفى الجامعي في Westend Charlottenburg  تم افتتاح المركز رسميا في أول يناير 1992، ويعمل حاليا في المركز فريق يتكوّن من 4 أطباء وطبيبة ومحللين نفسيين ومحللة نفسية ومشرف اجتماعي ومدربّة للتمارين الطبية والعلاج الطبيعي وأمينة مكتب’ه وسكرتيرة وذلك بعد أن قررت وزارة الأسرة في ألمانيا Bundesfamilienministrium   مساندة المركز ورصدت من ميزانيتها لعام 1992 مبلغا من المال بالإضافة الى تبرعات الصليب الأحمر الألماني والأمم المتحدة والسوق الأوروبية، وكذلك الشركات،والمنظمات غير الحكومية ومختلف الأفراد. ومما يجدر الاشارة اليه أن المركز لا يستطيع القيام بأعماله المختلفة بشكل مرضي دون التبرعات وكان باكورة أعمال المركز قبل التسجيل القيام بعلاج ورعاية خمسة من المواطنين الكرد من كردستان العراق من ضحايا قنابل غاز الخردل في حلبجة بالعراق. كما أجريت لأحدهم عملية جراحية في القلب وبعد مبادرة من بعض الأطباء الكرد من كردستان العراق بتكليف من المجلس الطبي ببرلين قام المركز أيضا بتنفيذ المساعدات الطبية لكرد العراق بعد وقف الاقتتال في كردستان وجنوب العراق 1991 وذلك بإرسال أربعة فرقTeams   من أطباء وممرضات على فترات بجانب معدات طبية وأدوية, كما تم تأسيس خمسة عيادات خارجية”شفخانات” تعمل الآن بصورة مستقلة ولكنها تتلقى الدعم المادي من التبرعات التي تجمع بمساعدة المركز والمجلس الطبي لهذا الغرض.

 لقد استقبل المركز حتى الآن أكثر من مئة مريض معظمهم قادمون من دول الشرق الأوسط-من العراق وكردستان العراق وإيران وتركيا وسوريا ولبنان، ويأتي بعضهم من باكستان وكوريا وأنغولا وأثيوبيا ورومانيا ودول الكومنولث الجديدة التي خلفت الاتحاد السوفييتي، وبعضهم من ضحايا أمن الدولة في المانيا الشرقية سابقا Stasi  ويتم تحويل المرضى للمركز عن طريق الأطباء والمحامين ومنظمة العفو الدولية ومركز رعاية اللاجئين بالجمعيات الخيرية الخاصة. وجدير بالإشارة إلى أن ما يقوم به المركز هو أشبه بقطرة ماء في بحر, إذ أن عدد ضحايا التعذيب في العالم, وخاصة في دول الشرق الأوسط هائل جداً ومرعب في آن واحد.

–       إن تطوّر التعذيب بالوسائل العلمية الحديثة والتطوّر المستمر لأساليبه يتم بصورة عامة باشتراك بعض الأطباء والمحللين النفسيين فالأطباء يشاركون أيضا في توجيه عمليات التعذيب عن طريق المراقبة الطبية للمعذب بحيث يمنعون حدوث وفاة غير مقصودة، ويتولون بعد ذلك عملية محو آثار التعذيب وإصدار تقارير طبية مزوّرة واستخراج شهادات الوفاة.

–       إن التشخيص والعلاج يحتاج الى وقت طويل وقدرة على الاستماع والتفهم والصبر والخبرة مع مراعاة الفوارق الاجتماعية والثقافية والعرقية والدينية ومصاعب الحياة في الغربة.

ان بعض الاجراءات الطبية كأخذ الدم أو وضع”الكترونات”صغيرة لرسم القلب أو المخ أو القيام بتمارين طبية أو عملية التدليك تحت الماء الخ … كل ذلك يمكن لأن يذكّر الشخص بالتعذيب ويسبب رد فعل وخوفا لا يفطن لهما أو يدركهما الا الفريق المتخصص المدرب، مما يجعل علاج هؤلاء الضحايا في مراكز طبية متخصصة أمرا ضروريا كما أثبتت تجارب المراكز المتخصصة في أوروبا.

ومما هو جدير بالاشارة الى أن المركز محايد ولا يمثل خطا سياسيا أو عقائديا معينا،فتقديم العلاج والرعاية لضحايا التعذيب يتم دون النظر الى اللون أو الجنس أو العرق أو الدين أو العقيدة أو القومية أو الموقف السياسي.ونجاح أو فشل المركز يتوقّف على مراعاة وصيانة هذا الخط المحايد،والمركز ملتزم فوق ذلك باعلان الأمم المتحدة ضد التعذيب بتاريخ 10 ديسمبر 1984،وبوثيقة البرلمان الأوروبي الخاصة بحقوق الإنسان وباعلان مدريد الصادر عن الجمعية العمومية للجنة الدائمة للأطباء في منظمة الاتحاد الأوروبيEU 

من هذا الإعلان على توصيات لها صفة الإلزام، فتلتزم هيئات الأطباء المشاركة بتشجيع ومساندة الأبحاث الموجّهة ضد التعذيب ومعالجة ضحاياه والعمل على كشف وإدانة الأطباء الذين يشاركون في عمليات التعذيب تحت حماية السلطات. والمركز يتعاون مع الأقسام الطبية المختلفة داخل حرم المستشفى الجامعي لتقديم أسرع وأنجح الطرق للعلاج، وكذلك يتعاون مع المنظمات الخيرية ومنظمات رعاية اللاجئين ومنظمة العفو الدولية لتذليل المشاكل الاجتماعية والعائلية في بلد الغربة والمساعدة للحصول على الإقامة ليبدأ العلاج الفوري ولابد من الإشارة إلى أن المركز مؤسسة طبية وليس مركز رعاية قانونية أو اجتماعية للمساعدة على الحصول على حق الإقامة واللجوء كما يعتقد بعض المحامين والأطباء والجمعيات الخيرية، واللاجئين أنفسهم، ولكنه على استعداد لتقديم المساعدة عند الضرورة ومثالا على ذلك عندما رفضت السلطات البرلينية طلب اللجوء لأحد المواطنين السوريين الذي تعرّض للتعذيب في وطنه وأمرت السلطات بترحيله، فقامت محكمة القضاء الإداري ببرلين بالاستماع لشهادة المركز عن طريق ثلاثة أخصائيين وصدر القرار بايقاف الترحيل الذي قد يؤدي إلى تعذيبه من جديد.

وهذه خطوة ناجحة على طريق الاعتراف بالمركز كمؤسسة جادة ومؤهلة فنيا وعلى المركز أن يحرص على هذا الاعتراف وعلى هذه المصداقية التي حاز عليها في فترة قصيرة .

–       إن الهدف من هذا العرض الموجّز والذي يعتمد أيضا على ما نشره المركز مؤخرا(د. كرستيان بروس Dr.Christian Pross  ود. حسن محمد علي) هو التذكير والتنبيه والإشارة كذلك الى التقارير السنوية لمنظمة العفو الدولية التي تؤكّد أن التعذيب الذي أصبح بلاء القرن العشرين آخذ في الانتشار والازدياد في كل أنحاء العالم، خاصة الدول العربية التي تحكمها ديكتاتوريات عسكرية أو مجموعات صغيرة تستولي على السلطة من دون مساندة جماهيرية وتقوم بالتنكيل والتعذيب والمطاردة لخصومها السياسيين والعقائديين أو من قوميات أخرى بأساليب لا تقل وحشيتها وشراستها  عن أساليب الحكم النازي.

–       واذا كان الهدف من التعذيب كما ذكرنا سابقا ليس فقط الحصول على الاعترافات بغية إدانة الضحية وإنما أيضا تحطيم الإنسان جسديا وسياسيا وعقائديا فان علاج ضحايا التعذيب ورد الاعتبار والكرامة لهم ولذويهم هو الرد الفعلي والمقاومة الجادة ضد القائمين بعمليات التعذيب وأنظمتهم السياسية.[3]

إن إنشاء المركز في برلين يكتسب مدلولا خاصا. فقد كانت برلين مركز أساسياً من مراكز إبادة الجنس البشري الذي ليس له نظير في التاريخ, بالإضافة إلى أن برلين كانت مركزاً للتعذيب النفسي والاضطهاد السياسي من جانب جهاز مخابرات الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا أيضا.

ومن الجدير بالإشارة أن المركز لا يضع ضمن مهماته التغلّب على مخلفات الماضي, إذ لا يستطيع ذلك, ولكنه يستطيع أن يلعب دورا هاما في مساعدة ضحايا التعذيب, وبهذا يقوم بجزء من رد الاعتبار والتذكير والعمل الملموس، حيث يعيش في برلين وحدها أكثر من 20 ألف لاجئ سياسي ربعهم على الأقل في حاجة الى مساعدات اجتماعية نفسية. ومن المعروف أن بعضهم قد تعرّض للتعذيب في بلادهم وهم في حاجة ماسة مع أقاربهم, الى العلاج الطبي. يضاف إلى ذلك ان المركز يقوم برعاية مجموعة من ضحايا الحكم النازي الذين ما زالوا يعانون من آثار الاعتقال الجماعي والتعذيب والتشريد وفقد أسرهم. ان هناك كثيرا من الأهداف المشتركة بين منظمة حقوق الإنسان في الدول العربية\ألمانيا (أومراس), التي تأسست منذ عقد ونيف من السنين, ومنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق (أومريك) التي تأسست في عام 1995, وبين مركز علاج ضحايا التعذيب في برلين, واستنادا إلى الأهداف المشتركة يفترض توثيق علاقات التعاون في مختلف المجالات المشتركة من أجل مساعدة ضحايا التعذيب والاضطهاد في العراق والدول العربية.

–       ان الانتهاك اليومي لحقوق الإنسان في العالم العربي والإسلامي من جراء الحروب الأهلية والمجاعات والقمع والفصل التعسفي من الخدمة والحرمان من حق العمل والحروب التي فرضها علينا الغير يدفعنا إلى المزيد من النضال والعمل اليومي الدءوب وسط الجماهير لتعميق الوعي الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان بما أنه إنسان وعلينا أن لا نصدق التبريرات التي تطلقها السلطات الحاكمة لمواصلة التعذيب والتنكيل بالمواطنين بحجة حفظ وسلامة أمن المواطن .

ولا نلتفت إلى الكلمات الجوفاء التي يطلقها البعض بأن الديمقراطية هي نتاج المجتمعات الغربية ولا تصلح لبلادنا .

إن الديمقراطية ظاهرة اجتماعية بشرية، وإذا كانت الديمقراطية الليبرالية نهجا وسلوكا-نتاجا غربيا فهي أولا وقبل كل شيء نتاجا إنسانياً، فإنها التجربة الوحيدة الآن على الساحة العالمية القادرة على الثبات، ولم تأت الا عبر نضال وكفاح دموي داخل المجتمعات الغربية نفسها .

فلابد من تطوير نظريتنا للديمقراطية في بلداننا وأن نحاول الاجتهاد في الصيغة والفهم لنكون أكثر وعيا ونضجا، فمضمون الديمقراطية يجب أن لا يقتصر على السياسي فقط بل يشمل الاجتماعي والثقافي والفكري والبيئي, من أجل القضاء على الظلم والقهر والتعذيب، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز :

“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”

“إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون”

أن العمل من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان وصيانة كرامته هو عمل يتطلّب كثيرا من الجهد والصبر ونكران الذات، وهذه مهمة ليست إقليمية أو قومية فقط بل أنها مهمة دولية وإنسانية في المقام الأول.[4]

__________________________________________

الهوامش:

[1] راجع: الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. الرسالة رقم 2. الحملة العالمية لحقوق الإنسان. مركز حقوق الإنسان. الأمم المتحدة. جنيف. 1988.

   راجع أيضاً: آليات مكافحة التعذيب. البطاقة الإعلامية رقم 4. الحملة العالمية لحقوق الإنسان. مركز حقوق الإنسان. الأمم المتحدة. جنيف 1989.

[2]  نصوص مكتوبة باللغة الألمانية موجودة في مكتبة الكاتب في برلين.

[3] سورة الرعد الآية 11.

[4] سورة يونس الآية 44.

*د. حامد فضل الله طبيب اختصاص. عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة حقوق الإنسان في الدول العربية\أومراس\ألمانيا وعضو مؤسس لمركز علاج ضحايا التعذيب في برلين/ ألمانيا

Dr.Hamid Fadlalla

Suarezstr. 22 – 14057

Berlin /Germany

Berlin, 27.6.2005

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial