الاستبداد وآليات إعادة انتاجه والسبل الممكنة لمواجهته (تطبيق على المملكة العربية السعودية)

الأستاذ توفيق السيف

بيـئـة الاستبداد

 هي استعارة من المرحوم مالك structural limitations  القابلية الاجتماعية للاستبداد بن نبي الذي طرح فكرة “القابلية  للاستعمار” كأداة لتفسير تغلغل الاستعمار في البلدان الإسلامية. كل نظام اجتماعي (بما هو منظومات قيم ، وتوازنات ، ونمط إنتاج) يسمح بخيارات محددة ويمنع أخرى . هذه المفاضلة وتجلياتها الواقعية ليست قرارا واعيا ونهائيا ، بل هي محصلة موضوعية للتفاعل بين مجموع العناصر التي تشارك في تكوين الحياة الاجتماعية إضافة إلى تأثير العوامل الخارجية.  القابلية للاستبداد ضمن هذا المنظور ليس ردة فعل مؤقتة على ازمة اقتصادية او سياسية خانقة كما تطرحه نظرية الزعامة الكاريزمية مثلا ، بل نمط ثقافي-اجتماعي يتمتع باستمرارية وعلاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد. وسوف تركز هذه المقالة على العوامل الثقافية في هذا النمط . الثقافة السياسية لمجتمع ما – حسب وصف الموند – هي بمثابة خريطة ذهنية تحدد صورة الفرد كفاعل سياسي مقارنة بغيره من الفاعلين ، كما تحدد صور العلاقة بينهما ونوعية الافعال وردود الافعال المتوقعة من جانبهم[1].

خيار السلطة المستبدة يصبح مرجحا عندما يفشل المجتمع في استنباط نظام عمل اجماعي لادارة شؤونه العامة . فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية ، فان العوامل التي رجحت هذا الخيار في الحقبة التاريخية التي شهدت قيام الدولة ، هي : ذهنية الخضوع ، التفكك ، والطرفية.

1- ذهنية الخضوع:

ونعني بها هنا المستخلصات العامة التي تمثل مرجعية للتفكير الفردي والعقل الجمعي على السواء . رغم التنوع الذي يحفل به تاريخ المسلمين القريب والبعيد ، الا ان الصورة العامة التي يستذكرها معظم الناس عن علاقة المجتمع بالدولة في معظم العصور الاسلامية هي صورة حاكم فرد ورعية طائعة . هذه الصورة جرى تعميمها وتبريرها على اساس ديني حينا واخلاقي حينا اخر[2] في ظل غياب حراك علمي يقوم على المناقشة والنقد ومراجعة الحقائق والمنقولات . فحتى وقت قريب كانت معرفة الجمهور بالتاريخ هي مزيج من نقل الوقائع وتبريرها . وفي كلا الحالتين ، فقد كان النقل والتبرير عملية انتقائية تستهدف تثبيت منهج خاص في العمل السياسي يدور حول تشريع حكم المتغلب . في هذا المنهج يعتبر وجود حاكم مقتدر نعمة الهية وضرورة لا غنى عنها لحفظ النظام العام ، وينظر الى العامة باعتبارهم غوغاء وغثاء ، والى تحركهم باعتباره فتنة وخروجا عن الجادة[3].

هذا النوع من الثقافة لا ينظر الى السلطة السياسية باعتبارها مؤسسة اجتماعية اعتيادية ، بل ناديا خاصا لطبقة تختلف عن عامة الناس . الحصول على السلطة هو تطور طبيعي ، بل قدر مكتوب لاشخاص محددين بسبب هوية موروثة او مزية طبيعية او نعمة  غير مترقبة هبطت من السماء. وبناء عليه فان العمل السياسي ليس منشطا اجتماعيا عاديا متاحا لكل الناس . كما ان سعي الافراد العاديين للسلطة ليس من الامور التي تحظى بالتاييد او الاستحسان . في حقيقة الامر فان الوصول الى السلطة هو مطمح لكل فرد في هذا النوع من المجتمعات ، لكن السلطة في الوقت ذاته بغيضة ومخوفة وهي تكثيف لكل عيوب الدنيا ، فالسعي اليها انجراف وراء زخرف الحياة الدنيا وانحراف عن الطريق القويم[4] .

2- التفكك :

تألفت المملكة العربية السعودية من ضم عدد من الاقاليم تمتد بين البحر الاحمر والخليج العربي افقيا ، وبين اليمن وتخوم الشام والعراق عموديا. رغم انتماء جميع السكان في هذه الاقاليم الى الاطار العربي الاسلامي ، الا ان كلا منها تاثر بتجربة تاريخية مختلفة كما اعتمد نمطا خاصا في المعيشة ، وبالتالي فقد حصل كل منها على شخصية تنطوي على تمايز يمكن اعتباره في ادنى التقادير درجة من النمو مختلفة . يستمد التفكك مبرراته ايضا من نمط الانتاج السائد في مختلف اقاليم البلاد ، والذي يتسم بانعدام الفائض الراسمالي الذي يستدعي قيام علاقة مصالح تفاعلية بين المناطق المختلفة . وهي سمة لاحظها كل دارسي المناطق الشبيهة للجزيرة العربية . واظن ان اقرب النماذج التي يمكن مقارنتها هنا هو نموذج الاقتصاد السياسي للمناطق القاحلة كما عرضه المفكر الايراني هما كاتوزيان[5] . هذا النموذج اكثر قربا لواقع الجزيرة عند الاخذ بعين الاعتبار علاقة الاقتصادي بالسياسي ضمن الاقليم الواحد ، وضمن حدود معينة اذا اخذ بعين الاعتبار مجموع الاقاليم كوحدة واحدة [6].

تمايزت مناطق الجزيرة العربية عن بعضها بفوارق مذهبية ، ومعيشية ، واختلاف في مستويات الثقافة ، كما كانت هناك منظومات سلطة محلية شبه مستقلة. وبالتالي فان الذي جرى تجميعه في الاطار الوطني لم يكن اعدادا من البشر بل منظومات اجتماعية يحمل كل منها هوية خاصة قابلة للمقارنة بالهويات الاخرى[7]. ومن هذه الزاوية فقد كان المؤمل ان يترجم توحيد المملكة في احتواء هذه الهويات الخاصة ضمن هوية جامعة هي الهوية الوطنية . لكن ما حصل فعلا يترواح بين الاهمال التام لهذه الهويات حينا ومحاولة تدميرها واحلال الهوية الثقافية للقوة الغالبة حينا اخر[8]. في الوقت الراهن مثلا ، فان اللباس الوطني للسعوديين هو اللباس النجدي والفولكلور الذي يعرض في المناسبات الرسمية هو العرضة النجدية[9] ، لكن احدا لا يسمع عن الفولكلور الحجازي الغني بالالوان ، او اهازيج البحارة التي اشتهرت في ماضي المنطقة الشرقية.

3- الطرفية :

لاسباب تاريخية وموضوعية فان السياسة كمنشط حياتي تنحصر في المركز وتغيب نسبيا او تماما في الاطراف . والسياسة المعنية هنا هي بالخصوص الاعمال التي ترتبط بالدولة . ولا يغير من هذه الحقيقة وجود انواع من السلطة في كل قرية او مدينة . ان وجود الدولة كهيئة سياسية محصور في العواصم . اما في الاطراف فهي موجودة كقوة امن. ويترتب على هذا ان الوعي التفاعلي بالسياسة ، اي فهمها والتعامل مع الفاعلين فيها وربما محاولة الاقتراب منها وتجريبها ، محصور من حيث الامكانية في العاصمة[10]. عرض الموند وفربا في بحثهما المشهور عن الثقافة السياسية ثلاثة نماذج قياسية هي ثقافة المشاركة ، وثقافة الخضوع ، وثقافة العزلة. وجرى تعريف النموذج الاول بانه المجتمع الذي يعي تاثير الدولة عليه وقدرته على التاثير فيها، بينما الثاني هو الذي يعي بتاثير الدولة عليه مع عجزه عن التاثير فيها ، اما الثالث فهو الذي لا يشعر بوجود محسوس للدولة في حياته[11]. وثمة ميل واضح بين الباحثين الى امكانية تصنيف النوع الاول باعتباره احتمالا قويا في المراكز الحضرية بينما يكون الاحتمال الثاني قويا في الاطراف والثالث في الارياف او التجمعات السكنية المعزولة.

ولا تتوفر معلومات كافية لتاكيد ان النوع الثالث على وجه الخصوص كان موجودا بالفعل في الجزيرة العربية ، رغم ان وجوده يمثل احتمالا قائما . الا انه يمكن القول ان جميع اقاليم الجزيرة العربية التي تشكل الممملكة اليوم ، كانت تاريخيا ضمن الاطراف. ربما كان  الحجاز هو المنطقة الوحيدة التي شهدت قيام ما يشبه الدولة – بالمفهوم الحديث – لفترة يسيرة . ولهذا ، وبهذا المقدار تولد فيها وعي بالسياسة والدولة يتجاوز بقية اقاليم الجزيرة . لكن لا بد ايضا من بعض التحفظ هنا اذ ان حكومة الحجاز لم تكن مستقلة تماما ، فقد كانت تابعة للسلطنة العثمانية مثل بقية الاقاليم .

بقي التصنيف الى مركز وطرف قائما في ظل الدولة السعودية ، اذ انحصرت ممارسة السياسة في عدد محدود من الافراد يجمعهم نسب وسكن ومذهب ، وتجلى الوعي بهذه الحقيقة في التسمية التي سبقت اعلان اسم المملكة العربية السعودية (سبتمبر 1932) ، حين كانت اقاليم الجزيرة العربية التي امست خاضعة للعرش السعودي تسمى “سلطنة نجد وملحقاتها” .

نحن نتكلم عن الاستبداد في معنى الانفراد بالقرار والاستفراد بقوى الدولة المادية والمعنوية ، وهو مفهوم يقابل مفهوم المشاركة او الاشتراك . اذا اخذنا مفهوم المشاركة باعتباره وعيا يرتبط بتجربة ، اي وعيا بالفعل او ثقافة ، فان امكانيته محصورة بتوفر امكانية للحياة السياسية ، اما مع انعدامها كما هو الحال في الاطراف ، فان الكلام يصبح غير ذي موضوع.

3- الطرفية :

لاسباب تاريخية وموضوعية فان السياسة كمنشط حياتي تنحصر في المركز وتغيب نسبيا او تماما في الاطراف . والسياسة المعنية هنا هي بالخصوص الاعمال التي ترتبط بالدولة . ولا يغير من هذه الحقيقة وجود انواع من السلطة في كل قرية او مدينة . ان وجود الدولة كهيئة سياسية محصور في العواصم . اما في الاطراف فهي موجودة كقوة امن. ويترتب على هذا ان الوعي التفاعلي بالسياسة ، اي فهمها والتعامل مع الفاعلين فيها وربما محاولة الاقتراب منها وتجريبها ، محصور من حيث الامكانية في العاصمة[10]. عرض الموند وفربا في بحثهما المشهور عن الثقافة السياسية ثلاثة نماذج قياسية هي ثقافة المشاركة ، وثقافة الخضوع ، وثقافة العزلة. وجرى تعريف النموذج الاول بانه المجتمع الذي يعي تاثير الدولة عليه وقدرته على التاثير فيها، بينما الثاني هو الذي يعي بتاثير الدولة عليه مع عجزه عن التاثير فيها ، اما الثالث فهو الذي لا يشعر بوجود محسوس للدولة في حياته[11]. وثمة ميل واضح بين الباحثين الى امكانية تصنيف النوع الاول باعتباره احتمالا قويا في المراكز الحضرية بينما يكون الاحتمال الثاني قويا في الاطراف والثالث في الارياف او التجمعات السكنية المعزولة.

ولا تتوفر معلومات كافية لتاكيد ان النوع الثالث على وجه الخصوص كان موجودا بالفعل في الجزيرة العربية ، رغم ان وجوده يمثل احتمالا قائما . الا انه يمكن القول ان جميع اقاليم الجزيرة العربية التي تشكل الممملكة اليوم ، كانت تاريخيا ضمن الاطراف. ربما كان  الحجاز هو المنطقة الوحيدة التي شهدت قيام ما يشبه الدولة – بالمفهوم الحديث – لفترة يسيرة . ولهذا ، وبهذا المقدار تولد فيها وعي بالسياسة والدولة يتجاوز بقية اقاليم الجزيرة . لكن لا بد ايضا من بعض التحفظ هنا اذ ان حكومة الحجاز لم تكن مستقلة تماما ، فقد كانت تابعة للسلطنة العثمانية مثل بقية الاقاليم .

بقي التصنيف الى مركز وطرف قائما في ظل الدولة السعودية ، اذ انحصرت ممارسة السياسة في عدد محدود من الافراد يجمعهم نسب وسكن ومذهب ، وتجلى الوعي بهذه الحقيقة في التسمية التي سبقت اعلان اسم المملكة العربية السعودية (سبتمبر 1932) ، حين كانت اقاليم الجزيرة العربية التي امست خاضعة للعرش السعودي تسمى “سلطنة نجد وملحقاتها” .

نحن نتكلم عن الاستبداد في معنى الانفراد بالقرار والاستفراد بقوى الدولة المادية والمعنوية ، وهو مفهوم يقابل مفهوم المشاركة او الاشتراك . اذا اخذنا مفهوم المشاركة باعتباره وعيا يرتبط بتجربة ، اي وعيا بالفعل او ثقافة ، فان امكانيته محصورة بتوفر امكانية للحياة السياسية ، اما مع انعدامها كما هو الحال في الاطراف ، فان الكلام يصبح غير ذي موضوع.

طبيعة الاستبداد : النموذج البدوي

شهدت السنوات الاخيرة محاولات جدية من جانب عدد من المفكرين العرب والمسلمين لاعادة تفسير المكون التاريخي للثقافة والنظام الاجتماعي في الشرق الاسلامي ، تركزت في اطارها العام على نقد المنظور التاريخي الذي يماثل تطور المجتمع العربي مع الاوربي ، ولا سيما في افتراض ان الاوضاع الحالية هي استمرار لـ ، او انتقال من مرحلة ساد فيها اقتصاد سياسي يقوم على الاقطاع كمكون رئيس لعلاقات الانتاج . واقترح الجابري مثلا ثلاثة عناصر بديلة لتفسير الحراك التاريخي هي القبيلة ، الغنيمة ، والعقيدة . ويحاكي هذا المنظور الى حد كبير النموذج الذي عرضه ابن خلدون ، ولا سيما ربطه للملك بالعصبية المدعومة بالدعوة الدينية[12] .

في هذا النموذج تمثل القبيلة اطارا مفهوميا للقيم والتراتب الاجتماعي ، نظاما للسلطة ورؤية للذات والعالم . وتمثل الغنيمة عنوانا للاقتصاد السياسي ، بينما تمثل العقيدة القاعدة الاخلاقية التي تبرر النظام وتوفر المشروعية لديناميات الاستمرار الخاصة به.  ويوفر النموذج اداة مناسبة لتفسير الحراك السياسي في الجزيرة العربية خلال القرن العشرين على الاقل.

لا شك ان تاسيس المملكة العربية السعودية هو اهم حدث في تاريخها على الاطلاق . لقد نجح هذا المشروع بسبب التوظيف المتقن للعناصر الثلاثة للنظام البدوي ، اي القبيلة والغنيمة والعقيدة . نشير هنا الى ان العائلة المالكة السعودية ليست قبيلة بالمعنى المتعارف ، لكن نظام علاقاتها الداخلية ، وعلاقتها بالخارج ، والقيم التي يتحدث عنها اعضاؤها ، هي قيم القبيلة المعروفة في الجزيرة العربية. وحديثنا هنا يلحظ هذا المعنى وليس القبيلة في صورتها الشكلية.

النظام البدوي سياسيا:  القبلية السياسية – طبقا للنقيب – تنطوي على ثلاثة معان على الاقل : أ) انها توفر اساس العصبية . ب) انها تعمل كمنظم لقواعد الادخال-الاخراج . ج) انها تمثل قاعدة للعلاقات في الاطار السياسي[13].  يمكن الاشارة الى ثلاث صفات مميزة للنظام البدوي السياسي :

انه نظام في ذاته ولذاته : القبيلة في الشرق ، مثل الطبقة في الغرب هي اساس لهوية خاصة تجمع بين اعضائها وتميزهم عن الغير ، لكنها تختلف عن الطبقة الغربية في ان منظومة المصالح ليست هي اساس الهوية ، بل الرابطة القرابية التي تقوم عليها لاحقا منظومات مصالح ، وهذا يجعل القبيلة – خلافا للطبقة – نظام مغلقا على الخارج فلا يسمح بالحراك منه الى الخارج او من الخارج اليه . ان ابسط تجليات هذا الانغلاق يظهر في تقاليد الزواج ، لكنه في المفهوم العام يشمل حتى التساكن (حتى في المدن الكبرى) وتوليف القوة السياسية. مع التطورات التي حدثت في البلاد بعد اكتشاف البترول ، فقد واجه نظام القبيلة تحديا خطيرا نتج في المقام الاول عن الهجرة الى الحواضر الكبرى[14] وظهور نطاقات مصالح اقتصادية غير مرتبطة بالقبيلة اضافة الى توسع الدولة في التوظيف والتمويل ، وهذه كلها مثلت عناصر جذب كان من شانها اضعاف الرابطة القبلية . ويبدو ان هذا قد حدث ضمن حدود  معينة. لكن على النطاق الاوسع ، فان نظام القبيلة خرج من هذا التحدي سالما الى حد كبير ، ويرجع هذا الى عوامل اخرى ، ربما يكون من بينها اعتماد العائلة الحاكمة على هذا النظام كاطار للعلاقة مع المجتمع . لكن السبب الرئيس في رايي ، يتمثل في حاجة الجمهور الاوسع ، بما فيه الطبقات الحديثة التي ظهرت مع التنمية ، الى العودة الى قبيلتها كوسيلة للاحتماء والارتقاء مقابل الشعور العام بالفشل في الارتقاء  اعتمادا على المعايير المدنية. ويمكن القول ان القبيلة قد حصلت على دفعة قوة اضافية خلال السنوات الاخيرة ، ولا سيما منذ النصف الثاني من الثمانينات ضمن توجه عام من جانب السعوديين ، ذوي الاصول القبلية وغيرهم للعودة الى مكونات الهوية دون الوطنية[15].

عجز الدولة عن ضم الطبقات الجديدة لاحتواء التغير في البيئة الاجتماعية للسلطة والسياسة هو السبب وراء هذا التوجه . النظام البدوي ينظر الى العصبة القائمة على القرابة الدموية باعتبارها البيئة الطبيعية للسلطة وجودا وممارسة ، كما ينظر الى القوة المتاتية عن استثمار العصبة باعتبارها حقا لاهلها . بكلمة اخرى فان تحول القبيلة الى دولة لم يترتب عليه تخلى القبيلة عن مفهوم العصبة القديم ، القوة الاضافية التي حصلت عليها القبيلة من انضمام (او ضم) مجتمعات جديدة لم يترافق مع انفكاك مفهوم المسؤولية من الاساس القرابي الاصلي وتحولها الى مسؤلية عن جميع الذين يخضعون لسلطتها ، اذ بقي النظام كما كان ، نظاما في ذاته ولذاته وليس لجميع الخاضعين لسلطانه .

انه نظام عضوي ، تعتمد المكانة فيه على النسب لا الانجاز: خلافا لراي الدكتور الفالح الذي وصف العلاقة بين الدولة والمجتمع خلال العقود الاولى من تاسيس المملكة بانه ينطوى على نوع من المشاركة [16]، فان اي صورة من صور المشاركة التي نعرفها في الحياة السياسية لم تكن قائمة . مع اتساع النطاق الجغرافي لسلطة القبيلة من حدود القرية الصغيرة في وسط نجد الى العديد من حواضر واقاليم الجزيرة العربية فقد انضم الالاف من ابناء الاقاليم الى الحكومة الجديدة . وعندئذ نشأ نوع من المشاركة الوظيفية المرتبطة بضرورات المحافظة على نوع من الاستقرار الذي لم يكن بالوسع ضمانه بالعنف العاري . لكن هذا المشاركة لم تتطور ابدا الى مشاركة في القرار السياسي فضلا عن ان الفرصة لم تتسع لتشمل مجموع الوحدات الاجتماعية التي تضمها المملكة (الشيعة مثلا).

يرجع هذا في الاساس الى فلسفة النظام البدوي، فهو نظام عضوي غير تعاقدي ، الاعضاء المرتبطون قرابيا بالنظام هم شركاء طبيعيون ،  وكل من خارجهم اجانب . مفهوم الملك والمصلحة وما ينشأ عنهما من علاقات و سلطة ليس مؤقتا او قابلا للانتقال والتبادل ، بل تقوم على اساس تطور طبيعي تنحصر بموجبه داخل النظام الذي يمثل رابطة طبيعية بين ابنائه. ان التوسع الهائل لادارة الدولة وما فرضه من اشراك عناصر كثيرة من خارج النظام ، وما اوجده من انماط علاقات جديدة لم يؤد الى تغيير جذري في المفاهيم ، ونجد تجسيد هذا المعنى في مظهرين : الاول ان كل ادارة جديدة تقيمها الدولة فان اول المرشحين لها هم اعضاء في العائلة المالكة ، فان لم يوجد فمن اهل نجد ، فان لم يوجد فمن المناطق المنسجمة تماما مع تلك الموازين. ثانيا : المقاومة الاشد للاصلاح السياسي من جانب العائلة يتركز على الموضوعات التي ترتبط بفكرة التعاقد او تشير الى التعاقد كفلسفة حكم ، مثل المحاسبة وسيادة القانون والانتخابات العامة .

          انه نظام يتحدد مفهوم السلطة فيه بالقهر: يستدعي تعبير السلطة الى الذهن صورتها المجردة ، اي الاكراه الفعلي او القدرة على الاكراه في صورة مادية . لكن هذه الصورة نادرا ما تطابق الواقع . ان الاكراه المتحقق من خلال ممارسة السلطة يتمظهر عادة في صور اخرى[17]. في حالة السلطة السياسية ، فان ممارسة السلطة تقوم عادة على نوع من الاتفاق الضمني او الصريح بين الحاكم والمحكومين على حق الاول في الامر والنهي والتصرف ، الذي يستوجب الطاعة من الطرف الثاني. وهو ما اشار اليه روسو في مقولته المشهورة “الاقوى ليس قويا حقا ما لم يحول هذه القوة الى حق ، والخضوع لها الى واجب”.  يشير مفهوم الشرعية اذن الى المصدر الذي يستمد منه الحاكم حقه في السلطة ، ويبرر بالتالي تصرفه في انفس الناس واموالهم . الشرعية في ابسط تجلياتها هي العقيدة المشتركة بين الحاكمين والمحكومين ، التي تجعل طاعة الفريق الثاني للاول امرا مقبولا ، بل ومحبذا.

ومثل كل النماذج الاخرى ، فللنموذج البدوي مفهومه الخاص لشرعية السلطة . لكنه يتمايز عن غيره بانه لا يخاطب مجموع السكان الخاضعين لسلطته ، بل يقتصر على مخاطبة المجموعة التي ترتبط عضويا بهيئة السلطة ، او العصبة حسب التعبير الخلدوني. وبهذا المعنى فان الشرعية ليست قائمة على العقيدة المشتركة بين الحاكم ومجموع رعيته، بل بينه وبين الاقلية التي يعتمد عليها لاخضاع الاكثرية.  ويرجع هذا الى الصفة الاولى ، اي كونه نظاما لذاته.

تجلى هذا المعنى في الاساس المعلن لشرعية النظام السياسي في المملكة ، وهو تركيب ثنائي من الدين والنظام العام . بغض النظر عما يثار من شكوك حول فكرة التحالف بين زعماء المذهب الوهابي ومؤسس المملكة عبد العزيز ال سعود ، الا ان ما يهمنا هنا هو ان الجيوش التي جندها عبد العزيز للسيطرة على المناطق المختلفة في سياق مشروعه لتوحيد الجزيرة العربية تحت سلطانه ، لم تكن جيوش دعوة ، بمعنى ان هدفها لم يكن نشر الدعوة الوهابية في مختلف المناطق ، بل ولم يبذل اي جهد يذكر في هذا السبيل . رغم ان تلك القوات قد جرى تحريكها تحت شعار الجهاد . ولهذا السبب فان الوهابية لم تسجل اي اختراقات مهمة خارج نجد ، الا في اواخر القرن العشرين وكان ثمرة لجهود متأخرة لم تلعب الحكومة في بعثها دورا كبيرا.  وهذا يشير الى ان الدين الذي اتخذ مبررا لتوحيد المملكة ، وبالتالي تعضيد حق العائلة المالكة في الحكم ، لم يكن مقصودا به اقناع السكان خارج الاطار الاجتماعي لمنطقة نجد. نشير ايضا الى ان المشكلة التي ركز عليها الخطاب الوهابي ، اي انتشار الخرافات ، كانت مشكلة في نجد خصوصا ولم تكن قائمة في الحجاز او الاحساء على النحو الذي جرى تصويره في الادبيات الدينية السعودية.

وينطبق الامر ايضا على مسالة النظام العام التي برر بها توحيد المملكة ، فالامن لم يكن مشكلة كبيرة في المناطق الحضرية ، رغم تعرضها احيانا لغزوات البدو . انعدام الامن كان مشكلة في نجد في المقام الاول بسبب ضعف القوة العثمانية في تلك المناطق وندرة الموارد ولاسيما في سنوات القحط . بكلمة اخرى فان كلا المبررين ، الدين والامن ، كانا حاجة للبيئة الاجتماعية التي تنتمي اليها النخبة الحاكمة ، وكانت المناداة بها كافية لتوفير قدر من المشروعية . لكن في خارج هذه المنطقة فان ايا من الفكرتين لم يكن هما عاما ، بل ان فرضهما بالمفهوم النجدي قد ولد مشكلات اضافية.

من هذه الزاوية فان المبررات التي اتخذت اساسا لتشريع سلطة العائلة السعودية في اقليم نجد  لم تكن قادرة على لعب دور مماثل خارج هذا الاقليم ، الامر الذي جعل العلاقة بين الاقليم المركزي وبقية الاقاليم التي ضمت الى المملكة قائمة على القسر في المقام الاول . هذا النوع من العلاقة لم يكن مجرد نتيجة موضوعية للحراك السياسي الاولي ، بل تجسد ايضا في سياق وعي محدد بالعلاقة بين النخبة الحاكمة والمواطنين ، يجري التذكير به بين حين واخر كلما صعد الى السطح سؤال الشرعية[18].

اعادة انتاج الاستبداد

ما يجعل خيار الاستبداد قابلا للاستمرار في ظروف التحول الاجتماعي هو قدرته على اعادة انتاج نفسه من خلال تفعيل ، توجيه ، او اقصاء العوامل المختلفة التي تؤثر في الحراك الاجتماعي . وهنا تلعب الدولة المطلقة دور الوسيط وتستثمر العوامل الاخرى المتوفرة او القابلة للتوفير في ساحة العمل لخدمة غرضها المحدد اي تثبيت الاستبداد وترسيخه كنمط اعتيادي للحياة السياسية.

ابرز العوامل التي نجحت الدولة في استخدامها هي العامل الخارجي ونمط الانتاج الريعي. ارتبط صعود الدولة السعودية بعلاقتها الخاصة مع بريطانيا التي ساعدتها في القضاء على دولة الحجاز اولا ثم الولايات المتحدة الامريكية التي ساعدتها في ترسيخ استقرارها المحلي ودورها الاقليمي[19].  كانت المساعدة البريطانية عاملا هاما في تطوير نظام سياسي يعتمد على الدعم الخارجي على صورة ممول مباشر او مزود للقوة التي تمكنه من الحصول على تمويل داخلي غير مشروط بمشاركة سياسية[20] . وتعزز هذا الوضع مع تدفق اموال البترول. الامر الذي يستحق الاهتمام هنا هو دور البترول كعماد للاقتصاد السياسي وكونه عامل ربط بين الداخل والخارج ، وهو موضوع نوقش كثيرا من جانب الباحثين العرب في اطار نموذج الدولة الريعية.

نموذج الدولة الريعية

يرتبط التاثير السياسي للاقتصاد الريعي بثلاثة محاور : 1- ان معظم الدخل القومي لا يأتي عبر نشاط انتاجي. وبالتالي فانه لا يوجد موضوع لقوة اقتصادية يمكن تحويلها الى قوة سياسية . 2- ان الدخل الوطني هو بالكامل دخل خارجي ، اي ان اقتصاد البلد ومعيشة اهله مرتبطة تماما بالعلاقة بين الدولة الوطنية وكبار المستهلكين . 3- ان طرف العلاقة الوحيد مع الخارج هو الدولة ، فهي قناة التمويل للبلد وهي بالتالي العامل الحاسم – احيانا الوحيد – في توجيه حركة الحياة والسوق . في ظل هذا النموذج تتحول الثروة الى وسيلة لتثبيت النموذج السياسي الخاص للمجموعة الحاكمة التي تستعيض عن القمع المباشر والعنيف بشراء الولاء ، في الوقت الذي تنعدم فيه المصادر الاخرى  او تنعدم قدرتها على منافسة دخل البترول.

في ظل النموذج الريعي فان العلاقة بين الدولة والمجتمع هي علاقة من طرف واحد ، فالدولة هي التي تعطي كل شيء وتوفر كل شيء ، وبالتالي فان محور العلاقة بين المواطن والدولة تمحورت حول مقدار ما يحصل عليه من مال او خدمات توفر مالا ، ولم تعد الحقوق السياسية موضوعا للنقاش او المطالبة . ومع اتفاق الجميع – ضمنيا – على ان ما يسعون اليه ليس حقا مكتسبا بل هو اقرب الى المنحة ، فقد شاعت سلوكيات التقرب والتملق الشخصي لاصحاب القرار ومن حولهم طمعا في ضمان حصة اكبر من الكعكة . هذه وسائل فردية بطبيعتها ، خلافا لتلك المرتبطة بالحقوق الدستورية او المكتسبة التي تستدعي فعلا جماعيا . وفي تجربة المملكة وجدنا ان كبار المسؤولين يميلون الى الفصل الحازم  بين السعي للحاجات الشخصية والعامة . ان الساعي للمال يجب ان لا يتحدث في شان عام ولا يطالب به . ولهذا السبب فان النخبة ووجهاء المجتمع الذين اختاروا طريق الاثراء قد توقفوا الى حد كبير عن تمثيل مطالب القرى والمدن التي اعتادوا تمثيلها .

     رغم وجاهة المعالجة التي يقدمها هذا النموذج التحليلي ، الا انه لا يجيب على كثير من الاسئلة التي تطرحها العلاقة التي محورها دور الدولة كموزع للدخل الوطني . ويقدم د. غباش اشكالات جدية على النموذج لجهة اعتباره الموارد النفطية ريعا ايجاريا لا موارد وطنية كما هو الحال في دول اخرى تنتج انواعا اخرى من الخامات . اضافة الى المبالغة في تصوير الانفاق العام باعتباره عملية شراء لولاء المجتمع (رغم انه يؤدي هذا الدور بالفعل)[21] . في ظني ان نموذج الدولة الريعية يقدم تفسيرا مناسبا لاختفاء التوترات (القابلة للتثميرالسياسي) في مرحلة الانتقال من مجتمع الكفاف الى مجتمع الكفاية ، الكفاية يجب ان تعرف هنا بصورة نسبية وضمن شروط البيئة الخاصة . لكنه لا يكفي لتفسير الحراك السياسي في مرحلة الكفاية . بل ربما امكن القول انه يفسر سبب اختفاء التوترات ذات المنشأ الاقتصادي البحت في مختلف الاوقات، مثل انتفاضات الخبز في دول اخرى ، خاصة مع استمرار قدرة الدولة على التمويل دون ضغوط تضخمية قاسية. لكن خارج الاطار المعيشي البحت ، فانه يجب ان ناخذ بعين الاعتبار ايضا ان مرحلة الكفاية توفر فرصا لظهور وعي بالذات لا يمكن فصله عن التطلعات السياسية . من الناحية الفعلية فان الخطط التنموية التي طبقت في المملكة بين بداية السبعينيات ونهاية الثمانينات اوجدت الفرصة لظهور ما يمكن مقاربته بالطبقة الوسطى[22] التي تلاشى عند افرادها الهم المعيشي في صورته الحدية ، وحصلوا على قدر من التعليم وسافروا الى خارج البلاد وتوفرت لهم فرصة التواصل مع الغير ، وهي كلها مقدمات لاعادة التفكير في الذات وصياغة الهوية من خلال المقارنة مع الغير . نضيف الى هذا ان الجيل الجديد الذي ولد في مرحلة الكفاية ينظر الى مستوى المعيشة القائم باعتباره حقا مكتسبا[23] ، وبالتالي فان الصعوبات الاقتصادية الناشئة عن انخفاض عائدات البترول او عدم مكافأتها للحاجات المستجدة والمتزايدة تتحول الى دوافع للسخط السياسي عند هذا الجيل ، وعندئذ فان افكارا مثل التوزيع غير المتساوي للثروة ، او عدم تغيير طاقم الحكم او خطابه تترجم سريعا الى سخط سياسي وبحث عن بدائل . نجد في الوقت الحاضر مثلا ان مشكلة مثل البطالة تعتبر واحدا من ابرز محركات التفارق بين الدولة والمجتمع في المناطق المهمشة والمدن الرئيسية على السواء[24].

وخلاصة القول ان نمط الانتاج الريعي والدعم الخارجي ، يمثلان عاملين مهمين في اعادة انتاج النظام السياسي الاستبدادي . لكن فاعليتهما مشروطة بكيفية استخدام الدولة لهما ، وهذا يقودنا الى حقيقة ان اعادة الانتاج تتوقف الى حد كبير على دور الدولة كوسيط لاعادة الانتاج . هذه الوساطة هي التي تحدد هوية العوامل المسموح لها بالمشاركة في صياغة المراحل التالية ، وتلك المهمشة .

مجتمع معطل

هذا يثير سؤالا حاسما : لماذا انفردت الدولة بلعب هذا الدور ، وعجز المجتمع عنه ؟ بكلمة اخرى ما هي اسباب العجز الاجتماعي عن استنباط حالة سياسية مستقلة عن الدولة تسعى لدور في صياغة مستقبل البلاد؟.

لقد تكرر مثل هذا السؤال في معظم الدراسات التي تناولت العالم العربي ، والحقيقة ان الاحساس بعجز المجتمعات العربية عن استنباط حراك اصلاحي تحديثي قد لفت انظار الكثيرمن الباحثين العرب والاجانب على السواء[25]. ان تقارير حال الامة التي يصدرها المؤتمر القومي العربي كل عام مليئة بالتفاصيل المثيرة للكآبة عن هذا الواقع المتواصل دون تغيير يلفت الانتباه . لكن بالمقارنة بين المملكة وبقية البلدان العربية ، بما فيها الدول الخليجية المقاربة لها اجتماعيا واقتصاديا ، فان الوضع هناك هو الاكثر اثارة للدهشة.

للاجابة على هذا السؤال ، فانه لا بد اولا من تحديد نطاق المناقشة : ان الحراك المقصود هو النشاط الجمعي الذي يتولد في مجتمع ما كظاهرة عامة معبرة عن هموم وتطلعات اغلبية الشرائح الاجتماعية في بلد ما . ويخرج بهذا التحديد المبادرات الفردية او المحدودة التي لا يمكن اعتبارها تيارا عاما او ظاهرة نموذجية.  على هذا المستوى لم نلاحظ حراكا واسعا ذا مضمون سياسي في المجتمع السعودي ، على الاقل خلال العشرين عاما الماضية . امثلة مثل انتفاضة 1979 وتحركات 1991 كانت موضعية الى حد كبير.

الاجماع الوطني

الحراك الاجتماعي هو حركة الجماعة ، وحينما تكون الجماعة مفقودة فانه لا يعود ثمة وعاء للحركة. ان علة العلل في المجتمع السعودي – حسب ظني – هي غياب الاجماع الوطني ، الامر الذي ادى الى العجز عن استنباط منظومات عمل وطنية بديلة عن تلك المنتسبة الى عصر ما قبل الدولة . يشير مفهوم الاجماع – حسب سوروتاني – الى الالتزام الطوعي بمنظومة من الاجراءات العملانية لاتخاذ القرار تعتبر من جانب الجميع ، الحكومة والشعب ، ضرورية لضمان النظام الاجتماعي ، المصالح العامة ، حل التعارضات بين المصالح ، اضافة الى طريقة التوصل الى الاهداف الاجتماعية[26]. مثل هذا الاتفاق يوفر للنظام السياسي الشرعية في معناها الحركي، التي يماثلها الموند بالروح التي تسري في كل جزء من اجزاء العلاقة الميكانيكية بين المجتمع والدولة ، فتضمن كفاءة النظام السياسي في العمل ومتانته في مواجهة التحديات [27]. الاجماع اذن هو التعبير العملي عن منظومة القيم التي تحدد طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع ، وتؤسس بالتالي لشرعية العمل السياسي . ومن هذه الزاوية فانه يمثل القاعدة الاساسية لتكوين الارادة العامة ، وازالة التازم من العلاقة بين المجتمع والدولة فضلا عن تسهيله للمساهمة السلمية للشعب في الحياة السياسية . في غياب الاجماع فان كل فريق في المجتمع ينطلق في مواقفه وعمله من مبررات متفاوتة واحيانا متعارضة . النظام السياسي الذي يفتقر الى الاجماع  لا يمكن الا ان يكون فوضويا ، منعدم السمات وعديم الاستقرار ، لهذا فان ما يميز الانظمة السياسية المتقدمة – حسب بيندر – هو قيامها على اجماع ثقافي تاريخي وفر الاستقرار والتواصل [28].

لا شك ان قيام الدولة كان بذاته فرصة لا تعوض لاطلاق تحرك جاد باتجاه توليف الهويات الصغرى التي تمثل انساق مجمتع ما قبل الدولة في هوية جامعة تمثل المدخل الاساس للاجماع الوطني . كما ان النشاط الاقتصادي الذي شهدته البلاد منذ منتصف الستينات وفر فرصة اخرى للتوحيد . الدولة والاقتصاد كلاهما ينطوي على ديناميات توحيدية ، لكن الانتقال الى الوحدة غير ممكن دون وجود تحرك مقصود يسعى لاستثمار هذه الامكانية باقامة البنى الاجتماعية البديلة التي تستوعب مفعول تلك الديناميات .

طبقا للفرضية السائدة – والتي تسندها تجارب العديد من البلدان – فان قيام الدولة يؤدي عادة الى امتصاص الهويات دون الوطنية من خلال ادماجها في الهوية الوطنية الاوسع ، وبالتالي فان منظومات مجتمع ما قبل الدولة تفقد دورها السياسي المستقل . من ناحية اخرى فان التحديث يؤدي الى تفكيك البنى الاجتماعية التي تقوم ضمنها تلك المنظومات ويفتح الباب امام منظومات تقوم على اسس قيمية وثقافية مختلفة ، يفترض ان تعمل ضمن منظور وظيفي ينتسب للاجتماع السياسي بمفهومه الواسع .

لم يؤد توحيد المملكة الى ظهور امة سعودية ، فقد بقي الاصل القبلي – الاقليمي وليس مفهوم الامة هو الذي يحدد هوية الجماعة السعودية[29] . كما ان تجربة المملكة التنموية هي الاخرى تدل على ان التحول المنشود لم يتحقق بالصورة التي تقدمها نظريات التنمية في البلدان النامية . والحقيقة ان هذا الفشل قد اثار اسئلة جدية حول الفرضيات التي تقوم عليها تلك النظريات ، لا سيما الفرضية القائلة بان تفكيك البنى التقليدية سيؤدي ميكانيكيا الى قيام بنى حديثة في محلها ، او ان تفكك تلك البنى هو قدر لا مفر منه اذا بدأ الاحتكاك بينها وبين نظائرها الحديثة[30]. فيما يتعلق بموضوعنا فان المنظومات القديمة فقدت الى حد كبير مبررات وجودها بعد قيام الدولة السعودية ، كما ادى النشاط الاقتصادي وانتشار التعليم منذ بداية السبعينات الى هجرة واسعة نحو الحواضر وارتفاع في الحراك الاجتماعي بين الطبقات بصورة غير مسبوقة . وتبعا لهذا فان نظم العلاقات والتراتب الاجتماعي التقليدي قد تلاشت الى حد كبير تحت ضغط التغيير الكبير الذي حمله تيار التحديث[31].

الجماعة والحشد

المجتمع الطبيعي ، سواء كان تقليديا او حديثا ، هو توليف منظومات يعبر كل منها عن نطاق مصالح محدد يجمع بين اعضائه ويميزه عن الغير . وبينما تتشكل منظومات المجتمع التقليدي على اسس قرابية او دينية فان منظومات المجتمع الحديث تتشكل على صورة جماعات مصالح .

في الابحاث الحديثة حول الديمقراطية يعتبر المجتمع المدني ضمانا للديمقراطية . المجتمع المدني في تعريفه الموسع هو فضاء للحرية يلتقي فيه ليتخذوا مختارين مبادرات جمعية تخدم مصالح أو تعبرعن مشاعر مشتركة[32]. رغم ان فكرة المجتمع المدني قديمة نوعا ما ، الا انها عادت الى الحياة بعد التحرك الذي قادته نقابة تضامن البولندية في 1990 وادى الى انهاء النظام الشمولي والتحول الى الديمقراطية . وقد لفت هذا التطور انتباه الباحثين الى القدرات الهائلة التي يتمتع بها المجتمع المنظم . ثمة الحاح على استثناء المكونات المنظومية للمجتمع التقليدي من وصف المجتمع المدني ، ربما بالنظر الى كون القيم المؤسسة لها والحاكمة على حراكها غير مدنية . لكن من زاوية وظيفية فان منظومات المجتمع التقليدي قادرة على لعب دور ممائل لتلك المدنية ضمن بيئتها الاجتماعية الخاصة .

يتفق الباحثون العرب على ان برامج التنمية في الخليج كانت قاصرة عن معايير التنمية الشاملة المتعارفة دوليا. فقد ركزت على الجوانب الاقتصادية واهملت مخرجاتها الاجتماعية ، كما اهملت تحديث البنى السياسية الذي يعتبر – حسب فرجاني – الطريق الوحيد لقيام اجتماع سياسي مكافيء لحاجات الدولة الحديثة[33]. لهذه الاسباب خرج المجتمع السعودي من مرحلة التنمية التي طالت ربع قرن من الزمن متشظيا مفككا ، فلا المنظومات القديمة نجحت في استيعاب تحدي التغيير وتجديد نفسها وفقا لمتطلباته ، ولا اتيح المجال لقيام منظومات حديثة . انه مجتمع الحشد الذي يفتقر فيه الناس الى التفاهم الضروري لقيام ثقة متبادلة تؤسس للمبادرة الجمعية. وتجد آثار انعدام القدرة على العمل الجمعي – بسبب انعدام عامل الثقة وبالتالي العلاقات المؤسسية – جلية في السوق على صورة عجز عن تجميع رؤوس الاموال الصغيرة في شركات كبرى[34] ، وتجدها في السياسة على  شكل عجز عن تحويل الاتفاق العام على الاصلاح السياسي الى عمل مؤسسي منظم .

لا بد من الاخذ بعين الاعتبار قيام عدد من المناشط التي يمكن تصنيفها كمؤسسات مجتمع مدني ، رغم انها لا تزال محدودة في الغرف التجارية والجمعيات الخيرية كما لاحظ د. الحلوة[35]. اضافة الى بعض الجمعيات المهنية التي لا تزال في مراحلها المبكرة. وعلى اي حال فان جميع هذه المؤسسات تخضع لرقابة دقيقة تشمل التدخل المباشر من جانب الدولة ، الامر الذي يثير التساؤل حول صحة نسبتها الى المجتمع المدني.

بصورة ملخصة يمكن القول ان المجتمع السعودي خرج من عملية التوحيد والتنمية فاقدا للاجماع الوطني وغير قادر على تحويل همومه الجزئية الى هموم عامة . بل لقد لاحظ اكثر من باحث ان النزعات القبلية والطائفية والمناطقية لم تنحسر مع انتشار التعليم وتطور نظم الاتصالات والمواصلات ، بل لعلها ازدادت ، في بعض الابعاد على الاقل ، وهي ظاهرة تنتشر للاسف في كل دول الخليج دون استثناء[36]. وهذا يقودنا الى الاستنتاج بان التكوين الاجتماعي المنظومي ليس من الحاجات الانسانية العارضة التي يمكن الغاء وظيفتها او استبدالها . ان فكرة الاجماع الوطني لا تعني وضع المجتمع الوطني في مكان المجتمع العضوي التقليدي ، اذ ان سعة الاول وقيام نظامه العلائقي على اسس ميكانيكية ، تحول بينه وبين الرعاية الشخصية للافراد وهي الوظيفة التي يوفرها عادة المجتمع الثاني. الاجماع الوطني القابل للحياة هو ذلك الذي يوفر الفرصة لتفاعل جميع العناصر المكونة للوطن ، فهو يعترف بالهويات الاجتماعية الصغرى ثم يضمها جميعا تحت مظلة الهوية الوطنية الجامعة ، وعندئذ فانه يمكن كل عضو فيه من الاحساس بالانسجام بين هويته الاجتماعية والثقافية من جهة وهويته الوطنية من جهة اخرى ، اي بما يجمعه باهله على النطاق القروي وما يجمعه بمواطنيه على النطاق الوطني دون تعارض او جدل ، وهذا ما نسميه التنوع في اطار الوحدة.

المشكلة على المستوى السياسي ، ان المنظومات الاجتماعية الصغرى المنتمية لمرحلة ما قبل الدولة ، لا تستطيع القيام بدور سياسي وطني ، بل ان السماح باقحامها في الحياة السياسية يحولها – بالضرورة – الى وسيلة فصل لاعضائها عن بقية مواطنيهم  ، ومن المؤسف ان هذا ما يحصل في اكثر من دولة عربية كما راينا في العراق اخيرا. ان اقحام هذه المنظومات في الحياة السياسية الوطنية هو النتيجة الطبيعية لانعدام المنظومات البديلة ، اي تلك التي تقوم اساسا لانجاز الوظائف المتعلقة بالاجتماع السياسي الحديث ، او ما نسميه بمؤسسات المجتمع المدني .

الانشقاق الثقافي:

ربما كانت المملكة هي البلد الوحيد في العالم الذي تعتبر فيه العصرانية والحداثوية تهمة او عيبا. وفي سبتمبر 1988 تدخل وزير الداخلية لوقف جدل عنيف في الصحافة المحلية حول الحداثة[37] بعد ان انتقل الجدل الى المساجد وتحول – عمليا – الى جدل ذي مضمون سياسي. ويكشف هذا عن واحد من مكونات الانشقاق الاجتماعي الراهن في المملكة[38].

يرتبط الجدل حول الحداثة بمفهوم الصدمة الثقافية الذي دار حوله نقاش كثير في السبعينات . ويفترض القائلون بالصدمة الثقافية ان الانفتاح المفاجيء والمكثف للمجتمع على انماط الحياة والافكار الجديدة والاجنبية بعد تطبيق برامج الانماء الاقنصادي كان بمثابة الصدمة للمجتمع التقليدي. في الوقت الذي انهارت بعض البنى الاجتماعية تحت ضغط التحديث ، فان هذا الضغط حفز مقاومة في بنى اخرى احتمت كالعادة بعباءة الدين والتقاليد الفاضلة[39]. وقد لاحظ باحث جزائري ان التعصب الديني في المدينة يتمايز عن نظيره في الريف بان الاول مستجد ترتب على التغييرات التي تعرض لها المجتمع بعد التحديث ، وليس قديما او اصليا كما في الريف[40].  في الوقت الحاضر يمثل جدل الحداثة / التقليد – او الاصالة كما يسميه اصحابه – احد مبررات الانشقاق البارزة في المجتمع السعودي . وقد تداخل هذا العامل مع عوامل التمييز الاخرى السياسية والعقيدية . ان ابرز سمات الفريق المسمى حداثيا هو ميوله الليبرالية ورغبته في الاصلاح السياسي علىالمستوى الوطني ، بخلاف الفريق الاخر الذي يميل الى اصلاحات محدودة لا تتضمن اعترافا نهائيا بالتعدد الثقافي والحقوق السياسية المتساوية.

يمثل الانشقاق الثقافي احد المشكلات الهامة في طريق تكوين اجماع اهلي بديل عن الاجماع الاوسع بين المجتمع والدولة الذي يبدو عسيرا. وهو مهم خصوصا لتركزه في الوسط الديني الوهابي الذي يمثل المكون الرئيس للقاعدة الاجتماعية التي يستمد منها النظام السياسي مشروعيته وقوته ، ولهذا السبب فان هذا الانشقاق يلعب دور الكابح للتحركات الاصلاحية التي يحتمل ان تقوم بها الدولة او بعض اجنحتها[41] . ان الموقف المتشدد للدولة من حقوق النساء والحريات العقيدية والثقافية وتدفق المعلومات بشكل عام هو انعكاس لتلك العلاقة .  وفي الوقت الحاضر ، ورغم تازم العلاقة بين التيار السلفي والدولة ، الا ان جميع القوى الاجتماعية الاخرى غير السلفية تشعر بالاضطهاد من جانب هذا التيار ، وقد جرى التعبير عن هذا الشعور باوضح صورة في مؤتمر الحوار الوطني في دورتيه وفي الوثائق الاصلاحية[42] ، فضلا عن عدد كبير جدا من المقالات الصحفية[43].

نتيجة لانعدام الاجماع الوطني ، على المستوى الاهلي او بين المجتمع ككل والدولة ، فان المقاربات السياسية التي شهدتها البلاد حتى نهاية العقد المنصرم عبرت عن انساق اجتماعية محددة ، قصر اي منها عن تمثل الهم الوطني الشامل ، فالشيعة عبروا عن مطالبهم بمفردهم ، وكذلك فعل السلفيون الصحويون واليسار . ومع الاحساس ، بل والتألم من العجز عن جمع اكثر من فريق في حركة مطلبية واحدة ، الا ان اي محاولة لم تنجح بسبب فاعلية عوامل الانشقاق المذكورة . بل ان محاولات التفاهم كانت على الدوام ضحية لصراعات جانبية ، بعضها عفوي وبعضها مفتعل – بين مختلف الاطراف . نتيجة لذلك فان اي فريق لم ينجح في توليد القدر الكافي من الضغط على الدولة لتغيير سياساتها ولا سيما تجاه الحريات العامة والمساواة وحاكمية القانون. بل على العكس من ذلك فان قدرة الدولة على حماية التوازنات الموروثة قد مكنها من الظهور بمظهر الجهة الوحيدة التي يمكن الاحتكام اليها عند النزاع  ، بدل ان تكون الخصم في الجدل حول مطالب وطنية جامعة.

خلاصة الكلام ان عجز المجتمع عن اطلاق حركة شعبية تضع حدا للاستبداد ناجم الى حد كبير عن انعدام القدرة على تكوين تصور واحد عن الذات والدولة . رغم اقتناع اغلبية القوى الاجتماعية بهذا المعنى ، الا ان هذه القناعة ما زالت تتأرجح بين الصورة الذهنية المجردة وبين التجسد في بنية مفهومية واجتماعية نهائية قابلة لان توصف بالاجماع الاهلي. ان قدرة الاستبداد على اعادة انتاج نفسه تعتمد اعتمادا رئيسيا على هذا العجز الاجتماعي .

التيار الاصلاحي ، مهماته، امكاناته ، وحدوده:

قدمت هذه المقالة حتى الان صورة أميل الى التشاؤم عن أهلية التيار الاصلاحي والمجتمع السعودي ككل لاستنباط حراك فعال يسهم في انهاء او تخفيف الاستبداد السياسي . والحق انه تصوير غير مقصود من قبل الكاتب ، فثمة وجه اخر للصورة قد يؤدي عرضه الى اعطاء انطباع متفائل عن الراهن والمستقبل . ما اريد قوله ان الوضع العام في المملكة يميل بشكل قوي ويتحرك سريعا نحو تغيير يصب في خانة الاصلاح ، وثمة علامات مهمة توضح يوما بعد يوم ان التغيير يكسب مواقع جديدة في المجتمع والدولة معا . الانطباع المتشائم مرده ربما الوضع الذي كنا فيه والصعوبات العميقة التي تحيط بنا ، وعلى اي حال فان الحديث عن استبداد قائم هو بذاته مدعاة للتشاؤم ايا كان موقف المجتمع منه.

خلال العقد الاخير شهد المجتمع السعودي مجموعة من المتغيرات خدمت مسيرة الاصلاح ، بعضها نتيجة فعل سياسي وبعضها تداعيات لحوادث محلية او خارجية. كان الغزو العراقي للكويت في اغسطس 1990 منعطفا بارزا في تاريخ البلاد . فقد كشف الكثير من الامور التي كانت مغفلة ابرزها ربما هو فشل المملكة في تعبئة الشعب وتوحيده للدفاع عن البلاد. هذا الحدث كان بمثابة الصاعقة التي نبهت مجتمعا مسترخيا وغافلا عن مشكلاته مما اطلق موجات قوية من الجدل في العلاقة بين المجتمع والدولة لم يسبق لها مثيل. حاولت الحكومة احتواء الجدل الذي فجرته تلك الاحداث باعلان سلة اصلاحات قانونية في مارس 1992 شملت اصدار النظام الاساسي للحكم ، نظام المناطق (اللامركزية الادارية) وانشاء مجلس الشورى .

لم يتجاوز وعي المجتمع واهتمامه بالشأن العام الحالة الانفعالية المرتبطة بوقت الحدث ، ولهذا فان قرار الحكومة اصدار الانظمة المذكورة بصيغتها الفعلية ، عبر عن فهم لجوهر المشكلة التي اثارت الجدل ، بقدر ما عبر عن تحليل صائب للمدى النهائي الذي يمكن ان يصل اليه المجتمع في ممارسة الضغط . فالانظمة الثلاثة تقدم حلولا باهتة لمشكلة عميقة وجذرية . ان التغيير الوحيد الذي امكن لمس اثاره هو قيام مجلس الشورى الذي كان بمثابة اقرار للمرة الاولى من جانب الحكومة بوجود ما يمكن مقاربته بنخبة سياسية وطنية خارج دائرة الحكم الضيقة التي اعتادت البلاد عليها منذ اوائل القرن .

اطلقت احداث اغسطس 1990 ثلاث مبادرات هامة ، اولها تظاهرة نسائية في الرياض يوم السابع من نوفمبر 1990 تطالب بالغاء الحظر على قيادة النساء للسيارات. رغم ان التظاهرة اشتهرت بهذا المطلب فقط ، الا ان التحرك نفسه والمطالب التي عبر عنها لامست صميم مشكلة الحرمان التاريخي للنساء السعوديات ، وكشفت عن ما يمكن وصفه بتيار نسوي في طور التشكل. وقد جرى الاعتراف به اخيرا عبر المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الثاني الذي عقد في مكة (ديسمبر 2003)، وهي المرة الاولى التي يسمح للنساء بمناقشة الشأن الوطني العام ضمن اطار رسمى ومعلن[44].

المبادرة الثانية جرت في مايو 1991 حين قدم نحو 200 من العلماء والناشطين السلفيين مذكرة الى الملك تطالب باصلاحات “لاستعادة الشرعية” التي تضررت بتداعيات احداث العام الماضي[45] ، وتبعتها ” مذكرة النصيحة ” التي قدمت للملك في يونيو 1992 . ابرز ما ميز هذه المذكرة عن سابقتها هو تحديدها الدقيق لتوجه سياسي خاص ادى عمليا الى بلورة التكوين السياسي للجهة التي تبنتها بصورة متمايزة عن التيار الديني الرسمي ، ولا سيما بعد اصدار هيئة كبار العلماء فتوى في سبتمبر تفند المذكرة وتشكك في نوايا اصحابها[46]. ان اهم انعكاسات هذا الجدل هو تفكك الاجماع التاريخي على شرعية النظام السياسي ضمن بيئته الاجتماعية الخاصة ، وهو تطور ترتبت عليه تداعيات متوالية عند النخبة الحاكمة والجمهور السعودي معا .

ترجع المبادرة الثالثة الى النصف الثاني من 1993 حين جرت مفاوضات بين الحكومة السعودية والحركة الاصلاحية ادت الى عودة اعضاء هذه الحركة الى المملكة بعد معارضة طالت نحو عقد ونصف . وتمثل الحركة الشيعة السعوديين ، وشكلت خلال سنوات عملها ظاهرة ملفتة على المستوى الاعلامي والسياسي . ادى اتفاق الحكومة مع الحركة الى ارتخاء سياسي تضمن اطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين والغاء اوامر بحظر السفر على عدة مئات من الناشطين السياسيين. اثمر الاتفاق عن تخلي الحكومة الى حد كبير عن القمع العشوائي والتعذيب في السجون الذي كان سائدا فيما مضى . لكن اهميته الرئيسية تتمثل في كونه اول اعتراف من جانب الحكومة بمعارضة سياسية والقبول بمناقشتها سياسيا حول اوضاع البلاد ، رغم انها حاولت دائما حصر النقاش في اطار حقوق الطائفة الشيعية . لقد شجع هذا الاتفاق – اضافة الى الظروف العامة المؤاتية – عددا من القوى التي لها مطامح سياسية على التعبير عن نفسها بشكل يقترب من العلنية .

في التحليل النهائي فان المبادرات الثلاث عبرت عن تغير عميق في المزاج الشعبي ، فالتظاهرة النسائية هزت الاجماع السلبي على انتظار التغيير التلقائي . مذكرة النصيحة كشفت عن تغير في دور الدين من عامل تسوير للنظام الى عامل تفكيك لبيئته الاجتماعية . وكشف الاتفاق بين الحركة الاصلاحية والحكومة عن ميل بين الطبقات الحديثة والاقليات الى اصلاحات من خلال الحوار مع الحكومة[47].

كان الهجوم على نيويورك في 11 سبتمبر2001 نهاية لعقد اتسم بالتارجح بين الحراك الجزئي في المجتمع ومحاولات الدولة امتصاصه عبر الاليات المعتادة ، اي تنشيط العامل الديني والمالي بصورة متوازية . فقد اطلقت تلك الاحداث موجة ضغط امريكية هائلة على الحكومة السعودية ، استهدفت خصوصا الجزء الديني من النظام وشملت احيانا مطالبة باصلاح سياسي واسع . اقنعت هذه الضغوط الحكومة بالحاجة الى تحجيم التيار السلفي بشقيه الرسمي والاهلي واصلاح مناهج التعليم التي نسبت اليها المسؤولية عن استزراع بذور التطرف في البلاد . الجدل الواسع الذي اثارته تلك الاحداث وتركيز الاعلام الدولي على المملكة ادى الى تقلص قبضة الحكومة وتضاؤل الشعور العام بهيبتها ، وقد ظهرت علامات هذا التحول في الصحافة المحلية التي بدأت في مناقشة قضايا لم يسبق ان طرحت في الوسط العام وباسلوب نقدي كان حتى ذلك الوقت اقرب الى الحلم . وقد تصاعد هذا الاتجاه بعد الهجمات الارهابية على الاجانب في المملكة خلال العام 2003 ، مما وفر مبررا اضافيا لنقد التيار السلفي والقيم التي يدافع عنها. وفي ظني انه ليس من المبالغة الادعاء بان 2003 خاصة كان العام الذهبي للصحافة السعودية لما شهدته من تحرر غير مسبوق.

المرجع الرئيس للتيار الاصلاحي المعاصر هو وثيقة “رؤية لحاضر الوطن ومستقبله” التي وقعها 104 من نخبة المملكة يمثلون مختلف الشرائح والانتماءات الثقافية والسياسية والمناطق. وضعت الوثيقة في اغسطس 2002 وقدمت لولي العهد في يناير التالي. وفي ابريل 2003 صدرت وثيقة “شركاء في الوطن” التي مثلت اول خطاب موحد للشيعة السعوديين ، وتعتمد نفس منطلقات الوثيقة الاولى . وفي ديسمبر صدرت وثيقة “الاصلاح الدستوري اولا” التي اعادت تحديد مخرجات الخطاب الاصلاحي وحددته في الدعوة الى تحويل النظام السياسي الى ملكية دستورية.

جاءت الوثيقة الاولى على شكل خمسة محاور : يدعو الاول الى بناء المؤسسات الدستورية ، ويقدم الثاني مقترحات لتصحيح الوضع الاقتصادي ، والثالث حول اعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة ، ويدعو الرابع الحكومة الى اطلاق مبادرة اصلاحية محددة كما يحدد الخامس الخطوة الاولى في مؤتمر وطني لمناقشة برنامج للاصلاح [48].

ركزت وثيقة “شركاء في الوطن” التي وقعها نحو 450 من نخبة الشيعة على وصف مظاهر التمييز الطائفي ، سواء ذلك الذي يقوم على سياسة رسمية او من جانب رجال الدين الوهابيين . وطالبت بادماج الشيعة في الحياة العامة والسماح بتمثيلهم في الجهاز الحكومي الاداري والسياسي[49] .

وضمت وثيقة “الاصلاح الدستوري” التي وقع عليها 116 من ممثلي التيارات المختلفة ، مطالب عامة مثل اطلاق الحريات العامة وحرية التنظيم واخرى محددة تتناول بشكل رئيسي مقومات النظام الدستوري مثل الفصل بين السلطات وانتخاب مجلس الشورى واستقلال القضاء . ومثل الاولى فقد طالبت هذه الوثيقة بالبدء بخطوات محددة هي اعلان الحكومة التزامها بتطوير نظام الحكم إلى ملكية دستورية ، تشكيل هيئة وطنية مستقلة لإعداد دستور دائم للبلاد يطرح للاستفتاء الشعبي خلال عام ، ويبدأ تطبيقه خلال فترة انتقالية لا تتجاوز ثلاثة أعوام[50].

اضافة الى الوثائق الثلاث المذكورة ، صدرت وثائق اخرى خلال العامين 2003 و بداية 2004 لكنها لم تحظ باهتمام مماثل لذلك الذي حصلت عليه الاولى ، كما ان تمثيل المطالب والموقعين لم يكن بنفس الدرجة من القوة والاتساع .

يمثل الموقعون على الوثائق الاصلاحية شريحة نموذجية عن الطبقة الوسطى الحديثة التي تعتبر عماد الحياة في المملكة اليوم ، ونستعمل تعبير الطبقة الوسطى في معناه الاقتصادي الذي له ايحاءات اجتماعية وان لم يطابق تعريف الطبقة المتعارف عليه في الادبيات الاجتماعية . يقع نحو   70 بالمائة من الموقعين في الشريحة العمرية بين 40-50 عاما ، وتلقى جميعهم تعليما حديثا ، وتبدو شريحة الاكاديميين والكتاب الاكثر تمثيلا بما يعادل 35 % في الوثيقة الاولى و 45% في الثالثة ، وامتازت الوثيقة الثانية بتنوع ملفت للموقعين فشملت فنانين ورجال اعمال وادباء كما تميزت بكثافة تمثيل رجال الدين والنساء.

تكشف الوثائق الثلاث عن اتفاق شبه تام بين المجموعات التي تؤلف التيار الاصلاحي على مجموعة من القضايا . ففي تحليل اسباب الازمة السياسية والاقتصادية الراهنة ، يعتقد ان المشكلات الاساسية التي تواجه البلاد اليوم هي نتاج لعجز الدولة عن تجديد نفسها بالشكل الذي يتناسب والتحديات التي ياتي بها التغيير في البلاد نفسها وفي محيطها الاقليمي والعالم . التجديد المطلوب يتخذ اتجاها محددا هو الانتقال الى الحكم الديمقراطي . اكثر المقترحات تحديدا هو التحول الى ملكية دستورية كما عبر عنها في وثيقة (الاصلاح الدستوري اولا). وبالتالي فان التيارالاصلاحي يحدد مهماته في:

1- اعادة تكوين الهوية الوطنية ، بما يتضمن اجماعا جديدا على فكرة الدولة ، اغراضها ، علاقتها بالمجتمع ، والسبل المناسبة لتحقيق تلك الاغراض.

2- تعديل دور الدين في الحياة العامة ، طبيعة هذا الدور وانعكاس علاقته ببيئته الاجتماعية الخاصة (نجد) على علاقة الدولة ببقية المناطق ، وانعكاساته على وضع الاقليات المذهبية (الشيعة مثلا) والجنسية (النساء) وعلى نظام الموازنة بين المصالح العامة والمعتقدات الدينية ، والحياة الثقافية بما هي تعبير عن مجتمع متنوع.

3- معالجة الازمات التي تلوح في افق الاقتصاد الوطني كنتاج لفشل نموذج الدولة الريعية ، والتي تتجسد اليوم في صورة بطالة متفاقمة وتباطؤ في الاستثمارات الجديدة وشيوع الفساد المالي والاداري .

4- معالجة ظاهرة العنف التي تفاقمت في العامين الاخيرين والتي يتلاقى في تاجيجها مجموع العوامل السابقة.

يفترض الاصلاحيون ان بعضه تلك المشكلات ناتج عن فلسفة النظام السياسي وهذا يحتاج الى حلول جذرية ، والبعض الاخر هو ثمرة لعيوب ادارية وهو قابل للمعالجة بمعزل عن التغيير السياسي الشامل. وتخفي سطور وثيقتي “الرؤية” و “شركاء” قلقا عميقا من انعكاسات الوضع الحالي على وحدة البلاد ، في اشارة الى ما تردد من مخاوف حول احتمال انفراطها[51]، بينما تركز وثيقة “الاصلاح الدستوري” على العنف السياسي والقلق من تفاقمه . وثمة اتفاق على ان تلك المشكلات هي مخرجات طبيعية لعلة كبرى في النظام السياسي هي افتقاره الى الشرعية التي لا بد ان تتجسد في قيام الاجتماع السياسي على قاعدة التعاقد ، اشاعة الحريات العامة ، المشاركة الشعبية ، وحاكمية القانون. ان استعادة الشرعية عندهم ممكن بتحويل النظام الى ملكية دستورية واشراك الشعب في القرار والرقابة من خلال مجلس نيابي ومجالس محلية منتخبة . والبديل الدستوري الذي يعرضه الاصلاحيون اقرب الى الليبرالية منه الى الديمقراطية ، وهو يقارب نموذج الدول المجاورة في الخليج والاردن ، فهم يريدون ضمان حصة للمجتمع دون مساءلة دور العائلة المالكة . والانطباع السائد بين الاصلاحيين وغيرهم ، ان التحرك الى ديمقراطية كاملة سوف يستغرق بعض الوقت ، لكن البدء بتمكين الشعب من حقوقه السياسية واقرار المحاسبة وحاكمية القانون سوف يؤدي بالضرورة الى تطوير الاجتماع السياسي باتجاه الديمقراطية الكاملة .

عدا المشكلات المتعلقة بفلسفة العمل السياسي ومضمون النظام ، فان الاصلاحيين لم ينظروا الى المشكلات الاخرى على نفس المستوى . فهم يرجعون الازمة الاقتصادية مثلا الى عيوب ادارية وقانونية واساءة استغلال السلطة ، لكنهم لا يربطونها على نحو واضح بفلسفة النظام . ولهذا السبب – ربما – فانهم يرون امكانية علاجها بمعزل عن الاصلاح السياسي الشامل . فهم يدعون الدولة الى المساواة بين المناطق في توزيع الثروة ومشروعات العمران ، مكافحة الفساد المالي والاداري واستغلال السلطة ، وتفعيل اجهزة الرقابة القائمة . ان الاشارة الوحيدة التي تحمل طابعا جذريا في هذا المجال هي دعوة وثيقة “الرؤية” الى معالجة الطابع الاحادي للاقتصاد وتنويع مصادر الدخل الوطني. ومن هذا يظهر ان التيار الاصلاحي قد ركز اهتمامه بالكامل تقريبا على الجانب السياسي ، واعتبره المهمة شبه الوحيدة في الوقت الراهن .

الدين كعامل في الحياة السياسية

كان الدور السياسي للدين موضوعا للعشرات من الدراسات التي اهتمت بالعالم العربي خلال السنوات الاخيرة . وبالمثل فقد مثلت العلاقة بين العائلة السعودية والمذهب الوهابي معينا لا ينضب للدراسات المتعلقة بالمملكة . والفرضية السائدة ان هذه العلاقة تقوم على ارضية تحالف تاريخي يوفر للدولة  شرعيتها ويوفر للمؤسسة الدينية السلطة المادية الضرورية لتطبيق متبنياتها العقيدية .

ثمة محددان لدور الدين في الحياة السياسية السعودية :

الاول : رغم وجود هيئة دينية رسمية ، قد توهم بوجود تراتبية هرمية ، الا ان المذهب الرسمي يفتقر تماما الى مثل هذه التراتبية ، بل يمكن القول ان وجود الهيئة الرسمية والتداخل الشديد بين الدين والدولة قد حال دون تبلور تراتبية طبيعية . ثمة عامل اخر يعيق ظهور تراتبية مؤثرة وهو النهج الاخباري للمذهب الذي يسمح لكل من حصل على قسط ولو بسيط من التعليم الديني بالفتوى في اصغر الامور واعظمها ، بخلاف المذاهب الاصولية التي تفرض دراسات طويلة جدا قبل حصول المتعلم على اهلية الفتوى . الفارق الزمني يتعلق بدرسة وسائل الاستدلال العقلي التي تستهلك سنوات طويلة قبل اتقانها . في المذاهب الاصولية فان الاغلبية الساحقة من رجال الدين الذين لم يصلوا درجة الاجتهاد يكتفون بنقل فتاوى المجتهدين ، اما في المذهب الوهابي فان انعدام التراتبية والاخبارية ، قد مكنا كل من قرأ شيئا من التراث من ادعاء الاجتهاد ، والفتوى اعتمادا على مرئياته الخاصة . وخلال السنوات الاخيرة كان هذا الموضوع مدارا لنقاشات واسعة بين زعماء المذهب بسبب السيولة الهائلة للفتاوى التي لم تحرج مواقف الحكومة فقط ، بل اثارت فوضى عارمة في الوسط الديني[52].

الثاني : يلعب المذهب الرسمي (مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب) دورا هاما في تسوير وصيانة التماسك ضمن البيئة الاجتماعية الخاصة بالنظام (نجد) . بالنسبة لمنطقة عسير الجنوبية وجبال الحجاز التي حقق فيها المذهب اختراقات خلال السنوات الاخيرة ، فان الوظيفة السياسية للدين ليست مماثلة في كل الاوقات لوظيفته في نجد . وقد لاحظنا ان هذه المنطقة قدمت اكبر عدد من المشاركين في الهجمات التي نسبت الى تنظيم القاعدة وانصاره ، كما ينتمي اليها عدد ملحوظ من رجال الدين المعارضين للحكومة . جوهر فكرة التسوير هو مفهوم “الفرقة الناجية” التي يطابق توصيفها هذه الفئة دون غيرها.

في بقية المناطق ، فان الوظيفة السياسية للدين محكومة بعوامل اخرى ، مثل حركية الهيئات الدينية الخاصة بتلك المذاهب وقدرتها على تثمير نفوذها سياسيا . وهذا هو السبب الذي جعل شيعة المنطقة الشرقية اقدر من غيرهم على استثمار الامكانات المتاحة ، رغم ان هذه الامكانات كانت على الدوام اكبر في مناطق اخرى مثل الحجاز حيث يسود المذهب المالكي . وبسبب النزاع بين تلك المذاهب والمذهب الرسمي فان علاقتها  مع الدولة تتغير ايجابا وسلبا ضمن مسار معاكس للعلاقة بين الوهابية والدولة . ان زيادة نفوذ المذهب الوهابي ، سواء من خلال المؤسسة الدينية الرسمية او النشاطات الاهلية ، تؤدي بالضرورة الى تدهور العلاقة بين الدولة واتباع  المذاهب الاخرى. ومن هنا فانه يمكن القول ان المذهب الذي تتوسل به الدولة لضمان شرعيتها في نجد ، يلعب دورا معاكسا تماما في خارجها .

الدين والاصلاح السياسي

لم تغفل اي من دعوات الاصلاح السياسي التي ظهرت في العالم العربي خلال السنوات الاخيرة الاشارة الى مكانة الدين الاسلامي وما يستوجبه من الاحترام . وبالمثل فان معظم الجماعات الدينية العربية قد ربطت موقفها من الاصلاح السياسي بمدى ما يوفره من دور للدين في الحياة العامة . وتشكل هذه احدى المعضلات الحقيقية في الحياة السياسية العربية . فمن ناحية لا يمكن اهمال حقيقة ان الدين هو المكون الابرز لهوية المجتمع العربي وقد ظهر حتى الان انه الاقدر على تعبئة الجمهور ، لكننا على الناحية الاخرى نفتقر الى منظور ديني محدد لفكرة الديمقراطية . ان الافتقار الى هذا المنظور جعل الموقف الديني اقرب الى العداء او على الاقل تجنب تاييد الحراك الديمقراطي . ومن جانبهم فان الديمقراطيين ، جزء مهم منهم على الاقل ، لم يزهدوا في تفسيرالمكون العلماني للديمقراطية باعتباره تهميش الدين او حتى القضاء على دوره كليا .

في اعتقادي انه لا يمكن اقامة ديمقراطية مستقرة في اي بلد مسلم دون التوصل الى حل لذلك المشكل ، واظن ان مشروع التيار الاصلاحي في ايران ينطوي على امكانات كبيرة لصياغة نموذج محلي للديمقراطية ، قابل للتنسيج في الثقافة الوطنية ومتناسب مع المعايير المتعارفة للديمقراطية الليبرالية في العالم.

يمكن القول اجمالا ان التيارات الدينية غير الوهابية تتفق جميعا وبدون تحفظ على دعم الحراك الاصلاحي لاسباب كثيرة ، ابسطها ان تقدم هذا التيار سيقلص الاحادية التي عانت منها هذه المذاهب حتى الان . لكن فيما يتعلق بالمذهب الوهابي فهناك ثلاثة مواقف متباينة :

الاول : موقف المؤسسة الدينية الرسمية واطرافها ، وهو يعارض الدعوات الاصلاحية من نفس المنظور الحكومي ، اي لما تؤدي اليه من اضعاف للسلطة . تتمثل رموز هذا الاتجاه في اعضاء هيئة كبار العلماء ومجلس القضاء الاعلى واعضاء الافتاء ورؤساء المدارس الدينية ، وتجدهم يوميا على منابر الاعلام المحلي بانواعها.

الثاني : موقف السلفية الصحوية ، وهي التي تعتبر التيار الوسط بين السلفيين السعوديين . وهو موقف مؤيد للاصلاح من زاوية تكتيكية في الغالب ، لان هذا التيار مسيس وقد انطلق اساسا من موقف عدائي للدولة قبل ان يميل الى مهادنتها ، فهو يعتقد ان البلاد سائرة الى اصلاحات ديمقراطية لا محالة ، وهو يرى ان قدرته على ضمان مكان في السياسة رهين بالتمايز عن المؤسسة الدينية الرسمية والحوار مع الغير[53] . لكن هذا الموقف الذي يبدو معتدلا لا يصل الى حد القبول بحقوق على اساس المواطنة ، بل يعتبر المعايير الفقهية هي الاساس في منح الحقوق ، ان مذكرة النصيحة التي صدرت في 1992 هي ادق تعبير عن مواقف هذا التيار السياسية[54]. ابرز ممثلي هذا التيار هم سلمان العودة ، سفر الحوالي ، ومحسن العواجي .

الثالث : موقف التيار السلفي الجهادي وهو يعارض الحراك الاصلاحي لان مضمونه غير ديني ، ولان الدولة غير قابلة للاصلاح ، والبديل الذي يطرحة هذا التيار هو حكومة دينية صرفة . وتنسب الى هذا التيار الذي يوالي اسامة بن لادن معظم اعمال العنف التي شهدتها البلاد في السنوات الاخيرة . وهو يستمد قوته من محاكاته للضمير السلفي وسحر فكرة القوة والتغيير الفوري، ولهذا فانه يحظى بممالأة من جانب شخصيات تضنف ضمن التيار السلفي الصحوي  ، لا تؤمن به جوهريا بل تسعى الى استثمار القوة المجتمعية التي يولدها (سفر الحوالي ومحمد المسعري مثلا).

عدا هذه المواقف الثلاثة، فهناك تيار ديني لا زال صغير الحجم يؤمن بالاصلاح السياسي في معناه الشامل، وشارك هذا التيار في وثيقة “رؤية لحاضر الوطن ومستقبله” كما تزعم الدعوة لوثيقة ” الاصلاح الدستوري اولا” ، وساهم ممثلوه بفاعلية في المؤتمر الثاني للحوار الوطني. ولا يتمتع هذا التيار بنفوذ اجتماعي ملحوظ ، سيما بسبب تكوينه النخبوي من ناحية وما يتعرض له من عداء التيارات الثلاثة المذكورة من ناحية اخرى. لكنه – بالنظر الى مسار الاحداث – ينطوي على احتمالات كبيرة للتوسع والظهور كأحد الممثلين الاقوياء للتيار الديني النجدي.

ويؤكد خطاب التيار الاصلاحي في المملكة على دور الدين في الحياة العامة ، لكنه – مثل معظم الحركات المماثلة في العالم العربي – يقف قاصرا عن تحديد موقف قطعي من المشكلات الرئيسية التي يطرحها جدل الدين-الديمقراطية . ويظهر هذا القصور في اوليات الخطاب ، اي اعتبار الدولة الوطنية اطارا قاعديا للسياسة ، بما ينطوي عليه من القول بالمساواة بين المواطنين على اساس المواطنة ، كما يظهر في ادوات العمل السياسي مثل اعتبار راي الاكثرية معيارا موضوعيا لشرعية القرار. ظهر تاثير هذا القصور واضحا في العمل الذي سبق اصدار وثيقة “الاصلاح الدستوري اولا” حين اعترض بعض السلفيين عليها بسبب وجود “عدد كبير” من الشيعة والليبراليين بين الاسماء ، واعترض عليها اليساريون بسبب غلبة الطابع الديني على لغتها. كما ان اول اجتماع سياسي موسع للحركة الاصلاحية (25 فبراير2004) انتهى الى الفشل لعجز المشاركين عن الاتفاق على التساوي بين كل منهم والاخر في الراي والالتزام براي الاكثرية.

وقد اكدت جميع الوثائق التي اصدرها الاصلاحيون السعوديون على الدور المحوري للاسلام في الحياة العامة ، وقررت وثيقتا الرؤية والاصلاح الدستوري ان الشريعة الاسلامية ورضا الشعب بصورة متوازية هما مصدر شرعية السلطة ، وتزيد وثيقة الاصلاح على ان التطبيق الامين للشريعة ممكن فقط في ظل المشاركة الشعبية وضمان الحريات العامة.  لكن كلا الوثيقتين يتحاشى الاشارة الى دور المؤسسة الدينية او طبيعة العلاقة بين الدين والدولة او المعايير التي تحدد الوصف الديني للدولة.

يبدو حتى الان ان تصور الاصلاحيين لدور الدين في الحياة العامة ، ولا سيما دور المؤسسة الدينية هو العائق الرئيس امام انضمام التيار السلفي ، حتى الشريحة المعتدلة منه ، الى المسار الاصلاحي.  ولا شك ان مثل هذ الخطوة كانت ستضيف – لو حدثت- زخما شعبيا جديدا الى الحراك الاصلاحي . بل ربما اعتبرها البعض كالدكتورة الرشيد مثلا ، المفتاح الوحيد للانسداد السياسي الفعلي[55] . لكن يبدو من التجارب المتكررة منذ اوائل التسعينات على الاقل ان الشخصيات السلفية التي التحقت بالتيار الاصلاحي هي تلك التي انفصلت عمليا عن التيار السلفي ولم يعد لها تاثير يذكر في وسطه. الجدير بالذكر ان اثنين فقط من الذين وقعوا على وثيقة الاصلاح الدستوري ، كانوا من الموقعين على مذكرة النصيحة.

ينادي التيار السلفي بدور للدين والمؤسسة الدينية يتجاوز ما هو مقبول لدى الاصلاحيين والموالين للحكومة على السواء . وهو لا ينظر الى حقوق الانسان الاولية باعتبارها طبيعية ، اي سابقة للقانون ، ولا يؤسسها على مفهوم المواطنة ، بل يستمدها من الفقه التقليدي. ولهذا السبب – ربما – لم يرد لفظ  “الحرية”  في كامل “مذكرة النصيحة” التي تبلغ 45 صفحة. وبشكل عام فانه لا يعتبر الحرية هما ، بل ربما اعتبر مظاهر الانفتاح والليبرالية القليلة التي شهدها المجتمع السعودي في السنوات الاخيرة نذير خطر وعلامة على فساد الاخلاق العامة .

يمكن القول بصورة مجملة اذن ان التيار الاصلاحي مثل التيار السلفي لا يقدم حلا واضحا لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة . التيار الثاني لا يراها مشكلة على الاطلاق ، بينما يقتصر الاول على الدعوة الى انهاء الهيمنة الاحادية للمذهب الرسمي .

استنتاجات ختامية

تفترض هذه المقالة ان الاستبداد هو احد الامكانات المتوفرة في الحياة الاجتماعية ، لكن ترجيحه في فترة قيام الدولة السعودية يرتبط بغلبة عوامل محددة هي : أ- هيمنة ثقافة الخضوع كمستخلص عام من التجربة التاريخية التي تمثل مرجعية للتفكير الفردي والعقل الجمعي على السواء . ب- التفكك وتعدد الهويات الاجتماعية. ج- غياب الحياة السياسية الذي ادى بالضرورة الى تخلف الثقافة السياسية ، بسبب الموقع الطرفي للمجتمعات التي تشكلت منها المملكة.

طبيعة الاستبداد : رغم ان الاستبداد بذاته ذو طبيعة واحدة تتلخص في الانفراد بالسلطة والراي ، الا انه يتمايز في البلدان المختلفة بحسب اطاره العملي ، وتقترح هذه المقالة دراسة طبيعة الاستبداد في المملكة ضمن “النموذج البدوي”. في هذا النموذج تمثل القبيلة اطارا مفهوميا للقيم والتراتب الاجتماعي ، نظاما للسلطة ، ورؤية للذات والعالم . وتمثل الغنيمة عنوانا للاقتصاد السياسي ، بينما تمثل العقيدة القاعدة الاخلاقية التي تبرر النظام وتوفر المشروعية لديناميات الاستمرار الخاصة به.  سياسيا يتصف هذا النموذج بانه أ- نظام في ذاته ولذاته . ان منظومة المصالح ليست هي اساس الهوية ، بل الرابطة القرابية التي تقوم عليها لاحقا منظومات مصالح ، وهذا يجعل القبيلة – خلافا للطبقة – نظاما مغلقا على الخارج فلا يسمح بالحراك منه الى الخارج او من الخارج اليه . ب – وهو ايضا نظام عضوي غير تعاقدي، تعتمد المكانة فيه على النسب لا الانجاز. كما ان مفهوم الملك والمصلحة وما ينشأ عنهما من علاقات و سلطة ليس مؤقتا او قابلا للانتقال والتبادل ، بل تقوم على اساس تطور طبيعي تنحصر بموجبه داخل النظام الذي يمثل رابطة طبيعية بين ابنائه. ج – اخيرا فانه نظام يتحدد مفهوم السلطة فيه بالقهر. ان مفهومه الخاص بالشرعية ليس مستمدا من العقيدة المشتركة بين الحاكم ومجموع رعيته ، بل بينه وبين الاقلية التي يعتمد عليها لاخضاع الاكثرية.  ويرجع هذا الى الصفة الاولى ، اي كونه نظاما لذاته.

اعادة انتاج الاستبداد : يعيد الاستبداد انتاج نفسه في ظروف التحول الاجتماعي من خلال تفعيل العوامل التي قام عليها ، وتلعب الدولة المستبدة دور الوسيط او مدير اللعبة الذي يسمح بتنشيط عوامل محددة ، موروثة او مستجدة ، ويمنع اخرى.  ابرز العوامل التي نجحت الدولة في استخدامها هي الدعم الخارجي ونمط الانتاج الريعي . في ظل النموذج الريعي فان الحقوق السياسية ليست موضوعا للنقاش ، العلاقة بين المواطن والدولة تتمحور حول مقدار ما يحصل عليه من مال او خدمات توفر مالا .

الحراك الاجتماعي : تجادل المقالة بان ضعف الحراك السياسي الديمقراطي في المجتمع السعودي يرجع الى عاملين متعاضدين هما : أ- غياب الاجماع الوطني ، اي منظومة القيم والمعايير المتفق عليها من قبل الجميع كقاعدة للعلاقة بين المواطنين من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة اخرى. غياب الاجماع هو مظهر لغياب الهوية الوطنية الجامعة. ب- العجز عن استنباط منظومات عمل اجتماعية بديلة عن تلك المنتسبة الى عصر ما قبل الدولة. لقد انهارت البنى الاجتماعية القديمة تحت ضغط التحديث ولم يسمح بقيام منظومات عمل بديلة. بموازاة هذا الفراغ ، فان ضغط التحديث قد حفز مقاومة في بعض البنى التقليدية احتمت كالعادة بعباءة الدين والتقاليد الفاضلة. في الوقت الحاضر يمثل جدل الحداثة / التقليد احد مبررات الانشقاق البارزة في المجتمع السعودي . دور الدولة المستبدة في اعاقة الحراك الاجتماعي مفهوم ضمنا ، لكن السؤال الجوهري يتعلق بعجز المجتمع عن استنباط بدائله .

التيار الاصلاحي : نتيجة لانعدام الاجماع الوطني ، فان المقاربات السياسية التي شهدتها البلاد حتى نهاية العقد المنصرم عبرت عن انساق اجتماعية محددة ، قصر اي منها عن تمثل الهم الوطني الشامل . وقد جرى تجاوز هذا المشكل (جزئيا على الاقل ) من جانب التيار الاصلاحي الذي تمثلت فيه جميع الاطياف الاجتماعية تقريبا . ظهر هذا التيار من خلال الوثائق التي قدمت لولي العهد وثم اعلنت . وهي تتضمن تصويرا للوضع السياسي القائم وطريق الاصلاح السياسي المقترح .

يرجع التيار الاصلاحي بعض مشكلات المملكة الحالية الى فلسفة النظام السياسي مما يتطلب حلولا جذرية ، ويرجع البعض الاخر الى عيوب ادارية او قانونية لا ترتبط على نحو واضح بفلسفة النظام، وبالتالي فهي قابلة للمعالجة بمعزل عن التغيير السياسي الشامل. وينطوي تحليل الاصلاحيين على قلق عميق من انعكاسات الجمود السياسي على وحدة البلاد ، كما يرجعون اليه حملة العنف السياسي التي تفاقمت في السنوات الاخيرة. المشكلة الرئيسية التي تعانيها البلاد في رايهم هي انعدام شرعية الدولة وغياب الاساس التعاقدي للاجتماع  السياسي.

يتمتع التيار الاصلاحي بفرص طيبة للنجاح ، وهو قد اسهم حتى الان في تغيير المزاج الشعبي واللغة السياسية المتداولة . يعتقد الكاتب ان الصيغة الحالية للتيار الاصلاحي سوف لن تعمر طويلا وان المجموعات المكونة للتيار سوف تتجه الى بناء نفسها بصورة مستقلة لكن وثيقة الرؤية سوف تكون القاعدة المشتركة للجميع.

ويحتاج الاصلاحيون في ظل الاوضاع الراهنة الى معالجة عدد من الموضوعات الملحة ، من بينها موضوع العلاقة بين الدين والدولة ولا سيما استنباط تصور معمق عن نموذج ديمقراطي وطني ينسجم مع الدين الاسلامي باعتباره المكون الرئيس لهوية المواطنين. اشير ايضا الى ثلاث مهمات مثيرة للجدل واظن انها قابلة للعلاج دون عناء كبير :

أ- التكوين النخبوي-المحافظ : لكي يتحول الحراك الاصلاحي الى حركة شعبية قادرة على فرض اجندة الاصلاح ، فلا بد من ازالة الحاجز الزجاجي الذي يفصل النخبة الاصلاحية عن الجمهور الواسع . ومثل هذه الخطوة تتطلب جهدا وتضحية . ومن دون ذلك فان الزخم الاصلاحي قد يستهلك تحت الضغط الحكومي المتمثل في التجاهل احيانا والقمع احيانا اخرى.

الجمهور العام هو القوة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها للانتقال الى الديمقراطية. يميل اكثرية السعوديين ، بمن فيهم الاصلاحيون، الى نموذج اجتماعي اقرب الى المحافظة منه الى الليبرالية [56]. في هذا النموذج تصنف المداولات السياسية كعمل يقوم به خاصة المجتمع لا العامة ، وهذا احد الاسباب التي تكمن وراء اهمال – واحيانا الممانعة من – طرح المطالب الاصلاحية للنقاش الشعبي. بسبب اهمال مشاركة العامة في الشان السياسي فان المفاهيم التي تعتبر مسلمات في العالم مثل الحرية والدستور الخ ، لا زالت غريبة الوقع في المجتمع وتحتاج دائما الى اقناع وتفسيرات . بكلمة اخرى فان الثقافة السياسية للبلاد لا زالت تنتمي في المجمل الى المرحلة التقليدية ومحورها هو الاقرار بعلاقة السيد-التابع ، وهو عامل يخدم اطالة عمر الاستبداد.

ب -الاجماع الوطني : رغم الايمان العميق الظاهر عند شريحة واسعة من الاصلاحيين باعتماد المواطنة اساسا للحقوق العامة ، الا ان هذا المفهوم العام تعرض احيانا للتهميش بتاثير المماحكات السياسية بين الاصلاحيين انفسهم وخلال محاولاتهم لاستقطاب القوى الاخرى . ان نجاح الاصلاحيين مشروط بقدرتهم على اتقاء هذه العلة . ليس فقط لان الابتلاء بها يفقد المشروع الاصلاحي مصداقيته كبديل عن نموذج الاستبداد القائم ، بل ايضا لان مثل المسار لن ينجح ابدا في الاستمرار ، خاصة اذا عرفنا ان المحرك الاقوى للتيار الاصلاحي في هذه المرحلة هم المتضررون مباشرة من الاستبداد ، اي الاقليات والمناطق المهمشة ، وهذه ترفض ذلك النوع من التصنيف لما ينطوي عليه من اقرار بالنموذج السياسي الذي تتبناه الحكومة والذي يقوم على تغليب العنصر النجدي-الوهابي.

ج – دور الخارج : رغم تردد الاصلاحيين في القبول بدور لحلفاء المملكة الاجانب في دعم الاصلاح السياسي ، الا ان اطلاعي المباشر على المداولات المحلية بهذا الشأن يسمح لي بالقول ان ذلك الاستنكار يخفي وراء قشرته الخارجية ترحيبا متحفظا ، تجد بعض مصاديقه حتى بين السلفيين ، فضلا عمن يوصفون بالليبراليين[57]. مشكلة الدور الخارجي تكمن في الاختلاط الحاصل بين تحليل الواقعة وتقييمها . التحليل يجيب على سؤال : هل هذا ممكن ام لا ، واذا حصل هل يفيد – موضوعيا – ام لا ، اما التقييم فيجيب على سؤال : هل نقبل به ام لا . وواضح ان الامرين مختلفان . من الناحية الواقعية فان تدخل الولايات المتحدة كان مفيدا في بعض الاحيان[58]. لقد اقتصرت معالجة الاصلاحيين للموضوع على تحذير الحكومة من احتمال ان يمسي التدخل الخارجي قدرا لا مفر منه اذا لم تبادر الى تبني مشروع اصلاح وطني. اغفال مسألة كهذه يشير الى ضآلة الجهد الذي يبذله الاصلاحيون في مناقشة التحديات التي تواجه مشروعهم . اذ لا شك ان بالامكان وضع تصور عن علاقة مركبة مع الخارج ، الامريكي او غيره ، تسمح بالتعبير عن المواقف دون الانزلاق الى التعميم او العداء غير المبرر.


[1]  Almond, Gabriel, Comparative Political Systems, The Journal of Politics,vol.18, issue 3 (August 1956), 391-409: p. 398

[2] رضون السيد: الجماعة والمجتمع والدولة ، (بيروت 1997) ص 412

[3] يجدر هنا الاشارة الى الجهد القيم الذي بذله الجابري في تحليل المسار التاريخي الذي تكون خلاله المنظور العربي للسلطة . محمد عابد الجابري : العقل السياسي العربي ، (بيروت 1990).

[4]  يلاحظ العروي ان المواطن العربي يعاني صعوبة في التعامل العقلاني مع فكرة الدولة بسبب التناقض الذهني بين الدوالة الواقعية والمتخيلة كما يصورها الاب والامام في المسجد . يتاثر هذا التصوير بالمؤلفات الشرعية التي تتخيل دولة نموذجية يصفها بالطوباويات الاسلامية . وهو يعرف هذه الطوبى بتخيل نظام افضل خارج الدولة القائمة وضدا عليها. عبد الله العروي : مفهوم الدولة ، (بيروت 1998 ) ص. 90

[5] Katouzian, Homa, “The Aridiosolatic Society: A Model of Long-Term Social and Economic Development in iran”, International Journal of Middle East Studies, vol. 15, no. 2 (May, 1983), 259-281

[6] يعتبر الانصاري تغير موازين القوة بين البادية والمدينة لصالح الاولى نقطة انعطاف في تاريخ العرب السياسي ادت الى هيمنة البادية كنمط اجتماعي على السياسة في العالم العربي ككل . (محمد جابر الانصاري: التازم السياسي وسوسيولوجيا الاسلام، بيروت 1999 ، ص 55) . والمنظور الذي بنطلق منه الانصاري مختلف عن منظور كاتوزيان ، فهذا يرى ان المدينة امتصت قوة القبيلة واحتفظت بالسلطة . البادية استعملت كمورد للقوة المحاربة . لكن بالتطبيق على التاريخ الايراني – سيما في العصور الوسطى – يظهر ان مقولة الانصاري اقرب الى ما حدث في الواقع اذ ان السلطة منذ القرن العاشر الميلادي على الاقل كانت تتداول بين قبائل محاربة . انظر بهذا الصدد صادق زيبا كلام: ما جكونه ما شديم : ريشه يابي علل عقب ماندكي ايران (تهران 1996) ويظهر لي ان راي الانصاري يعالج بصورة ادق عوامل التحول في السلطة لاسيما في الظروف الثورية ، بينما يقدم كاتوزيان تفسيرا افضل لديناميات الاستمرارية السياسية.

[7] For details, see Eleanor A. Doumato, “Gender, Monarchy, and National Identity in Saudi Arabia”, British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 19, no. 1. (1992), pp. 31-47.

[8] حمزة الحسن : الشيعة في المملكة العربية السعودية (بيروت 1993) ج 2 ، ص 219

[9] مي يماني : هويات متغيرة ،  ترجمة ابراهيم درويش (بيروت 2001) ص 69

[10]  قارن مع بالانديه الذي يرى ان الحياة السياسية تولد مع الدولة ولهذا فانه لا توجد حياة سياسية قبل ظهور الدولة الحديثة .  جورج بالانديه : الانثروبولجيا السياسية ، ترجمة على المصري ، (بيروت 1990) ص 153

[11]  Almond, G., & Verba, S., The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, (Princeton 1963), p. 79.

[12] حول هذه المناقشات ، انظر محمد جابر الانصاري : تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية (بيروت 1995) ص 129

[13] خلدون النقيب : صرع القبيلية والديمقراطية : حالة الكويت . ص 19 (بيروت 1996).

[14] في التعداد الاول لعام 1962 شكل الحضر نسبة 24 % من السكان ارتفعت الى 46 %  في التعداد الثاني لعام 1974 وتجاوز معدل النمو الحضري بين 1974 إلى 1984 نحو 7.4 بالمائة سنويا. محمد ابراهيم ارباب : تطور النظام الحضري السعودي . مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، ع 97 ، ابريل 2000.

[15] يتفق هذا مع تحليل الرميحي لحالة الكويت ، انظر محمد الرميحي: معوقات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعات الخليح العربي المعاصرة ، (الكويت 1977) ص 137

[16]  متروك الفالح : المستقبل السياسي للسعودية في ضوء 11/9. www.gulfissues.net/mpage/derasat/alfalih.htm

[17]  موريس دوفرجيه  : علم اجتماع السياسة ، ترجمة سليم حداد (بيروت1991) ص 132

[18]  تكررت نسبة عبارات مثل ” ملكناكم بالسيف  .. السيف لا زال في ايدينا ”  الى الملك المؤسس عبد العزيز ال سعود . انظر مثلا امين الريحاني : ملوك العرب ، ج2 ، ص 576. وخلال السنوات الاخيرة تكررت نسبة تعبيرات مماثلة الى بعض كبار الامراء ، من بينها مثلا ما نسب الى وزير الداخلية الامير نايف بن عبد العزيز في اجتماع مع ممثلي التيار الاصلاحي في 23 مارس 2004 (الاباء والاجداد بنوا هذه الدولة بالسيف وبدمائهم لحفظ الدين ولن نسمح لكائن من كان ان يدمر هذا الكيان او يضعفه وسننزل بالسيف للدفاع عن الدين).  القدس العربي (لندن 29 مارس 2004) . تفاصيل اخرى عن هذا الاجتماع في : شؤون سعودية ، ع 15 (ابريل 2004) ص6-9

[19]  Safran, Nadav, Saudi Arabia: The Ceaseless Quest for Security, (London 1985), p. 57

[20] مسعود ظاهر : المشرق العربي المعاصرمن البداوة الى الدولة الحديثة ، (بيروت 1986) ص 308

[21] محمد عبيد غباش:  سلطة أكثر من مطلقة.. مجتمع أقل من عاجز  الدولة الخليجية  ، (موقع قناة الجزيرة 27/2/2004)  http://www.aljazeera.net/in-depth/Requirements_enhancement_gulf_countries/2004/2/2-27-3.htm

[22] يميل كثير من الباحثين الى نفي وجود انقسام طبقي واضح في المجتمعات العربية . واعتبر الفضيل مثلا ان البنى الطبقية في معظم البلدان العربية في حالة تحول مستمرمنذ الحرب العالمية الثانية تعاد خلالها صياغة الاوزان النسبية للقوى الاجتماعية والعلاقات الطبقية ، ولهذا فانه لا يمكن الحديث بعد عن خريطة طبقية مستقرة لكل بلد على حدة أو لكل البلدان العربية مجتمعة . محمود عبد الفضيل: التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي ، (بيروت 1988) ص. 108

[23] يماني ، المرجع السابق ، ص 71

[24] في ابريل 2004 استحدثت وزارة مستقلة للعمل ، قال وزيرها غازي القصيبي ان مهمته الرئيسية هي القضاء على مشكلة البطالة بين السعوديين . الوطن (ابها 19 ابريل 2004)  www.alwatan.com.sa/daily/2004-04-19/economy/economy03.htm  . والمعدل الرسمي للبطالة بين السعوديين الذكور هو  9.6 %  لكن الرقم محل شك بين الخبراء وفي قطاع الاعمال. عكاظ (جدة 4 سبتمبر 2003) www.okaz.com.sa/okazArchive/Data/2003/9/4/Art_23665.XML

[25] انظر مثلا الانطباعات التي عبر عنها المشاركون في كتاب غسان سلامة (محرر) : ديمقراطية من دون ديمقراطيين ، (بيروت 1995)

[26] Tsurutani, Taketsugu, “Stability and Instability”,  The Journal of Politics, vol. 30, no. 4. (Nov., 1968), pp. 910-933: p. 911

[27] Almond, G., “A Developmental approach to Political Systems”. World Politics, vol. 17, issue 2, (Jan., 1965) pp. 183-214: P. 192

[28] Binder, Leonard, Islamic Liberalism, (Chicago, 1988) p. 41

[29] جوزيف كوستنر، العربية السعودية من القبلية الى الملكية ، ترجمة شاكر سعيد (القاهرة 1996) ص 293.

[30]  Apter, David, The Politics of Modernization, (Chicago 1965), pp. 66-8

[31] الفضيل ، المرجع السابق ، ص181

[32] سعدالدين إبراهيم: المثقفون العرب والتخريب الحالي لمصطلح المجتمع المدني (الحياة 31-03-2001 ) www.democracy- egypt.org/saadweb/articles/morearticles/hayat1.htm

[33]  نادر فرجاني : هدر الامكانية (بيروت 1980) ، ص 70.

[34] يبلغ عدد الشركات المساهمة المدرجة في البورصة السعودية 71 مقابل 324  في ايران ، 111 في الكويت، 161 في الاردن ، و868  في مصر. (صندوق النقد العربي 10 مايو 2004) www.amf.org.ae/vArabic

[35] محمد إبراهيم الحلوة : المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية (الشرق الاوسط 10-12-2003) www.asharqalawsat.com/default.asp?page=leader&article=206825&issue=9143

[36] خلدون النقيب : المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (بيروت 1987) ، ص 173 . فيما يتعلق بالمملكة لاحظ الكاتب في العام 1994 ان حوالي  30 بالمائة من مدراء المدارس او وكلائهم في المنطقة الشرقية كانوا ينتمون الى قبيلة واحدة ، هي قبيلة مدير التعليم في المنطقة.  فيما يتعلق بالطائفية ، فقد لاحظ ان عدد الموظفين الشيعة في مجموع وزارات الدفاع ، الداخلية ، الخارجية، العدل ، الحج  والاوقاف لم يتجاوز 70 فردا . وهناك كليات باكملها وفروع في بعض الكليات تخلو تماما من اي طالب شيعي.

[37]Article 19 (organization), Silent Kingdom: Freedom of expression in Saudi Arabia,  (London, Oct., 1, 1991)

[38] صدر خلال هذه الفترة العديد من الكتب والرسائل والفتاوى تربط فكرة الحداثة بالغزو الفكري الاجنبي والمؤامرة على الاسلام ، من بينها مثلا “الحداثة بين التعمير والتدمير” لحسن بن فهد ،  “الحداثة في ميزان الإسلام” لعوض القرني ، “الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها” لسعيد بن ناصر الغامدي ، “إبراهيم البليهي مدافعا عن تركي الحمد” لابي عبدالعزيز النجدي ، “تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة” لسليمان الخراشي . وغيرها . وجميع الكتب المذكورة نشرت بدعم هيئات دينية رسمية.

[39] حول كيفية فهم الشباب السعودي لفكرة الحداثة وعلاقتها بالتقاليد ، انظر ، يماني : المصدر السابق ، ص 43

[40] نور الدين طوالبي: الدين والطقوس والتغيرات ، ترجمة وجيه البعيني (بيروت 1988) ص 256

[41] يماني ، المرجع السابق ، ص 89 . لاحظ ايضا تصريح وزير الداخلية الذي قال ان رفع الحظر الرسمي على قيادة النساء للسيارات “يعود للمجتمع السعودي باكمله وهو المعني به” الحياة (لندن 30-8-2003) ص 5

[42] عادل خضير: “الحوار الوطني السعودي يفتح أبوابه لتعددية الآراء” ،الحياة (لندن 2003/12/31) www.daralhayat.com/special/issues/12-2003/20031230-31P08-01.txt/story.html

[43] انظر مثلا مقالات عبد الله بن بجاد العتيبي ، منصور النقيدان

[44] حول ابرز مطالب النساء السعوديات، انظر سهيلة حماد: ” اقتراح محاور لمؤتمر حوار وطني سعودي موضوعه المرأة” ، الحياة (لندن 27 فبراير 2004) www.daralhayat.com/opinion/02-2004/20040226-27p10-01.txt/story.html

[45] نص المذكرة ، موقع الحركة الاسلامية للاصلاح . www.islah.tv/documents/islahdocs1.htm

[46] الجزيرة العربية ، العدد 21 (لندن ،اكتوبر 1992)

[47] For an historical approach to the transformation of Shi‘ite opposition, see Madawi al-Rasheed, “The Shia of Saudi Arabia: A Minority in Search of Cultural Authenticity”, British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 25, no. 1. (May, 1998), pp. 121-138.

[48] نص وثيقة “رؤية..” شؤون سعودية ، العدد 2 ، (لندن ، مارس 2003) ، ص. 14.  www.saudiaffairs.net

[49]  نص وثيقة “شركاء ..” السفير (بيروت 22 مايو 2003)

[50] نص وثيقة “الاصلاح ..”  موقع الاسلام اليوم (25 ديسمبر 2003) www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?artid=3201&catid=76

[51] حول العلاقة بين الجمود السياسي والقلق على الوحدة الوطنية انظر متروك الفالح : المرجع السابق

[52] انظر بهذا الصدد راي عبد الله التركي الامين العام لرابطة العالم الاسلامي. جريدة الزمانwww.azzaman.com/azzaman/articles/2002/03/03-14/789a.htm

[53] انظر مثلا مقابلة محسن العواجي في ايلاف 14 مايو 2004 www.elaph.com .  ويمكن الحصول على معلومات اكثر عن مواقف هذا التيار على موقع الاسلام اليوم www.islamtoday.net  الذي يشرف عليه سلمان العودة وموقع الوسطية الخاص بالعواجي www.wasatyah.com

[54] نص مذكرة النصيحة ، موقع مركزالحرمين ( في 12 مايو 2004) www.alhramain.com/text/payan/alnseha/1.htm

[55] مضاوي الرشيد: الملكية الدستورية غير ممكنة، والتحالف الوطني هو الحل. القدس العربي (لندن 14-1-2004) www.alquds.co.uk/index.asp?fname=2004\01\01-14\a52.htm

[56] On the major characteristics of Conservatism, see Andrew Heywood, Political Ideologies, (New York 1998), p.66

[57] انظر مثلا الطريقة التي عالج بها ابو السمح الدور الامريكي في العراق . عبد الله ابو السمح: “المزايدون الضالون”، عكاظ (جدة 19-7-2003) www.okaz.com.sa/okazarchive/data/2003/7/19/Art_8270.xmL

[58]  اشير هنا مثلا الى اعلان وزارة الخارجية الامريكية عن خيبة املها بعد اعتقال الزعماء الاصلاحيين في 16 مارس 2004CBS News, (March, 21, 2004) . www.cbsnews.com/stories/2004/01/29/world/main596614.shtml   وهو موقف وفر للمعتقلين دعما سياسيا مهما ادى الى منحهم معاملة مثالية بالقياس الى معتقلين من التيار السلفي – من بينهم علماء – في نفس الوقت ، حرموا من اية حقوق قانونية. لبعض التفاصيل عن هذه الاعتقالات انظر شؤون سعودية ، ع 15 ،(لندن، ابريل 2004) www.saudiaffairs.net/webpage/issue15/article15r/issue15rt9.htm

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial