الاستبداد الحداثي العربي: التجربة التونسية نموذجا

بقلم الدكتور رفيق عبد السلام

هدف هذه الورقة البحثية إلى تسليط الضوء على نمط من الاستبداد السياسي تواضعت على تسميته بالاستبداد الحداثي، والمقصود بذلك  تلك الحالة الاستبدادية التي تؤسس شرعيتها على المدونة الحداثية السياسية، وتستعمل أدوات وأذرع سيطرة حديثة، علما وأن هذه الظاهرة الاستبدادية  لم تنل ما  يكفي من التحليل والتشخيص، وذلك بسبب شيوع قناعة  بين القطاع الأوسع من المثقفين والحركيين السياسين العرب، مفادها أن ظاهرة الاستبداد السياسي التي تطبق على العرب أنفاسهم وتحبس حرياتهم انما تعود إلى ثقل التأثيرات التاريخية وسيطرة الثقافة السياسية التقليدية المنحدرة من المواريث الشرقية أو ما يعبر عنه عادة بالاستبداد الشرقي، ومن ثم يكفي الانتقال من العالم التقليدي بهياكله ومؤسساته ووجوه شرعنته السياسية والفكرية حتى يتم ولوج بوابة الحداثة السياسية وإحلال الديمقراطية. ما تريد قوله  هذه الورقة ليس تأكيد العلاقة التلازمية بين التحديث والاستبداد، بل ما تريد قوله أقرب إلى  النفي منه إلى الإثبات، نفي العلاقة الترابطية بين التحديث والديمقراطية من جهة أولى، ثم  لفت الانتباه إلى كون  الانتقال من العالم “التقليدي” إلى العالم الحديث لا يتساوق ضرورة مع التحررية السياسية والتخلص من المكبلات الاستبدادية، كما أن هذه الورقة لا تروم المرافعة المجانية عن التجربة التاريخية أو “الصور التاريخية”  بحلوها ومرها بقدر ما تهدف إلى التخلص من النماذج الجاهزة والنظر إلى الواقع الحي في مختلف شخوصه ومنحنياته المركبة.

 تتأسس هذه الورقة على مقاربة مفادها أن ثمة ظاهرة استبدادية سياسية “جديدة” تشكلت في رحم التوسع الامبريالي الغربي ومازالت تلقي بكلاكلها الثقيلة  على الواقع السياسي العربي، هذه الظاهرة كانت  ومازالت تتغذى من أعطاب الدولة العربية الناشئة ومن الدعم والرعاية الخارجيين، ومن يتأمل في واقع الحال ويرى  كيف تتخلق الدولة العربية بلحمها وعظمها في “العراق الجديد” وقبل ذلك في فلسطين أو ما فيما تبقى من فلسطين يدرك فعلا درجة الترابط الوثيق بين آلية الاستبداد وآليات السطرة الدولية في منطقتنا العربية. على أنني ألفت الانتباه هنا أن إلى أن موضوع هذا البحث يتجه أساسا إلى تناول الحالة الاستبدادية العربية على سبيل العموم، ولكن الغايات المنهجية والعملية اقتضت  استدعاء التجربة التونسية بحكم معايشة ومتابعة صاحب هذه الأسطر لأطوار هذه التجربة أكثر من غيرها، فضلا عما يبرز في الحالة التونسية  من ملامح وعناصر استبدادية متغلفة بمطالب وشغارات التحديث  تناسب إلى حد كبير المقاربة النظرية التي ذهبت إليها الورقة.   

الاستبداد في الخطاب اليوناني

تحيل كلمة استبداد في الخطاب اليوناني إلى نمط محدد من علاقة السيد بالمحيط المنزلي، فكلمة مستبد تنطبق على أب العائلة عامة، وسلطته لا تسمى استبدادية من جهة علاقته بأزواجه وأبنائه بل من جهة علاقته بعبيده فقط. فالعلاقة الاستبدادية عند أرسطو  هي في جوهرها بين إنسان حر وبين إنسان آخر قد حرمته الطبيعة هذه الحرية، والمقصود بالطبيعة في السياق اليوناني عامة حالة الضرورة الاجتماعية التي تقتضي نمطا من العلاقات الهرمية تتوزع فيها الوظائف والأدوار تناسبا مع نظام الحاجات والملكات الذهنية للأفراد قياسا على منوال التراتبية الكوسمولوجية الكونية.[i][1] تتأسس العبودية في الخطاب اليوناني على شروط اجتماعية وسياسية مستقاة  من النموذج البيولوجي ونظام الحركة الفيزيائية، فالنظام السياسي العادل في الفكر اليوناني هو االنظام الذي يضع كلا من السادة والعبيد في مكانهم الطبيعي ضمن إطار وظيفي للأدوار تكون فيه الفئة الأدنى اجتماعيا  في خدمة من هم فوقها[ii][2]. فكما أن الأجسام الطبيعية تنزع تلقائيا إلى أماكنها وتتفاضل فيما بينها بحسب مواقعها ضمن نظام الكوسموس (الكون المغلق) فكذلك الأمر بالنسبة لنظام العلاقات الاجتماعية التي تتأسس بدورها على سلم تراتبي وتفاضلي للمواقع والأدوار يحتل فيها الملك موقع الصدارة العلوية المنظمة والضابطة لشؤون المدينة بما يعادل الدور الذي يشغله العقل الفعال باعتباره قوة منظمة لشؤون الحركة الكونية. فالملك في الفكر السياسي الإغريقي ليس جزء من نظام المدينة ولا يشغل موقعا محددا ضمن الجماعة السياسية بل هو قوة علوية خارقة ومتجاوزة لهما.

كلمة استبداد إذن تحيل بصورة أساسية إلى حقل العلاقات المنزلية ولا تحمل دلالة سياسية إلا على سبيل القياس، أي  قياس العلاقات السياسية في المجال العام على منوال العلاقات المنزلية المحلية. فالاستعمال اليوناني يسمح بالحديث عن حكم مستبد تقوم فيه العلاقات السياسية على ضروب من الإكراه والتعسف بما يشبه العلاقات السائدة في الحقل المنزلي بين السيد وعبيده داخل الحقل المنزلي. فقد ميز أرسطو بين الحكم الملكي وبين الحكم الاستبدادي من جهة أن نظام الحكم الملكي ينشد –بصورة جوهرية- المصلحة المشتركة لكل من الحاكم والمحكوم، في حين أن الحكم الاستبدادي ينشد بدرجة أولى مصلحة الحاكم المستبد ولا تتحقق فيه مصلحة المحكومين إلا على سبيل العرض.وبالرغم من أن أرسطو قد احتفظ بخيط التمييز الواضح بين الحقل المنزلي O iconomos وبين الحقل السياسي Polis   حيث اعتبر الأخير المجال العام الذي تمارس فيه الفاعلية الحوارية بين مواطنين أحرار لإثبات هويَتهم الاجتماعية كحيوانات سياسية،  إلا أنه يقيم نوعا من الربط التناسبي بينهما حيث يقيس أنماط الحكومات الاستبدادية على منوال العلاقة بين السيد وعبيده في الحقل المنزلي.[iii][3]

المنعطف الرئيس الذي أكسب مصطلح استبداد دلالة سياسية واضحة هو الحروب اليونانية الفارسية، ففي أجواء المواجهة العسكرية بين الطرفين وقع تمديد المصطلح للدلالة على الأوضاع السياسية لبلاد فارس والشعوب الآسيوية الأخرى المسماة عند اليونانيين القدامى بالبربرية. ففي هذه المرحلة وقع ضرب من التقاطع الدلالي  بين البربرية والاستبدادية في مجرى الخطاب اليوناني، بمعنى أن الشعوب الواقعة خارج الفضاء اليوناني  خصوصا، والأوروبي عموما والمنعوتة بالبربرية عند أرسطو  أصبحت تعرف بأنها  استبدادية بالضرورة. فهذه الشعوب تنطبق عليها صفة الاستبداد بالكامل بحكم  عجزها  عن إدارة الشأن السياسي بصورة  عقلانية رشيدة فضلا عن كون الاستبداد عندها حالة متأصلة في تقاليدها الاجتماعية، ولذلك وجب التعاطي مع هذه الشعوب تعاطي السادة بالعبيد على ما يقول أرسطو. فالاستبداد عند الشعوب الآسيوية كما يقول أرسطو هو استبداد بأتم معنى الكلمة ومرغوب فيه بالطبيعة وليس استبدادا عرضيا كما هو الأمر لدى اليونانيين، فاالبرابرة والعبيد هما شيء واحد بالطبيعة ، لذلك وجب أن يكون مصير هؤلاء البرابرة الآسيويين بين يدي السيد اليوناني  لا يكونون في مكانهم الطبيعي والمناسب إلا كعبيد على ما يقول أرسطو .[iv][4]

شكلت اللحظة الأرسطية بداية التأسيس النظري لتمركز الوعي اليوناني حول ذاته وقد كان ذلك مصحوبا بنوع من الإحساس المبهم بتمايز الجنس الأوروبي،  ولكن ما التنبيه هنا إلى أن  معنى الانتماء الأوروبي وقتها كان يختزل في نقطة أثينا عاصمة الإغريق، أما آسيا فكانت تتجمع في بلاد فارس القديمة التي دخل معها اليونانيون في سلسلة من الحروب الطاحنة.

الاستعمال الحديث لمفهوم الاستبداد

استعادت أوروبا الحديثة ابتداء من القرن الخامس عشر ما كان مختزنا في المخيال اليوناني القديم عما يسمى بالاستبداد الآسيوي، مع دفع ذلك المخزون إلى حدوده القصوى في مرحلة بدأت تتشكل فيها ملامح أوروبا ناهضة ومندفعة إلى التوسع الخارجي، ففي هذه الحقبة تمت ترجمة مؤلفات الأوائل من فلاسفة اليونان فكانت  جسر االتواصل مع الموروث اليوناني  بأخيلته ومصطلحاته وأوهامه أيضا. ففي سنة 1489 قام المفكر الفرنسي أورسام Orseme بترجمة كتاب السياسة لأرسطو، ثم ترجم من بعده في القرن اللاحق (1576 ) الفيلسوف الفرنسي جون بودان فصولا من كتاب الجمهورية لأفلاطون.

ابتداء من القرن السادس عشر مع جون بودان والى حدود القرن الثامن عشر مع مونتسكيو أصبحت السلطة الاستبدادية تعني الملكية التعسفية la  monarchie  tyranique   للدلالة على الحد الأقصى من التسلط الذي يمكن أن تدركه أنظمة الحكم الفاسدة والمنحرفة حيث يجانب الملك قانون الطبيعة ويعامل رعاياه معاملة العبيد لا المواطنين الأحرار.[v][5]

اتجه مفكرو الغرب الحديث وفلاسفته السياسيون إلى تحديد عالمهم السياسي والثقافي بالتعارض مع عالم الأتراك الذين كان ينظر إليهم باعتبارهم الآخر الغريب، وقد تشكلت هذه الصورة النمطية للأتراك منذ سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين الأتراك في القرن الخامس عشر وفي أجواء الاحتكاك العسكري بين الدولة العثمانية والممالك الأوروبية المنافسة[vi][6].  وكان مكيافيلي من أوائل من رسخ هذه المقابلة الثنائية في الوعي الغربي الحديث، فقد تعرض في موقعين من كتابه الأمير إلى الحكم العثماني كنقيض مطلق للملكيات الأوروبية، ولما أسماه ببيروقراطية الباب العالي كحالة متمايزة عن المؤسسات السياسية للممالك الأوروبية  أين يوجد ” سيد واحد يحكم كامل الإمبراطورية العثمانية ويجعل بقية الناس عبيده، ويقسم مملكته إلى سناجق وينتدب عددا من الإداريين للتحكم بالناس ويقوم بتغيير هؤلاء الإداريين أو يزيلهم حسب رغباته الخاصة…. فالكل عبيده المرتبطون به” على حد قوله[vii][7]. من المعلوم هنا أن مصطلح استبداد قد أصبح أكثر رواجا في الخطاب السياسي الغربي  بدءا من القرن الثامن عشر،  وكان لمونتسكيو دور خاص في ترويج هذا المصطلح وإعادة بعثه مجددا من المدونة اليونانية القديمة على حساب كلمة التعسف (tyranny) التي كانت أكثر اشتغالا في الخطاب السياسي الغربي بسبب قوة الحضور اليوناني القديم.

 لم تعد كلمة استبداد في الخطاب السياسي للحداثة الغربية تحيل إلى حالة مخصوصة لحكومة معينة مثلا، بل إلى نسق متكامل من الحكم السياسي يقوم في جوهره على الإكراه والتسلط المطلقين. ومن هذه الناحية فإن الحكم الاستبدادي أوسع دلالة من مجرد وصف  حالات محددة من  التجاوزات الفردية  يقوم بها احاكم بعينه، لأن كلمة استبداد تدل على جنس  عام من أجناس الحكم السياسي وليس على مجرد حالة عينية تخص بعض تجاوزات هذه الحكومة أو تلك.[viii][8] الاستبداد كما عرفه مونتسكيو هو ذلك الحكم الفردي المطلق الذي لا يخضع  لعملية ضبط أخلاقي أو رقابة دستورية، ويتأسس في جوهره على أهواء الحاكم ونزوعاته الشخصية. وتنبني شرعية هذا النمط من الحكم أساسا على الخوف، ولذلك  في حالة غياب هذا العنصر يتداعى مجمل البنيان السياسي للسقوط على ما يذكر المفكر الفرنسي[ix][9].أعاد مونتسكيو تفعيل كلمة استبداد من القاموس الإغريقي القديم للدلالة على الأوضاع السياسية المستجدة في أوروبا الحديثة، فبعد تفكك الممالك الأوروبية المتناثرة بدأت تتشكل الكيانات القومية ومعها اتجاه نحو الإطلاقية والمركزة الشديدة للحكم، وبذلك  استخدم مونتسكيو ما أسماه بالاستبداد الآسيوي كنموذج مكثف للدلالة على الانحرافات السياسية التي  أصبحت تتهدد الممالك الأوروبية في حد ذاتها ومن ثم إمكانية تحولها إلى حالة آسيوية مستبدة.

 ميز مونتسكيو بصورة جوهرية في كتابيه “روح القوانين” و “رسائل فارسية” بين ما أسماه بالحكومات الملكية القائمة على رقابة دستورية ومؤسسات مدنية وسيطة وبين الحكومات الاستبدادية الخاضعة لأهواء الحاكم ورغباته الفردية دون أي وسائط سياسية مدنية كما هو الأمر في بلاد فارس التي استخدمها نموذجا مجسدا للحالة الاستبدادية،  ولتأكيد  التمايز المطلق بين أشكال ممارسة الحكم في الفضاء الأوروبيي  وبين العالم الآسيوي المطابق ضرورة للحكم الاستبدادي[x][10]. فحتى وإن بدت بين هذين النمطين من الحكومات (الحكومات الأوروبية والآسيوية) بعض أوجه التناظر والتشابه في بعض المنعطفات التاريخية الجزئية فإن هذا لا يزيل خط التمييز الواضح والقاطع بينهما بحكم التمايز الجوهري على مستوى الفضاء الجغرافي والثقافي. من المعلوم  هنا أن إحدى المعضلات الكبرى التي واجهت  الفيلسوف الفرنسي في معرض تأسيسه لمقولة الاستبداد الآسيوي هي الإحراجات التالية: إذا كان الاستبداد حالة مناقضة للطبيعة مثلما أكد مرارا مونتسكيو فكيف يمكن للشعوب الآسيوية  أن تتعايش مع ظاهرة مناقضة للقانون الطبيعي؟ وإذا كان الناس متساوون بالطبيعة فعلا فكيف يمكن لهذه الشعوب الآسيوية أن تخضع لحكم استبدادي لا يعترف بهذه المساواة؟[xi][11]

حاول مونتسكيو التغلب على هذه الصعوبة بالاستنجاد بالطبيعة الفيزيائية والجغرافية التي تجعل الشعوب الآسيوية متعايشة ومتساكنة مع الحكم الاستبدادي دونما اعتراض أو مقاومة. بمعنى أن هذه الطبيعة الفيزيائية والجغرافية قد أكسبت هذه الشعوب على حد زعمه طبيعة ثانية جعلتها منقادة طواعية للحكومات الاستبدادية، على عكس الشعوب الأوروبية التي بقيت محافظة على طبيعة نقية ورافضة للحكم الاستبدادي[xii][12]. فإذا كانت الشعوب الأوروبية قد خضعت في مراحل محددة  من التاريخ الحديث لرهط من الحكام المستبدين إلا أن ذلك لم يجردها من ملكة التمييز بين الحكومات الديمقراطية القائمة على العقل وبين الحكومات الاستبدادية المستندة إلى الخوف، في حين أن الشعوب الآسيوية قد تطبعت بأنواع الحكومات الاستبدادية ومن ثم منحتها شرعية كاملة.

يبدو أن وجوه الإضافة والجدة التي أدخلها مونتسكيو على كلمة استبداد المنحدرة من الموروث الإغريقي القديم تتمثل في بعدين رئيسيين: أولا ضخ هذه الكلمة بسياسية واضحة على حساب دلالتها المحلية المنزلية التي كانت راجحة في الحقبتين الإغريقية والرومانية الوسيطة، ثانيا تنزيل هذا المصطلح على الأوضاع السياسية لأوروبا القرن الثامن عشر المطبوعة بأجواء الدول القومية الإطلاقية، ومن ثم إعطائه صلاحية عملية تتجاوز حدود تداوله الفلسفي المجرد. ولكن مع كل ذلك فإن مواطن القطع والتجاوز هذه  لا يجب أن تحجب عنا خيط الاستمرارية والتواصل في الفكر السياسي الغربي الحديث –بما في ذلك فكر مونتسكيو-  كما هو رائج في المدونة الحداثية الغربية وظلالها العربية المستنسخة والمفتتنة بمقولتي القطيعة والانفصال.

فما فعله مونتسكيو في حقيقة الأمر لا يزيد عن عملية قلب دلالي (سيميائي) لمصطلح كان سابقا له  وليس ابتداعا خاصا به، بمعنى أنه إذا كان مركز الإحالة عند أرسطو  هو مجال التدبير المنزلي الذي يقيس على ضوئه العلاقات السياسية في الحقل العمومي فإن الأمر معاكس تماما عند مونتسكيو لأن مركز الإحالة عنده ليس العلاقات الفردية بل العلاقات العامة في عصر مغموس بالانفجارات السياسية الكبرى. ومن هذه الناحية يمكن القول أن الفكر السياسي لمونتسكيو لا يزيد عن كونه عملية قلب وإعادة بعث للأرسطية أكثر مما هو تجاوز لها.[xiii][14] ويمكن التقاط خيط الاستمرارية بين الفيلسوف الفرنسي وبين الفكر السياسي لأرسطو على مستوى طبيعة النظرة للآخر التي تكاد تكون متطابقة بينهما. فنظام الحكم الاستبدادي عند أرسطو يتطابق تحديدا مع المجتمعات الواقعة خارج فضاء “أثينا”  والمنعوتة عنده بالبربرية وهذا ما يعادل بالضبط ما أسماه مونتسكيو بالاستبداد الآسيوي المتطابق موضوعا في الشعوب الواقعة خارج الفضاء الجغرافي لأوروبا الحديثة. ولعل وجه الإضافة الوحيد هو تمديد هذا المصطلح مع موجات التوسع الإمبريالي الغربي ليشمل بلاد الهند والصين بالإضافة إلى  الدولتين العثمانية والصفوية في وقت بدأت فيه أوروبا الحديثة شديدة الوعي بتفردها الجغرافي والتاريخي. صحيح أن أرسطو  سبق له أن قابل بصورة حادة بين الشعوب “البربرية” الآسيوية وبين شعوب أوروبا المتحررة من وطأة الاستبداد على حد زعمه، ولكن محاولة أرسطو اتسمت بتحديد دلالي وجغرافي مشوش لكل من العالمين (الأوروبي والآسيوي)  في وقت كانت فيه الهوية  الأوروبية مجرد إحساس عاطفي لا يقابله بناء جغرافي منضبط الحدود، وكذا الأمر بالنسبة للعالم الآسيوي الذي كان مختزلا وقتها في بلاد فارس القديمة.[xiv][15]

منذ عصر النهضة الأوروبي أذن وبصورة أكثر وضوحا مع جون بودان ومونتسكيو في القرن الثامن عشر اقترن مفهوم الاستبداد ببناء جغرافيا متخيلة عدت نموذجا مجسدا للاستبداد. وفي أجواء الاحتكاك العسكري بين الدولة العثمانية والجيوش الغربية أصبح الإسلام مطابقا للأتراك بعدما كان ينظر إليه باعتباره دينا عربيا. وبذلك  أصبح العثمانيون حالة عينية مجسدة لإسلام مستبد بالضرورة. وبهذا المعنى يمكن القول أن ما فعله مونتسكيو وخاصة في كتابه “رسائل فارسية” هو مجرد إعادة التأسيس النظري للمخيال الغربي القائم على مقولة الاستبداد الشرقي مقابل تحررية الممالك الأوروبية، وهو مخيال متجذر منذ الحقبة الاغريقية القديمة على النحو الذي بيناه سابقا.

توكفيل والاستبداد الجديد

يرى توكفيل إمكانية تحول الديمقراطيات الغربية الحديثة إلى منظومات سياسية إكراهية لم يجد لها المصطلح المناسب للتعبير عنها، ولذلك غالبا ما ينعتها بمواصفات تناسب الحالة الاستبدادية ولكن  دون استعمال كلمة استبداد. كما أكد من جهة أخرى صعوبة رصد الوجوه الاستبدادية للديمقراطية الحديثة، بحكم تواريها في الغالب خلف شعارات إلغاء مراكز تسلط الحقب الأرستقراطية.[xv][16] يتخلق الاستبداد الجديد من وجهة نظر توكفيل في رحم الديمقراطية الحديثة، وذلك من خلال تمدد ما يسميه بالأيادي والأعين الخفية للدولة إلى مستوى خواص الحياة الفردية. فباسم المساواة الديمقراطية تصبح الدولة سلطة الضبط والتعليم والإرشاد والعقاب وبذلك تصبح الجماعة القومية مجرد حيوانات صناعية أليفة تقوم الحكومة مقام راعيها الأكبر على حد تعبيره 18] . ففي ظل مجتمع تعادلي يقوم على مثال المساواة الكاملة بين مواطنين أحرار بعد إلغاء الامتيازات الاجتماعية والسياسية للحقب القديمة يصبح الناس مجرد ذرات منعزلة عن بعضهم البعض بسبب انخلاعهم من روابط العائلة والقرابة الدموية وحماية الطبقة الاجتماعية وبذلك تتمدد الأذرع البيروقراطية للدولة لملء هذا الفراغ. وينتهي المفكر الفرنسي إلى القول بأن معضلة الاستبداد الجديد وإن كان من الصعب التغلب عليها بصورة جذرية إلا أنه من الممكن الحد من ضراوة أنيابها الحادة بتكوين شبكة واسعة من الروابط السياسية والاجتماعية التعاونية لضم الذرات المتناثرة من الأفراد إلى بعضهم البعض حتى يتم  الحد من الأخطبوط الواسع للدولة الحديثة أي تكوين ما اصطلح على تسميته لاحقا بالمجتمع المدني.

الدولة العربية والإرث الامبريالي

 تعتبر الدولة العربية في صورتها الراهنة   منتوج الإرث الامبريالي سواء كان ذلك من جهة جغرافيتها السياسية وخطوط حدودها ، أو من جهة آلية إدارتها للحكم ونمط علاقتها بمواطنيها، فدولة “الاستقلال” العربية لم ترث عن إدارات الحماية الأجنبية  الهياكل والمؤسسات فحسب  بل ورثت عنها  أكثر من ذلك أسلوب إدارة الحكم ونمط العلاقة بالمكومين. فقد حافظت الدولة العربية على نفس القوالب والأجهزة التي ورثتها من  الحقبة الاستعمارية، كما حافظت على ذات العلاقة بالمجتمع ، وهي في مجمولها علاقة انفصالية وعمودية تهدف إلى احتواء المجتمع وضبط حركته بصورة فوقية .

لعله من المناسب لنا في هذا الصدد ونحن نتناول ظاهرة الاستبداد السياسي العربي  وعلاقة ذلك  بالمواريث الأمبريالية أن نعود إلى واحد من أهم   مؤلفات   الباحثة الألمانية حنة أرنت (Hannah Arendt  المعنون بأصول الشمولية، ولكن مع التنبيه إلى أن  أغراض البحث تقتضي عملية تعديل وتصويب للسياق التحليلي للكاتبة الألمانية،  فهي قد تناولت موضوع الإمبريالية  من زاوية تأثيراته ومضاعفاته السلبية على “المراكز الأوروبية” بدرجة أولى، في حين أن ما يهمنا أساسا يتعلق بتأثيرات هذا المشروع التوسعي لا على صانعيه ومصدريه يل على  ضحاياه في المستعمرات التي انتدبنا القدر أن نكون جزء منها.

 بما أن الحالة الإمبريالية على ما تذكر أرندت قائمة في جوهرها على مبدأ مراكمة التوسع وتعظيم الربح  فإنها لم تكن معنية بتصدير المؤسسات السياسية المدنية إلى عالم ما وراء البحار بقدر ما كانت معنية بإخضاع السكان المحليين وبسط اليد على الثرروات العامة،  فغاية الإمبريالية كما تقول أرندت “الاستيعاب لا الإدماج وفرض الخضوع لا تحقيق العدل”[xvi][29]، وهذا ما يجعل منها ظاهرة استبدادية تعسفية بامتياز. وبشيء من التحديد المنهجي يمكن القول أن أهم ملامح المشروع الإمبريالي على نحو ما  كشفت شخوصه الكاتبة الألمانية  تتمثل في الأبعاد التالية:

1- تصدير أدوات السلطة السياسية أي مؤسسات الإكراه والإخضاع دون المؤسسات السياسية المدنية، وهذا يعني  إعطاء الأولوية القصوى لتصدير أدوات العنف وعلى رأسها جهازي الجيش والأمن على حساب المؤسسات المدنية والقوانين المنظمة والضابطة للاجتماع السياسي.  وبذلك تأضحى  العنف المنظم في أجواء التوسع الامبريالي  حالة راسخة  في إدارة الشأن السياسي .ويتأسس على ما سبق بيانه انفصالا وتباعدا متزايدا بين  ما أسمته  بالأدوات السياسية(political means)   والمؤسسات  السياسية (political institutions)، فالأدوات السياسية التي كانت مترابطة مع المؤسسات السياسية (مثل البرلمان ومؤسسات الرقابة الدستورية  القضائية المستقلة) في المراكز الإمبريالية انقطعت عنها لاحقا في مواطن التمدد الإمبريالي ومن ثم أصبحت أدوات العنف طليقة اليد في إدارة شؤون المستعمرات دون أي وجه من وجوه الرقابة والضبط.[xvii][30]

2- تتأسس الإمبريالية من وجهة نظر الكاتبة الألمانية على دعامتين أساسيتين : أولهما  من طبيعة نظرية تمثلها الأيديولوجيا العنصرية التي أضفت المشروعية على سيطرة القلة الإمبريالية على الكثرة من شعوب المستعمرات.. وثانيهما من طبيعة سلطوية إكراهية قوامها مثلث الجيش والبوليس ثم الجهاز البيروقراطي، وهنا لابد من لفت الانتباه إلى كون البيروقراطية عند الكاتبة الألمانية تعد واحدة من أهم أدوات إدارة لعبة التوسع الإمبريالي، فهي  سلطة تعسفية خاضعة لرهانات وتوجيه إداريي العنف الذين يتوارون خلف الجهاز البيروقراطي  بإصدار المراسيم والأوامر السرية بغاية السيطرة على الأهالي وإخضاعهم لا تنظيم شؤونهم ومعاشهم. أي أن البيروقراطية كما تفهما أرنت سلطة تعسفية  وليست مجال تجسد العقلانية مثلما ذهب إلى ذلك ماكس فيبر.[xviii][31]  والمتأمل اليوم في مجريات الأحداث في العراق وكيف تدار شؤون الحكم في هذا البلد عن طريق لعبة المراسيم والقرارات الفوقية سواء في حقبة الحاكم المدني بريمر أو خلفائه الجدد  المنتدبون أمريكيا يدرك مدى صحة وانسجام التحليل الذي كشفت الكاتبة الألمانية عن بعض معالمه.

.

وعلى أهمية التشخيص العميق الذي قدمته أرندت إلا أنه يبدو لي أن كوارث المشروع الإمبريالي ليست قاصرة على امتناعه عن  استجلاب مؤسسات الضبط والتنظيم السياسي للشعوب المستعمرة توازيا مع تمدد جيوشه وألياته العسكرية، بل ما هو أشد خطورة من كل ذلك تفكيك المؤسسات والروابط الأهلية التي كانت تنتظم الحياة السياسية والاجتماعية لهذه الشعوب، فمن المغالطة التاريخية  تصور الشعوب التي خضعت للاحتلال الأجنبي   وكأنها حالة بهيمية سائبة وفاقدة لمقومات التواصل والانتظام المدني  فلم تعرف من معاني التمدن إلا    ما لامسها من تأثيرات  المحتلين. فالمشروع الإمبريالي لم يتمدد بين شعوب لا تاريخ أو حضارة لها بل على العكس من ذلك اكتسحت الجيوش الغربية شعوبا بعضها كان أكثر تمدنا وتحضرا من حملة المشروع الإمبريالي أنفسهم، وهذه الظاهرة تصح بالضبط على المراكز الكبرى في منطقتنا العربية  التي تعاقبت عليها موجات متتالية من التمدن والتحضر أكسبتها آليات  وخبرات تاريخية واسعة في إدارة الشأن السياسي والحياة المدنية العامة، ودع عنك هنا القراءات الاستشراقية التي ترى في التاريخ الفعلي لهذه المنطقة بدأ مع فوهات مدافع نابليون بونبارت على مصر ومنطقة الشرق أما قبل ذلك فلا يوجد غير الجمود والظلام الدامس،  فانتقال مراكز الثقل  من اسطمبول والقاهرة وبغداد ودمشق مثلا إلى العواصم الأوروبية الكبرى أمثال باريس ولندن وفيينا لا يعني أن الشمال المتوسطي قد أصبح أكثر تمدنا وتحضرا  بل كل ما هنالك أنه أصبح أكثر قوة وأنجع تسلجا ومن ثم   أقدر على السيطرة والاستحواذ على مناطق النفوذ والوفرة وليس أكثر من ذلك.

هذه الآلية الراسخة في نمط الحكم الإمبريالي على النحو الذي كشفت الكاتبة الألمانية عن ملامحه العامة لم يشهد تغييرا يذكر بعد رحيل الجيوش الأجنبية وحلول الحكومات المحلية محلها،  فحادثة الاستقلال لم تزد في حقيقة   فالأمر عن استبدال الإداريين الأجانب بإداريين محليين. ولكن جوهر العلاقة بين نخبة الحكم المحيط الشعبي وبنية الدولة بقيت هي نفسها تقريبا.

 علمنة الحقل السياسي :

 واحدة من النتائج المباشرة والخطيرة  الناتجة عن التأثيرات الامبريالية  تتمثل في  علمنة الحقل السياسي وما نتج عن ذلك من  اغتراب وانفصال الهياكل السياسية عن قاعدة اسنادها الشعبي بسبب تفكك جسور التواصل  والتفاهم  بين الحاكمين والمحكومين،  وربما يعود هذا الأمر إلى كون خيار العلمنة  لم يكن  وليد السياق التاريخي المحلي  بقدر ما كان منتوج التأثير الإمبريالي الذي خلق توازنات جديدة على أرض الواقع بقوة النفوذ السياسي والاقتصادي وحركة الجيوش التوسعية، وهي توازنات كانت في محصلتها النهائية لصالح النخب الجديدة على حساب القوى المحلية، وقد أصبحت هذه النخبة الجديدة خاضعة في عمليات توالدها الداخلي إلى المؤسسات العسكرية  والتعليمية التي صنعت على المقاس إلى جانب  علاقات دولية غير متكافئة بين مراكز التحكم الدولي ودول العالم الثالث، علما وأن هذه  العلاقات العمودية بين الجهتين ليست قاصرة على الجانب التبادلي الاقتصادي على نحو ما تذكر الأدبيات  الماركسية  عبر اجتراحها لمفهوم “الكمبرادور”، دلالة على الطبقة الاقتصادية القائمة  بدور الوسيط مع السوق الرأسمالية المركزية، بل يطال الأمر مجال الثقافة ونظام الرموز  وأنماط الحياة، فالمراكز الدولية الكبرى تقوم بتعزيز مركزيتها الصلبة من خلال مراكمة أدوات السلطة والتحكم بين أيديها، توازيا مع دفع القوى الأخرى إلى مواقع الهامشية الطرفية بعد تجريدها من أدوات السلطة والثروة ونظام دلالاتها ومعانيها الخاصة ثم غرس نخب وسيطة في قلب هذه “المواقع الطرفية”.

يسمي الكاتب الألماني جون جاتونغ John Gattung هذه النخب الجديدة المرتبطة بنيويا بمراكز السيطرة الدولية بالنخب الجسرية (Bridge head elite) التي أصبحت مؤتمنة على قيم الثقافة المهيمنة ومصالح قوى السيطرة الدولية أكثر من ائتمانها على القيم والمصالح المحلية لمجتمعاتها. ولذلك لم تعد المراكز الدولية الكبرى حسب رأي المفكر الألماني في حاجة دائمة إلى الحضور العسكري المباشر “فهذه النخبة الجسرية يتم زرعها في مركز الهامش الوطني وبذلك يصبح مركز الهامش مرتبط عضويا بمركز المركز ضمن إطار وفاقي للمصالح بين الطرفين” على حد قوله.[xix][34]

والخلاصة هنا أن نشوء حركة العلمنة في منطقتنا العربية الإسلامية  كان في صورته الغالبة تعبيرا عن حالة تصدع وانقسام بين النخب” الحداثية” الجديدة  وبين الفضاء الشعبي الواسع، فقد كان ظهور حركة العلمنة متزامنا مع نشأة خطاب رمزي وتداولي جديد قاصر في حركته التبادلية والتواصلية على دائرة النخب الضيقة ومصادم للخطاب التداولي المحلي، وهذه الظاهرة الناشئة انما تعبر عن حالة التصدع الثقافي التي  كانت ومازالت  لها تجسداتها وامتداداتها الواسعة في   مستوى الحركة الاجتماعية والسياسية، وهذا التصدع يبلغ أحيانا من  الضراوة  حد التحارب الداخلي وتهديد أسس الاستقرار الأهلي. وقد كان الباحث الفرنسي جاك بيرك Jacques  Berque  محققا،  وواعيا بما فيه الكفاية بظاهرة التصدع والتنازع  التي تشق الاجتماع السياسي العربي والإسلامي  الحديث من خلال لفت الانتباه إلى وجودما أسماه  وتائر سير  واستراتيجيات حراك متعارضة ومتضاربة في المجتمع العربي الواحد بما يشكل مجتمعين متقابلين ومتصادمين في المجتمع الواحد[xx][36]

 سبق للفيلسوف الأمريكي جون رولز أن تحدث عن العلمانية باعتبارها الشرط اللازم لتأسيس ما يسميه “بالوفاقات المعقدة” الملازمة لعصر الحداثة السياسية، على اعتبار أن العلمانية  توفر ضمانة متينة  لحيادية  الدولة  إزاء شؤون الاعتقاد والخيارات الفردية الحرة، وتأسيس الوفاقات  السياسية التواضعية ببصورة عقلانية رشيدة خارج حلقة التنازعات الدينية والمذهبية التي كانت تطبع تجربة الملكيات الدينية الإطلاقية.[xxi][41] ولكن ما لم ينتبه إليه جون رول، كما هو شأن جل أقرانه من المفكرين وحتى رجال السياسة والإعلام في الغرب، هو أن العلمنة السياسية على نحو ما هي قائمة في منطقتنا العربية  تبدو  منتجة للتمزقات الاجتماعية والسياسية وليس الخيارات الوفاقية السلمية. فالعلمنة السياسية عندنا  لم تكن مرتبطة في أي وقت من الأوقات بحيادية الدولة عن المجال الديني أو السماح باستقلالية الحقل العمومي، بل على العكس من ذلك اقترنت  بنزعة سلطوية وتدخلية ثقيلة الوطأة.

ومن الملاجظ في هذا الصدد أن  النموذج اليعقوبي الفرنسي بنزوعاته  الجذرية في القرن التاسع عشر، ثم النموذجين النازي والفاشي بدايات القرن الماضي مثلت  نوعا من الجاذبية والإغراء بالنسبة للنخبة العلمانية الجديدة التي راهنت بدورها على السيطرة الفوقية على المجتمع وإلحاقه بالدولة جريا وراء سراب التحديث والتنمية السريعة، ومثلما راهن نابليون بونبارت بعد الثورة الفرنسية على تدارك المسافة التصنيعية والعلمية التي تفصل بلاده عن إنجلترا ومثلما راهنت الفاشية الايطالية لاحقا على الالتحاق بركب الشمال الأوروبي الأكثر تقدما اقتصادا وتقانة  بشكل سريع وممزوج بأحجام هائلة من العنف، فقد تطلعت النخب الحداثية عندنا  اجتراح تقدم خاطف وسريع  جريا وراء سراب الالتحاق بركب “التقدم” عبر المسك برأس الدولة  واستنادا إلى الأوعية القطرية الهشة من أصلها  دون وعي كاف بالشروط التاريخية والواقعية لنهضة الأمم .

 عملية التحديث المشوه

 ومن مظاهرها البارزة  تجيير عملية التحديث لصالح تقوية أدوات واذرع السيطرة الدولتية مقابل تجريد المجتمع من كل إمكانيات الحماية والحصانة.  الوجه الأبرز لظاهرة التحديث المشوه هذه،  ما نشهده في الواقع لعربي من اختلال بائن بين دولة تزداد قدرة على الضبط الرقابي، والردع العقابي مصحوبة بنزعة  تدخلية هائلة في فضاءات الحياة الخاصة والعامة مقابل مجتمع متذرر مقطوع الأوصال. سبق   لعالم الاجتماع الفرنسي لاتوش أن سمى هذه الظاهرة  بالتحديث دون حداثة[xxii]، قاصدا بذلك التوظيف الأداتي للتحديث لصالح هياكل ومؤسسات الدولة وآليات السيطرة دون إشاعة فضائل الحداثة السياسية والاقتصادية بين أفراد المجتمع، من قبيل احترام الذاتية الانسانية وفصل الدولة عن المجتمع السياسي واستقلال السوق عن تدخلية الدولة، وفعلا من يتابع مجريات الأمور في العالم العربي يصاب بالصدمة إزاء مستوى “الترشيد الحداثي” الذي بلغته وزارات الداخلية العربية بأقسامها التخصصية المعقدة والكثيرة وعلى رأسها أقسام البوليس والاستعلام ، مقابل ما تشهده مرافق المجتمع ومؤسساته من عطالة وتخلف هائلين،  فالحاسوب الآلي وبرمجيات الكمبيوتر المتطورة مثلا وجدت طريقها إلى مختلف قطاعات الأمن والاستخبار ولما تجد طريقها بعد إلى المدارس والجامعات والإدارات والبلديات، وغيرها من المؤسسات العلمية والمدنية التي يتعلق سير وظائف المجتمع.

هذا الاختلال الهائل في مستويات ووتائر التحديث  انما يعود إلى  ملابسات عملية التحديث أو ما سمي وقتها بمشروع التنظيمات التي بدأت في المركز العثماني وبقية الحواضر العربية في القاهرة وتونس وبغداد ودمشق وغيرها في مواجهة التهديد العسكري ثم الاقتصادي من طرف الممالك الأوروبية منذ بدايات القرن التاسع عشر، فقد كان من نتائج هذه التهديدات أن اتجه رجالات الإصلاح أو التنظيمات إلى تركيز جهودهم على إعادة بناء الجيوش ومكنة التسلح، ثم إعادة بناء بيروقراطية الدولة لمواجهة هذا التحدي الآخذ في التصاعد وقتها، ومن ثم تحول مراكز الثقل نحو الثكنات العسكرية والمدارس الحربية على حساب المؤسسات والنخب المحلية، واختل التوازن لصالح النواة المركزية والصلبة للدولة على حساب القوى الأهلية[xxiii].

  استشعرت النخبة الإسلامية منذ وقت مبكر تفوق الطرف الأوروبي في ميدان القتال العسكري وأشكال إدارة الجيوش، وتبعا لذلك  تحولت الثكنات العسكرية والهياكل البيروقراطية من وسائل أساسية للإصلاح والتطوير إلى غاية في حد ذاتها، أي حلت الوسائل محل الغايات والأهداف، وهكذا أضحت الدولة مركز رهان النخب السياسية والفكرية العربية لاحقا[xxiv]، ولذلك لم يكن غريبا ضمن هذه الثقافة السياسية الشائعة التي ترى في الدولة مصدر الداء والدواء في ذات الوقت، لم يكن غريبا  أن تشهد البلاد العربية موجات انقلابية متتالية في حقبتي الخمسينات والستينات مادامت النخب السياسية العربية بما في ذلك تلك المعادية للاحتلال والقوى الأجنبية ترى في الدولة، وخاصة في جهازها العسكري مصدر الخلاص والتحرر،مثلما اعتبرت سلطات الحماية والنخب المرتبطة بها بيروقراطية الدولة ومؤسساتها العنفية أداة السيطرة على السكان المحليين وإخضاعهم.

هذا التحول الجاري في مجال السلطة السياسية وعلاقتها بالجسم الاجتماعي كان يوازيه على الطرف الآخر من المشهد تحول في مجال الفكر السياسي أو النظرية السياسية لمسألة السلطة وآلية إدارتها ، فقد كانت النخبة الإسلامية وإلى غاية القرن التاسع عشر وعلى نحو ما سجل ذلك الباحث الانجليزي ميتشل ، كانت  تنظر لمؤسسة الحكم باعتبارها جزء من النسيج الإسلامي العام ، وعلى هذا الأساس  كان النموذج التفسيري الذي تستند إليه في معرض تحديدها لنمط العلاقة المطلوبة بين الحاكم والمحكوم،  نموذج الجسم الحي الذي تتعدد وظائفه وربما  تتفاضل فيما بينها   ولكنها في كل الأحوال تترابط وتتكامل  مع بعضها البعض[xxv]. أما النخبة التحديثية الجديدة سليلة المؤسسة العسكرية والبيروقراطية فهي ترى في نفسها  عالما قائما بذاته لا علاقة له بما حوله ، وهي فضلا عن ذلك  لا ترى في محيطها الشعبي غير مادة أولية قابلة لإعادة التشكيل والصياغة، بحسب رهانات ومصالح “القوى الطلائعية”،  ولذلك فإن النموذج التفسيري الذي تقيس على ضوئه   الحقل السياسي هو الجسم الميكانيكي المادي وليس الجسم العضوي الحي،  وكان اللورد كرومر أول من نظر للسياسة باعتبارها جسما ميكانيكيا تمثل الإدارة الاستعمارية محركها الخارجي، ويمثل المجتمع المصري مادتها الخام، فقد  شبه اللورد كرومر في كتابه “مصر الحديثة”، شبه  الجسم السياسي المصري بالآلة الميكانيكية الصامتة التي لا ينتظم سيرها إلا بوجود قوة محركة (motive force ) وهذه القوة المحركة تعادل عنده سلطة المندوب السامي البريطاني المتوارية عن الأنظار ولكنها الناجعة والنافذة والتي يسميها “بالإرادة الخفية”، أما المجتمع المصري فهو يعادل عنده المادة الخام التي تبتلعها الآلة الميكانيكية وتعيد صهرها[xxvi][40].

 ولكن أهمية التصور السياسي الذي أفصح عنه كرومر لا تقتصر على تسجيل آليات اشتغال السلطة السياسية منذ الحقبة الاستعمارية التي كان من أهم رموزها وأعلامها في المشرق العربي بل الأهم من ذلك تسجيل التحول الحاصل في مفهوم السلطة وعلاقتها بالجماعة المحلية من طرف دوائر النخب الجديدة التي أفرزتها مراحل التمدد الإمبريالي الغربي. 

 أزمة الشرعية 

يعاني العرب  أزمة شاملة ومتعددة الوجوه والشخوص ليست الحالة الاستبدادية إلا مظهرا من مظاهرها، وعرضا من أعراضها، ومثلما يحتاج الطبيب عند معالجة ملرضاه إلى متابعة الشخوص والأعراض للوصول إلى الأسباب العميقة للمرض فكذلك هو الأمر بالنسبة لأهل الفكر والنظر، فهم في حاجة ماسة إلى تجاوز المعارف الأولية البسيطة التي تكتفي بالوقوف عند  ما هو مرئي وقريب  إلى التنقيب   في أعماق  الظواهر بما يساعد على تلمس سبل العلاج والتصحيح. ثمة جملة من الأسئلة المحورية  التي  يحتاج كل باحث وسياسي نزيه وحصيف  إلى  المجازفة  بطرحها، من ذلك : ما الذي يجعل من الدولة العربية المسماة تجاوزا  في أدبيات بعض الكتاب المغاربيين “بالدولة الوطنية الحديثة”، ما الذي يجعلها  عنيفة ومتجبرة؟ ما الذي يجعلها عصية على الترويض والضبط؟ ما الذي يجعلها واهنة وعاجزة عن دول بوابة الحداثة السياسية والاقتصادية، رغم ما تثيره من جلبة وضجيج الشعارات الحداثية والتويرية ؟

الجواب عندي أن هذه الدولة العربية ولدت مأزومة وواهنة منذ تكوينها، واستمرت تحمل في ذاتها عوامل الإعاقة والخلل سواء من جهة علاقتها بالجسم المحلي  الأهلي، أو من جهة علاقتها بالجوار العربي، فهي دائمة التوتر والاشتباك مع  مواطنيها في الداخل، ودائمة المناكفة في علاقتها بجوارها العربي، ما أن تخمد نارا من نيرانها المستعرة حتى تلتهب في موقع أخرى، أو في أوقات  لاحقة، من معارك الحدود، إلى معارك المحاور العربية، إلى معارك مشاريع الإصلاح، إلى  منازعات الأقطار “الصغرى” و”الكبرى” والحبل على الجرار، بما جعل النظام السياسي العربي تركة ثقيلة من الأعطاب وسلسلة متناسلة  من التوترات والأزمات، فالدولة العربية بسبب الوهن التاريخي المزمن الذي لازمها منذ صيرورة التكوين والميلاد كانت ومازالت تشكو خللا مزمنا في علاقتها بالقوى الوطنية المحلية، ثم بالجوار العربي  الأوسع.و في محاولة للتغلب على أزمة الشرعية هذه  تلجأ الدولة العربية إلى الاسراف في استخدام العنف والمبالغة في استعراض القوة إلى الحد الذي يتماهي فيه إدارة السياسي في إدارة العنف، ولذلك كثيرا ما يستغرب المرء من حالة الهوس الأمني والشراسة البوليسية التي تبديها  الدولة العربية سواء في التعاطي مع مطالب المجتمع ، فبمجرد رفع بعض المطالب السياسية الإصلاحية، أو بمجرد كشف اللثام عن   تجاوزات وخروقات الحاكم العربي في هذا الملف أو ذاك،  حتى يتحول الأمر إل ضرب من الاتهام   “بهدتيد نظام الحكم”  ، هذا إذا لم تدمغ هذه القوى بمجاولة الانقلاب  والانقضاض على الحكم. وليس ثمة شك في كون  برانويا الخوف (أو حالة الخوف االمرضي )  هذه دليل قاطع على ضعف شرعية الحاكم العربي بما يجعله يحسب كل صيحة عليه، فكلما قلت مقادير الشرعية عنده كلما اشتدت وساوسه ومخاوفه وازدادت شراسته وعنفه أكثر فأكثر.  صحيح أن الدولة الحديثة وعلى نحو ما بين ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر تتسم بمركزة واحتكار أدوات العنف ولكن ثمة بون شاسع بين العنف المشروع الذي تلجأ إليه الدولة المشروعة والذي غالبا ما يكون مقننا ومنضبطا بحدود “المصلحة العامة” وحماية الأمن العام، وبين العنف الأهوج الذي لا يخضع لأي روادع أو ضابط عدى الإرادة التحكمية والأهواء الميزاجية لشخص الحاكم، فضلا عن ذلك غالبا ما يكون العنف الشرعي  استثنائيا وعارضا ضمن الخط العام لحالة السلم والاستقرار المدني، وكثيرا ما يستعاض عته بأليات الترويض الناعمة والخفية التي تلجا لها الديمقراطيات عادة،  في حين أن العنف غير المشروع  يكون فجا ومرئيا، وهو إلى جانب ذلك يشكل القاعدة لا الاستثناء، وهذا ما ينطبق على  الدولة العربية،التي هي عند التمحيص  تكاد تتماهى في الوظيفة العنفية.

  ومن المفارقات الغريبة والعجيبة  أن هذه الدولة بقدر ما بتدي من حزم وشراسة بالغين في التعاطي مع مواطنيها في الداخل بقدر ما تبدو خامدة  وطيعة في التعامل مع الخارج، وربما يعود ذلك إلى كون مصدر إسنادها واستمرار وجودها يتموضع في الخارج لا في الداخل، وبقدر ما تبدي من حرص على انتهاج الترضيات والتسويات مع القوى الدولية بقدر ما تبدي من صرامة وانغلاق في التعامل مع المطالب الداخلية ومع القوى المحلية، حتى لكأن نخب الحكم عندنا تبدو مجرد وكيل على تدبير المصالح الأجنبية وليس أكثر من ذلك. 

 سبق للمفكر المغربي عبد الله العروي أن أرجع جذور أزمة الدولة العربية إلى هشاشة قاعدتها الايديولوجية  نتيجة استنكاف المثقفين العرب عن منح “الدولة الوطنية” ما تستحقه من اعتراف وشرعنة لازمين، بسبب تعلقهم الحالم بمثال الوحدة وطوبى الخلافة، والانصراف عن واقع التشكل العيني للدولة “الوطنية” [xxvii]، ولكن يبدو لي أن الأزمة أعمق غورا، وأوسع مدى مما ذهب إليه العروي، لأن مسألة الشرعية والاعتراف ليست قضية تخص دوائر المثقفين بقدر ما تخص القطاع الأوسع من الناس، فما لم يشعر العربي بالحاجة والدافعية الطوعية للاعتراف بهذه الكيانات السياسية فإنها ستظل هشة البنيان ومرتجة القواعد، وستظل في أحسن الحالات تدخل ضمن دائرة الأمر الواقع،  وحكم الضرورة وليس أكثر من ذلك، حتى وإن نالت مراسيم الاعتراف والشرعية من كل المثقفين العرب، ومن المؤكد هنا أن الدولة العربية بالنظر إلى كثرة أزماتها وأعطابها وشراسة عنفها، إلى جانب عجزها عن حماية الحد الأدنى من مقومات السيادة   ليس فيها ما يغري العرب “بطي صفحة” التطلعات والأحلام الكبرى ومنحها ما تحتاجه من شرعية واعتراف.

 ليس ثمة شك في كون العرب يعانون  ضربا من الانفصام والانفصال بين الواقع والمثال، بين واقع دولة التجزئة والانقسام الذي يتلمسونه ويعايشونه واقعا وبين مثال الوحدة الذي تغذيه الذاكرة التاريخية وضغوطات الواقع الدولي من حولهم،  وهو انفصال وانفصام نكد كان ومازال يعذب الضمير، ويربك الوعي الفردي والجماعي في عالمنا العربي، فأيهما نختار، واقع الدولة القطرية الآخذة في ترسيخ عراها ومد جذورها يوما بعد يوم، أم نختار التشبث بالحلم والمثال؟ هل نضحي بالواقع من أجل المثال ام نتشبث بالحلم والطوبي على حساب هذا واقع الدولة العربية المتجه أكثر فأكثر نحو مزيد الهامشية ومزيد التأزم؟

من المؤكد هنا أن علاج هذا الإشكال المركب والمعقد لا يتعلق بعالم الفكر والنظر المجرد، بقدر ما يتعلق بمجريات الواقع وحركة التدافع التاريخي ، أي إلى أي  وجهة وخيار سيتجه العرب فيما هو قادم من أوضاعهم، وما إذا كانوا سيحسمون أمرهم  لصالح كيانات الانقسام العربي ومن ثم يطوون صفحة الأحلام والتطلعات التاريخية الكبيرة؟ أم سيتجهون في الحد الأدنى إلى اجتراح نوع من التسوية المعقولة والرشيدة بين واقع الانقسام وحاجة التكامل  ضمن شكل من أشكال التكامل التضامني  على منوال ما فعل الجوار الأوروبي من حولنا؟

ثمة حقيقنان جديرتان بالتسجيل في هذا الصدد، أولاهما أن الدولة العربية ومهما كانت درجة الشرعنة التي تنالها والمقبولية التي تحظى بها، وبغض النظر عن نوعية الأوصاف والألقاب التي تطلق عليها، وما إذا كانت كيان تجزئة على ما يقول التيار الوحدوي بشقيه العروبي والإسلامي، أم كانت دولة وطنية وحديثة على ما يذكرنا بذلك بعض الليبراليين والمشايعين الايديلوجيين العرب فإنها ستظل كيانا هشا تذروه الرياح في عالم يتجه نحو مزيد التكنل والتوحد بل الانتقال من دائرة الانتماء القومي الضيق إلى الانتماء القاري الأوسع، كما أنها ستظل عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من موعوداتها في التنمية والنهوض وتحقيق تطلعات مواطنيها في الرقي الاقتصادي والرشد السياسي.

ما يجدر تسجيله في هذا الصدد هو  أن  الدول  العربية الموصوفة بالحداثية تبدو الأكثر عنفا وفتكا بمواطنيها، ولعل الحالة البعثية في العراق، والبومدينية في الجزائر والبورقيبية في تونس كفيلة بتوضيح الصورة، في حين أن الأنظمة العربية الملكية  المنعوتة في أدبيات بعض اليساريين والحداثيين العرب بالتقليدية وحتى الرجعية تبدو أقدر على الانفتاح والتطور، وليس من قبيل المصادفة أن تتمكن الملكيات العربية على سوءاتها ومجافاتها لقيم العصر في كثير من الوجوه، أن تتمكن من اجتراح  بعض التسويات وإقامة برلمانات وانتخابات تتمتع بقدر من النزاهة والمصداقية، في حين أن أخواتها الجمهوريات تظل عاجزة عن اجتراح الحد الأدنى من التسويات السياسية والاجتماعية أو انتهاج خيار الموادعة مع رعاياها.

مظاهر الاستبداد الحداثي

  دولنة المجتمع

 تعاني الدولة العربية التحديثية من خلل رئيسي يطال علاقتها بالجسم الشعبي والسياسي عامة، هذا الخلل  متأت مما يمكن تسميته بعلاقة التخارج والانفصال بين الدولة والمجتمع الأهلي،  وما نتج عن ذلك  من توجس وارتياب متبادل بين نخبة الحكم المتسلحة  بأدوات العنفية الأمنية والعسكرية وجهاز بيروقراطية ضارب، ممزوجة بإيديولوجيا استعلائية واحتقارية للشعب، وبين عموم المجتمع  الذي يقابل بدوره نخبة الحكم بقدر غير قليل من التوجس وعدم الثقة مع ما يطبع ذلك غالبا من علاقة تظاهرية ونفاقية في إبداء الولاء والطاعة، فليست تلك المشاهد الحماسية والصاخبة من الجماهير التي تهتف بحياة الزعيم والمتفانية في ابداء الولاء والطاعة ليست في حقيقة الأمر إلا محاولة للتحايل على الطاقة العنفية للدولة العربية عبر المراسم الشكلية والنفاقية، أي هي عند التدقيق ولاء ودفاع عن الذات أكثر مما هي ولاء ودفاع عن الحاكم.

فالدولة العربية لا ترى نفسها مجرد وكيل معنوي لإدارة الشأن العام بقدر ما ترى نفسها  وصية على مجتمع قاصر وعاق، مجتمع قاصر  لا يقدر على إدارة شؤونه وبلوغ مرحلة الرشد السياسي التي تؤهله لامتلاك ناصيته أمره، والتحكم في مصائره  ، ومجتمع عاق لا يمكن ائتمان جانبه أو الاطمئنان إلى مايبديه من طاعة وسكون  ظاهرين الأمر الذي يتطلب فرض الرقابة الأمنية والاستخبارية عليه لاتمان غضبته وقومته المحتملة، وهي إلى جانب ذلك تعتبر نفسها صانعة ومجسدة للإرادة العامة، وكثيرا ما تتماهى الدولة العربية في شخص الحاكم- الزعيم فينتهي الأمر إلى اختزال الدولة والإرادة العامة والمجتمع السياسي في شخص الحاكم وليس أكثر من ذلك.

 لا ننسى هنا أن الدولة العربية على نحو ما نشهده اليوم وما شهدته الأجيال التي سبقتنا هي مولود طبيعي للحقبة الكولونيالية سواء كان ذلك من جهة حدودها وامتداداتها الجغرافية التي خضعت في العالب للعبة القضم، أو الضم والرتق بحسب  المصالح  والحسابات الاستراتيجية لقوى الهيمنة الدولية، أو من جهة تشكيل شخوصها وبناها الفاعلة، فقد تميزت هذه الحقبة بتركيز الجهاز الإداري  وقوات الأمن والشرطة  للدولة العربية الوليدة، وبناء النظام التشريعي والقضائي إلى جانب منحها علما  وطنيا وحدودا اقليمية محمية ومعترف بها دوليا، وقد ورثت النخبة الاستقلالية هذه العناصر السابقة وعملت على تعميقها ودفعها إلى نهاياتها القصوى، وهكذا تميزت حقبة الاستقلال بتقوية الجهاز الإداري المركزي للدولة وتعظيم الأجهزة العسكرية والبوليسية وتوحيد الجهاز القضائي وبسط اليد على النظام التعليمي ومحتلف المؤسسات الثقافية وإلحاقها بالدولة، توازيا مع تفكيك الوحدات الاجتماعية والأهلية المستقلة سواء ما كان منها ذا ملمح تقليدي أو ملمح حديث، أو في الحد الأدنى العمل على تجييرها لصالح تقوية النواة المركزية للدولة[xxviii]، وذلك في إطار مسعى النخب الاستقلالية لتشكيل هوية اندماجية متجانسة تتعالى على التمايزات العرقية والطائفية والقبلية، مع ثفكيك مختلف الحواجز الكابحة لسلطانها وتفردها بإدارة الشأن العام، ولعل هذا ما أعطى الدول العربية ذات التوجهات التحديثية قدرة فائقة وغير مسبوقة على النفاذ إلى أعماق البنية الاجتماعية بما في ذلك العائلة والعلاقات الأسرية، فبينما عملت الدول الملكية والإماراتية التقليدية على توظيف العصائب والبنى القبلية لصالح السلطة المركزية للدولة فإن الدول العربية الحداثية تراوح وضعها بين التفكيك الأهوج لمختلف الوحدات التضامية لصالح سلطة إطلاقية مركزية كما هو واقع الحال في مصر وتونس والجزائر، وبين الادعاء الايديولوجي بالتعالي عما ينخر الجسم الاجتماعي من انقسامات قبلية وطائفية وعرقية ولكن  مع الخضوع واقعا لأجندة طائفية ومذهبية، مع ما يتبع ذلك من إذكاء هذه الانقسامات وزعزعة أسس الاستقرار الأهلي كما هو واقع الحال في العراق وسوريا .  

تعاني أغلب الأقطار العربية، خاصة تلك التي مرت بتجارب تحديثية هوجاء ضربا  من الاختلال الهائل  بين الدولة والمجتمع السياسي والمدني، وذلك بسبب عملية الفراغ والتجويف الهائل التي خلفتها عملية التحديث الفوقي والمشوه،  فقد عملت الدولة التحديثية على تقوية نواتها الصلبة  ومد أذرعها الاستحواذية وأعينها الرقابية إلى مختلف مناحي الجسم السياسي، توازيا مع تفكيك مختلف الروابط والعصائب التقليدية التي كانت على سلبياتها توفر ملاذا وحماية للمجتمع من شرور التسلط السياسي، وهكذا وجد المجتمع نفسه كما من الأفراد المبعثرين والمنفصلين عن بعضهم البعض  مقابل دولة شديد المركزة والجبروت، فقد انخرطت الدولة التحديثية في تفكيك محتلف الروابط الأهلية لصالح الفردية المتذررة دون أن تتيج المجال أمام تشكل روابط مدنية حديثة تشد الأفراد إلى بعضهم البعض، وتسد الفراغ الذي خلفته الهياكل التقليدية المغيبة.[xxix]

الاستعمال الذرائغي للقاموس الحداثي

إذا كانت الدول العربية المنعوتة بالتقليدية والمحافظة قد أسست شرعيتها استنادا إلى مسوغات دينية فإن أختها المنعونة بالحداثية والتنويرية تعمل على تغطيتها وجهها التسلطي باستدعاء القاموس الحداثي السياسي،  ومن ثم  أضحت مقولات الحداثة والتقدم والمجتمع المدني وماشابه ذلك عناوينا متداولة ومعهودة في الخطاب السياسي الرسمي العربي للتغطية على أكثر ألوان الاستبداد السياسي وطأة ، ومن المفارقات الغريبة والعجيبة أن هذه الدولة العربية التي  كثيرا ما تقدم نفهسها في الخارج باعتبارها نموذجا طلائعيا في العلمانية والتقدم الحداثي في محيط عربي محافظ ومحكوم بالمواريث الدينية، لا تتورع في نفس الوقت  عن  الاستحواذ على الدين ومؤسساته، بل أكثر من ذلك ادعاء تمثيله والنطق باسمه إلى الحد الذي تصادر فيه مجالات التعبير الديني والثقافي الحر والمستقل عن الدولة، ولعل هذا ما يعطي الدولة العربية قدرات استحواذية وشمولية غير مسبوقة عبر استثمارها النفاقي والمزدوج لما يمكن تسميته بالرأسمال الرمزي  الحداثي والديني على السواء، فهي عند مواجهة تحديات المعارضات الليبرالية والعلمانية مثلا، أو عند التعاطي مع الخارج   تقدم نفسها باعتبارها المؤتمن الوحيد على قيم الحداثة والتقدم، وفي مواجهة معارضيها الإسلاميين  في الداخل لا تتردد في تأكيد انفرادها بتمثيل الدين والقيمومة على شؤونه، بل لا تتردد في الاستنجاد بالعسس الديني لشن حملات تشويه سمعة المعارضين  واتهامهم بالمروق الديني، مع لمطالبة بطاعة “أولي الأمر” وعدم الخروج عن سلطتهم،  فالدولة العربية الحداثية كثيرا ما تختار المخاتلة والمخادعة واستبدال جلودا غبر جلودها بحسب مصالحها ووبحسب لعبة العرض والطلب، ولا يهمهما كثيرا نوعية العناوين والشعارات التي تتدثر بها بقدر ما يعنيها تثبيت مواقها التسلطية والانفرادية وعلى رأس ذلك العصب الحي للسطلة ممثلا في أجهزة الجيش والبوليس ومصادر الثروة العامة،  وفعلا وجدت النخب العسكرية والبوليسية الحاكمة المتوارية خلف شعارات الاستنتارة والتحديث، وجدت في بعض بقايا الليبراليين واليسارييين سندا قويا لإعادة صياعة مقولاتها وشعاراتها، فتسلل هؤلاء إلى مواقع الحكم وتصدروا منابر التوزير وكتابة الدواوين مدفوعين  بغيزة الطمع والتلهف على السلطة ومستغلين في ذات الوقت  الهواجس الأمنية المستبدة بالحاكم العربي، وهكذا استدار هؤلاء القوم على كعوبهم وغيروا مسارهم بين عشية وضحاحا  من معارضين مشاكسن إلى موظفين رسميين وأصبحوا تبعا لذلك منظرين ومستشارين في دولة “الحداثة والتقدم”،  ووقع حلف غير مقدس بين النخب الحداثية والاستبداد الحداثي العربي.  وهنا يجب أن يتحلى المرء بقدر من الجرأة في تشخيض ظاهرة الاستبداد السياسي العربي ويقول دون لف أو مواربة أن بعض النخب الفكرية والسياسية العربية تتحمل وزرا غير قليل في صناعة الاستبداد وتقوية أنيابه الدامية، سواء عبر انخراطهتا المباشر في مؤسسات الحكم، أو عبر تسترها على مواقع الاستبداد والمستبدين وتغليف ذلك بادعاءات الاستنارة والتحديث والديمقراطية، كلنا يذكر كيف كانت بعض النخب الاييولوجية الجزائرية تستثير مخاوف العساكر وتستحثههم على التدخل العاجل للانقلاب على إرادة  الناخبين ووأد أول تجربة انتخابية حرة منذ استقلال الجزائر بحجة الدفاع عن قيم الحداثة والمجتمع المدني المههدة من طرف “الأصولييين الدينين”، وكيف كانت تستغيث  الخارج  بالتدخل بحجة ما يتهدد مصالحه الاستراتيجية من خطر بسبب صعود القوى “المعادية للديمقراطية” ، ومن عجائب الأمور هنا أن تصبح الجيوش والأجهزة الأمنية الحارس الأمين للديمقراطية والمجتمع المدني المزعوم.

التجربة التونسية نموذجا

تقدم التجربة التونسية مثالا مكثفا لهذا المشهد الدرامي للاستبداد “الحداثي العربي” الذي أبرزنا بعضا من ملامحه وشخوصه فيما سبق. تتسم الحالة الاستبدادية التونسية على نحو ما جستها دولة الاستقلال في طورها الأول مع الزعيم المؤسس الحبيب بورقيبة ثم مع ورثته  من العساكر والبيروقراطيين الجدد بالملامح التالية:

دولنة المجتمع وتأميمه،  تتسم الدولة التونسية منذ وقت مبكر بنوع من المركزة  الشديدة وقدرة خاصة على الامتداد الأفقي في مختلف مناجي الجسم السياسي والاجتماعي وذلك بسبب صغر حجم هذا القطر، وغلبة التمركز المديني  والحضري على حساب الأرياف والبوادي، إلى جانب ضعف الرابطة القبلية نسبيا بما سهل سيطرة الدولة، فضلا عما  يتسم به المجتمع التونسي من تجانس لا نظير له في بقية بلدان الجوار المغاربي  كالجزائر وليبيا والمغرب التي تتميز كلها بامتداد المساحة الجغرافية وقوة الرابطة القبلية فضلا عن حالة التعدد العرقي. وقد شهدت الحقبة الاستعمارية تكثيفا لخط المركزة ومزيد إضعاف الروابط لمحلية سواء ما كان طبيعيا منها، أو اصطناعيا مدنيا توازيا مع ربط الاقتصاد التونسي بمركز  التحكم المركنتلي في البلاد الفرنسية.

 وفرت مجموع هذه العوامل السسيولوجية أرضية خصبة لتشكل حكم شمولي تحت غطاء الحزب الدستوري  الذي انفرد بالحكم منذ الاستقلال  بورقيبة منذ فجر الاستقلال عن الحماية الفرنسية سنة 56. عمل  بورقيبة منذ وقت مبكر على توثيق علاقة الحزب بالهياكل المدنية وعلى رأس ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعد أعرق وأقوى الهياكل المدنية المنظمة تونس (تأسس سنة 46) جانب اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين، ولكن هذه العلاقة لم تكن وفاقية دائما ولا كانت  متكافئة أصلا ،  فالعلاقة بالمنظمة الشغيلة مثلا  خضعت في الغالب لحسابات الحزب، ثم لدولة الحزب ، ولموازين القوى الموجودة على الأرض، وهي موازين أخذت تختل  تصاعديا لصالح بورقيبة وحزبه بعد الاستقلال  بسبب استحواذه على الدولة، وبشيء من الاجمال نقول أنها هذه العلاقة مرت من مرحلة الوفاق والتحالف عند بداية الاستقلال إلى مرحلة الاحتواء لاحقا ثم أخيرا مرحلة الاستيعاب والادماج الكامل للقيادة النقابية في قيادة الحزب الحاكم نفسه.  

أزمة الاستقلال  ما عمق الإشكال السياسي في هذا البلد أن حادثة الاستقلال بدورها اقترنت بشرخ عميق شق النخبة الاستقلالية في إطار الجزب الدستوري الذي تولى مقاليد الحكم لاحقا بزعامة بورقيبة، وكان لهذا الانقسام السياسي المبكر تداعيات خطيرة على عموم الجسم الاجتماعي والسياسي التونسي، فبينما عمل  بورقيبة في مواجهة خضمه اللدود صالح بن يوسف،  على تقوية مركز زعامته الانفرادية داخل الحزب عبر  نسج خيوط التحالف مع المنظمات والهياكل الوطنية  وعلى رأس ذلك الاتحاد العام التونسي، ومستقويا بعلاقة الانسجام التي ربطته بالرؤية والمصالح الفرنسيين، انتهى غريمه بن يوسف إلى توثيق التحالف بمصر الناصرية والمشرق العربي عامة، وتقوية الصلة بالتيار الزيتوني والقوى الاجتماعية التقليدية، وبذلك تحول الخلاف السياسي بين الرجلين حول موضوع  الاستقلال الداخلي الممنوح سنة 54، تحول إلى نوع من الاستقطاب حول مسألة الهوية والخيارات الثقافية والمجتمعية[xxx]، ورغم أن هذا الانقسام كان داخليا بين جناح الديوان السياسي الذي انحاز  لبورقيبة، وبين الأمانة العامة التي يمثلها صالح بن يوسف إلا أن مآلات الصراع قد انتهت إلى نسج تحالفات وبناء شرعيات متصادمة، شرعية يوسفية تستند إلى المحزون العروبي الإسلامي والروابط التاريخية العربية، وشرعية حداثية بورقيبية مرتبطة بمقولة “الأمة التونسية” والالتحاق بما أسماه بورقيبة ركب الأمم المتقدمة التي تعد فرنسا نموذجها الأكمل والأمثل.

ودون مزيد التفصيل في هذا الانقسام…ما يعنينا في حادثة الشرخ الوطني هنا جانبين إثنين : أولهما  أن عملية حسم الصراع لصالح الجناح البورقيبي على حساب الجناح الوطني العروبي الإسلامي أقامت أسس الحكم الشمولي الفردي، فقد كان من نتائج ذلك اختلال التوازن في الحياة السياسية التونسية  لصالح الجناح التحديثي المفرنس، ولصالح الزعامة الفردية البورقيبية  المتماهية في الدولة، وهكذا لم  يبق من خيار أمام المعارضين سوى  الانضمام إلى الحزب والاعتراف بالزعامة الخارقة لبورقيبة،أو الخضوع للتهميش والسحق عبر آلة الدولة، وقد  تحول هذا الأسلوب في التعاطي مع الفرقاء  والخصوم، تحول إلى أسلوب  مكين وراسخ في إدارة الحكم والشأن العام. ثانيا كان من نتائج هذا الصراع المبكر أن اتجهت النخبة البورقيبية إلى اعتبار كل شكل من أشكال المعارضة السياسية ضربا من الفتنة، قياسا على ما أسمته منذ وقت مبكر بالفتنة اليوسفية ، وإلى دمغ المعارضين والمنافسين السياسيين بنعوت مثيرة من قبيل مثيري الفتنة، والمارقين والانقلابيين، أي أن بورقيبة لم يعمل على تصفية خصومه السياسيين والفكرييين بقوة الدولة والظهير الخارجي فقط بل عمل في ذات الوقت على إلغاء شرعية مبدأ المعارضة السياسية أصلا باعتبارها عنوانا على الفتنة والخروج على الإجماع الوطني “الملتف” حول الزعامة الخارقة للرئيس بورقيبة.

 ورغم أن الحكم البورقيبي قد اضطر  ابتداء من سنة 81 تحت ضغط الأعطاب الداخلية التي أصابت نظامه السياسي، إلى جانب حالة التصدع داخل الحزب الحاكم، اضطر إلى قرار بالتعددية السياسية والاعتراف ببعض الأحزاب السياسية مثل حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري، والحزب الشيوعي بزعامة محمد حرمل وحركة الوحدة الشعبية بزعامة أحمد بالحاح عمر إلا أن هذا الاعتراف كان شكليا، إذ بقي الحزب الاشتراكي الدستوري وزعيمه بورقيبة ماسكين بخيوط اللعبة السياسية ومستئثران بالدولة وشؤون المجتمع، وقد ظل الأمر على ذات المنوال إلى غاية رحيله بانقلاب عسكري قاده الجنرال زين العابدين بن علي صبيحة 7 نوفمبر من سنة 87

من السلطة الأبوية إلى الإدارية العسكرية:

مع غياب الحضور الكريزمي للزعيم المؤسس ظهر نمط جديد من الحكم  عمل على دفع ما كان مختزنا في الحقبة البورقيبية من أبعاد تسلطية ظاهرة وخفية، فمع تراجع الحضور السحري لشخص بورقيبة بسبب انهاك المرض والشيخوخة توازيا مع تعمق صراع الأجنحة ثم اشتداد الضغط السياسي الداخلي بسبب الصدام مع المعارضة الاسلامية صار بورقيبة يعتمد أكثر فأكثر على قوة الأجهزة الأمنية ،ففي هذا الجو المتوتر والمشحون ازدادت حاجة بورقيبة العجوز إلى الاعتماد أكثر من ذي قبل على الأجهزة الأمنية والاستخبارية، وضمن هذا السياق ايضا ظهر رهط جديد من الوزراء والمسؤولين تغلب عليهم الصفة الأمنية والعسكرية رغم ما كان يعرف عن بورقيبة من ميل إلى  رجال السياسة والفكر  وتبرم من العسكريين، وبينما كانت تتجه الأنظار وقتها إلى شخص الوزير الأول محمد مزالي بحكم قربه الشديد من بورقيبة  ولما يتمتع به من قدرات فكرية وسياسية فضلا عن طموحاته السياسية في الخلافة، بينما كان الأمر كذلك  صعد فجأة نجم الجنرال زين العابدين بن علي من موقع آمر الحرس الوطني، ثم وزيرا للداخلية، ثم وزيرا أولا محل مزالي ،ووزيرا للداخلية في نفس الوقت وأخيرا تمكن من افتكاك  موقع الرئاسة بعد إزاحة العحوز بورقيبة في غفلة من أمره.

  كان بورقيبة حاكما انفراديا ومتسلطا  بكل المقاييس ولكن بحكم ما كان يتمتع به من شرعية تاريخية وقدرات خطابية وحضور سحري فإنه كان كثيرا  ما يستعيض عن العنف المغلظ بسلطته الأبوية الدائمة الحضور،  إلا أن خلفاءه الجديد  الذين لا يتمتعون  بشرعية تاريخية  ولا قدرات خطابية ولا بحضور معنوي يذكر فقد أصبح العنف البوليسي والرقابة الأمنية المشددة  نمطا راسخا ودائما في إدارة الحكم وتسيير شؤون السياسة عندهم، وبذلك أصبحت  أبسط المسائل السياسية والأجرائية، أصبحت خاضعة لسلطة البوليس والأجهزة الاستخبارية.

 ما يميز الحكم الجديد ليس  كونه أكثر تسلطا واستبدادا، بل  قدرته الفائقة على السطو على القاموس السياسي الحداثي، إلى جانب الهوة الفاصلة بين الخطاب والممارسة السياسية، فبينما يتحدث الخطاب الرسمي لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وما شابه ذلك، تشتد القبضة الأمنية أكثر فأكثر على عموم الجسم الاجتماعي والحركة السياسية التونسية بصورة غير مسبوقة. ما يميز الحياة السياسية في تونس أن كل ما فيها مزيف ومضلل من أحزاب وجمعيات ومنظمات مدنية، ومن شعارات وعناوين،  أما ما  كان منها حقيقيا وفاعلا فهو مقصى خارج المنتظم القانوني  محل متابعة وملاحقات قضائية مفبركة. الحياة السياسية والمدنية في مفرداتها المختلفة من  حصص الأحزاب، ونتائج الانتخابات والأشخاص المنافسين وغيرها كلها خاضعة للعبة الانتقاء والتصميم الرئاسي، المعارضات يتم صنعها واختيارها على المقاس، ونسب المشاركة، والحصص البرلمانية يتم تحديدها سلفا، بل إن الأشخاص الملطلوب منهم القيام بدور المنافسة في الانتخابات الرئاسية ونسب الأصوات التي سيحصلون عليها يتم ضبطها وهندستها مسبقا، وهكذا أصبح النسيج السياسي والجمعياتي في تونس خاضعا برمته للعبة الضبط الرقابي والحسابي للمؤسسة الأمنية التي يشرف عليها  رأس الدولة، أما الحزب الحاكم والذي تحول اسمه من الحزب الاستراكي الدستوري إلى التجمع الديمقراطي فقد تحول دوره إلى مجرد لجان عسس ويقظة أمنية أي مجرد ذراع رافد للأحهزة الأمنية وليس أكثر.  

 كان الرئيس السابق بورقيبة  قد نصب نفسه مجاهدا أكبر لا يمكن المس أو التطاول على زعامته الأبوية والانفرادية، ورغم أنه لا يختلف كثيرا عن كمال أتاتورك تركيا من جهة مطامحه التحديثية، وتعلقه المفرط بالنموذج اليعقوبي الفرنسي ثم بالنموذج الفاشي المتمركز حول طلائعية الدولية والزعامة الفوقية، إلا أنه لم يتردد في نفس الوقت في تقديم نفسه بالمصلح الأكبر والمجتهد الأكبر، بل القيام على الفتوى الدينية والتدخل في أخص خواص القناعات والحياة الفردية لمواطنيه، ورغم أنه لا يمكن الاطمئمان إلى تصنيف نهائي وقاطع لبورقيبة ضمن هذه المدرسة الفكرية أو تلك إلا أنه يمكن القول أن أفكاره ومشاعره كانت أقرب “المدرسة الليبرالية الفرنسية” مخلوطة بوله مفرط بالزعامة والتمركز حول الذات، إلا أن ذرائعيته السياسية لم تمنعه من تغيير شعاراته السابقة وامتطاء موجة التأميم والاشتراكية مع صعود نجم المعسكر الاشتراكي واتساع نفوذ التيارات اليسارية في الساحة التونسية والاقليمية، ثم الانقلاب على ذلك لاحقا والعودة إلى الليبرالية الاقتصادية، فبورقيبة لا يتردد في استخدام الشيء وتنقيضه ، إذ ليس مهما عنده  نوعية الشعارات والعناوين التي تتغلف بها الدولة، بل المهم عنده   المحافظة على سلطته الفوقية والانفرادية.

أما خليفته سليل المؤسسة العسكرية والذي لا يتمتع بشرعية تاريخية تذكر أو على الحد الأدنى من مقومات الزعامة فقد نصب نفسه حامي حمى الوطن والدين بحسب الشعار الرسمي  ، ورغم أنه لم يعرف عن بن علي قدرات فكرية أو تنظيرية أو حتى خبرة سياسية عدى خبراته الأمنية والاستخبارية إلا أن ايديولوجيي الدولة لم يترددوا في اعتباره امتدادا لمشروع الإصلاحات والتحديث الذي قاده  المصلح خير الدين التونسي قبل أن تطيح به سلطة الحماية الفرنسية سنة 1881. 

خاتمة

لا يشك إلا جاحد أو مكابر في كون أقطارنا العربية على اختلاف أوضاعها وأنماط حكوماتها، وعلى تباين شعاراتها وشرعياتها في أمس الحاجة إلى الإصلاحات السياسية والديمقراطية، ولكن بما أن هذا المطلب يكتنفه قدر غير قليل من الغموض وصار أشبه ما يكون بالجحر الكبير الذي يختبئ فيه الجميع، بدءا بشارون وبوش، ومرورا بالحكومات العربية والقوى المعادية للمصالح العربية في الصميم، وانتهاء ببعض النخب الكارهة لكل ما هو عربي، إذ الكل يغني معزوفة الديمقراطيةوالإصلاح، من هنا  فإن الواجب يقتضي إجلاء الرؤية وتوضيح الأهداف والمرامي القريبة والبعيدة  المتوخاة من عملية الإصلاح المطلوب،  باتجاه بناء أوسع  قاعدة ممكنة  من الإجماع  العام الذي يسمح بتحريك المياه العربية الراكدة في الاتجاه الصحيح لا الخاطئ، أي باتجاه إصلاحات ديمقراطية تتكامل وتتساوق  مع مطالب التكامل السياسي والاقتصادي العربي، وحماية الأرض العربية من الهيمنة والاحتلال الأجنبيين الآخذين في التسلل مجددا، بدل أن تكون مطالب الإصلاح واجهة لتغليف الهيمنة والاحتلال الأجنبي ومزيد أنهاك العرب وشرذمتهم، على نحو ما  تراهن على ذلك قوى كثيرة في الدخل والخارج.

والله ولي التوفيق

الدكتور رفيق عبد السلام باحث في

الفكر السياسي والعلاقات الدولية

 جامعة وستمنستر لندن

هوامش


[i][1] Christopher Stephen Sparcks, “Montesquieu, The Spirit of Uncertainty  and the Haunting of Modernity”, Unpublished  Ph.D. Thesis, (London: Westminster University, 1995), 182-183.

[ii][2] يقول أرسطو في كتاب السياسة (الفصل الثالث – 1255 –a) “من الواضح أن هناك من هم أحرار بالطبيعة كما هناك آخرون عبيد بالطبيعة، والعبودية بالنسبة لهؤلاء مربحة وعادلة في نفس الوقت”.

[iii][3] R. koebner “Despot and Despotism: vicissitudes of Political Term”, Journal Of Warburg and Caurtauland Institutes, vol. 14, 1951, 275.

[iv][4] Aristotle, The Politics, Book 1, 1255 a. ed. and trans. Ernest Barker, (Oxford: Oxford University Press, 1968).

[v][5] Alain Grosrichard, Structure de Serail, La Fiction du despotisme Asiatique dans L’occident classique, (Paris: Seuil 1979), 14-25.

[vi][6] Pery Anderson, Lineage of The Absolute State, (London: Routledge, 1993),  162.

[vii][7] Mechiavilli, The Prince, (London: Bantam, 1984), 26-27.

[viii][8] يقول مونتسكيو ” تعودنا في السابق  الاعتراف بوجود نوعين من الحكومات فقط،كما تعودنا  ضم أحداهما إلى الأخرى  ضمن تصنيفات متنوعة  ولكننا أدركنا الآن وجود صورة ثالثة من أنواع الإدارات الطبيعية  نسميها بالدولة الاستبدادية وهي دولة لا يوجد فيها أي قانون أو عدالة بل أهواء الحاكم فقط”.

 Montesquieu, “au siecle de Louis 14”, Oeuvres Completes, (Paris: Imprimerie Nationale, 1986), 113-114.

[ix][9] Melvin Richter, The Political Theory of Montesquieu, (Cambridge: Cambridge University Press, 1977), 46.

[x][10] Koebner, 275.

[xi][11] يقول مونتسكيو في روح القوانين ( ص 52 ) ” بعد ما سبق ذكره يمكننا القول أن الطبيعة الإنسانية تميل إلى الانتفاض  وبدون توقف ضد الحكومة الاستبدادية ”  

“Apres tout ce que nous venons de dire, il semblait que la nature humaine souleverait sans cesse contre le governement despotique”, 52.

[xii][12] Grosrichard, 52-53.

[xiii][14] ما ينطبق على فكر مونتسكيو  المغمور بأبعاد سياسية واضحة ينطبق أيضا على معاصره فولتير،فقد تحدث هذا الأخير في مواقع متعددة عن السلطة الاستبدادية للآباء كما تحدث  أرسطو من قبله عن السلطة الاستبدادية لرب العائلة ولكن مركز الإحالة عند فولتير كان بدرجة أولى الحقل السياسي وليس المجال المنزلي المحلي كما هو الشأن بالنسبة لأرسطو، ولذلك  يستعمل فولتير كلمة السلطة الاستبدادية للآباء للدلالة على أوضاع سياسية منحرفة في شكلها المجسد . أي إن الاستبداد العائلي عنده هو عبارة عن كناية عن الحكومات السياسية المستبدة.  

[xiv][15] Tomaz Mastinak, Islam and The Creation of European Identity, (London: Westminster University, 1994).

يرجع هذا الكاتب جذور الفكرة الأوروبية إلى الحقبة الإغريقية، ألا أن معالمها الواضحة قد تشكلت حسب رأيه في مناخات الحروب الصليبية والمواجهات العسكرية مع الإمبراطورية العثمانية وبذلك انتقلت الهوية الأوروبية من طور الاحساس الجنيني في مقابل الآسيوية الفارسية إلى هوية مسيحية صلبة في مقابل الآخر المتمثل في المسلم التركي.   

[xv][16] Alexis De Tocqueville, Democracy in America, (London: Everyman’s University press, 1994), 316-321.

[xvi][29]  المصدر نفسه، 125.

[xvii][30] المصدر نفسه، 137.

[xviii][31] Margret Canovan, The political Thought Of Hanna Arendt, (London: Evryman’s University Press), 39.

يمكن القول هنا بأن هذا الاختلاف بين ماكس فيبر وحنة أرنت إلى عاملين أساسيين، فالأول ينظر للبيروقراطية من الداخل بما هي انتظام وعقلنة صارمة تبحث عن النجاعة القصوى في حين أن حنة ارنت تنظر للبيروقراطية عن مسافة ومن الخارج ولذلك ترصد وجوهها اللاعقلانية والتعسفية، الجانب الثاني يعود إلى الاختلاف الجوهري في مفهوم السلطة والشرعية عند كل منهما فبينما يعتبر ماكس فيبر العنف شرط لازم  للسلطة السياسية وشرعية الدولة تواصلا مع التراث السياسي الهوبسي (نسبة إلى هوبس) فإن الكاتبة الألمانية تقيم فصلا واضحا بين العنف والسلطة لأن هذه الأخيرة ترتبط من وجهة نظرها  بالقابلية الإنسانية للاجتماع والعمل المشترك وفق أسس وفاقية سلمية ولذلك فهي من هذه الناحية أقرب إلى روسو وفلاسفة العقد الاجتماعي السلمي منها إلى التراث الفكري لهوبس المتمحور حول مقولة الصراع والنزوع الى السيطرة والاستحواذ في مجال الحياة السياسية للدول والأفراد والجماعات القومية.

[xix][34] Bassam Tibi, The Crisis of Modern Islam. trans. Judith Von Sivers, ( Satt Lake city: University of Utah Press,  1988), 1-33.            

[xx][36] Jacques Berque, L’islam au Temps du Monde, Ed. Pierre Bernard, (Paris: Editions Sindabad, 1984)226-250. See also, Jacques Berque, L’islam au Defi, (Paris: Editions Gallimard, 1980), 46-105.

[xxi][41] See John Rawls, Political liberalism, (New York: University of Colombia Press, 1993), 243.

[xxii] See Serge Latouche, The Modernization of the World, The Significance, Scope, and Limits of the Drive Towards Global Uniformity, Translated by Rosemary Morris, (Cambridge, 1996

[xxiii] Frank Tachan, Political Elites and Political Development in the Middle East, (London, 1975

[xxiv] Albert Hourani, The Emergence of the Modern Middle East, (London, 1981).

[xxv] T. Mitchell, Colonizing Egypt, (Los Angeles, 1991), p. 154-9

[xxvi][40] Timothy Mitchell, Colonising Egypt, (Los Angeles: University of California Press, 1991), 154-160.

[xxvii]  أنظر عبد الله العروي في مفهوم الدولة”  (الرباط، بيروت )

[xxviii] Roger Owen,  State, Power and the Making of the Modern Middle East (London, New York,2002)

[xxix] See.Nazih N. Ayubi, Over-stating  the Arab State: Politics and Society in the Middle East (London, New York,1995)

[xxx] , Michel Camu et Vincent Geissier ;Le Syndrome Autoritaire ; Politique en Tunisie de Bourguiba à Ben Ali (Paris 2003)

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial