النزاع السوداني كنموذج للتناقض بين الدولة والثقافة عثمان سعيد

عرض وتقديم د. حامد فضل الله[1]

الموضوع رسالة (أطروحة)[2] دبلوم تقدم بها عثمان سعيد لقسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية / جامعة برلين الحرة / ألمانيا في فبراير 2002، للحصول على دبلوم في علم الاجتماع. ينقسم البحث إلى تسعة فصول ويحتوى كل فصل على مجموعة من الموضوعات.

جاء في الفصل الأول (المقدمة): تتميز أفريقيا منذ عشرات السنين، وحتى الوقت الراهن بتعرضها إلى أزمات اجتماعية / اقتصادية، سياسية وبيئية متنوعة، وكذلك إلى عنف دموي وحروب. وتـُظهر هذه الأزمات والصراعات عدداً من السمات المشتركة لكثير من الأقاليم والدول داخل القارة الأفريقية والبلدان النامية وهي ليست ظواهر داخلية فحسب بل وإنما تتعدى الحدود السياسية للدول المعنية أيضاً. لا شك إن جزءً من هذه الصراعات والأزمات يقع على عاتق التطورات الراهنة للأقاليم والبلاد المعنية ولكن في الوقت عينه ينبغي أن لا يغيب عن الذاكرة بأن الجزء الأكبر من أسباب المشكلة المركبة يجب أن نبحث عنه في عمق التاريخ.

ويشير الباحث إلى مشاكل منطقة القرن الأفريقي المتعددة والمعقدة والتي يصعب حصرها في سياق واحد لتشعبها. ويشير إلى أهمية الموقع الجغرافي والسياسي وتعدد الثقافات والاقتصاد إلى جانب الهجرة والتطورات السياسية داخل كل بلد وكذلك العوامل المناخية والبيئية وعلاقات ذلك بالتدخلات الخارجية العالمية والتي يرتبط جزء منها بالاستعمار وصراعاته على حساب شعوب هذه المنطقة ومصالحها التي دفعته إلى ترسيم الحدود وضم أو عزل مجموعات عرقية أو أثنيه مختلفة بطريقة اعتباطية وأحياناً قسرية داخل وخارج حدود الدول المصطنعة مما أدى إلى نشوء عواقب وخيمة على التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي والبيئي.

أن النزاع السوداني، كنموذج للتناقض بين الدولة والثقافة يظهر مدى تعقيد وتعدد الأسباب التي أدت إلى رفع وتيرة الصراع وعواقبها المدمرة. أن التبسيط المخل بحصر المشكلة بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي يخفي أسباب النزاع المركب ولا يعكس صورة الواقع.

إن المفتاح لفهم الأزمة السودانية يرتبط بثلاثة عوامل متداخلة تؤثر في بعضها البعض:

عامل سياسي / سلطوي.

عامل ثقافي / ديني

عامل اقتصادي / بيئي.

وبدون تحليل علمي لهذه العوامل لا يمكن فهم جذور الأزمة واستخلاص النتائج والبحث عن الحلول الممكنة. ويشير الباحث بتواضع إن هذه المساهمة مثل مساهمة آخرين من أجل تحقيق سلام دائم وعادل في السودان.

تحتوي الفصول – الثاني والثالث والرابع – وصف وتحليل علمي مختصر للنزاعات في أفريقيا و”العالم الثالث” وعلاقة السودان بدول منطقة القرن الأفريقي. ففي الفترة بين عامي 1960 إلى عام 2000 حدثت 25 حرباً أهلية لا تزال 12 منها مستمرة راح ضحيتها 7 ملايين بجانب الملايين من المعوقين والنازحين.

إن الافتراض التاريخي الذي له مكان الصدارة بان النزاعات الدموية في أفريقيا هي صراعات “هويات متنافسة” على أساس اختلاف عرقي وديني وثقافي يعتبر افتراضاً منقوصاً ومحدوداً، فلانقسامات العرقية تبدو نتيجة أكثر منها سبباً لقيام هذه النزاعات.

كلما أستمر النزاع طويلاً، اختفت مسبباته الأساسية وتداخلت عوامل التأثير، سواء أكانت قصيرة أم متوسطة أم طويلة المدى، مع العوامل الجانبية وتوابعها وتختلط بحيث لا يظهر على السطح سوى عوامل كالدين والعرق والثقافة كمسبب أساسي للنزاعات.

إن سرد الأسباب بالتتابع التي تثير النزاعات والتي تؤدي بدورها إلى رزمة من التوابع، ثم تصبح التوابع مرة أخرى أسباب جديدة – فتتكون بذلك شبكة معقدة ومتنوعة من أسباب – توابع – أسباب – توابع، عندها يصعب حل عقدتها وتحليلها في أبعادها التاريخية والراهنة. ومن هنا لا بد من الحذر عند تحليل أسباب الحروب وإرجاعها إلى عاملين فقط: الفقر والتعدد العرقي.

هنا يفترض الرجوع إلى تاريخ الاستعمار على القارة الإفريقية. فالمستعمرون جاءوا إلى “العالم الثالث” بذريعة العمل على تحضر شعوبه “المتوحشة” والتي لا تملك ثقافة أو حضارة كما يدعون. فكانت النتيجة هي الاضطهاد والاستعباد والنهب المستمر لثرواتها، ثم أصبحت مسرحاً للصراع “الحرب الباردة” بين الشرق والغرب وحقل تجارب لنظريات التنمية، ووسائل الإعلام الغربية التي كانت وما زالت تروج بأن الأزمات التي تنتاب أفريقيا هي الأسباب الفعلية للنزاعات الأثـنيه بين قبائل وشعوب متنافرة ومتحاربة.

ويستخدمون تعبير المجتمعات الأثنيه المتعددة عندما يشيرون إلى دول “العالم الثالث” بينما يستخدمون في بلادهم تعبير المجتمعات الثقافية المتعددة. وكذلك يهملون الإشارة إلى الإكراهات السياسية والاقتصادية والبيئية التي يلعب الغرب دوراً رئيسياً فيها.

ويشير الباحث إلى دول منطقة القرن الأفريقي “الصومال، إثيوبيا، إرتريا وجبوتي” ويضيف إليها السودان بحكم الجغرافيا وكذلك كينيا ويبحث ويشرح الأزمة السودانية من خلال ترابطها وتداعياتها مع هذه المنطقة، فالمشكلة معقدة ومتداخلة وتتقاطع عبر الحدود الوطنية وخاصة السودان بحدوده الواسعة والمفتوحة. فالقرن الأفريقي صورة مصغرة من القارة الأفريقية أو متحف زاخر للشعوب والثقافات وهو من أكثر مناطق أفريقيا الحافلة بالنزاعات لأهمية موقعه الجغرسياسي كمدخل بحري مباشرة لمنطقة الشرق الأوسط والأدنى وكمركز للصراع بين الشرق والغرب وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية. والذي لا يزال يحتفظ بأهميته بالرغم من سقوط المعسكر الاشتراكي. وتتخذه الولايات المتحدة الآن كمعبر لحربها ضد الإرهاب العالمي كما تدعي.

والقرن الأفريقي يعتبر الآن من أفقر وأقل المناطق نمواً على نطاق العالم نتيجة للإرث الاستعماري والحرب الباردة، بالإضافة إلى العوامل الطبيعية من جفاف وهطول الأمطار غير المنتظم وتأكل التربة وقطع الأشجار والتصحر الزاحف ومشكلة مياه النيل والمجاعة والاستخدام اللاعقلاني للموارد الطبيعية المتجددة والمتدهورة والتنافس عليها بين المجموعات العرقية المختلفة والتي أصبحت جزءً من متلازمات الحرب الأهلية ومؤججة للنزاعات العرقية في مناطق التماس من نهب للمحاصيل والماشية. ويشير هنا إلى المشاكل بين الدينكا نقوك المستوطنين في شمال بحر الغزال والعرب الرحل – المسيرية الحمر – الرزيقات والبقارة ومشاكل دارفور بين العرب الرحل والمزارعين وكذلك مشاكل جبال النوبا وجبل مرة ومشاكل الدينكا والنوير إلى جانب السطو والنهب المسلح. ويشير إلى زيادة معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر كأحد تداعيات الحروب الأهلية. وفشل المساعدات الخارجية لحل الأزمات الطاحنة والمتداخلة داخل منطقة القرن الأفريقي.

الفصل الخامس يتناول جغرافية السودان وسكانه وتنوعه العرقي واللغوي والثقافي وتاريخه القديم – الفرعوني، الوثني، المسيحي والإسلامي – والحديث، وفترة الحكم التركي المصري وتاريخ الرق وتداعياته النفسية والاجتماعية بما فيها من مرارة وغبن وحقد ثم الثورة المهدية والحكم الثنائي الإنجليزي المصري والكفاح ضد الاستعمار وتكوين الأحزاب السياسية السودانية ومشكلة جنوب السودان متتبعاً المسار التاريخي حتى الانقلاب العسكري الأخير في يونيو 1989 واستلام الجبهة الإسلامية القومية للسلطة.

أما الفصل السادس فيتناول موضوعة الدولة والثقافة في السودان. فمنذ فجر الاستقلال عام 1956 يعيش السودان في أزمة خانقة تتضح معالمها في:

حكومات غير مستقرة

فشل أساليب التنمية

الصراع حول موارد الثروات المتجددة والغير متجددة

التسلط على أساس ديني أو دنيوي (علماني)، إقليمي أو قومي

نقص البُنية التحتية (الهياكل الإرتكازية)

مما أدى إلى عواقب وتداعيات وخيمة هي:

الحرب الأهلية في الجنوب 1955، 1983 ومنذ 1987 في غرب السودان، 1996 في شرق السودان

الحلقة الشريرة – حكومات انتقالية – برلمانية – انقلابات عسكرية – دكتاتورية استبدادية

وكذلك ثلاثة مسائل متلاحمة لا تقبل التجزئة: وحدة الوطن – الديمقراطية – والسلام.

ويقول حول المشروع الوطني السوداني بان تكوين قومية يتطلب دائماً ليس من الناحية العملية فحسب بل أيضاً من الناحية الايدولوجية تكوين هوية. وفي هذا يمكن أن تلعب دوراً الروابط الدينية، الثقافية / الأثنيه بل وأحياناً ربما تقوم بالدور الرئيسي في تكوين هذه الهوية.

ويسوق في هذا الصدد مثالين:

المثال الأول: فدولة إسرائيل على سبيل المثال أقامت هويتها القومية على أساس الانتساب إلى الديانة اليهودية بالرغم من الاختلافات والتي أحياناً جوهرية في الممارسات الدينية والتصورات العقائدية والاختلافات الثقافية / الإثنيه التي تميز اليهود. إن الخبرة الجماعية لسنوات طويلة من المطاردة في جميع أجزاء العالم والمحرقة النازية استطاعت أن تكون كافية لتكوين وتثبيت هوية قومية بنجاح.

المثال الثاني: أوربا، فقيم مثل العلمنة، والحرية والمساواة والأخاء (الثورة الفرنسية) التي جاءت بعد صراعات وتطورات اجتماعية تاريخية طويلة في أوربا قامت بدور أساسي في تكوين الدولة القومية وصياغة الهوية القومية.

أما السودان فمنذ تكوين الدولة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر لا يزال يبحث على تعريف صالح لهويته القومية. فالتجربة المشتركة لمناهضة الاستعمار في السودان لا تكفي لصياغة هوية قومية بنجاح لأن هذه التجارب لم تنبع من عملية (صيرورة) داخلية وإنما تنطوي على عنصر خارجي وهو مكافحة الغاصب الدخيل. ويستطرد قائلاً إن العلاقة بين الدولة المصطنعة والثقافة في السودان تظهر كنوعين متضادين: الدولة ككتلة (كقامة) محددة مادية عقلانية والثقافة ككائن غير عقلاني ميتافيزيقي غير محدد المعالم.

فالسودان الذي يتكون من 512 مجموعة عرقية ويتحدث بأكثر من مئة لغة ولهجة مختلفة يبحث عن هوية سودانية. إن البحث عن هوية ثقافية سودانية من منظور التعدد الإثني في السودان، يظهر للمراقب وكأنها فكرة هزلية. ولكن في الواقع إن البحث في هذا الصدد تتواري خلفه الرغبة الجامحة للسودانيين لتأمين أساس مشترك لحل الصراع في السودان. إن هذه الرغبة المشتركة يمكن لوحدها إن تدحض الافتراض القائل عدم التجانس الإثني كمسبب للنزاع.

إن البحث عن الهوية السودانية الذي بداء منذ عشرينيات القرن السابق أشعل نقاشات حادة وسط المجموعات الشعبية وخاصة وسط المثقفين والأدباء والفنانين، الذين كانوا يدبجون كتاباتهم باللغة العربية ويبحثون في الوقت نفسه عن “أدب سوداني” (عرفات، حمزة الملك طمبل، عشري، محمد أحمد محجوب، شريف …) فغالبية الشعراء من رواد الفكر القومي كانوا ينتمون في الغالب إلى أهم طائفتين تتطلعان دوماً إلى سلطة السودان العربي الإسلاموي هما طائفتي: الختمية والأنصار.

إن هذا الوضع المعقد بين المثقفين الحداثيين والحكام التقليديين لا يزال يؤثر حتى اليوم على المشروع القومي السوداني. فالإسلام والعروبة كانتا الصيغة التي صُممت عليها القومية الوطنية وتأثرت بهما الطبقة الوسطى، وخاصة “الأفندية” في شمال السودان.

فيما عدا مساهمة حديثة من الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لتعريف الهوية السودانية وهي المساهمة الأولى التي لم تأتٍ من دائرة المثقفين العرب المسلمين، فإن جميع الأدبيات المتعلقة بالهوية في السودان كانت نتاج “الأفندية” العرب المسلمين.

ويسوق الباحث مثالين في هذا الصدد:

أولاً: يكتب المحامي والشاعر والقطب البارز في حزب الأمة ورئيس الوزراء السابق محمد أحمد محجوب مقالاً في مجلة “النهضة” السودانية بتاريخ 13/6/1941 تحت عنوان الأدب القومي، ما يلي: “إنه لا يوجد شك في أن الثقافة العربية هي السائدة وكذلك الإسلام هو دين الأغلبية وانطلاقاً من هذا يمكن إن نشير إلى الطريق التي يجب إن تسلكها الحركة الفكرية في هذا البلد حتى تصل إلى هدفها”. إن هذا الرأي يحتوي على فكرة الثقافة القائدة ويخفي تحته مطلب الشرعية التي تمنح الأغلبية حق السيطرة على الأقلية، إي من خلال هوية الأغلبية التي تتكون على أساس أثني / ديني، تفسح هذه الفكرة المجال لشرعنه حق تسلط الأغلبية، وفي الوقت عينه ينسج بهذه الفكرة أيضاً تأسيس الأقلية على عوامل إثنية / دينية مما تمكنه من ناحية أخرى الاحتفاظ بالاختلاف اللازم. إن أفكار المحجوب انعكست في مسودة الدساتير من عام 1958 إلى عام 1968.

فاللغة العربية ينبغي أن تكون لغة البلاد الرسمية. وبذلك وقع الإملاء من ثقافة معينة – الثقافة الإسلامية العربية – على المجموعات الأخرى غير الإسلامية العربية. بهذا الأجراء وإجراءات أخرى تمت لصالح التعريب (الاستعراب) تأجج تسلح المعارضة السودانية الجنوبية التي لا تتطابق مع القيم الإسلامية العربية. وبسب هذه السياسة ومحاولة فرض هوية الأغلبية بطريق القوة – فشل مشروع الهوية الإسلامية العربية “للأفندية” وانتهى إلى حرب أهلية دموية.

ثانياً: بقيام الضباط الأحرار (التقدميون) استلام السلطة في السودان عام 1969 عن طريق الانقلاب العسكري بهدف إنهاء الحرب المقدسة التي أعلنتها الحكومات البرلمانية كحل لمشكلة جنوب السودان، ظهر قبيل هذه الأثناء على المسرح السياسي، شاعر آخر هو محمد عبد الحي كمساهم في مشروع الهوية الوطنية السودانية. أسس محمد عبد الحي مع بعض الشعراء في الستينيات مدرسة الغابة والصحراء بهدف مزج الدم الأفريقي في الأدب العربي عبر مشروع الوحدة الوطنية مع التعدد الثقافي.

فالمدرسة تدعو إلى الاعتداد والعزة والتصالح بين العربي والأفريقي السوداني، لخلق الوحدة بين الانتماء الزنجي والانتماء الإسلامي العربي مستلهمين نموذج “سنار”، عاصمة “سلطنة الفونج” الإسلامية الزنجية “السلطنة الزرقاء”. إن العزة بالتعدد الثقافي الذي يقترحه الشاعر في مشروعه ما هو إلا إظهار هذا التنوع من خلال “الانتماء الإسلامي”. إن إعادة تطابق “الانتماء الزنجي” مع “الانتماء الإسلامي” على بركة “سلطنة الفونج” في القرن السادس عشر ما هي إلا أوهام وتقهقر سلس إلى الوراء وأسطورة مثالية للوحدة الوطنية عبر التنوع الثقافي التي تدافع وتدعو لها مدرسة الغابة والصحراء. والباحث يتساءل لماذا تـُتخذ “سلطنة الفونج” كنموذج لتكوين الهوية الوطنية في الوقت الذي يزخر تاريخ السودان بممالك عديدة وهامة منذ 2000 عام قبل الميلاد، ويجد الإجابة:

أولاً: في الانتماء الإسلامي العربي للشعراء وكموظفين أيضاً في جهاز الدولة. فمثلاً الشاعر محمد عبد الحي هو مؤسس السياسة الثقافية الرسمية كمدير لمصلحة الثقافة (من 1975 إلى 1977) في وزارة الثقافة والأعلام في العهد المايوي.

ثانياً: بتبلور تيارين وسط المثقفين السودانيين منذ عام 1969، تيار يرى أن الهوية القومية لابد أن تتكون داخل نطاق الإسلام والعروبة حتى لو أدى ذلك إلى فرضها بقوة السلاح، وتيار آخر معتدل يرفض استعمال الحرب المقدسة لفرض الهوية القومية ولكنه في نفس الوقت إسلامي التفكير.

ولهذا يظهر وكأن النموذج “السناري” هو الأكمل والأمثل لحل إشكالية الهوية القومية. فمن جهة يمكن احتواء القوميات الزنجية وربطها ربطاً شكلياً لمشروع الهوية القومية ومن جهة أخرى يمكن شرعنه الإسلام بربطه بالعروبة. ولكن هذا النموذج في الواقع ما هو إلا إخفاء ومحاولة طمس لهويات مختلفة وليس قوة ابتكار أو تجديد. وبالرغم من ذلك استطاع رواد مدرسة الغابة والصحراء الوصول إلى نقطتين:

الأولى أن هؤلاء “الأفندية” كعرب صاغوا خطابهم الثقافي الإسلامي العربي في صلب مشروع الهوية الثقافية السودانية.

والثانية يصفون أنفسهم كأفارقة مسلمين لمواجهة الأصوليين الإسلاميين المتشددين الذين يسيطرون على الساحة الإسلامية.

وفي هذا الفصل يتابع الباحث التطورات السياسية منذ عام 1969 – الفترة المايوية في بدايتها اليسارية ونهايتها اليمينية الرجعية والتخبط السياسي بين المعسكرين الشرقي والغربي وإعلان الشريعة الإسلامية عام 1983 والتي أنهت مشروع وفكرة الوحدة الوطنية عبر التنوع الثقافي. ثم تجدُد الحرب الأهلية بتكوين الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان وفشل الحكومات الائتلافية البرلمانية بعد سقوط العهد المايوي في حل الأزمة المستحكمة والتلاعب بالبرلمانية التي أصبحت مناورات حزبية إلى حين وصول الجبهة الإسلامية القومية إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري عام 1989 ثم التصعيد العسكري وتسليح القبائل والمليشيات وإعلان الجهاد الإسلامي والتعريب والاسلمة القسرية. ثم دور التجمع الوطني الديمقراطي ميثاق 89 – مقررات اسمرا 1995 – المعارضة الداخلية. ويناقش أسباب فشل الديمقراطية، التي يعتبرها حجر الأساس في حل الأزمة السودانية. كما يناقش فشل المثقفين بسبب أنانيتهم وجريهم وراء المكاسب الشخصية، ثم يعرج في تحليله على مواقف الحكومات المختلفة التي لم تعرف كيف تتعامل مع التنوع السياسي والديني والثقافي ولم تفهم أن تـُطور هذا التنوع كقوة دفع وابتكار وتجديد، مما أدى إلى فشل تكوين الأمة والدولة إلى حين.

وفي الفصل السابع يناقش الباحث إشكالية المساعدات الخارجية مع الأنظمة الدكتاتورية ويرى أن مطالبة التجمع الوطني الديمقراطي بإيقاف كل المساعدات الخارجية للضغط على الحكومة لا يؤدي إلى نتيجة مرضية ويأتي على حساب الشعب الذي يكافح من أجل البقاء. كما أن الشروط التي تضعها الدول المانحة مثل احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات المصيرية وحرية الصحافة وحماية البيئة …. لا تلتزم بها الدول المانحة نفسها، لأنها تنطلق أولاً من مصالحها الخاصة والتي تتعارض مع الحاجات والالتزامات التي يفرضها الواقع المحلي.  ويرى بالرغم من ذلك أن تقديم المساعدات مثلاً للمنظمات غير الحكومية مع الشفافية اللازمة يؤدي إلى تقوية المجتمع المدني والذي يمكن أن يقود بطريقة غير مباشرة إلى تقويض الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة. ويشير بأنه في فترة ما بين خمسة إلى ستة سنوات سقط 30 نظاماً دكتاتورياً في فترة التسعينيات على نطاق العالم عن طريق الحركات الديمقراطية.

الفصل الثامن يهتم بمنظورية الحل السلمي للنزاع، بمداخلة عن التحليل العلمي للصراع ودراسة مقارنة حول إستراتيجيات أطراف الصراع (السلطة والمعارضة). تميز الفصل بعرض مكثف لمحاولات حل النزاع السلمي والمبادرات الداخلية والإقليمية والدولية، بفرضية أن الحل السلمي الدائم هو الخيار الذي لا مفر منه. أيضاُ في هذا الفصل يركز الباحث على منهج التحليل الاجتماعي التاريخي النقدي فينتقل بين الحاضر والماضي دون أن يخل بالرباط العلمي بين الحدث وجذوره ويوضح التطور التاريخي حتى الحاضر بمقارنة ما بين ( مؤتمر جوبا 1947 والمائدة المستديرة 1965 و اتفاقية “أديس أبابا” 1972 ومبادرات السلام في البرلمانية الثالثة 1985 إلى 1989 والفترة ما بعد 1989).

وفي الفصل التاسع (الخاتمة) يكرر الباحث من جديد بأن أسباب وعواقب النزاع السوداني وكذلك المشاكل والصعوبات التي تعترض السعي لحلها صارت – بمرور الزمن معقدة ومتشابكة ومتداخلة بحيث تؤدي إلى فقدان البصر والبصيرة ورغم من ذلك فأن الحلول ليست مستحيلة. فاستخدام الطرق الحديثة والتحليل الهيكلي للأزمات وتجزئتها مثلا إلى عدة مستويات، مثل المستوى الاقتصادي – المستوى البيئي – المستوى السياسي ودراسة علاقاتها المحددة والمرتبطة في إطار الظاهرة، يؤدي إلى تعرية الأهداف السياسية أو الشخصية، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات أم أحزاباً سياسية، التي تختفي تحت قناع الإثنيه أو “العرقية” أو الدين كذلك مشاركة الدراسات المتداخلة (دراسات التماس بالألمانية interdisziplinaer) يساعد في الوصول إلى الحلول الناجعة.

والباحث يدعو إلى تطوير المجتمع المدني وتقويته كمراقب – ومعارضة غير برلمانية لأداء الحكومة ويحذر من هيمنة الأحزاب السياسية على منظمات المجتمع المدني واتخاذها واجهة لها، مما يؤدي إلى تدمير مفهوم المجتمع المدني نفسه. كذلك مطالبة الأحزاب السياسية بالشفافية والنقد الذاتي وعرض برامجها وأهدافها علناً – كذلك تطوير البنية التحتية المتينة لضمان المشاركة الشعبية في الريف والحضر. وعقد المؤتمر الدستوري بمشاركة شعبية. إن الاقتراحات والمساعدات التي تقدمها الدول الأخرى تحت شعار مساعدة التنمية يمكن أن تساعد في حل الأزمة السودانية، ولكن يجب أن تخضع للبحث الدقيق إذا كانت فعلاً تخدم قضايا التنمية وليس غطاءً فقط تختفي وراءه مصالح ومطامع الدول المانحة وترسيخ العلاقات المباشرة أو غير المباشرة للاستعمار الجديد.

إن القضاء على حكومة الإنقاذ فقط لا يحل الأزمة كما ترغب المعارضة التي هي نفسها بتركيبتها وتقلباتها لا تقدم البديل الأمثل. كما إن النظام الدكتاتوري الحالي يشكل جزء من اللغز الكبير “الالغُوزه Puzzle” عندما نريد أن نبحث عن أجابه لأسباب النزاع في السودان. إن الحلول المستدامة التي تؤدي إلى القضاء على العواقب التي سببتها السياسة والحروب الأهلية لن تتم إلا عن طريق بناء دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان وتراعي ارتباط السودان بمنطقة القرن الأفريقي بمشاكله العديدة والصراع حول الموارد الطبيعية المتجددة والغير متجددة والتي تؤدي إلى زعزعة الوضع الداخلي والتسلط الإثني والعرقي والديني والكارثة البيئية. إن إرساء سلام عادل ودائم وتكوين نظام اقتصادي وسياسي راسخ في السودان بمساحته الواسعة وتركيبته الإثنيه المتعددة وحدوده الشبه مفتوحة مع تسعة دول جوار ليس هدفاً ومصلحة قومية فحسب وإنما أيضاً هدف ومصلحة دولية. فحل النزاع السوداني ربما يؤدي أيضاً إلى عامل استقرار وسلام في القارة الأفريقية، أن تحقيق هذا الهدف يؤدي أيضاً إلى إيقاف الهجرة الجماعية من الجنوب إلى الشمال – الهجرة التي ترعب دول الغرب من هؤلاء القادمين الجدد.

بعد هذا العرض أود أن أشير إلى جانبين حول البحث.

الجانب الأول:

البحث كتب بحماس وصبر وجهد مقدر، إذ تمكن الباحث من الإحاطة بموضوعه من جميع الجوانب مستفيداً من المنهج التاريخي الاجتماعي النقدي ورابطاً بين التاريخ والمشاكل الراهنة، وعارضاً ومحللاً ومعلقاً على أراء وتجارب الذين عملوا في البلدان النامية من الدول الغربية ومشيراً في أكثر من مقطع إلى كتابات راينر تتسلاف Rainer Tetzlaff أستاذ العلوم السياسية بجامعة هامبورغ والعالم بالشأن السوداني والذي استضاف بعض أساتذة جامعة الخرطوم في معهده. وكذلك كتاب “السودان – حروب الموارد والهوية” للكاتب السوداني المتميز د. محمد سليمان محمد. وتعرض الباحث لمفهوم الصراعات وتحولها إلى نزاعات شارحاً خصائصها وأنواعها المختلفة وتفاقم حدتها وارتفاع وتيرتها – من نزاع مستتر إلى نزاع مكشوف ثم نشوء أزمة حادة تتحول إلى نزاع مسلح أو حرب دامية.  ويسيق كمثال، مشروع تكوين الهوية الوطنية أو قضية الموارد الطبيعية التي تبدأ كنزاع مستتر لتتحول إلى نزاع وحرب دموية. ويتعرض الباحث إلى نظريات التنمية العديدة والمتباينة في مضامينها ليصل بالبحث إلى الليبرالية الجديدة والعولمة والتي أثبتت فشلها في تطوير بلدان “العالم الثالث”. إن الدول الراسمالية المتطورة قد تعاملت مع كل النظم الدكتاتورية في “العالم النامي” ومنحتها تأييدها وأسبقت عليها الشرعية لتحقق من خلالها أهدافها ومصالحها الخاصة ورغم ادعاءاتها بالدفاع عن حقوق الإنسان.

ويضيف بدلاً من وصف أفريقيا كخاسرة للعولمة الاقتصادية ومسببه للكارثة البيئية أو تبني نظريات تنمية جديدة يجب أن يتم بين القوى الغربية المهيمنة وبلدان “العالم الثالث” المغلوبة على أمرها تبادل الخبرات وتحديد مستوى المعرفة والمقدرة وقضية الديون الخارجية مضافاً إليها معدلات (أسعار) الفائدة العالية التي ترهق ميزانية التنمية وتعيق تنفيذ مشاريعها.

في هذه النقطة أود أن أشير إلى أهمية التمييز بين العولمة كعملية موضوعية في إطار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وبين الجوانب السلبية للسياسات العولمية التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على العالم كله ومنه “العالم النامي”.

والبحث لا يخلو أحياناً من طرافة – فالباحث يستخدم المجاز والقصص الشعبية السودانية بما فيها من حكم وعبر وتبصر لشرح الواقع السوداني المعقد والشائك والمتداخل.

الجانب الثاني:

جاءت قضية التعريب والاسلمة القسرية في أكثر من موضع. فقضية الاستعراب يجب أن تناقش بعيداً عن الحساسية والانفعال، فضرورة التخاطب والتواصل والشعور بالانتماء تتطلب لغة مشتركة (لغة تخاطب) وإلى الآن لا توجد في السودان لغة لدى المجموعات العرقية المختلفة يمكن أن تكون حلقة التواصل بين السكان ما عدا اللغة العربية بحكم انتشارها قياساً بلغات أو لهجات المجموعات الأخرى – وهذا لا يعني بالضرورة إهمال اللغات المحلية (اللغات المحكية) الأخرى وخاصة التي تتكلم بها مجموعات إثنيه كبيرة. والإدارة الاستعمارية هي التي منعت تعليم اللغة العربية في الجنوب وأصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية هناك. في مؤتمر جوبا عام 1947 طالب السياسي الجنوبي الراحل بوث ديو بتعزيز اللغة العربية في الجنوب حتى يتمكن الجنوبيين من اللحاق بإخوانهم في الشمال، فربط التعريب كمرادف أو تابع للاسلمة القسرية المرفوضة لا يخدم إلا غلاة الانفصاليين والمتعصبين على الجبهتين.

يقول الباحث إن الدعوة إلى عدم جواز تأسيس حزب سياسي على أساس ديني، ما هو إلا وجهة نظر عبثية ومشيراً إلى المادة الثالثة من قرارات أسمرا 1995 – (قرار حول الدين والسياسة في السودان، التجمع الوطني الديمقراطي) – وموضحاً بأن الحزبين الكبيرين في السودان حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي أحزاب أساسها ديني ناهيك عن الجبهة الإسلامية القومية.

هذه قراءة مبتسرة لقرارات أسمرا لم تتوخ الدقة، فالقضية تتعلق بفصل الدين عن السياسة وعدم استغلال الدين لمطامع سياسية. فالفقرة الثانية والرابعة في مقررات أسمرا تشرح ذلك بجلاء – وهنا إشارة إليها باختصار: “حق المواطنة – عدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة والمساواة والتسامح بين الأديان واحترام حقوق الإنسان.” هذه المبادئ جاءت أيضاً في اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1997 بين الحكومة ومجموعة الناصر، وكذلك في دستور الجبهة الإسلامية القومية الحاكمة عام 1998 وبرتوكول مشاكوس. وفي الواقع فأن المادة المذكورة لا ضرورة لها، فهي لا تعدو أن تكون إضافة للمادتين المذكورتين وربما كان الهدف منها تأكيدهما. في الحديث عن الفدرالية أو حق تقرير المصير للجنوب كان مفيداً الإشارة إلى رأي الحزب الشيوعي السوداني – فهو أول حزب (الجبهة المعادية للاستعمار) أعترف عام 1954 بشرعية مطالب الجنوبيين الوطنية في حق تقرير المصير. تجنب الباحث التطرق إلى الانقلاب العسكري المجهض في يوليو 1971 الذي حظي بدعم الحزب الشيوعي السوداني وهو من ضمن الأسباب التي أدت إلى تسارع الردة اليمينية لنظام نميري والانفتاح على الغرب، مما مثل حِقبة جديدة في تاريخ السودان.

في الحديث عن تكوين القوميات فمثلاً كان من المفيد إضافة بأن التطور الرأسمالي ونشوء البرجوازية وارتباطهما عضوياً بنشوء الدولة القومية في أوربا. أما فيما يتعلق بتكوين القومية والدولة الإسرائيلية فبجانب الأسباب التي سردها الباحث كان يمكن الإشارة مثلاً إلى وعد بلفور 1917 وجعل إسرائيل قاعدة أمامية للمشاريع الاستعمارية وحليفاً ضد العرب وكذلك دور اللغة العبرية كعامل هام في تكوين القومية الإسرائيلية أكثر من الديانة اليهودية. فالدين يعتبر عموماً جزء من ثقافة كل الشعوب وبنائها الفوقي.

إن وضع طائفتي الأنصار والختمية بجانب الاسلامويين غير صحيح – فالطائفتان يمثلان الإسلام الشعبي الصوفي المتسامح وهذا لا يتفق مع مفهوم الإسلاموية. أما قول الباحث: فيما عدا مساهمة حديثة من الحركة الشعبية لتحرير السودان – وهي المساهمة الأولي بشأن الهوية السودانية التي لم تأت من دائرة المثقفين العرب، ولكنه لم يذكر ما هو تعريف الحركة الشعبية للهوية السودانية على الأقل من أجل المقارنة. كما إنها ليست المساهمة الجنوبية الوحيدة – فهناك كتابات الشهيد جوزيف قرنق “الحزب الشيوعي السوداني” وكتابات الشخصية السياسية الجنوبية البارزة أبيل ألير الذي وصفه الأديب الطيب صالح بأنه مانديلا السوداني Nelson Mandela – وكذلك نشير إلى الأبحاث العديدة للكاتب والأكاديمي المرموق د. فرانسيس دينق والصحفي اللامع بونا ملوال. يطالب الجنوبيون بالديمقراطية والحرية والتعددية السياسية ويصفون القادة الشماليين بالتسلط وعدم احترام الديمقراطية، في الوقت الذي يمكن الاتفاق على هذا الرأي اعتباراً ما عاناه الجنوبيون من مرارات وبؤس وشقاء وحرمان كان لابد أن ينتبهوا من عقد اتفاقيات مع الأنظمة الدكتاتورية الأكثر استبداداً وقمعاً وفساداً وقسوة (نظام مايو ونظام الإنقاذ) بدلاً من النضال المشترك مع القوى المدنية والليبرالية والقومية واليسارية من أجل إعادة الديمقراطية والحرية والآن يشارك الجنوب ممثلاً في الحركة الشعبية والشمال ممثلاً في حكومة الإنقاذ عدم احترام الديمقراطية وتهميش القوى المعارضة التي لا تملك السلاح. وكأنه لا دروس وعبر في التجربة المريرة التي أعقبت اتفاقية أديس أبابا.

لم يتعرض الباحث إلى العلاقة بين السودان ومصر إلا ما جاء عرضاً عندما أشار إلى مشكلة مياه النيل التي تقود إلى التوترات السياسية داخل المنطقة والتي تستخدم أحياناً لشرعنه مواقف سياسية مختلفة منبهاً إلى عدم الاستهانة بدور مصر في مسألة مياه النيل. أما العلاقات الثنائية التاريخية بين البلدين فلم يأت على ذكرها لا على النطاق الرسمي بما فيها من توترات مثل قضية الحدود وهاجس الأمن القومي المصري وعدم اكتراث أو تفهم الجانب المصري لخصوصية الأزمة السودانية وتعقيداتها ولا على النطاق الشعبي، حيث كان الأجدر بالباحث أن يشير إلى الدور الذي يقوم به الآن الكتاب والشعراء والأدباء والفنانين السودانيين الذين تحتضنهم مصر – هروباً من عسف الإنقاذ وكذلك الدور الرائد لمركز الدراسات السودانية بالقاهرة والزيارات المتكررة لـ د. جون قرنق زعيم الحركة الشعبية وازدياد عدد الطلاب الجنوبيين الذين يدرسون في الجامعات المصرية – كلها خطوات تؤدي إلى بناء الثقة وتوطيد العلاقات على الأصعدة الشعبية والثقافية والفكرية وتوضيح الواقع السوداني في خصوصيته وأزماته.

في نقده لمدرسة الغابة والصحراء يتساءل الباحث لماذا تـُتخذ “سلطنة الفونج” كنموذج لتكوين الهوية الوطنية في الوقت الذي يزخر تاريخ السودان بممالك عديدة وهامة منذ ألفين عام قبل الميلاد. هذا التساؤل كما أرى، في غير محله، فدولة الفونج هي أول دولة إسلامية كان حكامها من أصل أفريقي والتي كانت تسيطر على السلطة قبل الغزو التركي المصري للسودان (1820 – 1821) فما جدوى العودة إلى الماضي السحيق والتذكير بأن السودان كان فرعونياً أو وثنياً أو مسيحياً ونحن نناقش الآن قضية محددة ومحصورة زمانياً ومكانياً – وهي مشاكل السودان الحديث وقضية العروبة والإسلام والأفريقية والباحث نفسه يسوق أمثلته حول إشكالية الهوية السودانية في منتصف القرن العشرين. أما قوله بأن مدرسة الغابة والصحراء تقدم إسلامها الأفريقي في مواجهة الأصوليين الإسلاميين المتعصبين فهذا يحسب لها لا عليها. وهذا يتفق أيضاً مع دولة الفونج – فقد أنتشر الإسلام في عهدها بوسائل سلمية لا قسرية.

والباحث لم يذكر شعراء آخرين تعرضوا إلى إشكالية الهوية السودانية مثل (تمثيلاً لا حصراً) الشاعر محمد الفيتوري في قصائده الأفريقية والشاعر صلاح أحمد إبراهيم وقصائده عن أوهام النقاء العربي الذي يفتخر به السوداني الشمالي.

“كذاب الذي يقول في السودان –

إنني الصريح

إنني النقي العرق

إنني المحض

أجل كذاب”

أو الشاعر محمد المهدي المجذوب

طليقُ لا تقـِّيدي قريشُ

باحساب الكرام ولا تميم

وبالرغم من ذلك – اتفاقاً مع الباحث – لا يمكن نفي النظرة الاستعلائية من قبل بعض أفراد الصفوة الشمالية حيال المواطنين في جنوب السودان. أشار الباحث إلى مقطع من قصيدة محمد عبد الحي العودة إلى سنار

“بدوي أنت؟”

“لا” –

– “من بلاد الزًّنج؟”

“لا” –

أنا منكم.  تائه يغنيٍ بلسانٍ

ويصلي بلسان

قام الباحث بترجمة النص (بالأحرى تأويله) كالأتي: “إن الأمة الهجينه التي تغني بمائة لغة أفريقية ولكنها تصلي بلغة القرآن.” من غير الإشارة هنا بأن القصيدة لم تقلِ بأن الصلاة باللغة العربية أو بأن هناك من يصلي لخالقه من دون لغة القرآن، فأن القصيدة لها أبعاد ومستويات عدة وهي صورة مصغرة لتاريخ السودان فهناك إشارات إلى العهد الوثني والطقوس الأفريقية والتصوف الإسلامي وصولاً إلى الأدب الأوربي الرومانسي مثل الإشارة إلى الشاعر الألماني نوفالس (Novalis). إن إختيار مقطع قصير جداً لقصيدة طويلة رائعة من أجل تدعيم وجهة نظر مسبقة للباحث غير جائز في البحث العلمي.

جاء في مقدمة رواية بذرة الخلاص لفرانسيس دينق: ” إن الهدف الأساسي من هذا المؤلف هو إظهار أن شخصية السودان العربية الأفريقية – هي مصدر قوة وإثراء وإن تحقيقها لن يتم إلا إذا وقف السوداني على ركيزتي هويته: عروبته وإفريقيته.” هل أرادت مدرسة الغابة والصحراء وبقية الشعراء أكثر من ذلك.

هذه بعض الملاحظات بهدف إثارة النقاش وتعميقه حول هذا البحث الجاد الذي يقع في 242 صفحة من القطع الكبير بجانب الخرائط والملاحق والجداول و119 مصدر والمكتوب بلغة ألمانية رصينة ويقدم مادة غنية للطلاب والباحثين الألمان وغيرهم وإضافة للمكتبة الجامعية كمرجع في مجال تخصصه.


[1] طبيب اختصاصي يهتم بقضايا الفكر والثقافة، مقيم بألمانيا.

[2] تقوم الجالية السودانية برلين / براندنبورغ بعقد حلقات نقاش كتقليد جديد للاطلاع ومناقشة الأطروحات الجامعية التي يتقدم بها السودانيون للجامعات الألمانية للحصول على الدرجات العلمية. وتقوم الجالية أحياناً بأعداد هذه المناقشات للنشر مثل هذه الورقة.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial