تجدد الاستبداد في الدول العربية الدور المستقبلي للامنوقراطية

الدكتور حيدر إبراهيم علي

مدخل:-

يأتي هذا اللقاء وكلمة الإصلاح تملأ كل أنحاء الحياة العامة- على الأقل بين النخب العربية وحلقات المثقفين، مما يوحي من الانطباع الأولي أن نهضة أو صحوة تلوح في الأفق وأن العرب قد شرعوا في تأسيس بدايات نحو التحول الديمقراطي ونهايات عهود الاستبداد وحكم التغلب والشمولية وحكم الفرد. وقبل أن يبدأ العرب في البناء والتمهيد والإجماع حول الحاجة إلى تجاوز عهود الاستبداد وغياب الديمقراطية، دخل المثقفون في نقاش شكلانيات الإصلاح هل يأتي من الداخل أم الخارج؟ هل نحن في حاجة إلى إصلاح ديني أم لا؟ هل هو الإصلاح أم التغيير الجذري والثورة؟ هل هو نخبوي أم جماهيري؟ وهكذا ضاع السؤال الجوهري والأول وهو: إصلاح أم استمرارية؟ هذه وضعية تعكس الركون والإلفة والاعتياد- بوعي أو لا وعي- إلى الاستبداد باختلاف درجاته وتجلياته الواقعية. باختصار، لم يحن وقت القطيعة مع الاستبداد أو بمعنى أدق- الاستبدادات، لأننا قد نكون ضقنا ذرعاً بالاستبداد السياسي ولكن مازلنا نحتاج إلى الاستبداد الديني أو الفكري أو الثقافي أو الاجتماعي. خاصة وأن الدعوة للديمقراطية تمثل تجزئة للحرية وتختزلها في التداول السلمي للسلطة أي تركز على التعددية السياسية أو الحزبية.

قول الدعوة للكتابة التي وزعها مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان، بأن الاستبداد بالرغم من انحساره في العالم لصالح نظم حكم ديمقراطية، مازال النموذج السائد لنظم الحكم في الدول العربية مهما اختلفت أشكالها وتعددت مسمياتها. فمن أين جاءت هذه الخصوصية العربية وهذا الاستثناء الذي استعصى على موجة الديمقراطية التي اجتاحت دول العالم بالذات خلال السنوات. لقد وصلت أمريكا اللاتينية رغم دكتاتورياتها الشرسة وآسيا بكل ذلك التنوع الديني والأثني والثقافي، ودول إفريقيا التي نتهم نظمها بالبدائية والتوغل في التقليدية. وظلت الدول العربية مقاومة لأي تأثير وقد تلجأ للمدوارة والمناورة والانحناء مؤقتاً وتلون التغيير القادم دون الولوج إلى مضمونه وفي أحيانٍ كثيرة تخرج ترسانة من الأسلحة الدينية والثقافية والقومية لتمنع التغيير من الاقتراب من أسوارها التي لم تعد حصينة ولكنها قد تشوش وتربك من لا يعرفها حقيقة من الداخل. نجحت الدول العربية حتى الآن في تجنب البدء في إصلاح ديمقراطي حقيقي وعن قناعة. فنحن الذين نتحدث عن أزمة النظم العربية ولكن أصحاب السلطة أنفسهم لم يفطنوا إلى أخطائهم وقصورهم. وهذا شرط التحول أو التغيير والإدراك أو الوعي بوجود مشكلة ثم يُشرع في حلها.

تحاول هذه الورقة البحث عن أسباب الاستعصاء العربي أو الممانعة العربية ومن أين تكتسب قوتها التي جعلت الدول العربية بعيدة عن هذا التاريخ الجديد الذي غمر كل العالم؟ يخطئ من يعتبر الدول العربية ذات طبيعة ثابتة مقاومة للتغيير، فهذه نظرة حتمية قد تقود إلى العنصرية إذ ترى بعض المجتمعات لا تاريخية وأقرب إلى الغزيرة والجوهر أكثر من اعتبارها ثقافة بشرية تتأثر وتؤثر في المكان والزمان. فالورقة تنطلق من ركود هذه المجتمعات مما عرضها لفوات تاريخي ولم تحاول أن تلحق سريعاً ببقية العالم. فالمجتمعات العربية تفتقد دينامية حركة الفكر وحركة المجتمع وما بينهما من علاقة جدلية. لأن الدول العربية الإسلامية لم تتفاعل منذ قرون مع الأفكار والفلسفات القادمة من خارج المنطقة جغرافياً أو من خارج الإسلام عقلياً، لذلك وجدت نفسها في عزلة، أخذت في السنوات الأخيرة ملمحاً انتقائياً واضحاً. فهي تقبل هجرة السلع والأموال والتكنولوجيا والسلاح، بينما ترفض المعرفة والعلم والنظريات والآراء أو التعامل معها بحذر واضح قد ينتهي أخيراً بالرفض.

تفترض الورقة أنه بسبب الاختيار التاريخي والواقع الذي يشهد تناقضات تفصمه وتقسمه بين شكلين وتطورين: التخلف أو التقدم، حيث التساكن العجيب. ويسمي البعض هذا الوضع مرحلة انتقالية أو لا معيارية (دوركايم) حين يتغير القديم ولم يتمكن من أن يحل محله بعد. وقد توحي الورقة- خطأ- أن المجتمعات العربية ثابتة وسرمدية، ولكن طريق التطور العربي سيظل بطيئاً وأحياناً متراجعاً أو متكرراً. وسيبحث العرب عن نماذج تكفيهم شر المطالبة بالتغيير والإصلاح الحقيقي. ستشهد المنطقة تغييرات ولكنها في كل الأحوال لن تكن إضافة للديمقراطية وخصماً على الاستبدادية. فالثقافة (الثقافات) العربية الإسلامية- حسب السائد- لم تكن الحرية في الأولويات في سلم القيم العربي ولا المتقدمة في اهتمامات العقل والفكر العربيين.

النسب التاريخي للاستبداد العربي

ساهمت البيئة الطبيعية مع طريقة الاستجابة البشرية في نوعية البحث عن شكل لتنظيم وإدارة شؤون الناس في هذه المنطقة. لأن غلبة عدم الاستقرار والترحال البدوي وغياب التوطن الجماعي بأعداد كبيرة كما يحدث في التجمعات الفيضية، كل هذا جعل الاهتمام بالحكم والسياسة أقل عربياً مقارنة بحضارات أخرى مثل الإغريق والرومان والهند والصين وفارس. ومن ناحية أخرى، كان الشعر ديوان العرب وليس الفلسفة كما هو الأمر في أثينا. لذلك قادت الفلسفة تلك المجتمعات إلى التساؤل في موضوعات مثل السياسة (أرسطو) أو الجمهورية (أفلاطون) وصارت هذه الموضوعات اهتماماً فكرياً وثقافياً. فالسلطة السياسية أو علاقة الحاكم والمحكوم ضرورة من ضرورات الحياة البشرية ولكن اختلفت درجة طريقة ومستوى الاهتمام حسب قوة الحاجة إلى ذلك وإدراك الناس المعنيين لتلك الحقيقة. وبالنسبة للعرب جاءت نهضتهم مع الإسلام وفتح العرب المسلمون العالم وتفاعلوا مع كل الحضارات القديمة ولكنهم جاءوا للعالم برسالة جديدة تحمل رؤية مختلفة للكون والإنسان والمجتمع، وهذا يعني ضمناً السياسة والحكم.

قدم الإسلام نظاماً شاملاً لمكارم الأخلاق ولكن- بالتأكيد- لم يكن من الممكن إعطاء تفاصيل كل شيء بالذات الحكم والإدارة، لذلك ترك الكثير لاستشارة العقل البشري ضمن المبادئ العامة للدين. كانت مهمة النبي (ص) الأولى تأسيس المجتمع الجديد والإنسان الجديد وهذه هي وظيفة الشريعة المحمدية. وكان النبي الكريم يوحى له في كل أمور الدين والدنيا وهو لا ينطق عن الهوى، فهو الحاكم والرسول الذي يختلف عن الأباطرة والملوك: لست عليهم بمسيطر. وهنا تغيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم بالمعنى المألوف في السياسة. ولا توجد العلاقة التعاقدية القائمة على الحقوق والواجبات التي ارتكزت عليها نظم الحكم الديمقراطية لاحقاً. فالعلاقة دينية في الأساس ثم بعد ذلك سياسية، فهناك فروض دينية لابد من أدائها دون تساؤلات ومعارضات وجزاؤها في الآخرة. وهنا مبتدأ الخلاف السياسي في الإسلام أي الخلافة، فالخلفاء الراشدون يمكنهم التصرف في جزء من وظائف وصلاحيات النبي (ص) لأن السيادة الحقيقية في الأمة إنما هي لله الذي فوض نبيه بممارسة بعض سلطاته. وكما يقول حوراني: “لذلك كانت الشريعة، أي التعبير عن الإرادة الإلهية، العنصر الأساسي في المجتمع، وكان شطر كبير من العمل السياسي، أي التشريع، خارجاً، من حيث المبدأ من صلاحية الحكم. ولم يكن للخلفاء، نظرياً، لا قدرة الله على سن الشرائع، ولا وظيفة النبي في إعلانها، وإنما كل ما في الأمر أن الصلاحيات القضائية والتنفيذية قد انتقلت منه إليهم. فكان على الخليفة في الاعتقاد السائد، أن يقود الجماعة في السلم والحرب، ويستوفي الأموال الشرعية ويشرف على تطبيق الشرائع.”[1] يمثل الخليفة رمزاً وفي هذا قال معظم الفقهاء بأن وحدة الأمة تستلزم وحدة السلطة السياسية.

مفهوم الوحدة هو محور السياسة الشرعية في الثقافة العربية الإسلامية، وقد تستوجب الوحدة الطاعة. لذلك لابد للأمة من إمام حتى ولو كان جائراً، فليس المطلوب عدالته أو ديمقراطيته ولكن وجود الخليفة ضروري حتى ولو كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك! ولم يكن الاستبداد بمعنى الاستفراد بالرأي وعدم الاستشارة وأخذ الرعية بعنف وقسوة من معايب ومساوئ الخليفة أو الحاكم أو السلطان طوال العهود الإسلامية طالما كان قادراً وقوياً وحامياً لبيضة الدين. يكتب أحد المفكرين المسلمين المعاصرين رغم إدانة الاستبداد والطغيان ولكنه يغلب وحدة وقوة الأمة أمام أعدائها:- “علينا هنا أن نحذر الخلط بين الحكم على الخليفة بأنه مستبد، من الناحية السياسية أو من حيث علاقته بشعبه، وبين أعمال أخرى جيدة قد تنسب إليه، فقد كان عبد الملك بن مروان الخليفة القوي الذي أسس الدولة الأموية وجعلها مستقرة فهو أول من كسا الكعبة بالديباج وأول من ضرب الدنانير للناس عام 75 هـ وأول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية (……) لكنه أول من غدر في الإسلام وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف ….”[2] مسؤولية الحاكم أن يحمي الأمة ويحافظ على وحدتها بكل الصور حتى لو اقتضى الأمر القمع والقهر ومع بعد الناس عن عهد الدين الأول حيث كان ورع وتقوى الخليفة- وليس رقابة الشعب أو الأمة- هما سبب رحمة الخليفة على رعيته. ثم جاء لاحقاً من يخاطب شعبه:- “أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فأن الشيطان مع الفرد، أيها الناس من أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه.”[3]

ولسوء حظ المسلمين لم يعد الخلفاء والحكام الأتقياء كثرة لأنه من الصعب حل معادلة القوة والإمساك الجيد بالسلطة مقابل اللين وقبول الخلاف. والفهم العربي يثمن الاستبداد عالياً، حتى العاشق يطلب من حبيبته تستبد مرة لأن العاجز من لا يستبد، فكيف بالحاكم المطلق؟ لم أدهش حين قرأت قصة عبد الملك بن مروان، فقد كان عالماً ومتديناً ومرجعاً، يروي ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك![4] وهو القائل بعد أن تولى الخلافة: “والله: لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه..”

لم يعرف التاريخ الإسلامي حتى القرن التاسع عشر فكرة الديمقراطية أو الدستور أو العقد الاجتماعي، لأن تطوره السياسي كان مختلفاً بالذات في فكرة محورية لمن السيادة؟ للشعب أم لله؟ فالحاكم ليس مسؤولاً أمام شعبه أو أمته بل مسؤول أمام الله. وقد انعكس هذا على طريقة الاختيار فهو لا يطرح – أي الحاكم- على الشعب بل يتم الاختيار عن طريق البيعة التي تتم بالتوريث. حتى مسألة استشارة أهل الحل والعقد لم تعد واردة بعد أن أصبح الحكم ملكاً عضوضاً. وسادت فكرة الطاعة كقيمة اجتماعية وسياسية لضمان عدم تفكك الدولة وذلك بحماية الدين من الأعداء سواء في شكل عدوان عسكري أو محاولة هدم العقيدة. فالخليفة أو الحاكم هو ظل الله على الأرض. لذلك لا يمكن الحديث عن تقييد لسلطته أو إعطاء الشعب الحق في عزله أو محاسبته. هذا هو خط تطور الاستبداد التاريخي وهو ببساطة الاستفراد بالسلطة وأن تكون يد الحاكم مطلقة أو حسب ابن خلدون في الطور الثاني للدولة: “طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار من ذلك، لجذع أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبة الضاربين في الملك بمثل سهمه، فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه حتى يُقرّ الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده.”[5]

لم يخرج التاريخ السياسي العربي- الإسلامي من قاعدة الغلبة والقوة والعصبية حتى القرن التاسع عشر. ولم يعرف العرب الثورات العظمى التي تغير المجتمع من جذوره، لقد عرف الحروب والكوارث ولكن لم تكن نهاياتها بدايات لعصور جديدة وظل العرب المسلمون يعيدون إنتاج تاريخهم المثقوب وغير الصاعد لقرون طويلة. وفي هذه الأثناء عرفت أوروبا التغييرات الدستورية منذ الماقنا كارتا (Magna Carta) عام 1215 ثم الإصلاح الديني في القرن السادس عشر والثورة الفرنسية 1789 وصاحب ذلك مجتمعياً الثورة الصناعية والكشوف الجغرافية وصعود البورجوازية بعد سقوط الإقطاع والتسابق الاستعماري بالإضافة للحروب بما فيها حربان عالميتان. فقد كانت أوروبا الغربية تموج بالحركة والتغيير بينما الشرق العربي الإسلامي في ركود ونعاس تاريخي حتى القرن التاسع عشر حين كانت صدمة الاحتكاك بالحضارة الغربية وبرز سؤال النهضة أو التخلف من الوجهة الأخرى، حتى كتب شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم وكانت مجلة العروى الوثقى قد كتبت: “انحطاط المسلمين وسكوتهم وسبب ذلك”. وطرح الكتاب أسئلة: لماذا تخلف العالم الإسلامي؟ أو ما هي أسباب انحطاطه؟ وكيف يمكن النهوض به من جديد؟ ولماذا تقدم العالم الغربي عليه؟ وما هي أسباب نهضته؟ وتعددت المسببات لدى المفكرين المسلمين ولكن يهمنا في هذا السياق الإجابات التي ارتبطت بالحرية والاستبداد والشورى، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وعبد الله النديم الذي عزا تخلف الشرق إلى الاستبداد[6].

تجنب الفكر السياسي الإسلامي موضوع مصدر السلطات واهتم إلى مسألة كيفية ممارسة السلطة في بعض لحظات التاريخ. يقول حوراني بأن “تأثير الفكر اليوناني ظهر على فكرة عقيدة في الإمامة تحاول الإجابة على أسئلة مثل: من هو الحاكم الشرعي للجماعة الإسلامية، وماذا عليه أن يعمل؟ تصطدم هذه الأسئلة التي لو وصلت نهايتها قد تطالب بالحرية والمشاركة، بضرورة وجود الحاكم حتى ولو كان ظالماً، لتجنب الفتنة والشقاق والفوضى. فالحاكم يفرض الطاعة على رعيته بسبب هذه الضرورة وليس لديهم حق المعارضة والاحتجاج، ومن هنا يقول ابن تيمية: “أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم”[7].

بدأ المصلحون المسلمون منذ بداية القرن التاسع عشر في معالجة النظام الدستوري وفي 1866 تقدموا إلى السلطان بمذكرة أقرب إلى مشروع مقترحات دستورية طالبوا فيها السلطان بأخذ المبادرة في قيادة الحركة الدستورية والتمثيلية وقد تأثر الأفراد الذين لجأوا إلى أوروبا بالأفكار السائدة هناك. وبدأت تجارب دستورية في تركيا في 1876 وفي مصر 1881 وفي إيران 1905. وشارك خير الدين التونسي في إعداد مسودة دستور لتونس في 1860. لم تستطع المؤسسات الدستورية الصمود في هذه المجتمعات التقليدية لأنها لم تعبر عن تطلعات المسلمين العاديين، ولم تجذب الجماهير ولم تقنعهم بأنها أدوات تغيير ناجعة. وخشيت الفئات المتدينة أن تضر هذه التغييرات بالإسلام، لذلك بدافع الخوف على مصالحها انحازت إلى الحكم الاستبدادي لأن قوة الحاكم الفرد تضمن لها ما تريد.

حدود الحرية

تبنى مفكرون مسلمون فكرة أن غياب الحرية وغلبة الاستبداد هي سبب تخلف المسلمين، ويستوقفنا في هذا الصدد عبد الرحمن الكواكبي (1854- 1902) صاحب كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) والذي يقول في مقدمته:- “… كل يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وما هو الدواء، وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي وداواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقر فكري على ذلك- كما أن لكل نبأ مستقراً- بعد بحث ثلاثين عاماً.”[8].

ويطالب المتكلم في الاستبداد أن يلاحظ تعريف وتشخيص ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما داواؤه؟ وكل موضوع من ذلك يتحمل تفصيلات كثيرة وينطوي على مباحث شتى من أماتها: ما هي طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟ ما تأثير الاستبداد على الدين؟ على العلم، على المجد، على المال، على الأخلاق وعلى الترقي، وعلى التربية، على العمران؟ من هم أعوان المستبد؟ هل يُتحمل الاستبداد؟ كيف يكون التخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟ هذه هي عناوين الكتاب وموضوعاته التي عالجها الكواكبي جيداً. وقد ركز على تعريف الاستبداد وبالتالي دوره في الحياة العامة حيث يخنق كل آفاقها من خلال سيطرته على مفاصل المجتمع: المال والدين. ويحاول أن يقدم تعريفاً يساعدنا كثيراً في فهم حكوماتنا الحالية. ويبدأ بتعريف اصطلاحي بسيط هو: “الاستبداد: تصرف فرد أو قوم في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة وقد تطرأ مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون مقام كلمة (استبداد) كلمة: استعباد، واعتساف، وتسلط وتحكم” ( ص 23) ويقدم تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات، أما تعريفه بالوصف فهو: “أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا هي غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة أو على أمثلة تقليدية أو على إرادة الأمة، وهذه هي حالة الحكومات المقيدة. أو هي مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد كما تهوى” (ص 24). ويقف الكواكبي عند أهم خصائص وأعلى مراحل الاستبداد حين يقول: “وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية.” (ص 24).

يربط الكواكبي بين الاستبداد والسلطة الدينية لذلك لابد من فصل الدين عن الدولة. ويرى بعض الباحثين أن “السلطة الدينية التي يتمتع بها الحاكم، هي سلاح يمتشقه باستمرار في سياق ممارسته للاستبداد إلى جانب سلاحين رئيسيين هما: قوة العرش وقوة العسكر.”[9] ويرى دايه أن سلاح الدين هو الذي يستقوي به الحاكم المستبد، لأن هذا السلاح لا يقتصر على منصب الخلافة بل يتعداها إلى سائر قطاعات الدولة ويفسر بداية كتاب الكواكبي بأنها: طرح داء الاستبداد ودواء الفصل بين الدين والدولة. وهذا ليس مجرد استنتاج. فقد جاء مقاله في صحيفة المقطم صريحاً حين يخالف موقف محمد عبده ومحمد رشيد في الدولة الإسلامية القوية، حيث يقول: “ههنا بحث لابد لي أن أطرقه ولو كان قوم يخالفونني فيه، وهو أنه يجب على الخاصة منا أن يعلموا العامة التمييز بين الدين والدولة، لأن هذا التمييز أصبح من أعظم مقتضيات الزمان والمكان اللذين نحن فيهما. فإذا لم يدركه عامتنا، كان الخطر محيطاً أبداً بخاصتنا.”[10] ويضيف الكواكبي أنك لو سألت عامة الناس اليوم عن مبدأ التمييز بين الدين والدولة لوجدتهم يعتقدون أن الدين لا يقوم إلا بالدولة والدولة لا تقوم إلا بالدين. وأنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر وهذا خطأ مبين” ويتبع نفس الحيثيات التي أوردها المعلم بطرس البستاني في إحدى كتاباته: “أن الغرض المقصود من الدولة، والغاية التي تسعى الدولة إليها في زماننا هذا، هي غاية دنيوية محضة، وأعني بها تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وسن الشرائع العادلة لهم وإنفاذها فيهم. أما الدين، فالغاية المقصودة منه واحدة على اختلاف الزمان والمكان، وهي صلاح في هذه الدنيا حتى يدخلوا جنات النعيم في الآخرة”[11] وفي سياق مناظرته لأصحاب نظرية الدولة الدينية، يطرح الكواكبي السؤال المنطقي الآتي: “إذا لم نميز بين الدولة والدين في عصرنا هذا، بل طلبنا من الدين مساعدة الدولة، ومن الدولة مساعدة الدين، بناء على أن كلاً منهما لا يقوم إلا بالآخر، فماذا نفعل لو سقطت الدولة؟ أيسقط معها الدين الذي كنا نقول أنها حاميته، وأنه قائم بقيامها؟”. ويسارع إلى تسديد الجواب المقرون بمثل مقنع، حيث يقول: “حاشى وكلا. فقد سقطت دولة الخلفاء من بنى العباس، واهتزت الأرض لسقوطها. ولكن ديننا القويم بقي عزيزاً قوياً.”[12] ولم يسقط الدين، لأنه دين المسلمين كلهم وليس دين دولتهم فقط. ويرى على القول بأن الدولة الإسلامية تعزز شأن الدين بأن الدين الإسلامي لا يفتقر إلى دولة حتى تقوي عماده ويزيد انتشاره بين الناس، ويضرب مثلاً بالجزائر والهند حيث كانت الدولتان المستعمرتان غير مسلمتين.

تتكرر معركة الكواكبي الآن، إذ بعد هذه السنوات تتحالف الدولة مع السلطة الدينية حتى حين تخرج بعض الجماعات الدينية على الدولة وتعارضها. ويبدو أن الكواكبي رأى فيما يمكن تسميته بالعلمانية المؤمنة الخطوة الأولى نحو فكر حر يتجاوز الاستبداد، فهو لم يردد آراء العلمانيين العلميين لأنه رجل دين كبير خلافاً للدكتور شبلي شميل ومدرسته، ويقارن في هذا المنحى برواد علمانيين مثل المعلم بطرس البستاني الذي كان مبشراً مسيحياً. لأنهما اعتبرا أن فصل الدين عن الدولة يعود بالفائدة على الاثنين معاً. وصمد الكواكبي في المعركة التي ثارت ضده. ونكرر سؤال جان دايه، المعجب بجرأة الكواكبي والمتحير لتخلف الفكر العربي الإسلامي في الوقت الحاضر، يتساءل: “ولكن أين هو المفكر الإسلامي الذي يتجرأ في المجاهرة بالإيمان بمبدأ الفصل بين الدولة والدين أو حتى طرح المبدأ على المناقشة؟”[13] ولم تتغير ظروف الكواكبي كثيراً عن ظروفنا الحالية فيما يتعلق بحدود الحرية الفكرية والقضايا غير المحرمة. لذلك يبقى سؤال الاستبداد حياً لو نظرنا له بعيون الكواكبي رغم مرور أكثر من قرن على وفاته.

يمكن القول أن فكر الكواكبي كان متقدماً بينما لم يكن المجتمع الذي عاش فيه قد تطور كثيراً وهذا ما يفسر أحياناً موت هذه الأفكار لأنها لا تجد من يحملها وينشرها بين الناس. لذلك كان سؤال عن أي فئة اجتماعية عبّر الكواكبي؟ يرى الشريف أن الكواكبي قد عبّر عن فئة المثقفين الحديثين التي ظهرت “بين صفوف رجال الدين مع انطلاق المشاريع الإصلاحية التحديثية في مركز السلطنة العثمانية وعدد من ولاياتها العربية وحصول مباينة بين العلم والدين، وهي فئة أتيحت لها فرصة تملك العلوم العقلية، عن طريق قنوات عديدة ولكنها بقيت محرومة من السلطة والنفوذ الفعليين داخل السلطة العثمانية. وقد ساء هذه الفئة أن تمنح صفة العالم إلى أناس اقتصروا- حسب الكواكبي- على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي العلوم الرياضية والطبيعية، وأن يصبح العلم بالتالي منحة رسمية تعطى للجهال حتى للأميين بل للأطفال.”[14] فقد صار العلماء التقليديون وشيوخ الطرق الصوفية أو ما أسماهم الكواكبي: “العلماء المدلسين” و “الجهلة المتعممين”- كتاب أم القرى- هم المقربون للسلطة والمؤثرين فيها. لذلك، فعلمانية الكواكبي هي أقرب للإصلاح الديني ثم السياسي، وهذه معركة لم تتوقف حتى اليوم مع فقهاء السلطان.

يسود الاستبداد مع تغييب الوعي بين الجماهير وهذا يتم بطريقة مقصودة بدعم من قوى اجتماعية ذات مصلحة في استمرار قمع واستغلال الجماهير. فالكواكبي يرى أنه إلى جانب علماء الدين المزيفين، يمكن أن ينشئ اًلأصلاء أو الأثرياء استبداداً، معتمدين على جهل الناس وتهاونهم في الدين ورضوخهم للاستغلال، وانحلال الروابط التي تعينهم على المطالبة بحقوقهم. فالأصلاء يعتمدون على حسبهم ونسبهم ويعتمدون “على سمعة أصالتهم وكثرة أفرادها في فرض السيادة على الآخرين”، دون حاجة إلى استخدام الدين. يساعدهم في إنشاء الاستبداد، أصحاب المال، الذين يشاركون في السلطة باعتبار “أن المال لا يجتمع في أيديهم إلا بأنواع الغلبة والخداع، وقمة الغلبة هي الاستعانة بالجند الرسميين، كما أن منتهى الخداع هو التلاعب بالقوانين لصالح الأثرياء”[15] هذه الفئة أسماها رجال تلك الفترة “بطانة السلطان” وحملوها كثيراً من مسؤوليات انتشار مظاهر الاستبداد.

يحتل الكواكبي- في نظري- موقعاً نهضوياً وتنويرياً متقدماً في نضاله ضد الاستبداد وجرأته في ولوج موضوعات محرمة ولم يتراجع عن مواقفه كما فعل الكثيرون من اللاحقين له. فقد كان مجدداً ورائداً في قضية فصل الدين عن الدولة التي طرحها لأول مرة وحتى اليوم هي قضية مصدر ابتزاز وتخويف وتخوين وتكفير، لم يستطع العقل العربي الإسلامي أن يتعامل معها بموضوعية وتجرد بعيداً عن التزمت والاتهامات وشبهات المؤامرة. ولكن الاستبداد هي نصف المشكلة أما النصف الثاني فهو كيف تكون الحرية، لأن كشف وإدانة الاستبداد خطوة هدامة مطلوبة وتكتمل بخطوة بناءه وهي كيف تكون الحرية في هذا العالم المظلم والمطعم استبداداً بكل أشكاله؟

لم يكوّن المسلمون رصيداً جيداً في الحريات، كانت تشغلهم الوحدة والمنعة والقوة وأحياناً العدل والمساواة، ولكن ظل مفهوم الحرية والحريات غريباً وأقصى ما بلغه من قبول وانتشار لا يتعدى ميدان الرق والعبودية باعتبار النقيض لها. ولم تعرف كلمة الحرية والحريات طريقها إلى القاموس السياسي الإسلامي بالمعنى والدلالة التي نجدها في الغرب. ومن المعلوم أن الكلمات والمفاهيم هي تعبير وانعكاس لمجتمع بعينه ولتطوره، فاللغة هي تاريخ المجتمع. فهو ليس مجرد غياب كلمة بل غياب مقابلها الواقعي والحقيقي في الحياة. وانبهر مفكرو النهضة بقيمة الحرية وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي وحاول أن يروج للمفهوم عند عودته إلى الوطن وكان عليه أن يبدأ بتعريف الكلمة أو تقريب معناها إلى الأذهان. يقول الطهطاوي: “وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف. وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة.”[16] وكان بذلك أول من حاول أن يدخل الكلمة في القاموس السياسي الإسلامي وقال بعدم وجود مقابل لها في التراث الفكري والسياسي. وتصدى أديب إسحاق في محاضرة أعيد نشرها في (الدرر) إلى تحديد معنى الحرية: “فالحرية ثالوث موحد الذات متلازم الصفات يكون بمظهر الوجود فيقال له الحرية الطبيعية، وبمظهر الاجتماع فيعرف بالحرية المدنية وبمظهر العلائق الجامعة فيسمى بالحرية السياسية.”[17]

لم تعد الحرية مجرد تعبير نبيل لوضع يتوق إليه الإنسان بل صارت ضمن مصطلحات تعبر عن أوضاع سياسية وعن أيديولوجيات بعينها. وكان من الطبيعي أن يتعرف المسلمون والعرب على مفهوم الليبرالية والتي مازالت حتى الآن محتفظة بأصلها دون ترجمة عربية. وكان أحمد لطفي السيد قد حاول أن يصك كلمة: “المذهب الحري” أو “خطة الحريين” لتعني الليبرالية بالنسبة له الحرية والتي اقتصرت عند المفكرين المسلمين والعرب على الحرية السياسية، بالتركيز على حرية الفكر وحرية التعبير والتسامح والخلاف والتعليم العام والاقتراع العام وقوة العقل وقوة الأفكار وقداسة الفرد وإلغاء القنانة ونمو عقيدة التجارة الحرة وحق نمو تشريعات الرفاهة والرعاية الاجتماعية”[18]

يؤخذ على الإصلاحيين والنهضويين قصورهم في تحديد موقف واضح ومتكامل من الحرية والليبرالية والديمقراطية والدستورية، فمن البداية عجزوا عن تأصيل هذه المعاني دينياً واكتفوا بالقول أنها لا تتعارض مع صحيح الدين. كذلك لم يتعاملوا مع مفهوم الحرية بمعناه الكامل والشامل، وفصلوا بين حرية وأخرى بل تجاهلوا بعض الحريات تماماً مثل حرية التفكير والتعبير والعقيدة. فمن المعلوم أن هذه الحرية تصطدم بأحكام الردة وإضعاف الدين والتشكيك فيه لو عالج المرء أن يدرس ويحلل الدين مثلاً بغير الوسائل والمناهج المعروفة والمقبولة. ومن الأمثلة المبكرة لهذا الصدام أو التناقض الموقف من كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم وكتاب طه حسين في الشعر الجاهلي.

يرجع باحثون قصور الموقف الفكري والعملي للإصلاحيين إلى خلفيتهم الاجتماعية والطبقية وتطور الصراع الاجتماعي، لذلك كما لم يتبلور الشكل الاجتماعي جاء الفكر مشوشاً وقاصراً أيضاً ولم تكتمل معاركهم مع النظم الاستبدادية والطغاة. ويبدو أن أغلبهم كان راضياً عن فكرة المستبد العادل/ فقد دافع الطهطاوي عن حكم محمد علي، ودافع خير الدين التونسي عن التنظيمات. وسبب هذا الموقف المبدأ الإسلامي القائل بوجوب الصبر على الإمام الجائر وعدم الخروج عليه خشية ما تسببه الثورة من فتنة. والشيخ محمد عبده رغم معارضة الخديوي إسماعيل، قال في آخر أيامه أنه كان من الممكن أن يتعامل معه لو وجده مستبداً عادلاً.

يعدد خدوري مسببات ما يسمى أفول الديمقراطية في الوطن العربي، إذ يقول بأنه لم تصدر في البلاد العربية ما عدا مصر، أية كتابات ذات أهمية عن الدستورية والحكومة التمثيلية قبل الحرب العالمية الأولى: “ذلك لأن المفكرين العرب كانوا منهمكين في معالجة المسألة الكبرى المتعلقة بالعلاقات العربية- التركية إلى درجة أنهم لم يولوا قضية شكل الحكم الذي ستتبناه بلادهم بعد الاستقلال أي اهتمام.”[19] ومن عيوب التجربة أن العرب لم تكن لديهم حرية اختيار النظام السياسي لأن هذه البلاد كانت تحت الحكم الأجنبي. وكان بعض المصلحين يظنون أن المؤسسات الديمقراطية لا تتعارض مع الاستقلال الوطني ويأملون أنه في حالة زوال النفوذ البريطاني والفرنسي ستتمكن هذه الوسائل الجديدة من العمل على نحو يوفق بين المصالح الوطنية والأجنبية. بعد أن ضعفت وانحسرت السيطرة الأجنبية وقام القادة الوطنيون بمهمة إدارة هذه المؤسسات “فأظهروا قليلاً من الاحترام للمؤسسات الحرة وشرعوا يكشفون عن ميول تسلطية تقليدية. وواصلت الأحزاب السياسية الهزيلة وقادتها، بعد أن تحرروا من الضغط الشعبي، الأساليب القديمة في العمل بدل الاستجابة إلى متطلبات الاستقلال الحديث في إحداث تغيير جوهري.”[20] وأصيبت الجماهير بخيبة أمل في قادتها وأحزابها السياسية التي غرقت في الفساد مستخدمة الأجهزة الديمقراطية وبالتالي فقدت الديمقراطية سندها الشعبي. ولم يقم المتحمسون للديمقراطية بحماية النظام حين تعرض للخطر، “وكادت الديمقراطية تفقد معناها لدى غالبية الشعب، فيما انهمك الحكام كل الانهماك في الصراع من أجل سلطة شخصية لا تخطط للتنمية والإصلاح.”[21].

يرى البعض أن فشل أو انقطاع الديمقراطية يرجع إلى أنها جاءت في ظروف صراع ضد سيطرة خارجية وأخرى سيطرة داخلية. فقد كان الهدف تحقيق الاستقلال الوطني ثم أن تعطى الديمقراطية مضموناً جديداً هو التنمية وإعطاء الجماهير سلطة أكبر وحقيقية في اتخاذ القرار. لذلك رفضت شكلانية الديمقراطية وارتباطها بالغرب- لدى البعض- وبالتالي يصعب قبولها لدى دعاة الاستقلال والأصالة، فقد تشككوا في أن يتمكنوا من خلال النموذج الغربي للديمقراطية من تحقيق غاياتهم. ومن هنا كانت بداية البحث عن صيغة أخرى وكانت النتيجة غياب الديمقراطية سواء كانت غربية أم غير غربية.

الاستبداد الجديد

كانت الديمقراطية تعني لدى القوميين التحرر من السيطرة الأجنبية لا الحكم الاستبدادي. وبعد الاستقلال لم تكن المجتمعات العربية مهيأة للديمقراطية: شكلاً ومضموناً. ففكرة الأحزاب- مثلاً لم تكن دائماً إيجابية، إذ نظر إليها بعض الإسلاميين كبدع خاصة تلك العقائدية. يضاف إلى ذلك صعوبة ازدهار الديمقراطية: “… في بنية اجتماعية معقدة تمزقها منافسات عمودية (القبائل مقابل سكان المدن) ومنافسات أفقية (الأغنياء مقابل الفقراء) وتخلو من طبقة متوسطة ذات شأن”[22] ومن الواضح أن غياب الطبقة الوسطى القوية كان من أهم أسباب فشل التجارب الديمقراطية.

كانت العراق أول بلد عربي يقع في قبضة العسكر عام 1936، وفي عام 1949 خضعت سوريا للحكم العسكري وفي عام 1952 كانت مصر الضحية الثالثة. وفي 1958 انقلب العسكر في السودان على الديمقراطية بعد مضي عامين فقط على الاستقلال وحدث نفس الشيء في الجزائر فبعد ثلاث سنوات من الاستقلال عام 1965 كانت البلاد في قبضة ضباط جبهة التحرير الجزائرية. وتتالت الانقلابات العسكرية بينما ظلت بقية الدول العربية تحت ملكيات وراثية استبدادية أو مشيخات. المهم أن العالم العربي انقسم بعدالة بين الاستبداد المدني والآخر العسكري. يمثل الأول امتداداً لاستبداد دشنه معاوية، بينما الثاني يجدد- ظاهرياً- نفس ذلك الاستبداد التاريخي بواسطة قوى اجتماعية تعتبر حديثة.

يصف بعيري الانقلاب السوداني:- “في 17 نوفمبر 1958، أذاع راديو الخرطوم (يقصد أم درمان) البيان الأول لرئيس الأركان السوداني إبراهيم عبود حول انقلابه الذي وقع أثناء الليل. ولقد كان بيان عبود من نواح كثيرة مجرد نموذج (للبيان رقم 1) الذي يميز الانقلابات العسكرية أو الـ Pronunciamento المعتاد عند متمردي أمريكا اللاتينية. الشيء الوحيد الجدير بالملاحظة في بيان رئيس الأركان السوداني هو تعبيره عن فلسفة سياسية عامة. فالبيان، بعد أن يرسم صورة قاتمة للأزمة التي مرت بها البلاد يقول: ونتيجة لذلك ومن المسلك الطبيعي أن ينهض جيش البلاد ورجال الأمن لإيقاف هذه الفوضى ووضع حد نهائي لها.”[23]

يحدد البيان الانقلاب العسكري بأنه المسلك الطبيعي، فهو ليس حسب اسمه انقلاباً على وضع عادي بل هو تعديل أو “عدل” لشيء مقلوب أي الانقلاب هو الطبيعي والوضع الديمقراطي هو الشاذ، لذلك بالانقلاب عادت الأمور إلى طبيعتها التي يجب أن يكون عليها. يقول الكاتب: “إن بيان رئيس الأركان يعبر عن وجهة نظر واسعة الانتشار ترى أن الانقلاب، وإقامة دكتاتورية عسكرية، ينبغي النظر إليه باعتباره المسار الطبيعي في التطور السياسي للدول العربية في العصر الحديث.”[24].

يبدو أن الغرب قد اختار وسيلة التغيير الفعالة ولم تعد للوسائل الديمقراطية أي قيمة في تحقيق الغايات العربية بالذات تأكيد الاستقلال الوطني وإبعاد السيطرة الأجنبية وتحرير فلسطين وإنجاز النهضة الاقتصادية التي أخذت اسم التنمية لاحقاً. وصار هناك إيمان “بالدور التاريخي للضباط أو القوات المسلحة بل أصبح ضرورة تاريخية. فالحكومات الانقلابية التي نجحت في الاستيلاء على السلطة روجت لهذه النظرية بل حاولت مساعدة ورعاية الانقلابات في البلدان الأخرى باعتباره تضامناً وإنقاذاً لتلك الدول. ففي خطابه في 23 ديسمبر 1962 ببورسعيد، بعد شهرين من انقلاب عبد الله السلال في اليمن، يتنبأ عبد الناصر بقرب ظهور “سلال سعودي” و “سلال أردني” يقتلعان الحكم الملكي في هذين البلدين.”[25] وكان عبد الناصر صاحب نظرية متكاملة حول الضباط ودورهم كطليعة ثورية للعالم العربي.

يقول عبد الناصر في كتابه (فلسفة الثورة) أنه بعد فشل ثورة 1919 “كان الموقف السائد هو الذي فرض على الجيش أن يكون وحده القوة القادرة على العمل. كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد، يبعد عنهم إلى حد ما صراع يكون في استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم ببعض.. وأن يكون في يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لهم عملاً سريعاً حاسماً.. ولم تكن هذه الشروط تنطبق إلا على الجيش” وفي موضع آخر في نفس الكتاب يقول: “هل يجب أن نقوم نحن الجيش، بالذي قمنا به في 23 يوليو 1952… لماذا وجد جيشنا نفسه مضطراً للعمل في عاصمة الوطن وليس على حدوده؟ كنا نشعر شعوراً يمتد إلى أعماق وجودنا بأن هذا الواجب واجبنا وأننا إذا لم نقم به نكون كأننا قد تخلينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها.” ويؤكد عبد الكريم قاسم عام 1960 نفس الفكرة، حيث يقول: “بأن الجيش لو لم يقم بهذه الثورة لما استطاع إخواننا خارج الجيش انتزاع حقوقهم بالطرق السلمية. إذ أنهم كانوا قد أخضعوا وغُلبوا على أمرهم.”[26] ويمكن تلخيص هذه النظرية التي سادت العالم العربي بأن العالم العربي يعيش حالة شديدة من التخلف وأزمة انتقال لا يمكن تخطيها إلا عن طريق التغيير الثوري للبناء الاجتماعي والنظام السياسي، وأنه ليس هناك قوة قادرة على إحداث التغيير المطلوب باستثناء ضباط الجيش والذين لديهم القدرة على التأثير في هذا التغيير.[27]

كرس التوجه الجديد غياب الديمقراطية والأحزاب والبرلمانية وحرية الصحافة وحريات التنظيم والتعبير والحركة ولم تعد من بين الأولوية وأصبحت كلمة الثورة هي المفتاح السحري للتغيير والتحديث والتحرير وهي مشروطة بقبول علاقة الطاعة الكاملة للزعيم القائد. وشرعت الثورات العربية في تهيئة المسرح السياسي لعلاقة أبوية بين الزعيم وشعبه وهي العلاقة التي عبر عنها الرئيس السادات بنفس لغة “العيلة” وبمفرداتها، وتبدأ آليات هذه العلاقة بالتوحيد أو التماهي الكامل بين الزعيم والشعب والوطن، فالشخص الذي يسيء إلى الزعيم (الشخص) قد يكون قد أساء للوطن أو الشعب كله. وتسود علاقة أبوية تعطي الأب حق القسوة على الأبناء من خلال الاعتقال والتعذيب والإهانة. رغم غرابة العلاقة بين عبد الناصر والجماهير والمثقفين ولكن لم تكن الجماهير قادرة على تصور نفسها بدون قيادة عبد الناصر، لذلك خرجت بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 رافضة استقالته مع أنه تحمل مسؤوليته عن الهزيمة. وعند وفاته في أيلول/ سبتمبر 1970 صرخت الجماهير: تسيبنا لمين؟

ابتكر الاستبداد الجديد في لباسه العسكري كل وسائل القمع والتخويف والتهميش والترهيب والترغيب من أجل البقاء في السلطة. فالنظم العسكرية اعتمدت على قوانين الطوارئ والأوامر الدستورية المؤقتة بقصد التهرب من وضع دستور دائم، ومن أهم إبداعاتها فكرة الأمن القومي أو الوطني: فلسفة وأجهزة. فأجهزة الأمن صارت البديل عن الحزب والحكومة والمجتمع المدني، فقد احتكرت العنف الشرعي وغير الشرعي. ويمكن اعتبار الناصرية صورة نمطية ومثالية للاستبداد الجديد ويجسد عبد الناصر صورة الطاغية والدكتاتور خاصة في نظر الغرب، يكتب إمام: “… دكتاتور وطاغية يحتقر الشعب بقسميه الواعي وغير الواعي. المتكلم والصامت، المتحرك والصابر، فيعامل الأولين بالمعتقلات والسجون، ووسائل القهر والتعذيب، كتعبير عن ازدرائه لإرادتهم. ويُخضع الآخرين لعمليات غسل مخ عنيفة، تحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم.”[28] لذلك استغرب الغربيون عندما عبر العرب عن فقدهم لعبد الناصر ودهشوا لذلك الاكتئاب الجماعي الذي ساد في مصر والعالم العربي.

يروي إدوارد الخراط في نص قصصي دخولهم سراً إلى أحد المصانع: “ونفدنا بالجنب من الباب الضيق الذي لا ينفذ منه إلا واحد واحد، والنوبتجي على الباب- لم تكن كلمة الأمن معروفة في الأربعينيات” (صحيفة الحياة اللندنية 11 تموز/ يوليو 2004). أما الآن فالأمن في كل مكان وبمختلف التسميات والأشكال المتنوعة والفئات والأفراد المنتمين لأجهزة الأمن. فالصرف على الأمن يفوق الصرف على التعليم والصحة والثقافة بل تعتبر ميزانيات الأمن من الأسرار العليا لذلك قد لا تخضع لمراقبة ومحاسبة البرلمان أو مجلس الشعب أو المجلس الوطني. فإيراداته ومصروفاته فوق المساءلة. يسند هذا التواجد الأمني الكثيف وجود قانون الطوارئ، فهذه القوانين موجودة في كل البلدان لمواجهة أخطار طارئة وهو وضع استثنائي وليس دائماً، ولكن يجب إقراره بطريقة شرعية حسب سلطات البرلمان كهيئة تشريعية أو حسب سلطات الرئيس الدستورية في النظام الرئاسي. فهو يتم بتفويض شرعي ولكن الأهم من ذلك أنه مؤقت ينتهي بانتهاء الخطر الذي استوجب سنه أو إعلانه. وفي الدول العربية يصبح القانون الاستثناء هو القاعدة المستمرة.

دخلت نظم الاستبداد الجديد في أزمة التجدد ومواكبة العالم الذي أصبح قرية كونية حقيقية، لذلك برزت إشكالية الشرعية والكفاءة والقدرة على الإنجاز. وتزايد الحديث عن ليبرالية سياسية واقتصادية، فكان لابد أن تحاول النظم العربية التكيف والتلاؤم دون فقدان سلطتها أو على الأقل التنازل عن جزء منها. وفي هذه الظروف يعود الحديث عن الشعب والمشاركة والشفافية وكلها مفردات غريبة عن النظم العربية الاستبادادية. فالنظم العسكرية الانقلابية دأبت عن الحديث بأنها تمثل الجماهير لذلك حكمت وفكرت وقررت بالنيابة عنه وأعفته من هذا العبء. وواجه الساسة الضباط المعادلة الصعبة في علاقتهم بالجماهير: “وفي كل حالة سواء كانت القيادة تسعي إلى استثارة همة الجماهير أو إلى إسكاتها وإصابتها بالشلل، فأن نظام حكم الضباط دائماً ما يواجه بالورطة نفسها: كيف الحصول على دعم الجماهير، وفي الوقت نفسه، إضعافها. وهذه هي المعضلة المتأصلة في نظام الضباط.. وهي معضلة، لأنها لم تحل في أي من الحالات! لأن من المستحيل على النظام العسكري أن يوفق بين الدكتاتورية والديمقراطية. وبقدر السهولة النسبية للاستيلاء على السلطة من جانب أولئك الذين يسيطرون على آلة الدولة للعنف المنظم، بقدر صعوبة الاحتفاظ بها.”[29]

الطريق إلى الأمنوقراطية (Secucracy):-

كانت المحاولة الأولى للدخول في مرحلة جديدة شكلاً وقديمة مضموناً قد قام بها الرئيس المصري أنور السادات، فقد أبقى على الأجهزة الأمنية والعقلية السياسية الأمنية أي تلك التي تعطل قدرات الجماهير ثم توظفها في نفس الوقت لاستمرار ما هو قائم (Status quo) لذلك لم ينتقل السادات بالثورة إلى الديمقراطية واكتفى بمرحلة ما سمي بالانفتاح وهذه حيلة ذكية لمصادرة تطور المجتمع أو تعطيله. فقد تغيرت القبضة الأمنية القاسية والشرسة ولكن ظلت وظائفها وأهدافها موجودة أي الطاعة والانصياع والقبول. فقد استثمر السادات السخط الذي لازم التجربة الناصرية بالذات بعد هزيمة 1967 بسبب غياب الحريات السياسية. وكانت بعض الأصوات قد حاولت المطالبة بإصلاح ونقد ذاتي للتجربة مثل خطاب آذار/ مارس 1968 ولكن وفاة عبد الناصر قطعت التطور. لذلك استغل السادات تطلع الناس إلى الحرية والديمقراطية ليقوي نفسه ويثبت وضعه، فبدأ باستبعاد رموز الناصرية بدعوى القضاء على “مراكز القوى” ثم رفع شعاريّ دولة المؤسسات وسيادة القانون. وكان السادات خير من يمثل الأمنوقراطية في ممارسة الاستبداد الناعم أي الذي لا يواجه ويجيد التضليل والتدليس. فالسادات الذي لا يتوقف عن الحديث عن دولة المؤسسات، كان هو الذي أدخل فكرة (كبير العائلة) وخاطب المواطنين بالأبناء والبنات والأخوة والأخوات ويهدد المنشقين على “كبير العيلة”. وأكمل أيديولوجية الدمج أو التماهي بين الحاكم والشعب والدولة، ولم يعد الفصل بينهما في حالة النقد.[30] وقام بأخطر مهددات الديمقراطية وهو تغييب الشعور بالمواطنة وما يعقب ذلك من حقوق وواجبات، لأن حقوق المواطن تختلف عن حقوق الابن أو البنت. ففي الاستبداد القديم يتحول المواطنون مواطنين كاملين وعليهم البحث عن العطف الأبوي أو رعاية النظام البطريكي.

بالتأكيد لا تكتفي تلك العلاقة لضمان بقاء واستمرار نظام الحكم الفردي، لذلك لم يكن غريباً أن السادات رغم كل الحديث عن الحريات والمؤسسات والقانون، كان صاحب أكبر سجل في إصدار القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات وحقوق الإنسان. فقد جدد عدداً من القوانين القديمة الموروثة من عصور ما قبل انقلاب 1952 ابتداءً من القانون 28 لسنة 1910 الذي يفرض العقاب على اتفاق شخصين أو أكثر وحتى لو كانت غايته مشروعة، وهذا يحرم أي نشاط سياسي شعبي. ويعفي القانون من العقوبة المقررة في هذه المادة كل من بادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود الاتفاق. ويلاحظ أن هذه المادة تساعد في التخريب الأخلاقي وتدريب الناس على الخيانة والغدر والتجسس.[31] كذلك القانون رقم 10 لسنة 1914 الذي يفرض العقاب على اجتماع أكثر من خمسة أشخاص في الطريق العام إذا أمرهم رجال السلطة أن يتفرقوا ولم يفعلوا ويكونون مسؤولين عن أي جريمة تحدث بسبب هذا التجمهر حتى وإن لم يعلموا بها! وفي نفس الوقت أصدر ترسانة من القوانين المقيدة للحريات مثل القانون 34 لسنة 1971 المسمى قانون تنظيم فرض الحراسة وتأمين سلامة الشعب، ويتيح للمدعي الاشتراكي أن يتحفظ على الأشخاص ويرفع الأمر لمحكمة الحراسة، إذا قامت دلائل على أن شخصاً أضر بأمن البلاد أو أفسد الحياة السياسية. والقانون رقم 2 لسنة 1977 يحرم التنظيمات السرية ويرفع العقوبات على التجمهر والاعتصام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. ومنح القانون 33 لسنة 1978 المدعي الاشتراكي سلطات واسعة منها العزل السياسي والحرمان من الوظائف العامة والمراكز القيادية الإنتاجية والنقابية، وفرض القيود على الرأي المخالف بل وتجريمه وتكبيل حرية الصحافة بمزيد من القيود. بالإضافة إلى القانون رقم 105 لسنة 1980 بإنشاء محاكم أمن الدولة لتتحول من محاكم استثنائية مرتبطة بحالة الطوارئ إلى محاكم دائمة وأضيف إلى تشكيلها لأول مرة قانون العيب 1971 فهو اختراع ساداتي يستحق عليه براءة اختراع فلم يسبقه إلى مثل هذا القانون أي حاكم آخر ولكنه يدل على حس استبدادي قوي وشديد الجودة! فهو يخلط السلوك الاجتماعي والأخلاقي بالسياسي والجنائي، فكلمة عيب تصف التصرف غير اللائق لدى المصريين، ولكن- حسب أحد الباحثين: “تحويل رأي معنوي إلى تجريم قانوني قضية بالغة الخطورة حتى بالنسبة لروح التشريع في أي بلد متحضر، فكان يعتبر إخلالاً بالقيم: الحض على معارضة سياسة الدولة أو نظامها الاجتماعي الاقتصادي، كما كان إذاعة أو نشر أخبار أو معلومات تؤدي إلى استثارة الرأي العام يعتبر إخلالاً بالقيم.”[32]

تميز عهد الانفتاح الساداتي بمهرجانات الاستفتاءات وهذه أيضاً وسيلة تحايل على الديمقراطية والمشاركة الشعبية، خاصة وأن الاستفتاءات غالباً ما تكون مزورة. كما أنها شرعنة لخرق الدستور أو إدخال مواد تكرس حكم الفرد والاستبداد، فقد كان الهدف- على سبيل المثال- من استفتاء 22 مايو 1980 تعديل المادة  من152 من الدستور والتي كانت تمنع ترشيح شخص واحد رئيساً للجمهورية لأكثر من مرتين (12 سنة) ليصبح جائزاً انتخابه لمدد متتالية بلا حدود أي مدى الحياة وكان المقصود به السادات شخصياً ليكون رئيساً مدى الحياة. وفي نفس الوقت شهدت الانتخابات التي أجريت خلال ذلك العهد التزوير والتدخل المكشوف فلم تعبر عن حقيقة الإرادة الشعبية. ورغم أن النظام سمح بقيام الأحزاب ولكن تم تقييد الأحزاب بحيث تقوم بلعبة التعددية كما يريدها السادات. وقد أبعدت عناصر سياسية حية بطريقة لا تتعارض ظاهرياً مع القوانين. رغم الحديث عن حرية الصحافة وحق التعبير عن الرأي، فقد كان الواقع مختلفاً تماماً، إذ هناك قرارات التحفظ وسحب رخص بعض الصحف واتخاذ إجراءات مثل الاعتقال والاستجواب، كذلك النقل إلى أعمال غير صحفية كما حدث عام 1974 حيث نقل عدد من الصحفيين إلى مصلحة الاستعلامات مما يعني حرمانهم من الكتابة. وأغلقت مجلات ثقافية وفكرية عديدة ومؤثرة.

تمثل الحقبة الساداتية نموذجاً جيداً للتحول من الاستبداد الجديد الذي نشرته ورعته الحقبة الناصرية إلى الأمنوقراطية. إذ بعد وفاة عبد الناصر ظهرت الكتابات والروايات التي تحكي عن التعذيب وسجون عبد الناصر وممارسات أجهزة الأمن. وعرضت أفلام مثل أحنا بتوع الأوتوبيس أو الكرنك، كما نشرت المذكرات من مسؤولين ومعارضين وأخوان مسلمين تكشف الممارسات الفظيعة التي تميز بها العهد الناصري. ورغم أن القمع في فترة السادات كان أكثر انتشاراً ومنهجية إلا أنه تم بطريقة ناعمة ولم تكن ملامحه ظاهرة. وهذه هي أنجح آليات الأمنوقراطية أن تظهر آثار القمع دون أن نستطيع تحديد القمع نفسه. والمهم تعطيل الإرادة السياسية لدى المواطنين وتعتيم الوعي بالقضايا الوطنية وخلط المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مع السخرية والفهلوة والضحك في مجتمع هلامي.

يكتب غارودي عن أسباب نجاح النازية:- “لكن دهماوية هتلر وجدت آذاناً، في مواجهة أحزاب سياسية بلا مشروع، تخوض معارك عقيمة للوصول إلى السلطة أو للبقاء فيها، مستفيداً من تعب الشعب من هذه السياسة الملهاة ومن فساد الأحزاب.”[33]

من الواضح أن الانقلابات العسكرية استنفذت كل مراحلها واستراتيجياتها سريعاً ونحن الآن أمام دولة بعيدة عن الثورية والتحرير ورغم تضخم الدولة فأنها لم تصبح دولة قوية وعادلة ومنتجة بل تحولت إلى دولة عنيفة وطبقية وطفيلية وتابعة ضمن النظام العالمي. فقد توسع دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع وهذا أدى إلى مزيد من التسلط والبقرطة ولم يصاحب ذلك تطوير في صيغة الحكم السياسية نحو مزيد من الديمقراطية، فقد حدث تحسن نسبي في مستوى المعيشة لبعض الفئات كما توسع التعليم، وهذا الوضع يفترض فيه خلال الظروف العادية أن يخلق طبقة وسطى قوية ومستنيرة ولكن بسبب التهميش السياسي لم تقم بدورها. ومع تغيير السياسات الاقتصادية تدهورت الطبقة الوسطى وانسحقت اقتصادياً واجتماعياً. وفي النهاية كانت محصلة حكم العسكر والدولة المتسلطة هو حراك اجتماعي مليء بتوترات بين الطبقة المستفيدة والنخبتين المسيطرة والحاكمة، ومصدر هذه التوترات حسب النقيب: “هو ميل سياسات الدولة التسلطية إلى خلق ركود اقتصادي واجتماعي وحضاري، وميل القوى الاجتماعية المتحررة من الطبقة المستفيدة (فئات الطبقة الوسطى) إلى المطالبة بمزيد من المساهمة السياسية، وبحقها في تحويل مكاسبها المادية نتيجة الحراك الاجتماعي الصاعد إلى مكانة اجتماعية وارتقاء السلم الاجتماعي.”[34] ويتوقع ثلاث خيارات للخروج من أزمة التسلطية- البقرطة:- الأول لجوء الدولة إلى مزيد من الإرهاب ومزيد من القيود. الثاني اختلاق نزاعات إقليمية وتخويف المواطنين ببعبع الأمن القومي. والثالث: انفراجات جزئية عن طريق اتباع سياسات مرنة انفتاحية وإضفاء صفة الشرعية من خلال دساتير وانتخابات مقيدة. وما يحدث الآن أي التوجه نحو الأمنوقراطية هو تعديل للخيارين الأول والثالث والخروج ببديل واحد.

مرحلة الأمنوقراطية

يلعب الأمن الدور الأساسي في هذه المرحلة ويختلف عن مرحلة عودة الاستبداد وتجديده من خلال الانقلابات. ففي تلك المرحلة يكون دور الأمن مساعداً في تثبيت دعائم الحكم- كما يقال- وأن يجنبه التآمر الداخلي والخارجي ويتصدى لكل احتمالات المعارضة والشغب وإضعاف النظام. فأجهزة الأمن تقوم بمهام ذات طابع بيروقراطي- فني يخدم السياسات العليا بطريقة غير مباشرة ولا يتدخل في وضعها فهو يتحمل مسؤولية حمايتها رغم أنه لم يشارك في وضعها. في الأمنوقراطية الأجهزة شريكة أصيلة في وضع السياسات وفي تنفيذها، لذلك لا يعمل أفراد الجهاز في الظلام أو خلف ستار بل يبادرون في التفاوض والحوار والتنفيذ. وهناك أمثلة عديدة أبرزها السيد عمر سليمان المسؤول الأمني بدرجة وزير وهو يقوم بمهمة وزير خارجية في القضية الفلسطينية ويتعامل مع القادة الفلسطينيين بصلاحيات واسعة ويعقد المؤتمرات الصحفية والمقابلات الإعلامية. وفي السودان يقوم اللواء صلاح عبد الله مدير جهاز الأمن الوطني وهو مهندس في التأهيل العلمي، وقد ظهر في يناير 2004 في مؤتمر صحفي ثم لبى دعوة صحيفة الوطن السودانية لإفطار رمضاني جمع سياسيين وصحفيين وأكاديميين، والأهم من ذلك قيامه بلقاءات مع زعماء المعارضة، من بينها اللقاء مع السيد الصادق المهدي في القاهرة وتلك مهمة يفترض أن يقوم بها الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. وفي حديث صحفي يقدم المهام الجديدة للجهاز والتي تتجاوز مجرد حماية النظام، يقول: “من عيوب انغلاقنا على أنفسنا رسمت صورة مغلوطة وفي هذه المرحلة فأن من اهتمامنا أن نقوي علاقتنا بالمواطن حتى نكون ملاذه الآمن فلسنا جهازاً للتخويف والإرهاب والعقاب ولكننا جهة تتعاون مع الناس لما فيه خيرهم بل وخير البشرية جمعاء ونسعى لكي تكون علاقتنا مفتوحة وقوية مع المواطن، وحدد موقفه بوضوح من مستقبل السياسة في السودان كلاعب أساسي، يقول: “في تقديري فإن صلاح أمر السياسة في السودان يتم ويتحقق بتراجع الجيل القديم عن المسرح السياسي وعليه أن يفتح الباب لقيادات جديدة شابة أهم برامجها الاتفاق على الثوابت الرئيسية في البلاد وإذا تم ذلك فليس هناك مشكلة في فتح أبواب الحريات للعمل السياسي” (صحيفة البيان الإماراتية 11 يناير 2003). ويمكن أن نسترشد بقوله عن الجهاز في تحديد مرحلة الأمنوقراطية، حين يقول: “إن جهاز الأمن مؤثر وحاضر ومشارك في كافة سياسات وقرارات الدولة بحكم حضوره وإطلاعه بكافة المعلومات في كل الساحات ونطمئن الكافة بأن الجهاز موجود في كل المجالات ونحن نقوم بتوظيف كافة مجهودات شبابنا في مؤسسات الدولة المختلفة” (نفس المصدر السابق).

من الواضح أن عناصر الأمن سيحتلون نفس موقع الضباط في الخمسينيات والستينيات فقد كانوا آنذاك الفئة الأكثر حداثة وتنظيماً وهذا ما جعل بعض الباحثين يشيرون إلى أن الجيش المصري- في سياق مجتمعه باعتباره “انتلجنسيا ترتدي الزي العسكري”. وينطبق على عناصر الأمن وصف هنتنجتون (Huntington) للضباط بالحداثة، “فهم فئة في كيان مهني يقوم على الاحتراف الذي هو نمط خاص لمجموعة وظيفية شديدة التميز. وتتميز المجموعة بثلاث صفات: المعرفة، المسؤولية والمشاركة. الأولى تعني التأهيل والدراسة، والثانية القيام بواجب أساسي في المجتمع، أما المشاركة فتعني اشتراك أفراد المهنة في الإحساس بوحدة عضوية والوعي بأنفسهم.”[35]

يمثل السودان نموذجاً جيداً لدور الأمنوقراطية بسبب الضعف والتشتت اللذين أصابا الحركة بالإضافة للتقوية المستمرة لجهاز الأمن منذ قيام انقلاب 30 حزيران/ يونيو 1989 الذي هندسه ونفذه الإسلامويون الذين كانوا أقلية سياسية ولا يمكن لها أن تفرض سيطرتها ألا من خلال قبضة أمنية قوية تتجاوز كل حدود العنف والقسر كما حدث في السودان خلال السنوات الأولى لحكم الجبهة الإسلامية القومية. يقدم د. الأفندي تحليلاً دقيقاً رغم بعض لمساته التبريرية: “الجهاز الوحيد الذي كان له من التماسك والانتشار والقدرة كي يتولى بعض مهام التنظيم السياسي الغائب كان جهاز الأمن. فقد أعطى النظام أولوية كبيرة لبناء أجهزة أمن فعالة (….) وقد كانت هذه الأجهزة هي الوحيدة المطلعة على كافة ملابسات الوضع، والوحيدة التي تملك حرية الحركة الكاملة. والوحيدة القادرة على تأمين قنوات الاتصال بين جميع المراكز الفعالة في النظام. ومن هنا أصبحت الأجهزة الأمنية تلعب الدور الأكبر ليس فقط على صعيد تأمين الحكم، بل أيضاً على صعيد التنسيق السياسي.”[36] ويضيف: “عملياً، إذن أصبح جهاز الأمن أقرب ما يكون إلى التنظيم الحاكم في الدولة الجديدة” (1995: ص 46- 47) هذا تعريف للأمنوقراطية بامتياز (per se) أن يصبح أو يكاد أن يصبح هو التنظيم الحاكم. ففي الحالات التي يصل فيها جهاز الأمن هذه الدرجة يمكن أن يطلق عليه المصطلح، فهو ليس مجرد جزء من البناء يقوم بوظيفة محددة، بل هو البناء ثم يقوم بوظائف داخله.

رغم أن الأمنوقراطية هي نتاج فشل الدولة العسكرية الاستبدادية- التحديثية في نفس الوقت، إلا أنها تحاول استثمار فشل تلك التجربة فقد أعقب الإخفاق القلق والتوتر والتوجس والصراع. وتعمل الأمنوقراطية على التحكم والسيطرة على كل هذه المظاهر والانتقال بهدوء إلى مرحلة ما بعد الأزمة، يقول غليون:- “إن الانقلاب الحقيقي في تاريخ المجتمعات العربية والعالمثالثية عامة ليس ما نشهده من انقلابات عسكرية على الدولة أو داخل الدولة، ولكنه الدولة ذاتها بما تمثله من أداة استثنائية لقلب الأوضاع والتحكم بالمجتمعات والتلاعب بمصيرها ومستقبلها. وهذا ما يجعل منها مصدر العنف الرئيسي ومحوره، بقدر ما يشكل هذا العنف القابلة القانونية للتقدم والتحويل المتسارع.”[37] وهنا يأتي دور الأمنوقراطية الذي آلت على نفسها أن تقوم به في الخروج من المأزق، يواصل غليون: “بل أن ترويض هذا العنف وتنظيمه وتأهيله لا يزال يشكل موضوع التاريخ الأساسي للسياسة والمغزى الحقيقي لتاريخ جماعات هدفها الرئيسي الدخول في التاريخ. وربما كانت آليات الاستعباد والخوف من التهميش والعزلة أكثر أشكال هذا العنف قسوة وأخطرها على الإطلاق وأشدها ضغطاً على معنويات الأفراد والجماعات. فهل هناك مخرج من هذا المأزق.”[38]

ويقول غليون: “ليس ما نعيشه اليوم إلا تاريخ انحطاط هذه الدولة وفشلها الشامل. لكن لا يمثل هذا الانحطاط الطويل الذي بدأ منذ الساداتية تجاوزاً بالمعنى التاريخي أي انتقال نحو نمط جديد للدولة” فهو لا يدري في أي اتجاه سوف يتم تجاوز الدولة التحديثية؟ وهي يمكن تجديد فكرتها أم أن إحياء الدولة الصنم يحتاج اليوم إلى روح جديدة، تتقمصها، وما هي هذه الروح المفقودة؟ ويصل غليون إلى استنتاج يؤكد اتجاه تجديد استبداد من نوع آخر. فقد تمت عملية ثنائية هي إخفاق الدولة التحديثية وفي نفس الوقت إجهاض التغير الاجتماعي وبالتالي فهو لا يرى غير: الفاشية الجديدة، وأعتقد أنها تقارب الأمنوقراطية، “ولا تعني الفاشية الجديدة، فاشية الثلاثينيات من هذا القرن، ولكن نظاماً جديداً قائماً على وضع الدولة كلياً في خدمة المصالح الضيقة القائمة وعزل الأغلبية الشعبية عن أي مجال من مجالات المشاركة الجماعية السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية.”[39] والآلية التي يعمل النظام على تطويرها هي بالضبط الآلية الأساسية للأمنوقراطية وهي آلية الاحتواء “أي فصل النخب المتعددة المشارب عن أصولها المختلفة وصهرها في بوتقة واحدة.” ويحتاج هذا إلى عقيدة جديدة وتوازن جديد في المصالح “وهو ما سوف تقدمه لها بعد إعادة تركيبها وترجمتها ترجمة (واقعية) عقيدة الديمقراطية الدعائية أو ديمقراطية الواجهة (….) إن الفاشية الجديدة ليست في الواقع إلا استراتيجية انتزاع ما يعادل جزيرة صغيرة للنظام والأمن والازدهار من بحر الفوضى السائد والدائم.”[40]

لا يوجد انتقال أو تحول حقيقي في نظم الاستبداد الجديد بعد فشلها، وما التغيير الذي حدث في عهد السادات مثلاً وفي الدول الأخرى، هو مجرد نقل من نموذج فرعي  للتسلطية إلى نموذج فرعي أو تأرجح- كما يقول النقيب- “بين النماذج الفرعية التسلطية، بينما تحاول أجهزتها الدعائية إعطاء الانطباع وكأن انتقالاً حقيقياً للديمقراطية قد حصل.”[41] ويرى أن القصد من التأرجح ليس محاولة الخروج من الأزمة البنائية التي أوجدتها سياسات الدولة التسلطية بقدر ما هو سياسات ترضية تهدف أساساً إلى ترضية السكان المطالبين بمزيد من الديمقراطية- البرلمانية ذات الضمانات الدستورية. وبالفعل قدمت أنماط حكم شبه ديمقراطية بينما ظل احتكار النخبة التي أنتجها النظام العسكري لمصادر القوة والثروة في المجتمع. وقد سمح بتكوين أحزاب بشروط مقيدة كذلك البرلمان سلطاته في محاسبة ومراقبة الحكومة محدودة. ويسميها النقيب بحد السيف.[42]

من المؤكد أن الأمنوقراطية لن تغامر بتجريب الديمقراطية ولكن سوف تجيد أدوات الضبط بحيث يبدو ظاهر الأشياء وكأنه يتجه نحو الحرية والديمقراطية والانفتاح. لذلك سوف تلجأ إلى آليات عديدة منها الاحتواء- الذي سبق ذكره- كما أن الدعاية ستلعب دوراً جيداً في عملية التحييد أو اللامبالاة والنتيجة واحدة هي ضمان غيابها أو تدجينها لو وجدت. وتعبر حنا ارندت جيداً عن حالة الجماهير في وضعية كهذه: “وحدهما الرعاع والنخبة من يمكن أن تجتذبهما انطلاقة التوتاليتارية نفسها، أما الجماهير فينبغي أن تحمل إلى تأييد التوتاليتارية من خلال الدعاية.”[43] وقد تلجأ الأمنوقراطية إلى تذرير (atomization) أو فردنة الجماهير أي حرمانها من العمل الجماعي والاكتفاء بشغلها بقضايا شخصية وذاتية. وفي نفس الوقت تتحدث السلطة عن: المسيرة المليونية.

تلجأ الأمنوقراطية إلى خصخصة الأمن والقمع أي عدم مركزيته في يد الدولة إذ تقوم مؤسسات غير حكومية بدور قمعي وتعسفي واضح. وأقصد هنا المؤسسات الدينية التي يسمح بها بمراقبة وضبط الأمور ذات الصلة بالدين مع توسيع هذه الأمور لكي تشمل كل شيء بالذات الآداب والفنون وحرية التعبير. ولذلك يتم تنشيط أو إنشاء هيئات تساعد في منع الحريات. فقد عادت فكرة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعرفت الفترة الأخيرة منع كثير من الكتب والأفلام والمهرجانات كما أن التكفير والاتهام بالردة مسائل لم تتوقف. وستقوم الأمنوقراطية بتفويض مثل هذه السلطات إلى المجتمع- كما تقول- ولكنه غالباً هو جزء من المجتمع وقد يمثل كل الحزب. وهذه حيلة المنظمات الشعبية التي ترعاها الدولة لتعويم المجتمع المدني، فالدولة تنافس المجتمع المدني من خلال تكوين منظمات تابعة سراً لها. بالإضافة إلى عمليات الاختراق التي تشمل كل مناحي الحياة والمجتمع.

في الأمنوقراطية تتجاوز الدولة الاحتكار إلى مرحلة التنافس غير المتكافئ فهو توظيف للاحتكار السابق فهي تدخل ميادين مثل الاقتصاد وكأنها ضمن حرية السوق بينما هي تمتلك الحماية والانحياز، لأنها تملك أسرار ومعلومات العملية الاقتصادية ولا تتعامل مع المجهول.

تتميز الأمنوقراطية بانتشار وساع لعناصرها في مجالات جديدة تماماً بالذات في الاقتصاد والإعلام والتعليم. فهناك شركات ومؤسسات مالية تتبع مباشرة لجهاز الأمن ولا تقف مهمة مثل هذا الفرع أو التخصص عند زيادة القوة المالية للأمنوقراطية بل يساعد في توجيه السياسة الاقتصادية بالذات عملية الخصخصة التي قد تواجه مشكلات وعقبات وتهرب وتحايل. أما الإعلام فهذا مجال قديم في استمالة وشراء الكتاب والصحافيين والإعلاميين فسيكون لجهاز الأمن صحفه ومجلاته ووكالات أنباء ومستقبلاً قنوات فضائية وإذاعات. هذا بالإضافة لمراكز البحوث والدراسات وسوف يهتم الجهاز بقياس الرأي لتكوين رأي عام مواليٍ. وكما هو معروف فهو أي الجهاز صاحب أكبر مخزون للمعلومات بطبيعة عمله وسيقوم بتطوير وتحديث وسائله في جمع المعلومات وتحليلها واستخدامها. أما مجال التعليم فهو من أهم الميادين، لذلك لن يتوقف نشاط الجهاز عند تجنيد الأساتذة والطلاب بل يتوقع إنشاء مدارس وجامعات ومعاهد خاصة ذات صلة مباشرة بالجهاز. ويعني كل هذا ضرورة وجود كوادر عالية التأهيل وجيدة التدريب، وهذا ما يحدث الآن فالعناصر الحالية ليست عسكرية، هناك أكاديميون وأساتذة جامعيون ومهندسون (مدير الجهاز نفسه) وأطباء وإعلاميون ومبدعون ويتوقع أن يكون للنساء موقعهن المميز داخل الجهاز. وسوف يستفيد من كل التطورات التي يشهدها تخصص الكمبيوتر والانترنت وكل وسائل الاتصالات.

ستكون الأمنوقراطية قائمة على فئة جيدة التنظيم وحديثة تملأ الفراغ السياسي الذي خلقته فترة غياب الديمقراطية مع الضعف الذاتي للأحزاب التي شاخ أغلبها وانتهى عمرها الافتراضي. ثم الانسحاب واللامبالاة السائدة بين الجماهير المنهكة. ويضاف إلى ذلك الإمكانيات الهائلة: إدارية وفنية ومالية. وسوف تستفيد من هوس وهاجس عالميين تجاه الأمن ساد العالم بعد 11 سبتمبر. وحتى الدول الراسخة في ديمقراطيتها سنت قوانين استثنائية وقامت بإجراءات ضد الحقوق الأساسية للإنسان. لذلك لا تجد الأمنوقراطية رفضاً عالمياً لأن البيئة لن تكون معادية تماماً. خاصة وأن أساليب عمل أجهزة الأمن سوف تختلف عن الممارسات العنيفة والدموية السابقة ويكفيها القمع الناعم والطريقة الفابية أي حصار واحتواء الخصم حتى يستسلم بدون معارك كما كان يفعل القائد الروماني فابيوس (203 ق. م.).

الأمنوقراطية وتعريب الإصلاح

تتصاعد الأمنوقراطية في مناخات المطالبة بالإصلاح وستكون هذه هي مرحلتها الحقيقية إذ لديها القدرة على الدخول في عملية الإصلاح باعتبارها نخبة بديلة تخلف مرحلة الاستبداد العسكري والملكي. فعملية الإصلاح ليست تغييراً جذرياً أو ثورياً بل هي مرحلة انتقالية ستحتوي على كثير من عناصر المرحلة السابقة الذين يمكن أن يخدموا رهانات جديدة. ويمكن القول بأن عناصر الأمنوقراطية سيكونون القوى الاجتماعية الرئيسية للفترة الراهنة.

قصدت بتعريب الإصلاح هو تكييفه مع الظروف العربية وإخضاعه لطريقة التفكير العربي في فهم الأشياء وإدارة الأمور. وهذا يعني محاولة تفريغ الإصلاح من مضمونه الحقيقي والتسويف في إنفاذ وإنجاز الإصلاح، والتقصير في إكمال العملية الإصلاحية. وهناك طرائق عديدة للتعريب تبدأ في توهان المفهوم نفسه أي الدخول به في مسارب وأزقة اللغة والاصطلاح وأنواع الإصلاح. ثم من أين تكون البداية: الإصلاح السياسي أم الديني أم القانوني أم الإداري أم التعليمي؟ وهل الإصلاح الشامل ممكن الآن ومرة واحدة؟ ثم بعد الأولويات يدور النقاش حول من الذي يقوم بالإصلاح؟

تعريب الإصلاح يعني عدم مواجهة القضايا المحورية فهناك محرمات تقف عائقاً أمام أي مراجعة صادقة وعلمية للذات وللواقع. وبالفعل بدأت معارك جانبية عديدة. هناك صعوبة في كسر الحلقة المفرغة هي يقوم بصراع التخلف والاستبداد من يقع في قلبه ويمثل جزءاً مستداماً من الواقع، وفي نفس الوقت يشكل غياب البديل معضلة.

من المتوقع أن تقود الأمنوقراطية مرحلة الإصلاح المعرب الذي لن يصل بالإصلاح إلى مداه ولكنها سوف تشكل انفراجاً مؤقتاً للاحتقان السياسي والاجتماعي وسوف يتم تأجيل الأزمة تحت أقنعة مختلفة وتستمر المناورة واللهو مع التاريخ.

[1] البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة 1798- 1939. بيروت، دار النهار، الطبعة الرابعة، 1986، ص 15- 16.

[2] إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية. القاهرة، مكتبة مدبولي. الطبعة الثالثة، 1997، ص 247.

[3] ابن كثير: البداية والنهاية، ج 9 ص 75.

[4] تاريخ الخلفاء للإمام جلال الدين السيوطي. بيروت، دار القلم، 1986، 243.

[5] المقدمة ابن خلدون. تونس، الدار التونسية 1984، ص 227.

[6] منير شفيق: الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات. تونس، دار البراق، 1989، ص 21.

[7] البرت حوراني، مصدر سابق، ص 28.

[8] عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دمشق، دار المدى 2002، ص 15.

[9] جان دايه: الإمام الكواكبي- فصل الدين عن الدولة. لندن، دار سوراقيا، 1988، ص 53.

[10] نفس المصدر السابق، ص 63.

[11] المصدر السابق، ص 64.

[12] المصدر السابق، ص 65.

[13] نفس المصدر السابق، ص 20.

[14] ماهر الشريف: مشروع الإصلاح المجتمعي لدى عبد الرحمن الكواكبي، في مجلة الطريق، العدد الخامس السنة 61 سبتمبر- أكتوبر 2002، ص 72.

[15] محمد جمال طحان: نشأة الاستبداد. نفس العدد السابق من مجلة الطريق، ص 87- 89.

[16] رفاعة رافع الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز.

[17] أحمد السماوي: الاستبداد والحرية في فكر النهضة. بيروت، دار الحوار 1989، ص 42. عن أديب إسحاق: الكتابات السياسية والاجتماعية.

[18] المصدر السابق ص 43 عن قاموس لاروس القرن العشرين ج 4.

[19] مجيد خدوري: الاتجاهات السياسية في العالم العربي. بيروت، الدار المتحدة للنشر، 1972، ص 46- 47.

[20] نفس المصدر السابق، ص 51.

[21] نفس المصدر السابق، ص 52.

[22] المصدر السابق، ص 66.

[23] اليعازر بعيري: ضباط الجيش في السياسة والمجتمع العربي. ترجمة بدر الرفاعي. القاهرة، دار سينا، 1990، ص 7.

[24] نفس المصدر السابق.

[25] الأهرام 24 ديسمبر 1962.

[26] اليعازر بعيري، مصدر سابق، ص 8.

[27] نفس المصدر السابق، ص 9.

[28] إمام عبد الفتاح إمام، مصدر سابق، ص 339.

[29] اليعازر بعيري، مصدر سابق، 457.

[30] أحمد أنور: الانفتاح وتغير القيم في مصر. القاهرة، مصر العربية للنشر والتوزيع (ب. ت) ص 335.

[31] نفس المصدر السابق، ص 336.

[32] نفس المصدر السابق، ص 337.

[33] روجيه غارودي: الأصوليات المعاصرة. باريس، دار الفين، 1992، ص 109.

[34] خلدون حسن النقيب: الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر. بيروت، مركز دراست الوحدة العربية، 1991، ص 244.

[35] Samuel Huntington:- The Soldier and the State. Cambridge, Mars., 1957, pp. 7- 8, 9- 17.

وأورده بعيري، ص 295.

[36] عبد الوهاب الأفندي:- الثورة والإصلاح السياسي في السودان. لندن، منتدى ابن رشد، 1995.

[37] برهان غليون: المحنة العربية:- الدولة ضد الأمة. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص 301.

[38] نفس المصدر السابق.

[39] المصدر السابق، ص 305.

[40] المصدر السابق، ص 305- 306.

[41] خلدون حسن النقيب، مصدر سابق، ص 342.

[42] المصدر السابق، ص 343.

[43] حنا أرندت: أسس التوتاليتارية. ترجمة أنطوان أبو زيد. بيروت، دار الساقي، 1993.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial