كلمة التكريم: أولريكه شتيلي- فيربك

Deutsch

PDF

كلمة تكريم بمناسبة منح جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر للسيد صنع الله إبراهيم – برلين في 26 نوفمبر 2004

بقلم الدكتورة أولريكه شتيلي- فيربك (مونستر)

(Dr. Ulrike Stehli-Werbeck, Münster) 

السيد صنع الله إبراهيم المحترم

السيدات والسادة المحترمون

اليوم تُمنح “جائزة ابن رشد للفكر الحر” للمرة السادسة في برلين: وهي تمنح هذا العام لصنع الله إبراهيم؛ أي لواحد من أهمّ الكتاب العرب، لكاتب دعا طوال حياته، سواء في أعماله الأدبية أم عبر سلوكه، بجرأة وبلا تنازلات، إلى صدق لا هوادة فيه، وإلى حرية الرأي والديمقراطية في العالم العربي. لقد اختير من قبل هيئة تحكيم مستقلة مؤلفة من خمسة مثقفين وعلماء أدب معروفين ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة، ليكون حامل الجائزة لعام 2004. وإنه لشرف لي ومدعاة لسرور خاصّ أن يُسمح لي بأن أهنئك، يا أستاذ صنع الله إبراهيم، وأن أعبّر عن تقديري لك.

ومع أن الكلمة التكريمية يجب أن تتمحور حول  الفائز بالجائزة، فإنها دائماً تتأثر إلى هذا الحدّ أو ذاك برؤية مقدّم تلك الكلمة. لذا اسمحوا لي في البداية ببعض الجمل المتعلقة بي شخصياً: لحسن الحظ كنت قد تعرّفت عليك، يا أستاذ صنع الله إبراهيم، في أواخر الثمانينيات هنا في برلين ضمن نشاطات أدبية، انطلاقاً من الاهتمام بأعمالك الأدبية. وفي إطار بحثي العلمي الأدبي زرتك بعدئذ عدّة مرات في (مصر الجديدة) بالقاهرة، وأجريت معك مقابلات، حيث أجبت عن أسئلتي بصبر واهتمام، كما اصطحبتني إلى حلقة بحث وعرفتني إلى أصدقاء لك من أساتذة جامعة القاهرة. إني أشكرك على كلّ تلك اللقاءات.

وبذا يتضح، لماذا أركّز اهتمامي على الأعمال الأدبية للمؤلف، وهي أعمال وثيقة التشابك مع سيرته من جهة، ومع تاريخ مصر السياسي  من جهة أخرى. ففي عام 1981 عبّر صنع الله إبراهيم بنفسه عن هدفه الجمالي الأدبي قائلاً إنه يسعى  إلى “الوحدة بين الرواية والواقع والمؤلف”. إلا أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه القارئ هو أن يساوي من دون تمحيص بين الشخصيات والتفاصيل الموصوفة في الروايات وبين المؤلّف وظروف حياته، ولكن نادراً ما توجد توازيات كثيرة بين الشخصيات الأدبية وبين سيرة المؤلف، ونادراً ما يتكّون لدى القارئ بهذه الشدّة الانطباع بأنه يطلع على أمور أصلية حول المؤلف وعصره، مثلما يحدث في روايات صنع الله إبراهيم. إنها تطرح مشكلات مراحل وظواهر حاسمة في تطور المجتمع المصري منذ الستينيات إلى اليوم. لذلك دعونا نلقي معاً نظرة على محطات منفردة في حياة المؤلف وبلاده.

تمثل سيرة صنع الله إبراهيم بصورة نموذجية إلى حدّ ما، حياة عدد كبير من المثقفين العرب الذين ينتمون إلى ما يُدعى “جيل الستينيات”، كما كان يسمى آنذاك الكتاب الصاعدون – جيل ما بعد نجيب محفوظ – . فقد بدؤوا في أعوام الستينيات يكتبون وينشرون، وقد سيّسوا جميعاً بشدّة من خلال تنشئتهم في شبابهم. ولد صنع الله إبراهيم في القاهرة سنة 1937، أي في زمن كانت فيه مصر مستقلة من الناحية النظرية، ولكن القوات البريطانية ظلت تحتل منطقة قناة السويس طوال عشرين سنة أخرى. لقد عايش كشابّ –وككثير من أبناء جيله- مرحلة النهضة التي أعقبت الاستعمار وآمال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي عُلقت على الاستقلال، وعايش عام 1952 إسقاط النظام الملكي عبر انقلاب الضباط الأحرار، المعروف في مصر بـ (ثورة يوليو)، وعايش سنة 1954 استيلاء جمال عبد الناصر على الحكم، مما فتح الباب لتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة. في تلك السنوات بدأ صنع الله إبراهيم دراسة الحقوق، ولكنه ما لبث أن انصرف إلى الصحافة والسياسة. لقد كانت تلك السنوات سنوات القومية العربية وسياسة “الاشتراكية العربية”، ولكن الحكومة كانت لا تسمح بتوجيه أي نقد إليها. وبسبب عضويته في حزب شيوعي منشقّ سُجن صنع الله إبراهيم عدّة مرات لفترة قصيرة، إلى أن سُجن خمس سنوات ونصف السنة، من 1959 إلى 1964، وذلك في سياق حملة شنّها جمال عبد الناصر ضدّ اليسار. وإلى فترة الاعتقال هذه ترجع الصداقة التي نشأت بين صنع الله إبراهيم وبين الكتاب كمال القلش ورؤوف مسعد وعبد الحكيم قاسم، وكذلك مع الصديق شهدي عطية الشافعي الذي مات تحت التعذيب.

وبعد تسريحه من السجن اشتغل صنع الله إبراهيم في البداية صحفياً لدى وكالة الأنباء المصرية (مينا) عام 1967، وفي برلين الشرقية لدى وكالة الأنباء الألمانية (أ.د.ن) التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً من 1968 إلى 1971. وتلت ذلك إقامة في موسكو لمدّة ثلاث سنوات، اشتغل خلالها على فنّ الفيلم، وذلك ضمن دراسة علم التصوير السينمائي، ليحزم أمره بوضوح لصالح الكلمة المكتوبة. وبعد عودته عام 1974 إلى القاهرة في عهد السادات، عمل صنع الله إبراهيم لدى دار نشر، قبل أن يتخذ في عام 1975 قراره بأن ينذر نفسه للكتابة بصفته كاتباً حرّاً.

نشر صنع الله إبراهيم حتى اليوم ثماني روايات هامّة، وقصصاً قصيرة، والعديد من الروايات البيئية الموجهة إلى الشبيبة كشكل من أشكال توصيل المعرفة، وعدّة رسومات قصصية ملتزمة. وفي مقالته الذكية المنشورة ضمن الكتاب المصوّر “القاهرة من الحافة إلى الحافة” (1999) برهن صنع الله إبراهيم بطريقة أخرى على قدراته كمحلل مستفزّ وثاقب النظر للأوضاع السياسية والاجتماعية، مثلاً عندما أثبت أن الرجل العربي هو في الحقيقة من يرتدي الحجاب، وأنه غير قادر على أن يتكيف مع خسارة موقعه المهيمن، ومع التحول الاجتماعي السريع. إن هذا الكتاب، الذي يربط فيه صنع الله إبراهيم طوبوغرافيته الشخصية بالجوانب العامة لتاريخ المدينة، هو إعلان حبّ مرير لمدينته القاهرة.

ومع أنّ الأعوام التي قضاها في السجن، وهو في الثانية والعشرين إلى السابعة والعشرين من العمر، ومارافقها من تعذيب وأشغال شاقة، قد شكّلت تجربة تراوماتية بالنسبة إليه، فإن صنع الله إبراهيم نجح في أن ينظر إلى ذلك الزمن نظرة إيجابية، وقد وصفه ذات مرّة بـ “جامعته”: “من نزلاء السجن الآخرين، كالكاتب المصري المعروف محمود أمين العالم، ورفقاء آخرين، تعلمت المعنى الحقيقي للعدالة والتقدّم وحبّ بلادي”. وفي المعتقل اتخذ صنع الله إبراهيم قراراً بأن يصبح كاتباً. إن روايته الأولى “تلك الرائحة” الصادرة عام 1966، والتي تعالج تجربة الاعتقال والأيام الأولى التي أعقبته، قد وضعت معايير لمجمل أعمال صنع الله إبراهيم اللاحقة. لذا نودّ أن نتوقف قليلاً عندها:

في هذه الرواية يسرَّح كاتب لا يُذكر اسمه من السجن في القاهرة، بعد أن اعتُقل عدّة سنوات بسبب التزامه اليساري على ما يبدو. ونظراً  لعدم وجود مكان إقامة قابل للمراقبة، يضطر هذا السجين لأن يقضي في الزنزانة ليلة أخرى، وفيما بعد يخضع للتفتيش كلّ مساء من قبل شرطي، وللاعتقال المنزلي ليلاً. وفي اليوم التالي تأخذه أخته إلى غرفة استأجرتها له في (مصر الجديدة)، وفي الوقت اللاحق يقوم الكاتب نهاراً بزيارة واستقبال أصدقاء وصديقات سابقين، وأقارب، ورفاقاً سياسيين، وزملاء عمل، ويحاول أن يكتب، ويدخن، ويسرح مع أفكاره. إلا أن كل محاولات الانطلاق من علاقاته السابقة في الحب والصداقة، أو في العمل، تفشل بسبب حالة الاغتراب والعزلة التي يعيشها، ولكن أيضاً بسبب موقفه الانتقادي الرافض من المجتمع. فبعد أن كافح من أجل مُثله السياسية العليا، وتعرّض للاعتقال والتعذيب وموت أحد الأصدقاء، يواجَه الآن بالقمع والفساد والكذب واللامبالاة والتقاليد المعيقة. إنه يلاحظ التناقض بين دعاية الاشتراكية العربية الناصرية من جهة وبين الفساد والعقلية الاستهلاكية من جهة أخرى. فعنوان الرواية “تلك الرائحة”، والأفضل “هذه الرائحة الكريهة”، يتعلق بمياه المجاري التي تتدفق من المجاري المهترئة، تماماً كما يتعلق بالتفسخ الأخلاقي للمجتمع. وهذا ما يحاول بطل الرواية أن يتصدى له، من خلال سعيه إلى الطهارة الجسدية والأخلاقية، وعبر إيمانه بقيم محددة. إلا أنه يعاني من فقدان اللغة ومن أزمة إبداع يتراسلان مع عجز المجتمع عن التواصل الحقيقي ومع ضياع المعنى في الواقع.

وللتعبير عن أزمة الهوية والاغتراب لدى الشخصية الرئيسية تستخدم الرواية مستويين مختلفين من القصّ: فعلى مستوى الواقع الخارجي يخبرنا الراوي –الأنا، وهو بطل الرواية، طوال عشرة أيام، عن أفعاله وأقواله وملاحظاته اليومية التافهة، بصورة تبدو محايدة وخالية من العاطفة، وغالباً بلا تعليق أو تقييم. إلا أنه تولَج في هذا المستوى السردي ذكريات عن الاعتقال والماضي والطفولة، وتأملات في الحب والزواج وأسباب الألم… وما إلى ذلك. إنّ هذا المستوى الثاني يقدّم جانباً من وعي البطل، ألا وهي آماله ومثله العليا، التي لم يزل يتماهى معها، ولكنه لا يستطيع أو لا يريد أن يصرّح بها.

وفي هذه الرواية يتم التطرّق إلى كلّ المحرّمات الجنسية والسياسية بصورة جذرية مستفزة. فكما يراقب البطل في مشهد اليوم الأول في السجن الاستغلال والعنف والمثليّة الجنسية، فإنه يتمّ فيما بعد التطرق إلى البغاء والعّنة، والعادة السرية، والحب السحاقّي. وللمرّة الأولى يصبح سلب الحريّة والتعذيب موضوعاً أدبياً (وهذا ما عاد صنع الله إبراهيم إليه في أعمال أخرى ولا سيما في روايته “شرف” الصادرة سنة 1997). إنه يريد أن يعبّر عن الحقيقة كلها، بكل أطيافها، بدلاً من التمجيد الدعائي للواقع. يقول المؤلّف بهذا الخصوص: “ألا يتطلب الأمر قليلاً من القبح للتعبيرعن القبح المتمثل في سلوك فزيولوجي من قبيل ضرب شخص أعزل حتى الموت ووضع منفاخ في شرجه، وسلك كهربائي في فتحته التناسلية؟ وكل ذلك لأنه عبّرعن رأي مخالف أو دافع عن حريته أو هويته الوطنية؟ ولماذا يتعين علينا عندما نكتب ألا نتحدث إلا عن جمال الزهور وروعة عبقها ، بينما الخراء  يملأ الشوارع ومياه الصرف الملوثة تغطي الأرض، والجميع يشمّون الرائحة النتنة ويتشكون منها؟” وبذلك استبقت هذه الرواية الصادرة سنة 1966 مرحلة التحليل والنقد الذاتي الجذريين، اللذين سيكون على العالم العربي أن يشهدهما على أوسع نطاق، نتيجة الصدمة التي أحدثتها الهزيمة العسكرية والسياسية في حرب حزيران 1967 مع إسرائيل.

وانسجاماً مع السعي إلى الأصليّة والحقيقة فإن اللغة أيضاً تتجرد في هذه الرواية من كلّ المكوّنات التي تزيّن الواقع وتزوّره، فتتمّ عملية تنظيف من خلال تقشف جذري واقتضاب ودقة مطلقة في الأسلوب. ويتجلّى ذلك على مستوى القصّ المتعلق بالواقع الخارجي في جمل قصيرة جداً، كثيراً ما لا تحوي سوى أفعال وأسماء مصدر، ولكنها تستغني بصورة شبه كاملة عن الصفات والمجازات والأشكال البلاغية. وبذلك ينشأ أسلوب مقطّع رتيب يعبّر عن علاقة الاغتراب القائمة بين البطل والمجتمع. وبالمقابل فإن طريقة التعبير على مستوى المخيّلة، الذي يطلعنا على تفكير الشخصية الرئيسية وشعورها، شديدة التنوع من حيث بنية الجملة، وتستخدم فيها كل الأشكال البلاغية الممكنة.

عندما صدرت رواية “تلك الرائحة” كانت الجدالات حول التزام الأديب قد تجاوزت ذروتها. فقد كان مذهب الواقعية الأدبية، ولاسيما “الواقعية الاشتراكية” العربية، التي رُوّج لها عموماً،مذهباً أدبياً واسع الانتشار، ولكنّ الأدباء الشباب من جيل الستينيات شعروا بأن في إيمانه بالتقدم وفي أسلوبه نفاقاً وجموداً. وبما أنّ رواية “تلك الرائحة” قد قطعت علاقتها بالتقاليد الأدبية السائدة، وأدخلت استراتيجيات قصّ تجديدية تضع القارئ في مواجهة نظرة جديدة صادقة إلى الواقع، وأمام تصور جمالي جديد، فقد عُدّت تلك الرواية طليعية. وهكذا اكتسبت هذه الرواية الصغيرة الشديدة الاستفزاز أهمية مركزية في تاريخ الأدب العربي: لقد غدت نصاً معيارياً لتحوّل النسق من الواقعية الأدبية إلى “حداثة أدبيّة” عربية.

ومن ناحية تاريخ النشر أيضاً شكلت هذه الرواية قضية سياسية: فقد كان لا بدّ من أن تنقضي عشرون سنة قبل أن يُسمح سنة 1986 بنشرها بالعربية دون اختصار أو حذف. ففي عام 1966 اتُّخذ تصوير الأمور الجنسية ذريعة لمنع كتاب لمؤلّف ما زال غير معروف، بغية الحيلولة دون حدوث نقاش حول الاعتقال والتعذيب، كما يرى صنع الله إبراهيم. وفي عامي 1969 و 1971 صدرت في القاهرة وبيروت صيغتان ملطّفتان بشدّة، ولكن الكتاب في شكله الحقيقي كان يُتداول سرّاً كنسخة مصوّرة، وقد نُشرت مراجعات له، حتى أنه أصبح في أوائل السبعينيات جزءاً من منهاج امتحان الماجستير في الأدب العربي. ولم ينُشر الكتاب بنصّه الكامل إلاّ سنة 1971 مترجماً إلى الإنكليزية، وقد قامت الباحثة ماريا ستاغ بتوثيق هذه القضية وغيرها من قضايا الرقابة وسلب الحرية في دراسة هامّة بعنوان: “حدود حرية التعبير”، الصادرة بالإنكليزية سنة 1993.

وفي روايات صنع الله إبراهيم الأخرى كثيراً ما تطالعنا شخصية المثقف الانتقادي، الذي يراقب الأوضاع والعلاقات الاجتماعية والسياسية وكذلك النفسية، ويتفكّر فيها، بمنأى انتقادي واندهاش واستغراب، وتنعكس عليه تلك الأوضاع والعلاقات بصورة سلبية؛ إنّ على القارئ أن يكون باستمرار مستعداً لتقبل تقنيات تأليف تجديدية متميّزة ومركبة إلى أقصى حد. فرواية “نجمة أغسطس” المنشورة سنة 1974، على سبيل المثال، بأقسامها الثلاثة المختلفة من حيث الصوغ، تحاكي بنية سدّ أسوان العالي، الذي كان المؤلف قد كتب حوله تحقيقاً صحفياً بعنوان “إنسان السدّ العالي”، بعد أن زاره سنة 1965 برفقة اثنين من أصدقاء زمن السجن، وقد نُشر ذلك الريبورتاج سنة 1967. وتتحدث هذه الرواية عن التناقض بين صورة بناء السد المرسومة في وسائل الإعلام وبين الواقع القمعي اللا إنساني في مكان البناء، وتبرز أوجه التطابق بين جمال عبد الناصر وبين الملك الفرعوني رمسيس الثاني، الذي بنى معبد “أبو سمبل”. فقد شيّد كلّ منهما لنفسه نصباً تذكارياً عبر أعمال بناء ضخمة. وعلاوة على ذلك تورد الرواية، في إضاءات إلى الخلف، ذكريات أكثر تفصيلاً تتصف بطابع السيرة الذاتية، عن إقامة في السجن، وعن صديق يذكر بالاسم، ألا وهو شهدي عطيّة الشافعي، كما تورد مقتطفات من كتاب حول ميكل انجيلو. وفي القسم الأوسط من الرواية، الذي يتراسل مع الجزء الأساسي من السدّ، يتمّ تكثيف كل مستويات المعنى، حيث تتشابك كل أنواع النصوص مع بعضها بعضاً دون تمييز.

ومن أشهر روايات صنع الله إبراهيم رواية “اللجنة” الصادرة سنة 1981، وهي هجاء ساخر لسياسة الانفتاح التي انتُهجت في عهد السادات
(1970-1981) ، وفتحت مصر اعتباراً من عام 1974 للبضائع والاستثمارات الغربية، وأدّت بسرعة إلى اغتناء طبقة صغيرة عليا، ولكن إلى إفقار أقسام كبيرة من الطبقة الوسطى والشرائح الدنيا. وفي هذه الرواية يقف مثقف يساري أمام محكمة عبثية كافكاوية، حيث يتعرّض لامتحان على ثلاثة مراحل، يوضّح من خلالها دور الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، كشركة كوكا-كولا، والآثار السلبية لسياسة السادات الاقتصادية، كالفساد والاستغلال، وتزايد النفوذ الأمريكي. ومن باب التهكم تجعل الرواية القاصّ يلتهم نفسه في النهاية بدلاً من أن يتمرّد. إلاّ أنّ هذه النهاية تدعو القارئ لأن يفضح تلك العلاقات وأن يقف ضدّها. وتصاعد استخدام التهكم والفكاهة السوداء في رواية “ذات” الناجحة جداً، التي صدرت عام 1992، وهي رواية تصوّر حياة امرأة من الطبقة الوسطى المصرية خلال حكم الرؤساء الثلاثة: عبد الناصر، والسادات، ومبارك، وما رافقها من تدهور للظروف المعيشية، وانحلال للأخلاق العامة، وصعود للتعصب الديني. وفي هذه الرواية، كما في أعماله الروائية الأخرى، لجأ صنع الله إبراهيم إلى التناصّ، وذلك بأن ركّب –أحياناً بكثافة شديدة- قصاصات من صحف ونصوص علمية، وحوّلها إلى كولاجات تكمّل القصة من ناحية، وتسخر منها من ناحية أخرى. وبذلك يواجَه القارئ بالأوضاع العبثية، وبالتيارات والنقاشات الفكرية المعاصرة، ويدعى على مستوى رفيع من التأمل إلى محاورتها واتخاذ موقف منها.

وكثيراً ما اتهم الكاتب صنع الله إبراهيم المسؤولين السياسيين العرب بأنهم يقبلون السياسة الأمريكية وينفذونها في بلدانهم، دون أن يراعوا مصالح شعوبهم بصورة كافية. فهو في أحدث رواياته “أمريكانلي”، الصادرة سنة 2003، والتي يشكل عنوانها صياغة جديدة تعني “أمريكي”، يعالج جوانب من التاريخين الأمريكي والمصري، انطلاقاً من النظرة الانتقادية لأستاذ مصري للتاريخ المقارن يعمل في معهد أمريكي. (كان صنع الله نفسه سنة 1998 أستاذاً زائراً للأدب العربي الحديث في قسم الشرق الأوسط بجامعة بيركلي في كاليفورنيا). ونظراً لأنّ “أمريكانلي” قد صيغت على نمط الكلمة التركية-العثمانية “عثمانلي”، أي عثماني، فإن الرواية تتوصل إلى أن هناك تطابقاً بين السيطرة العثمانية السابقة وبين التأثير الأمريكي المعاصر في الاقتصاد والسياسة المصريين، علماً بأنّ عنوان الرواية يمكن أن يقرأ أيضاً: “أمري كان لي”، أي كنت ذات يوم سيّد نفسي.

وبصفته مؤرخاً لزمانه صوّر صنع الله إبراهيم أيضاً الحرب الأهلية اللبنانية في روايته “بيروت بيروت” الصادرة سنة 1984، كما عالج في روايته “وردة” الصادرة عام 2000 الثورة المخمدة التي نشبت في سلطنة عُمان في بداية السبعينيات.

سعى صنع الله إبراهيم دائماً لتحقيق وحدة القول والفعل. فقد استغنى عن أيّ وظيفة في مؤسسات الدولة، وذلك من أجل أن يحافظ على استقلاله ككاتب حرّ. وعوضاً عن ذلك حصل على دخله الأساسي من كتابة سيناريوهات سينمائية وتلفزيونية، وروايات بيئية للشبيبة، ومن الترجمات: فقد ترجم مثلاً رواية “العدو” لجيمس دروت، ورواية “حمار بوريدان” لغونتر دي بروين إلى العربية، بالإضافة إلى مجموعة من النصوص النثرية لمؤلفين غربيين مختلفين، صدرت بعنوان “التجربة الأنثوية”.

كذلك لم يسمح صنع الله إبراهيم للجهاز الثقافي الحكومي بأن يستوعبه. ومع أنه قد حصل على العديد من الجوائز التقديرية –كجائزة غالب هلسا التي منحته إياها رابطة الكتاب الأردنيين سنة 1992، وجائزة سلطان العويس المعتبرة التي تمنحها دولة الإمارات العربية- فقد سمح لنفسه بأن يرفض دعوات وجوائز، إذا وجد فيها أدنى شبهة بأنها توظَّف لغرض سياسيّ، مثلما فعل سنة 1998، عندما رفض “جائزة نجيب محفوظ” التي تمنحها الجامعة الأمريكية في القاهرة، أو في عام 2003، عندما رفض الجائزة التقديرية ذات القيمة المالية العالية، التي تمنحها وزارة الثقافة المصرية لأفضل رواية عربية. فالحكومة المصرية، حسب قوله، تفتقر إلى المصداقية التي تخوّلها منح جائزة كهذه، وذلك نظراً لأن تلك الحكومة تتغاضى عن مساعي السيطرة الأمريكية على المنطقة، وعن احتلال العراق، وعن الاحتلال الإسرائيلي وما يمارسه في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني من تدمير، وعن الفساد وتدني مستوى المعيشة في مصر.

وعلى الرغم من كلّ ما لحق به من أذى، وما ووجه به من عداء، ظلّ صنع الله إبراهيم طوال حياته وفياً لمثله الأعلى، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وبقي منوّراً ومنذراً لا يكلّ، وضمير الأمة الذي لا يهاب. إنّ هذا البحث الجسور عن الحقيقة والمعرفة، وميزة أنه لا يعرف الخوف من التعامل مع “الغريب” أو “الفكر الغريب” ومحاورته، هما ما يربط صنع الله إبراهيم بابن رشد. فجائزة ابن رشد تمنح اليوم لرجل وقف عبر كتابته وتصرّفه ضدّ كلّ أنواع الوصاية والكذب والتعسف والعنف وانتهاك حقوق الإنسان. إن اسم صنع الله إبراهيم يرمز إلى حرية الفكر وكرامة الإنسان.

ترجمة: أ. د. عبده عبود (جامعة دمشق)

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial