بقلم : حكم عبد الهادي*
كثيرة الاجتماعات واللقاءات التي يعقدها العرب وأصدقاؤهم الألمان في برلين، فمما لا شك فيه أن أوضاع العرب، خاصة بعد حرب العراق واستمرار شراسة الاحتلال في فلسطين، تحتاج إلى تكثيف الحوار العقلاني في صفوف الجالية العربية هنا للمساهمة في الخروج من هذا العصر الرديء، وإلى نقل صورة واقعية ونقدية للألمان عن مجريات الأمور في منطقتنا المنكوبة.
في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2003 كانت مناسبة من نوع خاص وذي بعد فكري عميق، فقد
حضرت مجموعة كبيرة من الدبلوماسيين والمثقفين العرب والألمان الاحتفال الذي دعت إليه ” مؤسسة ابن رشد
للفكر الحر” والذي عقد في معهد غوته بمناسبة منحها جائزتها السنوية في هذا العام للفيلسوف الجزائري محمد أركون.
الملفت عند بعض الأخوات والاخوة الغارقين في بحر العمل السياسي اليومي أنهم لا يجدون الوقت للخوض في التفكير الجدي الذي ربما نستطيع أن نضيفه إلى واجباتنا الأساسية التي يذكرها على سبيل المثال الدكتور حيدر عبد الشافي عندما يتحدث عن ضرورة تركيزنا على بناء بيتنا الداخلي، والمقصود وبحق، أننا لن نخرج من أزمتنا إذا لم نبن مؤسساتنا على نحو ديمقراطي. لا يوجد شئ أكثر داخلية من عقولنا ونهجنا في التفكير.
للقاء مع الأستاذ محمد أركون يندرج تحت باب التفكير في طريقة العرب والمسلمين في التفكير. للوهلة الأولى قد يتساءل بعض المستعجلين : ماذا يهمني ما قاله الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” قبل حوالي ألف عام، ولماذا أضيع وقتي في رد ابن رشد على الغزالي بكتابه “تهافت التهافت”؟
من كلمة التكريم التي ألقاها البروفيسور شتيفان فيلد, الرئيس السابق لكلية الاستشراق في جامعة بون والمعروف بتعاطفه مع قضايا التحرر السياسي والفكري، من كلمة التقدير هذه لأعمال أركون، زميله العربي الذي درّس حقبة طويلة في جامعة السوربون الباريسية والذي كان أستاذا ضيفا في جامعات إنجليزية وأمريكية واندونيسية الخ، من هذه الكلمة ومما قاله أركون في خطابه يتضح أن الغزالي فاز على خصمه ابن رشد, وأن العالم العربي والإسلامي يسير منذ قرون على نهج الغزالي وأن الغرب فى المقابل تبنى أفكار ابن رشد وطورها وتطور معها.
وهنا يطرح أركون الذي ولد في عام 1928 في الجزائر وقدم رسالة الدكتوراة في الفلسفة في السوربون سؤالا لا يخلو من المرارة: لماذا فشل ابن رشد عندنا وفشلنا لفراقه ونجح في أوروبا؟
في المقابلة التي أجرتها معه إذاعة Multikulti الصوت العربي في برلين يجيب أركون على هذا السؤال مشيرا إلى اختفاء مؤلفات ابن رشد من المكتبة العربية، فهي لا تدرس حتى للطلبة الذين وصلوا المستويات العليا في كليات الفلسفة, ويرى أركون أن ذلك يعود إلى تغيير كبير في أصول المعرفة وإهمالنا للموقف النقدي الذي يعتمد على معرفة تاريخية مدققة بالوسائل الفيلولوجية (علم الأدب واللغة)… الذي بدأنا نسمع به في الفكر العربي في عهد ما أسميناه بالنهضة، طه حسين تعلم هذا المنهاج الفيلولوجي في السوربون وطبقه على دراسة الشعر الجاهلي”.
ويتميز المنهاج هذا بأنه يؤرخ للفكر خارج ” السياج الدوغماتي ” المتحجر.
وفي هذا السياق يتناول أركون الفرق بين الغزالي وابن رشد مشيرا إلى أن الغزالي في كتابه ” فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” الذي ما زال يسيطر على أسلوب التفكير العربي، كان، والكلام هنا لأركون، “قادرا أن يقول كمفكر هذا مسلم حقيقي نعترف بإسلامه وهذا غير مسلم خرج عن دين الحق. وهذا نوع من ممارسة التفكير اللاهوتي. وردٌ عليه ابن رشد بعد ثمانين عاما بكتابه المشهور – فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال – هذا عنوان يدل على إطار تفكيري مختلف، لأنه يعلن للقارئ أن المؤلف سينظر إلى الجهتين وينظر بإلحاح وبموقف نقدي للجهتين: الحكمة (أي الفلسفة) والشريعة (والمقصود هنا اللاهوت)، وهنا يقارب ابن رشد المشكل مقاربة تساؤلية لا مقاربة حاسمة، فهو لا يقول هذا حق يجب أن تتقيد به وتتبعه وهذا باطل. الموقف الفلسفي لا يتبنى هذا النوع من فصل المقال”.
وباختصار نستطيع أن نقول أن ألغزالي يضع حدا للتفكير ويكفِّر في النهاية من يختلف معه في الرأي، وهذا ما نراه على سبيل المثال في الجزائر حيث يقتل “الإسلامويون” أبناء بلدهم بتهمة تكفير تفكيرهم. وما أسهل على البعض أن يختاروا لنا مقاطع من الكتب الدينية التي كتبت قبل مئات السنين ” ليرشدونا” إلى الاستراتيجية السليمة مثلا لمواجهة اسرائيل، وفي نهاية المطاف قد يتهمون هذا أو ذاك بالخروج عن تعاليم الدين الحنيف. إن هذا النهج في التفكير يعني نهاية التفكير ونهاية التطور الذي يقوم على النقد العلمي.
الأستاذ فيلد تعرض لنقطة هامة يلتقي عندها ابن رشد بأركون، فكلاهما لا يخشى ما يصفه اليوم بعض الكتاب العرب “بالفكر الوافد” وهو الفكر الذي حاول الغزالي إثبات فشله في كتابه “تهافت الفلاسفة” وكان يعني أرسطو وغيره من الفلاسفة الإغريقيين الذين كانوا يمثلون في عصرهم أرقى فكر في العالم. ابن رشد طبعا لم يتردد في الاستفادة منهم، فربما لم يكن أحد يعرف آنذاك أرسطو أفضل من ابن رشد. ويضيف الأستاذ المتخصص بالأدب العربي:
” لو سأل أحد ابن رشد إن كان يخشى أن يخسر هويته إذا قرأ أرسطو الكافر لما فهم السؤال”.
وفي هذا الصدد أشار الأستاذ فيلد، إلى اهتمام أركون بنظرية المعرفة العلمية Epistemologie وبالنقد، فهو “ينتقد مثلاً نهج الدراسات الإسلامية التقليدية لدى المستشرقين التي تعتمد على التفريق الجوهري الدائم بين الشرق والغرب, كما وأنه ينتقد الكثير من مشاريع المفكرين العرب المسلمين التي عفا عنها الدهر والذين يعتقدون أن إعادة الصيغ القديمة كافية للتوصل إلى المعرفة العلمية”.
ويرى أركون أن العرب تخلوا عن لغة العلم والفلسفة، فمثلا كان تعبير “الأدب” في القرن الرابع الهجري يرمز إلى الانفتاح الإنساني، وإن غيابه يدل على انغلاقنا ووقفنا للاتصال العلمي – خاصة في حقل الفلسفة، فالكارثة تكمن في عزل الفقه عن التفكير الفلسفي ووسائل البحث الحديثة، وعلى سبيل المثال يحرص الباحثون في شؤون الدين المسيحي واليهودي على عدم الوقوع في هذا الخطأ الفادح.
وفي الوقت نفسه يحذر أركون من الوقوف عند ما توصل إليه ابن رشد من معرفة، فعلينا أن نربط نفسنا بعجلة الحداثة، وباختصار يقول : علينا ربط القرون الوسطى بالفكر الحديث. كما يطالب بضرورة التركيز على التربية الفلسفية فهي ” تربية أساسية أهميتها كأهمية الرياضيات… الذهن البشري بحاجة ماسة إلى الترويض, كما نروض جسمنا لنبقى بصحة جيدة”.
قي أن أشير في نهاية هذا المقال إلى أن مؤسسة ابن رشد للفكر الحر http://www.ibn-rushd.org التي أسسها في عام 1998 الدكتور الفلسطيني نبيل بشناق بالتعاون مع مثقفين عرب من البلاد العربية والمهجر أصبحت من المؤسسات المرموقة في ألمانيا، فقد بدأت المؤسسات الألمانية المعنية بالثقافة السياسية والممولة من الدولة تصبو إلى تنظيم ندوات ثقافية وسياسية بالاشتراك معها، وذلك في وقت لا نستطيع أن نقول فيه أن العرب هنا يعتبرون في الوسائل الإعلامية من الجاليات المعروفة بحماسها للديمقراطية. ربما لا يهمنا كثيرا ما تكتبه وسائل الإعلام الأوروبية عن العرب، فالأهم ما نفكر به أنفسنا، وفي هذا الإطار تساهم مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، خاصة من خلال منحها لجوائزها السنوية لشخصيات تنشط في الميدان النهضوي من أمثال محمد أركون وقبله الدكتور عزمي بشارة ومحمود أمين العالم، في إحياء الفكر العربي الذي كان يمثله ابن رشد بعقليته المنفتحة على روح العصر والمنطلقة من الثقة بالنفس وعدم الخوف من الغير والانفتاح على ثقافات العالم لننهل منها دون أن نخسر هويتنا الثقافية العربية- الإسلامية.
*) حكم عبد الهادي كاتب وصحفي عربي مقيم في ألمانيا