بقلم حكم عبد الهادي
الجزء الأول:
الصبر زينة؟!
يشعر المواطن الفلسطيني المدجج بجواز سفر ألماني أنه من المرضين عليهم حين يغادر جسر الملك حسين قادما من عمان إلى فلسطين, فهو ليس بحاجة إلى الوقوف في طابور الفلسطينيين “العاديين”, الذين يدخلون من معبر خاص بهم, حيث يذوقون الأمرين من معاملة جنود الاحتلال والانتظار الطويل. وبالإضافة إلى ذلك تتجنب سيارة أجرة المغترب طريق أريحا وما يرافقها من حواجز وأحزان. وبعد حوالي النصف ساعة تتلاطم عواطفه حين يرى القدس وقبة المسجد الأقصى, الذي يصبو كل مسلم إلى الصلاة فيه.
بيد أن جواز السفر الألماني يفقد مفعوله السحري حين يريد “السائح” الفلسطيني-الألماني الذهاب إلى رام الله , فهو لا بد أن يعبر حاجز قلنديا, وعندها يعود إلى أصله, إذ يجد نفسه مع مئات الفلسطينيين, الذين يدقق الجنود الإسرائيليون بجوازات سفرهم وهوياتهم وتصاريحهم. المنتظرون يميلون للشراء أكثر من غيرهم, وهكذا يرى العابرون مجموعة كبيرة من الباعة الفقراء, الذين يعرضون خضارهم وأقمشتهم الرخيصة والسجائر والعلكة. وبكثير من السخرية يصف الناس سوق حاجز قلنديا بأنه duty free الفلسطيني.
مائة ألف فلسطيني في رام الله يعيشون خلف حاجزي قلنديا وسردا, كما يعيش بقية أهلهم خلف 300 حاجز –كما ذكرت صحيفة هآريتس الاسرائيلية. هل بالغ سفير بريطانيا في تل أبيب حين قال: “إن الضفة الغربية وقطاع غزة يشكلان أكبر سجن في العالم”؟
ويعتبر حاجز قلنديا الحاجز رقم واحد في الضفة الغربية, لأنه من أهم معابر الضفة الغربية إلى القدس, التي لا يستطيع المواطنون دخولها دون تصريح خاص. من منهم لا يعشق هذه المدينة, التي تجسد تراثه سواء كان مسلما أو مسيحيا؟ أذكر أن أحد شباب رام الله قال لي: “آه, المرة الأخيرة التي رأيت فيها القدس كانت من خلف قضبان سيارة عسكرية كانت تنقلني إلى السجن”.
والآن, هل سيسجن الشاب الذي رأيت بأم عيني جنديا إسرائيليا ينهال عليه ضربا أمام حاجز قلنديا؟ هل أراد هذا الشاب مغادرة بلده إلى القدس,بلده الثانية, دون تصريح؟ من يهتم بمثل هذه الأمور في هذا الجو, فكل عابر يسعى إلى “الستيرة” وإلى المرور بكرامته وبسرعة عير هذا الحاجز المقيت, وكل الحواجز مقيتة ومهينة.
بيد أن حاجز سردا كان بالنسبة لي أهم حاجز في فلسطين, فقد كان علي عبوره ذهابا من رام الله وإيابا من بيرزيت, حيث أحاضر في جامعتها لمدة ثلاثة أسابيع. وعلى الرغم من أن جامعة بيرزيت لا تبعد سوى سبعة كيلومترات عن رام الله إلا أن الطريق إليها يستغرق في هذه الأيام العصيبة ومنذ بداية الانتفاضة ساعة على الأقل. السيارة تنقلك إلى الحاجز الأول الذي تغادره ماشيا على الأقدام حوالي الكيلومتر لتخترق الحاجز الثاني وتستقل السيارة الثانية, التي تحملك مباشرة إلى الجامعة التي تبدو لك ببناياتها البيضاء الجميلة كالنور في ظلمات الاحتلال. وبين الحاجزين تقف دبابات الجيش وجنوده, الذين يطلبون من هذا الشاب أو ذاك أن يبرز هويته أو تصريحه إذا كان من شباب غزة. ويذكر أن أكثر من مائتي طالب وأستاذ جامعي قرروا تجنبا للانتظار ومضيعة الوقت الانتقال من غرفهم وبيوتهم في رام الله, التي يهواها الجميع, ليسكنوا في بلدة بيرزيت ويشاركوا أهلها ( حوالي العشرين ألفا ) البنية التحتية, مما أدى إلى تفاقم أزمة المجاري والمياه بالإضافة إلى السكن.
انطباعات من جامعة بيرزيت
في الساعة الرابعة ليلا اتصل رئيس الجامعة الدكتور حنا ناصر بنائبته الدكتورة كرميلا العمري – حيث كنت سعيدا بضيافة عائلتها وكرمها أثناء فترة التدريس- ليبلغها أن الجنود الإسرائيليين اقتحموا الجامعة وانتهكوا حرمتها وعاثوا فسادا في مكتب مجلس الطلبة. حدث ذلك ثلاث مرات خلال زيارتي القصيرة. وفي ذات يوم رأيت كيف وقفت سيارات الجيش أمام مدخلي الجامعة في وضح النهار. وخلال دقائق شاهدت شباب الجامعة وشاباتها يتجمعون في الباحة, وقد حمل أحدهم مكبر صوت ليقول: “علينا أن ندافع عن جامعتنا وأن نتصدى لهم”. كنت للوهلة الأولى أتخيل أنه يردد شعارات تعودنا أن نسمعها من أبواق الدعاية العربية, ولكنني عندما تأملت في وجوه هؤلاء الشباب رأيت عزما وعنفوانا. وخلال نصف ساعة غادر حوالي 300 طالب الباحة ليرشقوا الجنود بحجارة الانتفاضة. توترت أعصابي وأخذت أسأل نفسي: هل يستطيع هؤلاء الأشاوش التصدي بحجارتهم للجنود المدججين بالرشاشات, وهل سنشارك غدا في جنازة شهيد آخر لجامعة بيرزيت؟ تنفست الصعداء حين انسحب الجنود, ولكنهم عادوا ليلا واقتحموا مجددا الجامعة كما أغلقوا حاجز سردا لساعات, وبهذا سدوا الطريق بين رام الله وخمسين قرية.
لقد اتخذت جامعة بيرزيت كبقية الجامعات والمؤسسات التعليمية قرارا بعدم التوقف عن التدريس مهما كانت الظروف, فقد تعلمت المؤسسات المعنية من تجربة الانتفاضة الأولى, حيث كاد التعليم يتوقف, مما أدى إلى تراجع ثقافي وتربوي كبير في صفوف جيل من شبيبة البلاد.
إدارة الجامعة تعمل المستحيل لتنفيذ مهمتها, فقد استأجرت بيوتا في بيرزيت لنوم الأساتذه تحسبا لإغلاق حاجز سردا, فإذا حدث هذا –وما أكثر ذلك- استمر التعليم للطلبة الذين يسكنون في البلدة, أما الذين يعيشون في رام الله فيستطيعون مواصلة الدراسة في بنايات استأجرتها الجامعة هناك خصيصا لهذا الغرض.
كثير من طلاب الضفة الغربية, من نابلس وجنين الخ, لا يستطيعون الوصول إلى جامعتهم نظرا لكثرة الحواجز ومخاطر الطريق, في الوقت الذي يواجه فيه طلاب غزة كالعادة صعوبات أكبر, لأنهم بحاجة أيضا إلى تصاريح. بيد أن عددا غير قليل من المنطقتين قرر منذ زمن بعيد الانتقال إلى بيرزيت أو رام الله طيلة مدة الدراسة. في الأعياد مثلا لا يقوم شباب غزة بزيارة أهلهم, خوفا من عدم الحصول على تصريح للعودة. وكنت أشعر أحيانا أن سكان الضفة يضعون منزلة مميزة في قلوبهم للغزاويين, خاصة عندما يحين وقت الأعياد.
الطلاب لا يعانون وحدهم, فأساتذة الجامعة لم يتلقوا منذ أشهر سوى نصف رواتبهم غير المرتفعة أصلا, وذلك لأن السلطة لا تستطيع في ظل هذه الظروف أن تدعم الجامعة ماليا.
من يوميات الحياة في رام الله
في مقهى سانجريا التابع لأحد فنادق المدينة تجد في وقت متأخر من الليل عشرات الشابات والشباب يتسامرون ويدخنون النرجيلة. وأتساءل: أين أنا؟ في باريس أم برلين؟ ماذا عن منع التجول المفروض على المدينة,فهو يبدأ في الساعة السادسة مساء؟! وليد العمري مراسل الجزيرة يقول معقبا على ذلك: ” منذ الاجتياح الأول في نهاية شهر مارس/آذار 2002وعودة الاحتلال فرض منع التجول بشكل أو آخر على المدينة, ولكن يبدو أن الحياة أقوى من الاحتلال”.
صحيح أن منع التجول لا يخترق إلا من مجموعة صغيرة من الشباب الذين يعشقون الحياة وروح المغامرة ومن سائقي سيارات التكسي, ولكنه يخترق. قال لي أحد سائقي سيارات التكسي:
“يستطيعون أن يسجنوني أو يقتلوني, ولكنهم لن يستطيعوا أن يمنعوني أن أعمل كل ما أقدر عليه لأنتزع لقمة العيش لعائلتي”. وماذا يحدث إذا قبضت دورية إسرائيلية على سائق تكسي متلبسا “بالجريمة”؟ سيأخذون منه مفتاح السيارة, ويقولون له اذهب إلى بيتك. ولكني علمت أن كل سائق يحتفظ بسبعة مفاتيح لسيارته ومصدر رزقه.
لكن حياة الناس بصورة عامة للأسف ليست بهذه البساطة, ولو أن الزائر يتخيل بداية أن كل شئ متوفر في هذه المدينة, فأرفف الدكاكين مكدسة بالمواد الغذائية والحاجيات المستوردة في معظمها من إسرائيل. بيد أن عشرات الآلاف من المواطنين خسروا – كما تشير تقارير البنك الدولي – أماكن عملهم في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة, حيث انحسرت حركة الاستثمار بشكل مأساوي.
أبو الوليد مثلا, أحد سكان مخيم الأمعري, الذي يقع في أطراف رام الله, يجسد وعائلته التي تتكون من سبعة أفراد بؤس الشعب الفلسطيني في هذه الأيام. إنه يعيش منذ سنتين, بعد أن طرد من عمله في إسرائيل, على ما تيسر من أعمال نادرة ومساعدة الأقارب والجيران. يبدو, وكما يقول وليد العمري, إن العائلة الكبيرة – التي لا تسمى جزافا “الحامولة”, التي تعتبر في الأحوال العادية من معوقات التطور, لأن الواحد فيها قد يميل إلى الكسل ويعتمد على جهود اخوته أو أولاد عمه, أصبحت هذه العائلة في الظروف الراهنة من شروط الحيلولة دون التسول, لأنه إذا تمكن أحد أفرادها من الكسب داخل البلاد أو خارجها تقاسم دخله مع عائلته الكبيرة في الداخل.
أوضاع عجيبة: سلطة وطنية ولكن
في 29 أكتوبر/تشرين أول عقدت جلسة طارئة لمجلس النواب في المقاطعة, مقر الرئيس عرفات في رام الله. وكان قال لي الدكتور سامي مسلم, الذي حصل على الدكتوراة في العلوم السياسية في جامعة بون ويترأس منذ سنوات مكتب الرئيس في أريحا: “سنشاهد الجلسة, وستلاحظ الأجواء الديموقراطية, التي أصبحت نظامنا السائد”.
في البداية صعقت حين شاهدت عن قرب الدمار الذي حل بالمقاطعة, هذه القرية الصغيرة التي تبلغ مساحتها حوالي نصف كيلومتر مربع. الدمار ذكرني بما لحق بمخيم جنين وبصور الدمار في المدن الألمانية دريسدن وبرلين وكولن بعيد الحرب العالمية الثانية. لقد تساقطت البنايات ولم يبق حجر على حجر, باستثناء غرفة الرئيس وعمارة بالقرب منها اجتمع فيها مجلس النواب. رأيت مئات الأكياس من الرمل لحماية مكتب “أبو عمار”. وعلق رسام الكاريكاتير لصحيفة “القدس” المقدسية بسخرية مرّة على التضامن العربي حين كتب تحت كاريكاتيره:
” تضامن العرب مع ياسر عرفات وأرسلوا له ألف كيس رمل”.
لقد أراد عرفات الحصول على ثقة مجلس النواب لحكومته التي كان عرضها عليه قبل بضعة أسابيع, إلا أن أغلبية النواب, التي تتشكل من حركة فتح رفضت اقتراح الرئيس, لأنها طالبت بإقالة بعض وجوه الفساد. والآن اقترح عليهم حكومة جديدة لم تشمل سوى على أربعة وجوه جديدة.
وكانت السلطات الإسرائيلية رفضت أن يشارك بعض نواب قطاع غزة في الجلسة ولم توافق على منحهم تصاريح, فتضامن بقية الأعضاء معهم ومكثوا في غزة, ولكنهم شاركوا في النقاش والتصويت عن طريق القمر الصناعي. وهكذا رأيت على الشاشة وزيرا قديما-جديدا متهما ببيع أكياس طحين الى كيبوتسات إسرائيلية في وقت كان شعبه بأمس الحاجة لها. كما شاهدت الدكتور صائب عريقات يوجه كلامه إلى الصحافة الأجنبية قائلا: “رأيتم بأنفسكم ديموقراطيتنا, ونحن لسنا بحاجة إلى أن يعلمنا إياها أحد”, وكان يقصد بذلك الولايات المتحدة. لست أدري ما إذا كان الشعب الفلسطيني مرتاحا تماما للنموذج الديموقراطي في بلده المحتل تماما.
وعلى أي حال وافق مجلس النواب هذه المرة على منح الثقة للحكومة الجديدة على الرغم من أنها لا تختلف كثيرا عن اقتراح الرئيس الأول. ولم أجد للأسف من يوضح لي, كيف تغيرت آراء أغلبية النواب بهذه السرعة.
وانتهت الجلسة بترديد البعض لأغنية: “غلابة يا فتح يا ثورتنا غلابة. غلابة الإيد اللي تفجر دبابة”. كان جوا فولكلوريا لا يخلو من الغرابة. غادرت المكان لأرى الدبابات الإسرائيلية تتحرك في شوارع رام الله على مرمى حجر من المقاطعة, فهم يحتلون أيضا العمارة التي كانت فيها وزارة الثقافة. تأملت قليلا في هذا الجو السريالي:
بلد فيه سلطة وطنية, رئيس ومجلس نواب منتخبان, وزارات وجنود احتلال يصولون ويجولون وينصبون الحواجز هنا وهناك. رأيت رئيسا في شبه سجن لا تسمح له سلطات الاحتلال بزيارة بيت لحم بمناسبة عيد الميلاد. لم أر أثناء زيارتي كلها شرطيا فلسطينيا واحدا, ولكني شاهدت ذات مرة رجلا بلباس مدني ينظم بصمت ودون سلاح حركة السير في وسط مدينة رام الله , ساحة المنارة, وأعتقد أنه أغلب الظن كان شرطيا “سريا”, فقد علمت أن جنود الاحتلال سيصفونه جسديا لو حمل سلاحا.
لا توجد سلطة فلسطينية حقيقية في الصفة الغربية, وعلى الرغم من ذلك يمشي الإنسان بأمان في شوارع رام الله, لا يلاحظ عمليات سطو ولا جرائم. المحاكم ما زالت تفتتح جلساتها كالمعتاد, والسير بحاجة إلى بعض التنظيم, ولكنه ليس متأزما أكثر من الأحوال العادية.
يا الهي, كيف تسير كل هذه الأمور دون سلطة؟ هل تعود هذه الحالة المعقولة نوعا ما إلى الرقابة الاجتماعية, إلى التنظيمات القابعة تحت الأرض أم إلى العائلات الكبيرة المتنفذة التي تسير الأمور بأيد خفية؟ من المرجح أن العوامل الثلاثة معا نجحت في تجنب الفوضى المطلقة. ثم أليس من الغريب أن تسمع وزيرا فلسطينيا يقول: نعم, هناك فساد في صفوف السلطة! وأتساءل: يا الهي, لماذا لا تفعلون شيئا ضده, وهل تنتظرون من إسرائيل أو من أمريكا أن تصلحا الأوضاع؟!
يتبع : الجزء الثاني …واصل القراءة
الجزء الثاني :
انطباعات ذاتية عن مخاوفي وأحزاني
بعد أن انتهيت من كتابة الجزء الأول, الذي نشر في ألمانيا ولوكسمبورغ في عدة أماكن, قالت لي زميلتي “ألكسندرا زينفت” التي تكتب في صحيفة SUEDDEUTSCHE المرموقة والواسعة الانتشار: ” لماذا لا تكتب عن أحزانك ومشاعرك بشكل مفصل”؟ فكتبت ما يلي:
نهاية محزنة لأمسية جميلة
في 21 أكتوبر/تشرين أول كنت في بيت زميلي عارف حجاوي, مراسل إذاعة لندن ونائب رئيس معهد الإعلام /جامعة بيرزيت. كنا نجلس في غرفة ضيوفه في رام الله قبل أن يبدأ منع التجول في الساعة السادسة بقليل. اجتمعنا لنتناول طعام العشاء ونقضي سهرة جميلة مع عائلته الكريمة. وبعد ذلك سأغادر بيته بالتكسي, الذي عودنا سائقه أن يتحدى منع التجول.
وتجدر الإشارة إلى أن عارف من أفضل الصحافيين في العالم العربي ومن فقهاء اللغة العربية ويحسن الحديث عن الأدب والأدباء؛ كما أنه عازف عود من الطراز الأول, وإذا تمكنا من إقناع ابنته مريم (16 عاما) بمختلف الحيل وضروب التشجيع بأن تغني لنا برفقة العود فستكمل السهرة, فقد غنت منذ أيام قليلة أغنية السيد درويش ” على باب الله يا صنايعية” على أفضل وجه. وكان عارف إذا نسيت إحدى كلمات الأغنية يهمس بها في أذنها ويقول بدفء الأب وحنانه: “يلى, يلى, يابا”. كنت أحدث نفسي: سنسمع اليوم أجمل القصص عن الأدب والأغاني من الأدب, وبدأ عارف يعد النراجيل.
وفي تلك اللحظة دخلت زوجته سميرة وقالت بعصبية: ” قناة الجزيرة أفادت منذ لحظات أن مجموعة من المسلحين نفذت عملية . فلسطينيون فجروا سيارتهم بحافلة إسرائيلية بالقرب من الخضيرة, مما أسفر عن عديد من القتلى والجرحى”. اندفعنا عارف وأنا بسرعة إلى التلفزيون وتبخر بالسرعة ذاتها كل فرحي, فقد شعرت أن السهرة انتهت.
بدأت أتساءل: كيف سيكون رد فعل الجيش الإسرائيلي, وهل سيشددون منع التجول ويوسعون نطاق العقوبات الجماعية؟ هل سيقصفون المقاطعة التي تقع على بعد قفزة قط من بيت عارف؟ وهل ستسافر التكسيات في مثل هذا المساء؟ لم أصب بحالة ذعر ولكن بكثير من القلق والتحفز. وطلبت من زميلي أن يتصل بسائق التكسي, الذي تعودت التنقل برفقته. انطلق السائق بسرعة جنونية راقت لي في تلك اللحظة, بينما أمقت في الأحوال العادية قيادة السيارة بهذه السرعة في وسط المدينه, حتى ولو كانت الشوارع فارغة تماما من الناس كما هو الآن.
ولكن لماذا ركب العفريت هذا الرجل, ومن الذي أجبره على المرور في شارع المقاطعة؟ الدبابات الإسرائيلية تبعد أمتارا عن المقاطعة منتظرة أوامر القصف, فهم بحاجة الى إشارة باللاسلكي ليباشروا مجددا بقصف المقاطعة, فلماذا لم يختر السائق طريقا التفافيا؟!
كنت أشعر في تلك اللحظة أن العشر ثواني التي لف فيها طريق المقاطعة دهر, وأخذت الصور تمر برأسي كالفيلم ورأيت صورتي في مخيلتي كملصق في شوارع رام الله والجامعة وقد كتب تحتها:
” حكم عبد الهاذي, صحافي مغترب, شهيد الكلمة, قتل في 21 تشرين أول برصاص جنود الاحتلال”.
حدثت فيما بعد اخوتي في عمان عن مخاوفي تلك عندما سألوني ما إذا واجهت مخاطر حقيقية في الضفة وأضفت: ” هل ترون خطورة الحالة أم تعتقدون أنني أرنب”؟ فأجمع أربعتهم على أنني أرنب. وهمس أحدهم بسخرية: “ماذا سيقول لك الشهداء, يا رجل”؟
فوضى السير في حاجز سردا والدبابة الإسرائيلية المهددة
ثم حدثتهم عن قصة ثانية دارت بالقرب من حاجز سردا:
لا يستطيع أحد أن يتخيل الفوضى التي تعم المكان, الأمر الذي يعود الى عدم وجود شرطة تنظم السير. مئات من الطلبة والأمهات مع أطفالهن والفلاحين الذين يحملون بعض ما قطفوه من موسم السنة من الزيتون ليبيعوه في رام الله, كل هؤلاء يريدون مغادرة الحاجز البغيض بأقصى سرعة ممكنة؛ عشرات من سيارات الأجرة التي تنقل سبعة أو تسعة ركاب لدخول أو مغادرة الحاجز تحاول اللف في شارع مسدود ضيق غير معد لمثل هذه المناورات.
وفي تلك اللحظة جاءت دبابة إسرائيلية وقف جندي على رأسها يحمل رشاشا ويصيح بالعربية المكسرة: ” إفتخ الطريق يا أولاد الش…إفتخ الطريق يا أولاد الكلب”. كثف السائقون مناوراتهم فهم يريدون -كالمارة الذين أخذوا يقفزون كالدجاج من هنا لهناك- أن يفتحوا الطريق للدبابة, ولكن كيف, فالأمر ليس بهذه السهولة؟!
ماذا سيحدث لو أن بعض الطلبة ردوا على مثل هذه الإهانات بحجارتهم, فقد شاهدت منذ أيام قليلة جسارتهم وتصديهم للجنود الإسرائيليين أمام بوابتي الجامعة؟ هل سيطلق الجندي النار على الناس؟ هكذا تحدث الكثير من المذابح في فلسطين, تبدأ بإهانة, يتبعها حجر وتنتهي بحمام دم. ولحسن الحظ استطاعت الدبابة التي كانت في طريقها الى الانضمام الى دبابتين في منتصف الوادي بين حاجزي سردا أن تمر دون سفك دماء الأبرياء.
لم أشعر هذه المرة بأي خوف. ربما لأن “الموت مع الجماعة رحمة”, كما يقول مثل قديم يبدو أن فيه بعض من الواقع.
أيضا هذه المرة لم يوافق اخوتي على خطورة القصة وأصروا مجددا على “أرنبيتي”, فقلت لهم إن أحد زملائي, وهو تلفزيوني غطى كل أحداث الانتفاضة, أكد لي أن الوضع كان من الممكن أن يتفجر فعلا, فعلق أشقائي بكثير من السخرية: “زميلك أرنب فلسطيني آخر”.
طلاب الجامعة لا يريدون أن ينفضوا أيديهم من السياسة
منذ أعوام أساهم بالاشتراك مع زميلتي الفلسطينية-الألمانية نادية عودة, التي تعمل في إذاعة ألمانية, في تدريس “القصة الإذاعية” في معهد الإعلام/جامعة بيرزيت. وقد شارك في هذه الدورات عشرات الإذاعيين من “صوت فلسطين” والإذاعات الخاصة: “إذاعة الخليل”, و”إذاعة جنين” (منها كان الزميل المرحوم عماد أبو زهرة الذي استشهد في مطلع هذا العام حين كان يغطي بمسجله مظاهرة في جنين) وإذاعة “الحب والسلام” التي دمرها جنود الاحتلال و”إذاعة أمواج”, التي توقفت عن البث, لأن الجنود الإسرائيليين احتلوا بنايتها التي توجد فيها مكاتب وزارة الثقافة أيضا .
ومن البداية كنا نسعى, الزميلة نادية وأنا إلى لفت أنظار المشاركين في الدورة الى قصص غير سياسية, لأننا نريد تأهيلهم ليس للانتفاضة فحسب, بل للمستقبل أيضا الذي نرجو أن يعم فيه السلام الحر. لقد تمكنا بالفعل من تشجيعهم على إعداد قصص مثلا عن “بائعة خضار” في سوق رام الله أو عن “بائع الكعك المتجول”. ونهدف من ذلك إلى إدخال رجل الشارع بشكل مطول ومثير إلى برامج الإذاعات وليس الوزراء والشخصيات فقط. بيد أننا نعلم في الوقت نفسه أن معد القصة يجب أن يهوى موضوعها, لأن ذلك يعتبر من أهم شروط القصة الإذاعية الناجحة.
في هذا العام لم نتناقش ساعتين أو أكثر عن المواضيع , كما جرت العادة, فقد كان كل شخص يعرف تماما موضوع قصته, وكانت جميعها سياسية. اخترنا المواضيع خلال دقائق, وأذكر من هذه القصص على سبيل
المثال :
– فصة الزميلة التلفزيونية سوسن طه: “35 يوما من الحصار”. رجل عادي يروي كيف حوصر منذ 29 مارس/آذار كل هذه الأيام مع ياسر عرفات في المقاطعة. يحدثنا عن جوعه وبرده وماذا ستقول أمه إذا استشهد, ومن جهة ثانية تصف زوجته مشاعرها: هل سيعود حيا الى بيتنا؟ هل يستطيع أن ينام, وإلى أي مدى علي أن أقول لطفله الحقيقة دون أن يصاب بأذى؟
-الزميل محمد أبو سمية أعد قصة عن “استشهاد عصام التلّاوي”, الذي كان زميله في “صوت فلسطين” . عصام الذي عرفته جيدا إذ كان أحد ضيوف الدورة في رحلة قصيرة لألمانيا, عصام كان أحد المتظاهرين في 22 سبتمبر/أيلول 2002 حين هب الناس ليلا عندما تردد أن حياة الرئيس عرفات المحاصر في خطر. ومنذ ذلك اليوم ودعنا هذا الصحافي اللامع والشاب الودود, الذي كان دائما مقبلا على الحياة, كما يقول خالد, زميله في “صوت فلسطين”.
_ بيد أن قصة الطفلة “كليفين” التي أعدتها الزميلة ضحى الشامي المحررة في “صوت فلسطين” كانت أكثر القصص ألما وحزنا. كليفين طفلة في الثانية عشرة تعيش مع والديها وإخوتها الأربعة في مخيم الأمعري. تقول الصغيرة وهي تجهش بالبكاء (وأمها تصرخ من خلفها “بلاش عياط”:
“والدي بدون شغل من سنتين وجاي.معنديش حذاء للرياضة. الأولاد يضحكوا علي. كل ملابسي من الجيران والأقرباء”.
رأيت ضحى ومهند مهندس الصوت أثناء مونتاج القصة والدموع في أعينهم وتساءلت: البكاء ليس عيبا في الشرق, ولكن هل يحق لمحاضر فلسطيني_ألماني أن يبكي معهم؟ زميلي الألماني مارتين أجاب على هذا السؤال: نعم, يحق, قام الله بعون هذا الشعب الباسل.