رسالة الشعب الفلسطيني – في الذكرى ال 53 للنكبة : محمود درويش يؤكد فيها أن الانتفاضة هي التعبير المشروع عن مقاومة العبودية المتمثلة في احتلال عنصري

Deutsch

محمود درويش

اليوم هو يوم الذكرى الكبرى، لا نلتفت إلى أمس لاستحضار وقائع جريمة وقعت. فما زال حاضر النكبة ممتداً ومفتوحاً على جهات الزمن. ولسنا في حاجة إلى ما يذكرنا بتراجيديتنا الإنسانية المستمرة منذ ثلاثة وخمسين عاماً. فما زلنا نعيشها هنا والآن. وما زلنا نقاوم تداعيات نتائجها، الآن وهنا، على أرض وطننا الذي لا وطن لنا سواه.

وإذا كان صنّاع التكبة الإسرائيليون يعلنون في هذه الذكرى أن حرب 48 لم تنته بعد، فإنهم لا يفضحون سوى سراب سلامهم الذي لاح خلال العقد الماضي، ملوحاً بإمكانية التوصل إلى وضع نهاية للصراع نقوم فيه على اقتسام الارض. ولا يفضحون سوى صعوبة وضع المشروع الصهيوني والسلام في سياق واحد، طالما أن هدفه القضاء على الشعب الفلسطيني ما زال ودرجاً على جدول الأعمال.

إن المعنى الذي يفهمه الفلسطينيون ليلك الحرب يتمثل في تعرضهم لعملية اقتراع كبرى، وفي تحويلهم إلى لاجئين في بلادهم وخارجها، وفي محاولة طردهم من الوجود والفضاء والهواء، بعد احتلال أرضهم وتاريخهم، ولتحويلهم من كينونة صريحة في الزمان والمكان إلى فائض من أشباح منفى خارج المكان والزمان.

لكن صنّاع النكبة لم يتمكنوا من كسر إرادة الشعب الفلسطيني وبطمس هويته الوطنية، لا بالتشريد ولا بالتجاوز ولا بتحويل الوهم إلى واقع ولا بتزوير التاريخ. لم يتمكنوا طيلة خمسة عقود من دفعنا إلى الغياب والنسيان، ومن إقصاء الحقيقة الفلسطينية من الوعي العالمي، لا بالخرافة ولا بصناعة حصانة أخلاقية تمنح ضحية الأمس الحق في إنتاج ضحيتها، فليس هناك من جلّاد مقدّسز

واليوم تاتي ذكرى النكبة في غمرة دفاع الفلسطينيين عن الإنساني في كينونتهم، عن حقهم الطبيعي في الحرية وتقرير المصير على جزء من أرض وطنهم التاريخي، بعدما قدموا أكثر ما تقتضيه الشرعية الدولية من استحقاقات لجعل السلام ممكناً. وعندما اقتربت لحظة الحقيقة افصح مفهوم السلام الإسرائيلي عن جوهره الحقيقي : استمرار الاحتلال باسم آخر، بشروط أفضل، وتكلفة أقل.

إن الانتفاضة، أمس واليوم وغداً، هي التعبير الطبيعي المشروع عن مقاومة العبودية المتمثلة في احتلال يتسم بأبشع أشكال الفصل العنصري، ويسعى تحت قناع عملية السلام المراوغة إلى تجريد الفلسطينيين من الارض ومصادر الحياة، وإلى عزلهم في تجمعات ديموغرافية معزولة ومحاصرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية على أن يأذن لهم، بعد أن يوافقوا على “إنهاء المطالب المطالب والصراع” بإطلاق اسم الدولة على أقفاصهم الواسعة.

والانتفاضة، هي حركة احتجاج شعبية ومدنية من حيث الجوهر، لا تشكل قطيعة مع فكرة السلام، ولكنها تسعى لانقاذها من ضلال العنصرية واعادتها إلى أبويها الشرعيين الوحيدين : العدل والحرية، وذلك بمنع المشروع الكولينيالي الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة من الاستمرار تحت غطاء عملية السلام التي أفرغها القادة الإسرائيليون من أي معتى ومضمون.

إن أيدينا الجريحة ما زالت قادرة على حمل غصن الزيتون اليابس، من بين أنقاض الأشجار التي يغتالها الاحتلال إذا بلغ الإسرائيليون سن الرشد واعترفوا بحقوقنا الوطنية المشروعة، كما عرفتها قرارات الشرعية الدولية،وفي مقدمتها ك حق العودة والانسحاب الكامل من الاراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، وبحق تقرير المصير في دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس. إذ لا سلاممع الاحتلال ولا سلام بين سادة وعبيد.

وليس في وسع المجتمع الدولي أن يواصل غض الطرف عما يحدث الآن على أرض فلسطين وكما فعل في عام النكبة. فالعدوان الإسرائيلي مستمر في تدمير المجتمع الفلسطيني ومحاصرته، وفي القتل والاعتيال، بكل ما يملك من فائض قوة تدميرية ضد شعب أعزل يدافع عما تبقى من وجوده المهدد، وعما تبقى من أشجاره المعرّضة للمزيد من الاقتلاع.

إن الحرب المعلنة على الشعب الفلسطيني ليست معزولة عن مدى اهتمام العالم، فهي أيضاً تعبير عن معركة بين قيم عالمية متناقضة، بين قوى تستهدف تمكين الصهيونية الكلاسيكية، ذات النزعة الكولونيالية، ونظام الفصل العنصري، من مواصلة الحياة بتعابير وشعارات جديدة، وبين قوى تُصرُّ على أولوية العدل والحق في هذا المكان من العالم.

لذلك فإن انخراط دول العالم وشعوبه في المجابهة الدائرة في فلسطين اليوم، ووقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني، المحروم من شروط الحياة العادي والمألوف، لا يدل على التزامها بضرورة الاستقرار السياسي في الشرق الاوسط حماية لمصالحها فحسب، بل هي امتحان أيضاً لموقف أخلاقي يختبر ما لقيم الحرية والعدالة والمساواة من مصداقية وأولوية في حياة تلك الشعوب وثقافتها.

إن تدخل المجتمع الدولي لحماية الفلسطينيين من وحشية العنف والإرهاب اللذين يمارسهما النظام الإسرائيلي، الذي نصّب نفسه فوق القانون الدولي، أصبح ضرورةة ملحّة أكثر من أي وقت مضى، لا للتكفير عن خطيئة سابقة فقط بل للحيلولة دون إضافة فصل جديد إلى فصول النكبة. وبدلاً من أن تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن النكبة وعن مأساة اللاجئين، كما تقتضي قواعد التسوية السياسية، فإنها تسعى إلى تطوير سفْر النكبة، وإلى العودة بالصراع إلى ثقافته الاولى وإلى ساحته الاولى وتذكرنا بأن الحكاية لا تبدأ من النهاية.

لم ننسى البداية. لا مفاتيح بيوتنا، ولا مصابيح الطريق التي أصائها دمنا. لا الشهداء الذين أخصبوا وحدة الأرض والشعب والتاريخ، ولا الأحياء الذين ولدوا على قارعة الطريق، الذي لا يؤدي إلا إلى وطن الروح ما دامت روح الوطن حية فينا.

لن ننسى أمس، ولا الغد. والغد يبدأ الآن من الإصرار على مواصلة السير على هذا الطريق … طريق الحرية، طريق المقاومة حتى التقاء التوأمين الخالدين الحرية والسلام. 
 
 

لندن – “الحياة”
نص “رسالة إلى العالَم” من الشعب الفلسطيني بإعداد الشاعر محمود درويش في ذكرى يوم النكبة في الخامس عشر من مايو الماضي نُشرت في جريدة الحياة في 8/5/2001 .
 

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial