المسلمون في دولة القانون العلمانية حول حق المسلمين في المشاركة في تشكيل المجتمع

Moslems in Secular State:  From Civil Rights to Social Commitment

Dr. Heiner Bielefeldt 

بقلم د. هاينر بيلافيلد*
ترجمة د. حامد فضل الله**

l. العلمانية ـ مفهوم عسير

تشكل دولة القانون العلمانية في المانيا ودول أوروبا الغربية الأخرى الهيكل السياسي المؤطر لحياة المسلمين الذين يعيشون بها ويمارسون معتقداتهم فيها.
وبالتالي يطرح هذا الوضع أسئلة كالآتية: 

ما هو موقف المسلمين من دولة القانون العلمانية؟، هل تمثل هذه الدولة “شر”، لابد من قبوله بحكم تفوق الأغلبية العددية لغير المسلمين ؟
أم ستقدم علمنة(دنيوية) النظام السياسي القانوني فرصة لتجربة أشكال جديدة لنظام إسلامي بذاته مع احتمال التأثير ليس في منطقة الشتات (Diaspora) فحسب بل حتى في البلدان الإسلامية أصلاً؟

كذلك توجد أسئلة في الاتجاه المعاكس:- 
هل هناك، في الأساس، حق مُسلم به يلزم المسلمين على قبول علمانية دولة القانون؟

أليس من واجب التسامح للديانات المتداخلة والثقافات المتعددة أن يترك الخيار مفتوحاً للمسلمين لكي ينظموا شؤونهم المشتركة حسب القانون (الشرع) الإسلامي بدلاً عن القانون العلماني؟
ألا تمثل العلمانية من جانبها نوعاً من العقيدة الدينية أو (ما بعد الدينية) (بالألمانيةPostrelegioes ) والتي تعتبر إلزاماً فحسب للذين يؤمنون بها بمحض إرادتهم؟
إن الإجابة علي هذه الأسئلة أو ما يشابهها يدور بالضرورة حول المفهوم الشخصي للعلمانية.

يؤدي مفهوم العلمانية بالمقارنة إلى مفاهيم أخرى سياسية قانونية دالة- إلي كثير من الاختلاف بل إلى تداعى أفكار متنافرة1
العلمانية تُفهم علي أنها أيدلوجية ضد الدين أو ما بعد الدين كنوع من التنظيم الغربي المسيحي الخاص بالعلاقة بين الدولة والدين أو محاولة سيطرة الدولة علي التجمعات الدينية أو كتعبير لاحترام الحرية الدينية للبشر.
يضاف إلي ذلك ما انبثق من داخل دول القانون الغربية الأوربية الأخرى: فرنسا ، إنجلترا ، هولندا، ألمانيا وإيطاليا من تقاليد متباينة جداً ذات نبرات أخرى للتعامل السياسي القانوني للدين، في سياق العلمانية2.
يصير النقاش مهدداً بالغموض الكامل عندما تتقابل تفسيرات الفروع العلمية المختلفة، القانون (الحقوق) ، الاجتماع، اللاهوت أو الفلسفة3.
إن الهدف من هذا البحث ليس فقط التوضيح النظري لمفهوم العلمانية الذي يحيط به عدد كبير من التأويلات المحيرة، وإنما متابعة بل و ترجيح هدفاً عملياً – سياسياً في الوقت عينه.

يهمني الدفاع عن دولة القانون العلمانية كافتراض ضروري للتكوين السياسي المدافع عن التعددية الدينية والدنيوية الموجه لحقوق الإنسان.  مثل هذا الدفاع يمكن أن يكون مقنعاً حقا، عندما تؤخذ التوضيحات النقدية لمشروع العلمانية بجدية. كما أن اهتمامي الخاص قائم علي إمكانية، احترام وتقدير دولة القانون العلمانية من الجانب الإسلامي.
لتجنب إمكانية سوء الفهم لابد من التوضيح بأنني نفسي لست مسلماً ولكنني ومنذ سنوات عديدة أخوض، مطمئناً، حواراً منتظماً مع المسلمين – حيث اشعر بارتباط سياسى مع كثير منهم و أحياناً شخصي، فيما يمثل بعضهم خصم‘ سياسي إلى حدٍ ما.
يحتوي البحث المعروض (أدناه) علي التقييم والإدراك الذين اكتسبتهما من محادثاتي مع المسلمين. لقد صارت المحادثات لي دافعاً إلي إعادة تفكير مبدئي حول معني دولة القانون العلمانية.

ll. حول تحديد علمانية دولة القانون

1– علمانية دولة القانون كنتيجة لحرية العقيدة

إن علمانية دولة القانون – حسب وجهة نظري الجوهرية- هي نتاج حرية العقيدة: أنها تعني تركيب مبدئي ضروري لنظام حقوقي، يقوم علي مبدأ حرية العقيدة كحق من “حقوق الإنسان” يُحقق بطريقة منتظمة، وإذا أردنا التطرف في القول: لا يوجد تحقيق كامل لحرية العقيدة الدينية خارج نظام دولة القانون العلمانية – هذه النظرية قد لا تقنع لأول وهلة.

ألا يمكن أيضاً تحقيق حرية العقيدة في إطار نظام حقوقي مؤسس دينياً؟
هل تستطيع دولة مسيحية أو إسلامية أن تحترم حرية العقيدة؟
ألا توجد أمثلة تاريخية للتعايش السلمي بين مجموعات دينية مختلفة مثلاً تحت سيادة السلطنات الإسلامية ؟

حسناً – فلنقر بإمكانية التسامح الديني الحاضر في سياق التقاليد الإسلامية4، غير أن حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان ، لا تعني التسامح وإنما تعني شئ آخر! ويجب ألا توضع في مرتبة واحدة مع التسامح أو يخلط به.

و ككل حقوق الإنسان تتطلب حرية العقيدة الدينية المساواة بيد أن التسامح قد يعني عدم المساواة.
إن مطلب حق الإنسان في حرية العقيدة لا يمكن أن يحُل بسياسة تسامح الدولة مع الأقليات الدينية.
يضاف إلي ذلك أن حق المساواة كحق ملازم لحقوق الإنسان يتحتم ألا يظل مختصراً فى كتالوج “فهرس” الدولة، وإنما يجب أن يتجلي كنظام سياسي قانوني يؤثر في كافة المستويات5

أن حقوق الإنسان لا تمثل حاجزاً لسلطة الدولة فحسب، وإنما تعمل علاوة على ذلك حسب نص “الدستور كاساس لأي تجمع إنساني” (المادة الأولى- الفقرة الثانية من الدستور)، فهي إذا لا تمثل فقط عدم تخطي الحدود لسلطة الدولة الشرعية، بل هي في الوقت عينه الأساس التى تقوم عليه شرعية النظام القانوني للدولة عموماًً.

من الممكن أن تصبح حرية المساواة كمبدأ من مبادئ حقوق الإنسان أساساً لقانون الدولة عندما يكون الوضع السياسي للأشخاص مستقلاً عن تبعيتهم الدينية.
يجب ألا يسمح بتفضيل أو ظلم أي شخص بسبب عقيدته الدينية أو الدنيوية. وكذلك يجب أن يكون إشراك الأشخاص الذين لهم توجهات دينية أو دنيوية مختلفة في النظام السياسي ممكناً و قائماً علي قدم المساواة.
إن هذا علي كل حال مطلب من مطالب حقوق الإنسان في حرية العقيدة (مطلب‘ لم يحل إطلاقاً في ألمانيا كنتيجة سارية المفعول)، لضمان تساوي جميع رغبات الناس ومن اجل احترام مذاهبهم المختلفة، يحُرم علي دولة القانون ألا تتطابق مع دين أو نظرية دنيوية محددة أو حتى أن تتخذ من ذلك أساس معياري لنظامها الخاص.

يتوجب إذاً علي دولة القانون الملتزمة بحقوق الإنسان وحرية العقيدة أن تظل محايدة دينياً ودنيوياً.
هذا الحياد الديني الدنيوي لا يعني تقييم حيادي عام كما انه ليس له علاقة أبداً بتدهور المبادئ الأخلاقية أو ارتياب معياري شامل.

لقد اخطأ كارل شميدت ( Carl Schmitt) عندما ربط النظرة المحايدة لدولة القانون العلمانية جدلياً “بزمن التحييد” بمعني أن الأسئلة الدينية والأخلاقية تفقد، وباستمرار، قيمتها6
إن الحياد الديني الدنيوي للدولة متعلق بواجب الحياد القانوني الأخلاقي.من أجل احترام حرية العقيدة الدينية والدنيوية يجب أن تٌقتصر الدولة كسلطة دنيوية على تنظيم الشروط اللازمة لاحترام الأفراد بعضهم البعض. إعتماداً على هذا المعنى تكون الدولة دينياً ودنيوياً محايدة و بالتالى فهي علمانية. 

كمثال: القانون يقر بأن لا تمس كرامة أي فرد وكل سلطات الدولة ملزمة باحترامها و حمايتها (المادة الأولى- الفقرة الأولى من الدستور)،.مهما كانت فكرة كرامة الإنسان كباعث إنجيلي تفسر بأن الإنسان صورة من الإله، أو تفهم استناداً علي وجهة نظر القرآن بأنه خليفة الله في الأرض أو تفسر من التقاليد الإنسية (هيومانيزم) إلا أن ذلك يبقي مفتوحاً نسبياً.

كذلك لا يمكن ولا يحق للدولة أن تقرر ذلك بصورة استبدادية.لا يعني عدم تفسير الدولة مثل هذه الأسئلة الدينية أو الدنيوية عدم المبالاة أو الارتياب أو الاستهانة، وإنما ذلك بدافع احترام حرية البشر الذين بمقدورهم فهم الدولة كرابطة سياسية لا تضير معتقداتهم المختلفة.

إن النظرة الدنيوية المحايدة لدولة القانون العلمانية تجد أساسها فى حرية الإنسان كحرية العقيدة الدينية والتى تتضح علي النقيض من القيمة الإرتيابية المحايدة. فهى ذات معني وتستحق الدفاع عنها – نعم فبمقدور الفرد اعتناقها سياسياً لان دولة القانون العلمانية لا يسمح لها ان تطالب مواطنيها ومواطناتها بعقيدة دنيوية شاملة.
 

2 – العلمانية لا تمثل أيدلوجية “ما بعد الدينية” لائكية الدولة

طالما تنحو دولة القانون العلمانية الى “الحياد دنيوياً” إذ يتوجب علي العلمانية عدم تشكيل أيدلوجية شبه دينية أو ما بعد الدينية للدولة، إن التأكيد السياسي الذي تطلبه الدولة من مواطنيها ومواطناتها لا يهدف إلى الإخلاص الشامل ولا إلى الاعتراف بالعلمانية الذي تنشده الدولة (حيث لا يمكن قسره في النهاية)، فيظل كاعتراف سياسي بعيداً عن أي اعتراف ديني أو دنيوي.

بلا ريب: يمكن ان يُخلقُ من العلمانية نظرية أيدلوجية دنيوية. كمثال كلاسيكى لذلك ما يقدمه أوجست كونت (Comte * Augusta) معتنق الفلسفة الوضعية، (بالالمانية Positivismus) و أحد مؤسسي علم الاجتماع، يطرح كونت مذهبه كنوع جديد من الديانة الإلحادية (ديانة البشرية)7، (L` Relegione de L`humanité). (بالألمانية Religion der Menschheit)
علي أساس العلم الحديث يتوجب علي علماء الاجتماع حسب كونت تكوين إكليروس علماني كحق شمولي علي المستوي العالمي يقوم واجبهم (ككهنة محدثين للبشرية) علي تشكيل المجتمع أيدلوجياً، ولتحقيق هذا الهدف تٌسخر كل القوي التقدمية من إقتصاد وأيدي عاملة فى الصناعة.
تحت لواء النظام – الحب – والتقدم – وفقاَ ل كونت يتوجب علي الدولة والرؤية الدنيوية (بالالمانيةWeltanschaung ) اللتين انفصلتا نتيجة لأزمات الحداثة، أن يصلا إلي تشكيل ثيوقراطية اجتماعية جديدة لا تقل إنغلاقاً عن الثيوقراطية القديمة لاتحاد الدولة والدين.

وكما كافحت الثيوقراطية المسيحية في القرون الوسطي الديانات الأخرى أو احتملتها علي كل حال علي حافة المجتمع فالأسلوب عينه تتبعه الثيوقراطية الاجتماعية لكونت فتتحرى بكل الوسائل السياسية على فرض إدعائها الأيدلوجي للحقيقة على كل المنافسين لها.
إن مثل هذه الأيدلوجية العلمانية التقدمية ليس لها أي علاقة إطلاقاً بدولة القانون العلمانية إذ أن ارتباطها مع سلطة الدولة ينجم في المحصلة عن خراب دولة القانون العلمانية المؤسسة مسبقاً علي حرية العقيدة.
في ظل حق حرية الأديان يتوجب علي دولة القانون العلمانية الانتباه الي عدم تسخير أهداف علمانية او لائكية. هذا الخطر لا يزال حاضراً رغم أزمة الأيدلوجيات التقدمية الحديثة.

هنا نستحضر بعض الأمثلة التالية:- 

إن سياسي النظام الدولاني (من دولة)، (‎بالالمانية Etatismus)، الذين لا يريدون الخوض – من حيث المستوي في تركيبة مجتمع الديانات المتعددة – يسخرون من المطالب المختلفة للجماعات الدينية كتدريس الدين في المدارس – بناء المساجد – الاحتفال بعيد الأضحى ويعتبرونها – بمفاهيم حداثوية – عودة إلى عهود الظلام.
إن المتحجبات من النساء والشابات المسلمات اللائى يرين انهن ليس فقط في فرنسا العلمانية بل أيضاً في ألمانيا معرضين للعتاب و يوصفون بالتخلف وعدم مواكبة الحداثة. حسب تقارير الصحف أرسل بيتر فرش (Frich Peter ) رئيس المكتب الاتحادي لحماية الدستور نداءاً لأولياء أمور الفتيات التركيات أن يرسلوا بناتهم إلى المدارس بدون غطاء الرأس الإسلامي لانه علامة عن تقصير وعدم الرغبة في الاندماج مع نظام الدستور العلماني8.

كذلك يمكن أن يكون “مشروع الحداثة” إذا اعتبر نموذجاً مجسماً للتقدم الحضاري و الأيدلوجي مقابلاً لثقافات “ما قبل الحداثة” (والمقصود هنا غالباً الإسلام) – بمثابة فرعين ( dichotomisch) متضادين، فيصبح ذلك جزءاً من تصعيد الخطاب السياسي لعزل الآخر9.
لتفادي اللبس والتداخل مع أيدلوجية التقدم العلمانية أو الائكية يطلب أن تو‘ضح نقدياً معني كلمة دولة القانون العلمانية.

إن علمانية دولة القانون لا تهدف إلى إبعاد الجماعات الدينية إلى حافة المجتمع بل تضمن لها كل الإمكانيات للانطلاق بحرية، ومن اجل تكوين تعددية القنا عات الدينية والدنيوية في المجتمع الحديث وتمكين الحرية والمساواة للجميع. إن العلمانية المؤسسة علي حرية الإنسان في حرية العقيدة هي عينها المقابل لوصاية الدولة الأيدلوجية وكذلك الضد للأيدلوجية الإئكية10.
 
 

3 – لا فصل بين الدين والسياسة

إن وجوب فصل الدين عن السياسة نادراً ما يطرح في مجال القانون السياسي العام، كما أن صيغة فصل الدين عن السياسة تظل غير دقيقة ومضللة. وعليه إذا أخذت حرفياً سينتفي الإدراك الحر لحرية العقيدة والبناء المعياري لدولة القانون العلمانية.

إن حرية العقيدة لا تُختصر في ضمان حرية العقيدة أو المذهب الفردي وإنما تحوي ما هو ابعد من المكون الفردى القانونى الغير متنازل عنه وكذلك من حق الجماعات الدينية أن تنظم نفسها بحرية دون وصاية عليها من قبل الدولة وتفتح المجال أيضاً للجماعات الدينية المشاركة في النطاق العام.
بإمكان الجماعات الدينية التعبير عن المسائل السياسية ، علي النطاق العام، فهذا ليس فقط مما يتفق مع دولة القانون العلمانية، بل أن هذا بمثابة نتيجة منطقية لفهم مؤكد لحرية العقيدة الدينية والتي تمثل البناء الذي تعتمد عليه دولة القانون العلمانية نفسها.
إن الدين ليس مسألة شخصية وإنما له مكانته في الحياة العامة. فالمجال العام هو المكان الذي تمارس فيه السياسة فى ظل الديمقراطية وبذلك تستطيع الجماعات الدينية أيضا أن تشارك في السياسة. هنا لا يدور الأمر حول فصل الدين عن السياسة وإنما الفصل المؤسس بين الجماعات الدينية والدولة:- هذا التميز مهم 
فالذي يطالب باسم العلمانية بفصل الدين عن السياسة إنما ينادي إلى إبعاد الجماعات الدينية عن الحياة العامة و يُفصح عن تحكم سياسي استبدادي لائكي لا يتفق إطلاقا مع حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان11

إن الفصل المؤسس بين الجماعات الدينية والدولة يحمي الجماعات الدينية من قبضة الدولة والتدخل في شؤونها الداخلية كما يحمي أيضا الوضع الحقوقي للمواطنات و المواطنين في دولة القانون العلمانية ويبعد في الوقت عينه التداخل بين العضوية الدينية والدولة ويُكسب هذا الفصل الحرية للطرفين: للجماعات الدينية وللدولة12. وبناءا على استقلال الطرفين تستطيع الجماعات الدينية والدولة بلا ريب التعاون مع بعضهم البعض كما أن انفصالهم المؤسس لا يعني بتر الوشائج بينهما فعلاقات التعاون الواضحة بينهما تتفق مع حرية العقيدة دون شك. بناء على شرط متفق عليه، مثلا في عدم التمايز أو اضطهاد مجموعات دينية أخرى. 

لذا يجب أن يظل مبدأ الحياد الديني الدنيوي للدولة محافظاً عليه .لقد تطورت علاقات التعاون بين الدولة والكنائس بألمانيا في مجالات كثيرة على النطاق العام ابتداءً بالمساعدات المالية لدعم المستشفيات المسيحية وتدريس اللاهوت في جامعات الدولة والاعتراف بالكنائس قانونيا كمؤسسات عامة 

لقد اثبت هذا التعاون نجاحه من وجوه عديدة. بالنظر للواقع التعددي الديني الجديد في ألمانيا فان التضافر بين الدولة والكنيسة مع نمو المؤسسات الأخرى حريُ بمراجعة نقدية، حتى لا تظل هذه الامتيازات وكأنها امتيازات خاصة من قبل الدولة للكنائس فقط مستثنيا من ذلك الجماعات الدينية الغير مسيحية.
لا تهدف ضرورة المراجعة إلى “بتر الوشائج” وإنما لإيصال أفكار عن كيفية وصول مساعدات الدولة -بطريقة عادلة ومفيدة – إلى الجماعات الدينية الغير مسيحية.
 

4- ا لعلمانية ليست بالتحديد نموذجا للحضارة الغربية

إن الأنظمة الدستورية العلمانية نُفذت تاريخيا في أمريكا الشمالية و أوروبا الغربية. من الصعوبة الخلاف حول هذه الحقيقة وعليه يطرح السؤال كيف تأول تاريخياً ؟

أتكون النتيجة هى تمثيل دولة القانون العلمانية لتراث الغرب بالتحديد. هل العلمانية هي الوجه المماثل لنتيجة عضوية لتطور خاص للثقافة الغربية مهد لها بداية صراع القرون الوسطى بين الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية هذا إذا ما لم يكن وجدت جذورها من قبل في مقولة المسيح “أعطِ ما لقيصرلقيصر وما لله لله؟”.

إن المثل البارز لمثل هذا الاحتواء الثقافي للعلمانية هو صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington ) الذي اشتهر بنظريته الخلافية حول صراع الحضارات(Clash of Civilizations ) ففي خريطته السياسة العالمية يُكون الفصل بين الدولة والجماعات الدينية سمة خاصة بالحضارة الغربية، وهذا هو الاختلاف مع جميع الحضارات الأخرى واسمياً مع الإسلام13 .

فالذي مثل هنتنغتون يصوغ الفصل المؤسس بين الدولة والجماعات الدينية كجزء من الشفرة (الكودة) الثقافية للحضارة الغربية والغرب بالتحديد يرتكب دون شك خطأين أساسيين.

بدءاً نجده لا يراعي الصراعات التاريخية ا لتي ظلت ضرورية في الغرب لتنفيذ دولة القانون العلمانية. فالكنيسة الكاثوليكية مثلا اعترفت رسميا، ولأول مرة، بحرية العقيدة بعد نزاع داخلي في مجمع الفاتيكان الثاني (1965 – 1962 )14 .إن مقولة المسيح “أعطِ ما لقيصر لقيصر” و التي يعتبرها ممثلو الكنيسة اليوم تقديراً لاهوتيا مثمراً لدولة القانون العلمانية لا تُكون تقريبا “الجذر” الديني الثقافي الذي نبتت منه في الكثير أو القليل الدولة العلمانية عبر الألفين عام تقريبا.

و إنما المٌكون هو النقيض في الأغلب الأعم، بالرجوع الى الماضي ووقوفاً على ارضية الحداثة اولاً، أمكن إخراج الباعث الديني والثقافي و الذي سمح من خلال طيلة كل الصراعات التاريخية إلى إعادة ايضاً أسس التواصل مع التقاليد المسيحية.15

إن احتواء العلمانية كتراث للغرب المسيحي فقط – يعني أيضاً وهذه هي المعضلة الثانية- أن الأفراد ذوو أصول غير غربية وليسو علي توجه مسيحي “خاصة المسلمين” يستنكر عليهم جذرياً إمكانية فهم وتقدير العلمانية، كذلك حتى من منظور تقاليدهم الدينية والثقافية الخاصة. إن مطالبة المسلمين بالاعتراف بدولة القانون العلمانية يعني فى الخفاء مطالبتهم على الأقل اعتناق ثقافي للغرب وقيمه المسيحية. فليس مستغرباً عندما يرفض المسلمون هذا الهوان لانفسهم.

من أجل الحرية والمساواة والرغبة في مشاركة كل الجماعات المتعددة ثقافياً ودينياً يجب علي دولة القانون أن تتخلى ولا تروج للمبادئ القانونية علي نهج هنتنغتون وكأنها تراث غربي بالتحديد. فالحقيقة التي لا خلاف حولها بأن دولة القانون العلمانية بدأ اولاً تأثيرها تاريخياً في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية لا تعني بالضرورة حصر النسق العلماني علي الحضارة أو الثقافة الغربية وإلا فهو نظرة ضيقة وطامة كبري.

وبالإضافة إلى ذلك يمكن إعطاء أدلة بان دولة القانون العلمانية كمبدأ قانوني حر اكتسب أهمية أبعد “من الغرب” داخل الجماعات التعددية الدينية و الثقافة الحديثة، فتصعيد الخلاف حول التراث الثقافي للعلمانية يمثل موقف سياسي غير مسئول.
 

lll. النقد الإسلامي للعلمانية

1. العلمانية كتعبير عن الإلحاد

لقد مضت فترة طويلة، حتى تعلمت الكنائس المسيحية أن تعترف وتقدر دولة القانون العلمانية كشرط سياسي قانوني للانطلاق الحر للمجموعات الدينية في المجتمع الحديث. إلي فترة طويلة حتى القرن العشرين، سيطر في الدوائر الكنسية الاتجاه القائل بان العلمانية واللامبالاة الدينية والإلحاد مرتبطين مع بعضهم ارتباطاً وثيقاً هذا إذا لم يكونان متطابقين.

حالياً تؤكد الكنائس المسيحية دور محامين نشطاء لحرية العقيدة الدينية ودولة القانون. تبدو الإشكالية عند احتواء التقدير اللاهوتي لدولة القانون العلمانية ويغلفها كأنها “قيم” مسيحية، كما يحدث ذلك تكراراً.

لا يزال ما يشير إلى انتشار تحفظات واسعة ضد مفهوم العلمانية وسط المسلمين. تتجلى هذه التحفظات أحياناً حتى بين إصلاحيين ليبراليين بارزين. كمثال علي ذلك محمد طالبي وهو منذ عقود أحد أعتى المناضلين الإسلاميين للحرية الدينية والذى يعبر عن امتعاضه حيال التصورات القانونية العلمانية والتي تمثل في منظوره إخفاء إشارات لتأليه الإنسان16.

ونحن نرى تضارباً مماثلاً في رد فعل التيولوجية الإسلامية النسوية (Islamische Feministische Theologin) رفعت حسن والتى تعتقد أن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان للأمم المتحدة لا يمكن إنقاذه إلا عن طريق إعادة صياغته في قالب وثيقة شبه دينية. رغم أن الإعلان “علماني” من حيث المصطلح إلا أنه من حيث “الجوهر أقرب إلى الدين من فتاوى عديدة أصدرتها سلطاتومؤسسات إسلامية ودينية أخرى كثيرة”17 .

كذلك نجد المنظر القانوني الليبرالي الإسلامي عبد الله النعيم الناشط منذ فترة طويلة في المجال السياسى والبحث العلمى لحقوق الإنسان يُقيمُ دفاعه عن إصلاح القانون الإسلامي كبديل واعي للقانون الغربي العلماني18 .

فى ذات – الخطاب الإسلامي الليبرالي إياه لا يزال فيما يبدو – إدراك مفهوم العلمانية كتعبير للأيدلوجية المعارضة للدين والتي يتحتم علي المسلمين مناهضتها فكرياً.

بمستوى مختلف تماماً تتضح تحفظات المثقفين والسياسيين الإسلامويين عن العلمانية متمثلة في رؤيتهم “إلى النظام الإسلامي” (الذي يظل معالمه فى اغلب الاحيان غير واضحة).

كبديل اجدر لمواجهة دولة القانون العلمانية. كذا يدعو أبو الأعلى المودودي الكاتب الباكستاني الواسع النفوذ والذي اصبح الاسلاموي الكلاسيكي بعد عشرين عاماً من موته إلى “ثيوقراطية ديموقراطية” إسلامية يستوجب تطبيقها سياسياً تعليمات الشريعة الإسلامية من قبل جماعة المؤمنين الموسومة بوحدة خليفة الله في الأرض19 .

يُفهم مشروع المودودي الثيوقراطي الديمقراطي كبديل صريح لديمقراطية الغرب العلمانية. صحيح ان للثيوقراطية الديمقراطية مُكوِن ديموقراطى إلا أنها ستظل في الأساس ديمقراطية للمسلمين.

ووفقاً للمودودي فالوظائف المركزية السياسية يجب علي الأقل اختصارها علي المسلمين لكونهم المعنيين فقط بفهم الأسس الدينية المعيارية للدستور والذين بمقدورهم تطبيقها بحسم20 .

ينبري ممثل أكثر حدة من المودودي ألا وهو سيد قطب شهيد جماعة الأخوان المسلمين المصرية الذي اعدم في عام 1961 والذي انصب كفاحه السياسي علي “الجاهلية” التي تعني الوثنية “الجهل” والمستخدمة في الإسلام التقليدي لوصف فترة ما قبل الإسلام والمتضحة – وفقاً لرئ سيد قطب – في كل التصورات غير الإسلامية21. كذلك دولة القانون العلمانية المؤسسة علي القانون الدنيوي، وليس علي القانون الإلهي والتي هي تعبير عن الجاهلية الملحدة والتى يستوجب علي المسلمين التغلب عليها بكل قوة.

لقد تُرجمت كتابات المودودي و سيد قطب إلى لغات عديدة، وتوجد حالياً ضمن كتب المجموعات الإسلامية في العالم، كما أنها منتشرة بين المسلمين بألمانيا.

إن مثل هذه الكتابات الإسلاموية تساهم بالتأكيد في تعميق التشكك والتحفظ حيال دولة القانون العلمانية. ولكن الموقف الدفاعي في مواجهة الدولة العلمانية بألمانيا هو مسئولية أقلية راديكالية من المسلمين. أما الأغلبية فيبدو أنها تأقلمت مع الظروف الحالية (مما لا ينفي بالضرورة التأرجح والتردد حيال مفهوم العلمانية).

يتضح وبشكل ملحوظ تأييد دولة القانون العلمانية من قبل العلويين التي تمثل أقلية داخل الإسلام، وتُدرك نتيجة تاريخ الاضطهاد الطويل و تُقيم الفرق المؤسس بين الدولة والجماعات الدينية22 .

هنا تجدر الإشارة إلى نتائج دراسة “بيلافيلد” “حول الأصولية” ثلاثة أرباع الشباب ذوو الأصول التركية، الذين شملهم البحث ادلو برضاءهم وبل عن قناعتهم بالفرص المتاحة في المانيا لممارسة الشعائر الدينية23 ، أما الثلثان منهم رفضوا الرأي القائل بوجوب هيمنة الدين علي السياسة من جانب واحد، فيما أبدت في الوقت عينه الأغلبية (بنسبة ستين بالمائة) فاعلية التأثير العامة للإسلام، مقارنة مع مؤسسات عامة أخرى24 .

2- علمانية الدولة – هل هى حل مسيحي خصوصى؟

إن التحفظات الإسلامية عن علمانية الدولة والقانون كثيراً ما تعلل بالإشارة كأنها إجابة مسيحية خاصة تتعلق بمشكلة مسيحية كذلك. فالإسلام ( علي أي حال السني) بعكس المسيحية لم يعرف إكليروس مؤسس25 .

إن عملية تحرر الدولة من هيمنة تراتيبية الإكليروس والذي قاد في العصر الحديث إلى علمنة الدولة وقوانينها، لم تكن ضرورة في الإسلام. وبما أن الإسلام لا يعرف المشكلة المسيحية لهيمنة القساوسة، لا يتوجب عليه الأخذ بالحل المسيحي تجاه هذه المشكلة.

وهناك من ينطلق من الحجة القائلة بان الإسلام دين يخلو من الإكليروس ليذهب الى أن الإسلام يعترف أساساً ومنذ البداية بعلمانية الدولة. هكذا يمكن إن يتحول الإنكار الإجمالي للعلمانية كنموذج ينفرد به الغرب المسيحي حسب زعمه إلي اعتراف إجمالي بها، وهو إعتراف يظل سطحياً طالما لم يرتبط بحوار موضوعى حول المغزى التحررى لدولة القانون العلمانية، وطالما ظل يعمل على تقويض دعائم هذا الحوار. فمفهوم العلمانية بإتجاهها النقدى إذا إختزل منذ البداية فى أشكال الإكليروسية السياسية كما عرفها الغرب المسيحى فإنه يعنى إغفال التجارب الإسلامية بما عرفته من مفهوم سلطوي للحق الإلهى كثيراً ما كان ايضاً يستغل سياسياً.

هذا الهم يشير اليه فؤاد زكريا:- “بالتأكيد لا يوجد في الإسلام مقابل للبابوية، ولكن كانت هناك دائماً أجهزة سلطة دينية اتسعت سلطاتها أحياناً لتتفوق علي سلطة الدولة”26 .

إن الحوار الإسلامي الداخلي حول الكبت السياسي والديني الذي ينتج عن تداخل بين سلطة الدولة والسلطة الدينية- وفقاً لزكريا -لم يُحسم إلى الآن. انه من الخطأ الوخيم ان يتجاوز المسلمون الحوار الجاد والنقد الذاتي، مشيرين باستهانة إلي عدم معرفة الإسلام السني إطلاقاً بالإكليروس.
 

I V إرث علي عبد الرزاق

إن الحوارالإسلامي الداخلي الجِدّيّ حول دولة القانون العلمانية، والذي ينبه له فؤاد زكريا ليس بشيء جديد فى السياق الإسلامي. في عام 1925 نشر كتاب يطالب بوضوح بعلمانية الدولة ومن الملفت للنظر اعتماده علي حجج إسلامية أصيلة. عنوان الكتاب “الإسلام واصول الحكم” لمؤلفه علي عبد الرزاق الأستاذ في ذلك الوقت بجامعة الأزهر27 .

كان الدافع المباشر للكتاب هو إنهاء كمال اتاتورك للخلافة الإسلامية عام 1924. بالرغم من إقصاء الخليفة الأخير إلا إن الأمر كان يتعلق بالفعل بالصراع حول السلطة ولم يكن بأي حال من الأحوال، إصلاح ديني. رأى علي عبد الرزاق فى نهاية الخلافة فرصة للإسلام، وذلك لان ادعاء الخليفة حق ممارسة وظيفة السلطة الإلهية أو انه ظل الله فى الأرض، لا تعني إلا تقديساً خرافياً28 ومما يتعارض مع الوحدانية القاطعة كم يعلنها القرآن29 .

بجانب ذلك يشير عبد الرزاق إلي القرآن الكريم بأنه يكاد يخلو من توجيهات مفصلة عن إدارة الدولة30 . إن قراءة الوحي القرآني، ككتاب قانوني أساسي لسياسات الدولة ليس ذا جدوى فحسب، وإنما يتعارض مع القرآن نصاً وروحاً وتقود إلى إنكار الاعتقاد بأن القرآن هو خاتم الوحي31 .

علي منوال عبد الرزاق ينحو اليوم من بني وطنه “مصر” كل من محمد سعيد العشماوي، نصر حامد أبو زيد و فؤاد زكريا كل بنبرة مختلفة داعياً إلى علمانية القانون والدولة، من وجهة نظر إسلامية. فالعشماوى يرفض أي تقديس لسياسة الدولة مما يلحق أضراراً ماحقة بالسياسة والدين32. وذلك لإثبات التجربة أن أي سلطة سياسية مقدسة تنتهي بحكم الفرد، كنتيجة لاكتسابها مناعة ضد التساؤلات الناقدة وفى الوقت عينه يفسَد الدين ويصير أداء لإستراتيجيات الصراع حول السلطة والمؤامرات.- إضافة إلى مثل هذه التجارب الاستغلالية يرى العشماوى تناقض السلطة الثيوقراطية مع ادعاءها للرسالة الأساسية للقرآن، والتي تمثل الوحدانية القاطعة وتظهر فى ضُوئها الثيوقراطية كصورة من الكفر، لأن ذلك تدنى باسم الله إلى مستوى الصراع على السلطة بين البشر.

يشير أبو زيد في نقده للخطاب الديني السائد إلى خلطاً إستراتيجياً متعمداً بين مستويين:- الفصل المؤسس بين الدولة والكنيسة أو بالأحرى المجتمعات الدينية في العلمانية الحديثة وما يضلل به من المحافظين والإسلامويين متمثلاُ فى مطابقتهم بأن ذلك يعني فصل العقيدة عن الحياة والمجتمع33. بذلك تبدو العلمانية في الرأي العام المتأثر بالخطاب الديني السائد وكأنها مطابقة للإلحاد34 .

يطرح أبو زيد مفهوم للعلمانية ليس ضد الدين، وإنما ضد هيمنة الدين علي كل المجالات35، والمقصود هنا بالتحديد تقليص السلطة السياسية لرجال الدين. فأبو زيد لا يطالب بعلمنة قانون الدولة ولا يريد بذلك إبعاد الدين عن الحياة العامة ولكنه يريد تحرير الخطاب الديني من قبضة المؤسسات والأيدلوجيات السياسية وبذلك يؤسس لخطاب حر.

لفؤاد زكريا مفهوم مماثل للعلمانية يُعري رأي بعض الإسلامويين فى التعارض بين القانون الإلهي والقانون الوضعي كظاهرة أيدلوجية بديلة. فالذين ايضاً يدْعون الحق الإلهي لأنفسهم ولمواقفهم سيظلون بشراً معرضون للخطأ بيد أنهم لا يجهرون بعدم عصمتهم عن الخطأ ولا يخضعون برامجهم السياسية للنقد الديمقراطي فى ذلك يعترض زكريا إذ يرى في العلمانية الحديثة مبدءاً:- نظام سياسي، آخذين فى الاعتبار قابلية الإنسان للخطأ، فصفة العصمة من الخطأ تظل للخالق وحده. “إن العلمنة تمتنع عن تأليه الإنسان أو جعله كائناً معصوماً من الخطأ، وفي الوقت عينه تعترف بمحدودية العقل البشري وقصور النظم السياسية والاجتماعية”36 .

بالرغم من أن الكُتاب المذكورين أعلاه بدءاً من أبي زيد وانتهاءً بفؤاد زكريا مُختلف عليهم فى السياق الإسلامي، (ولكن مَن مِن المفكرين البارزين لا يختلف حولهم؟)، يوضحون أن تقديراً إسلامياً لعلمانية دولة القانون ممكن، “وله مغزاه” بالرغم من ذلك إن العلمانية فى حد ذاتها لا تشكل مبدءاً إسلامياً. إن اعتراف المسيحية لا ينبغى ان يقود إلي احتواء العلمانية كجزء من “القيم المسيحية” (كما يحدث كثيراً)، وبنفس القدر لا يجوز أن ينتهي تقدير الإسلام للعلمانية الي “أسلمتها” من طرف واحد بل تبقى علمانية دولة القانون نتيجة للحرية الدينية والتي تظل بدورها كحق من حقوق الإنسان منفتحة لاحترام أي رأي ديني أو دنيوي.

V الخلاصة

لعلمانية دولة القانون أهمية قصوى غير أن المخاطر تحوطها وعليه يمكن تطبيقها فقط كمبدء من مبادئ الحرية فى الدستور الديمقراطي، إذا أخذناها مأخذ الجد كتحدي سياسي.

فى البدء يجب توضيح مبدء الحرية في دولة القانون العلمانية، والدفاع عنه ضد الاختزال العقائدي والثقافي كما يلزم التبيين أن علمانية دولة القانون ليس تعبيراً عن نظرية تقدم لائكية كما أنها ليست جزء من رقابة دولانية (من دولة) وإنها لا تمثل نموذجاً غربياً مسيحياً خالصاً لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمعات الدينية. بمعنى أن دولة القانون العلمانية تجسد حقوق الإنسان فى الحرية الدينية. بناءاً على هذا التوضيح المبدئي يمكن أن يكون هناك حوار مثمر بناءُ مع المسلمين بما فى ذلك ممثلي المجموعات الإسلامية، وهذا يستدعى أيضاً الحوار النقدي المفتوح مع الأيدلوجيات الإسلاموية على نهج سيد قطب و أبي الأعلى المودودي وتبعاتها السلطوية.

إن أفضل دفاع عن دولة القانون العلمانية هو أخذ الحرية الدينية كواجب يؤخذ مأخذ الجد ويطبق بدقة.

ككل حقوق الإنسان تهدف الحرية الدينية إلى المساواة وكما هو معروف فإن المساواة القانونية بين الأقليات المسلمة في ألمانيا والكنيسة المسيحية لا تزال معلقة وإن مجتمع الأغلبية له دينُ لابد أن يفي به.

بالتأكيد: أن المشاكل الفعلية- بدءاً بالاعتراف بالمنظمات الإسلامية كمنظمات تخضع للقانون العام ومروراً بتنظيم الدروس الدينية وإلي تأهيل علماء الفقه الإسلامي ومعلمي ومعلمات الدروس الدينية فى جامعات الدولة لا يمكن حلها ببساطة، وإلى الآن فى ألمانيا ليس من الواضح إي من المنظمات الإسلامية تقوم بتمثيل القطاعات المختلفة من السكان المسلمين مما يعنى فقدان الشفافية فيما يتعلق بالتركيبات الداخلية للمجتمع الإسلامي. كذلك يمكن بالتأكيد تحسين مقدرة المنظمات الإسلامية على التعبير داخل المجتمع الديمقراطي.

أحياناً يعلو صوت الشك من الطرف المسلم بأن ممثلي السياسة والإدارة الألمانية يتخذون من النواقص الواضحة والمشاكل كذريعة مرغوبة لتعليق مشاكل المسلمين إلى أجل غير مسمى، وحتى الذين يوافقون على الدروس الدينية “الرسمية” كضرورة يسوقون الحجة بأن فى ذلك القضاء على مدارس القرآن الأهلية. إن هذا الموقف لا يليق بكرامة وأخلاقيات دولة القانون الحرة التي تقوم على الحرية الدينية.

لقد حان الوقت لوضع معلم. رغم كل المصاعب التي لا يمكن إنكارها والأسئلة العديدة التي تنتظر الإجابة – ليس هناك أي بديل مبدئي لمنح المسلمين فرصة المشاركة فى تشكيل هذا المجتمع، على أساس المساواة فى الحرية.

إن الذي يرى خطراً فى ذلك على نظام القانون العلماني لم يفهم بعد معني علمانية دولة القانون.

————

الأستاذ هاينر بيليفيلد، معروف بأبحاثه العديدة عن مسائل الفلسفة السياسية وفلسفة القانون وخصوصاً عن كونية حقوق الإنسان من وجهة نظر الثقافات المختلفة. يعمل كمحاضر في كلية التربية لجامعة بيليفيلد. شارك سنة 1983 إلى 1990 “بمشروع بحث لحقوق الإنسان” في جامعة توبنجن. منذ 1991 يعمل في كليّات الحقوق لكلٍ من جامعات مانهايم، هايدلبيرج وتورنتو. مشروع الأستاذية : فلسفة حقوق الإنسان، التنوير الكانتيّ الحداثة والتنوع الثقافي.


الهوامش
1-  هيرمان لُوبه، العلمنة. تاريخ مفهوم فكر سسياسي.
Vgl. Hermann Luebbe, Saekularisierung.Geschichte eines ideenpolitischen Begriffes (Freiburg i Br. / Muenchen: Alber, 1965).

2 – رشرد بوتس، حرية العقيده في دول ذات تراث غربى مسيحى. فى كتاب يوهانز شفارزلندر (محرر) حرية العقيدة، المسيحية والإسلام تحت مطلب حقوق الإنسان 
Vgl. Richard Potz, Die Religionsfreiheit in Staaten mit westlich-christlicher Tradition, in: Johannes Schwartlaender (Hg.), Freiheit der Religion. Christentum und Islam unter dem Anspruch der Menschenrechte (Mainz: Gruenewald, 1993); S119 – 134.

3- جرهارد دشلر/ إلزا ستاف (محرر) المسيحية والقانون الحديث مقالات حول مسألة العلمنة.
Vgl. Gerhard Dilcher / Ilse Staff  (Hg.) Christentum und modernes Recht. Beitraege zum Problem der Saekularisierung (Frankfurt a.M.: Suhrkamp, 1984).

4- عادل تيودور خورى، التسامح فى الإسلام. 
Vgl. Adel Theodor Khoury, Toleranz im Islam (Mainz: Gruenewald / Muenchen: Kaiser, 1980). 

5- هاينر بيلافيلد، فلسفة حقوق الإنسان.
Vgl. Heiner Bielefeldt, Philosophie der Menschenrechte. Grundlagen eines weltweiten Freiheitsethos (Darmstadt: Wissenschaftliche  Buchgesellschaft, 1998), S. 87ff.

6- كارل شمدت، المفهوم السياسى. نص 1932
Vgl. Carl Schmitt, Der Begriff des Politischen. Text von 1932 mit einem Vorwort und drei Corrollarien (Berlin: Duncker und Humboldt, 1963), S. 79

7-  أوجست كونت، يمكن ايضاً ان تترجم “ديانة الإنسانية”  ( Religion der Menschlichkeit )
Man koennte dies auch uebersetzen als “Religion der Menschlichkeit”. Zum folgenden vgl. Auguste Comte, Système de Politique Positive ou Traité de Sociologie, Instituant la Religion de  L’Humanité. Drei Baende (Nachdruck der Ausgabe von 1851, Osnabrueck: Otto Zeller, 1967). 

8 – صحيفة سودديتشاسايتنج 14/4/1997
Vgl. z. B. Sueddeutsche Zeitung vom 14. April 1997.

9- يقدم بسام طيبى فى كتابه، فى ظل الله، الإسلام وحقوق الإنسان. ص. 48 مثال نموذجى لتصعيد الخطاب السياسي، يقول طيبى: بالنظر الى سيادة قيم ما قبل الحداثة للثقافة  السياسية الإسلامية يؤدى ذلك الى تناقض بين الإسلام والمشروع الحديث لحقوق الإنسان وعليه يكون النزاع بين الحضارة الإسلامية والغربية.
(بسام طيبى 1944، المانى من أصل سورى، عالم إجتماع واستاذ السياسة الدولية بجامعة جوتنغن “Goettingen” بالمانيا – المترجم)
Ein typisches Beispiel fuer solche Ausgrenzungsrhetorik bietet Bassam Tibi, Im Schatten Allahs. Der Islam und die Menschenrechte (Muenchen / Zuerich: Piper 1994), S. 48: “Angesichts der Dominanz vormoderner Werte und Normen in der politischen Kultur des Islam ergibt sich der Gegensatz zwischen dem Islam und dem modernen Konzept der Menschenrechte und damit ein Konflikt zwischen islamischer und westlischer Zivilisation. 

10- مسالة العلمنة في تطور قانون الدولة الألماني الكنسي
10- Vgl. Martin Heckel, Das Saekularisierungsproblem in der Entwicklung des deutschen Staatskirchenrechts, in Dilcher| Staff (Hg.), a.a.O., S. 35-95, hier S. 73

11 جرهارد لوف، حرية العقيدة والهيكل القانوني لحقوق الأنسان في اشفارزلندر (محرر ) ص72 – 92.
Vgl. Gerhard Luf, Die religioese Freiheit und der Rechtscharakter der Menschenrechte, in: Schwartlaender (Hg.), a.a.O., S. 72-92, S. 90: “Sofern es Aufgabe des Grundrechts der Religionsfreiheit ist, nicht bloss formale Grenzen zu ziehen, sondern Realbedingungen des religioesen Freiheitshandelns zu gewaehrleisten, wuerde die Privatisierung des Religioesen in einen Neutralismus muenden, der eine spezifische Form der Diskriminierung religioeser Lebensformen darstellte”.

12 – يوزي كذانوفا، فرص ومخاطر العقيدة على النطاق العام .شرق وغرب اوروبا في دراسة مقارنة في اتوكالشير (محرر) اوروبا الأديان قارة بين العلمنة والأصولية ص 81 -210 
Vgl. José Casanova, Chancen und Gefahren oeffentlicher Religion. Ost- und Westeuropa im Vergleich, in: Otto Kallscheuer (Hg.), das Europa der Religionen. Ein Kontinent zwichen Saekularisierung und Fundamentalismus (Frankfurt a.M.: Fischer, 1996), S. 181-210, hier S. 189.

13 -صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات ، واعادة صنع النظام العالمي ص  42……
Vgl. Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (New York: Simon & Schuster, 1996), S. 42.ff. u.?.

14- كونراد هلبرت، حقوق الأنسان -التاريخ – علم الأهوت- الأهمية . ص 147.
Vgl. Konrad Hilpert,  Die Menschenrechte. Geschichte – Theologie – Aktualitaet (Duesseldorf: Patmos, 1991). S. 147

15 — بيلافيلد، المصدر نفسه ص 194 
Vgl. Bielefeldt, a.a.O., S. 124ff., S. 194.

16 – محمد طا لبي، حرية العقيدة – حق الأنسان ام اصطفاء الأنسان؟ في اشفارز لندر (حرية العقيدة ) المصدر نفسه ص 242 – 260.
Mohamed Talbi, Religionsfreiheit – Recht des Menschen oder Berufung des Menschen?, in Schwartlaender (Hg.), Freiheit der Religion, a.a.O., S. 242 – 260, hier S. 259.

17 –
Riffat Hassan, On Human Rights and the Qur`anic Perspective, in: ,Arlene Swidler (Hg.), Human Rights in Religious Traditions (New York: The Pilgrim Press, 1982), S. 51 – 65, hier S. 53.

18 – عبد الله احمد النعيم -نحو تطوير التشريع الإسلامى-ص10( صدر الكتاب باللغة الإنجليزية عام 1990 وترجمه إلى العربية وقدم له حسين احمد امين ، الناشر : سينا للنشر/ القاهرة، الطبعة الاولى 1994.- المترجم ) 
Vgl. Abdullahi Ahmed An-Na`im, Toward an Islamic Reformation. Civil Liberties, Human Rights, and International Law (New York: Syracuse University Press, 1990), S. 10: “The aim of this book is to contribute to the process of changing Muslim perceptions, attitudes, and policies on Islamic and not secular grounds”.

19 – ابو الأعلى المودودي، القانون الأسلامي والدستور ص 147
Vgl. Abul A`la Mawdudi, The Islamic Law and Constitution (Lahore: Islamic Publications, 3. Aufl. 1967),S. 147.

20 -المودودى، المصدر نفسه ص 295 ….
Vgl. Mawdudi, a.a.O., S. 295ff.

21 –
 Vgl. Yvonne Y. Haddad, Sayyid Qutb: Ideologue of the Islamic Revival, in: Joseph L. Esposito (Hg.), Voices of Resurgent Islam (Oxford: Oxford University Press, 1983), S. 67 – 98.

22 –
Vgl.  Dursun Tan, Aleviten in Deutschland. Zwischen Selbstethnisierung und Emanzipation, in: Gerdien Jonker, (Hg.), Kern und Rand. Religioese Minderheiten aus der Tuerkei in Deutschland (Berlin: Verlag Das Arabische Buch, 1999),S. 65 -88.

23 –
Wilhelm Heitmeyer + Joachim Mueller + Helmut Schroeder, Verlockender Fundamentalismus. Tuerkische Jugendliche in Deutschland (Frankfurt a.M.: Suhrkamp, 1997), S. 103f.

24- المصدر نفسه ص 123
Vgl. Heitmeyer u.a., a.a.O., S. 123.

25 –  المودودى يصرعلى عدم خلط “الثيوقراطية الديمقراطية التي يدعو لها بالسلطة السياسية للإكليروس التى كانت نموذجاً للقرون الوسطى المسيحية.ان الثيوقراطية الإسلامية تختلف إختلافا تاماً عن الإكليروسية ذات الطابع الغربى”. 
Auch Mawdudi (a.a.O., S. 147) besteht darauf, dass die von ihm propagierte “Theo-Demokratie’ nicht mit der politischen Herrschaft eines Klerus verwechselt werden duerfe, wie sie fuer das christliche Mittelalter typisch gewesen sei. Vielmehr sei die islamische Theokratie vom Klerikalismus westlicher Praegung voellig verschieden:”… Islamic theocracy is something altogether different from the theocracy of which Europe has had bitter experience wherein a priestly class, sharply marked off from the rest of the population, exercises unchecked domination and enforces laws of its own making in the name of  God…”.

26 – فؤاد زكريا، العلمنة – ضرورة تاريخية فى: ميشيل لودرز (محرر)، الإسلام فى إنتفاضة؟ آفاق العالم العربى – ص 228 – 245 ، ص 236.
Fuad Zakariya, Saekularisierung – eine historische Notwendigkeit, in: Michael Lueders, (Hg.), Der Islam im Aufbruch? Perspektiven der arabischen Welt (Muenchen | Zuerich: Piper, 1992), S. 228 – 245, S. 236.

27 – على عبد الرازق، الإسلام واصول الحكم (الترجمة الفرنسية ) نشر في جزءين في مجلة الدراسات الإسلامية’ العدد 7 (1933) ص 353 – 391 و العدد 8 (1934) ص 163-222 
Ich beziehe mich im folgenden auf die franszoesische Uebersetzung: Ali Abdarraziq, L`islam et les bases du pouvoir, in zwei Teilen erschienen in: Révue des Etudes Islamiques, Bd. VII (1933),  S. 353 – 391 und Bd. VIII (1934), S. 163 – 222.

28 –  المصدر نفسه الجزء الاول ص 391 
So Abdarraziq, a.a.O., Teil 1, S. 391

29 – المصدر نفسه الجزء الثانى ص 220
Vgl. Abdarraziq, a.a.O., Teil 2, S. 220f.

30 –  المصدر نفسه الجزء الثانى ص 198 
Vgl. Abdarraziq, a.a.O., Teil 2, S. 198.

31 –  المصدر نفسه الجزء الثانى ص 206 …..
Vgl. Abdarraziq, a.a.O., Teil 2, S. 206f.

32  –
Vgl. Muhammad Said al-Ashmawy, L`islamisme contre L`islam (Paris: La Découverte, 1989), S. 11, 34, 85 u.?. 

33 – نصر حامد ابوزيد، الإسلام السياسى. نقد الخطاب الدينى ص 26 ……
(ترجمت الكتاب الى الالمانية شريفة مجدى وقدم له نافيد كرمانى والترجمة تمت من الطبعة الثانية 1994 دار سينا للنشر – القاهرة.      -المترجم )
Vgl. Nasr Hamid Abu Zaid,  Islam und Politik. Kritik des religioesen Diskurses (Frankfurt a.M.: dipa-Verlag, 1996), S. 26f.

34 – المصدر نفسه ص 45
Vgl. Abu Zaid, a.a.O., S. 45

35  – ابوزيد، حديث بين ابي زيد ونافيد كرمانى، المصدر نفسه ص 191 – 213 ، ص 207. 
        اٌضيف الحديث كفصل أخير بعنوان تحرير القرآن إلى كتاب ابي زيد المذكور اعلآه 
Abu Zaid, die Befreiung des Korans (Interview-Gespraech mit Navid Kermani), in Abu Zaid, a.a.O., S. 191-213, hier S. 207.

36  – زكريا، المصدر نفسه ص 243
Zakariya, a.a.O., hier S. 243.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial