حقوق الإنسان في عصر العولمة

Deutsch

رؤية عربية

برلين – 24 مارس 2000

كلمة أ. محمد فائق
أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان

مقدمة

تتشابك العلاقة بين حقوق الإنسان والعولمة بشكل كبير، حيث تؤثر العولمة بتجلّياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تأثيراً عميقاً على حقوق الإنسان في كل هذه المجالات.

كما أنّ العولمة في إطارها النظري الذي يدعو إلى تزايد التبادل وتحقيق الاعتماد المتبادل على مستوى الكوكب، وإدارة المصالح المشتركة للبشرية ولصالح البشرية، تبدو وكأنّها أصبحت ضرورة لا غني عنها للتعامل مع كثير من قضايا حقوق الإنسان، بعد أن اتسعت هذه الحقوق وتشابكت على مستوى الكوكب. فقد أصبحت حقوق الإنسان جزءاً من القانون الدولى. ولم تعد الانتهاكات الجسيمة التي تحدث لحقوق الإنسان في أي مكان من العالم، من الشئون الداخلية للدولة بل إصبحت تدخل في اهتمام المجتمع الدولي ككل، وتتطلب تدخله، وإن كانت معايير هذا التدخل ما زالت تثير الكثير من الجدل.

وقد اتسعت دائرة حقوق الإنسان لتشمل قضايا لا يمكن معالجتها في نطاق إقليمي محدود، وإنما يكون ذلك على مستوى الكوكب، مثل الحق في السلام الذي أصبح يحتاج إلى ترتيبات أوسع نطاقاً من الدول المتنازعة.

كذلك الحق في التنمية الذي تجلت فيه مسئولية الدول القادرة حيال الدول التي تنعدم فيها إمكانات التنمية لنقص الموارد. وكذلك هناك الحق في بيئة نظيفة، فما يحدث من حرائق في غابات الأمازون يؤثر على العالم أجمع.

ومع التطور المذهل في العلم واختصار عوامل المسافة والزمن وتملك الإنسان لمقدرات مجاله الحيوي، قد بلغنا درجة لا يمكن معها التهرب من ضرورة إدارة كل من الفضاء البحار والتجارة وأنشطة الإنتاج والاستهلاك لصالح الإنسان وبمفاهيم تُعَلّي من قيمة الإنسان، قبل أن ندمر أنفسنا وندمر الكوكب الذي يجمعنا بعد أن انطلقت طاقات المعرفة والعلم والتكنولوجيا، وظهرت الحاجة الملحة لترشيد المعرفة والعلم والتكنولوجيا لتكون في خدمة الإنسانية كلها وفي خدمة كل الأجيال، حتى لا تنتصر التكنولوجيا على حساب هزيمة الإنسان والإنسانية نفسها، أو لحساب جيل على حساب الأجيال الأخرى.

ومن أجل ذلك كله تبدو الحاجة إلى النظرة الكوكبية حتى ونحن نتصرف محلياً، وإن كان البعض يعكس هذه المعادلة بأن يكون التفكير محلياً والتصرف كوكبياً، المهم في كلا الحالتين أن يكون البعد الكوكبي ماثل دائماً أمامنا فقد تشابكت المصالح إلى حد بعيد. 

ولكن هذا الإطار النظري للعولمة شئ والعولمة التي ظهرت وعرِفناها حتى الآن على أرض الواقع شئ آخر. فقد هيمنت الأسواق على عملية العولمة مما أدى إلى أن تحتكر شعوب وأقطار بعينها فوائد العولمة ونتائجها الإيجابية وتترك سلبياتها لشعوب وأقطار أخرى حُرِمت من هذه الفوائد.

واقع العولمة

فالعولمة كما رصدناها في العقدين الأخيرين، هي اتجاه متعاظم نحو تخطي الحدود، أي التعامل دون اعتداد يُذكر بالحدود السياسية أو الانتماء إلى وطن محدد أو دولة معينة، ودون حاجة لإجراءات حكومية. ويظهر ذلك بشكل واضح في الشركات متعددة الجنسيات، وفي انتقال رأس المال الذي يظهر بوضوح في استخدام بطاقات الائتمان.

وللعولمة شقين أولهما : شق واقعي أو مادي جاء نتيجة التطور العلمي والتكنولوجي الهائل وما ترتب عليه من ثورة في وسائل الاتصال والإعلام وانتشار المحطات الفضائية التي تبث برامجها لكل أنحاء الكوكب ولكل البشر على هذا الكوكب دون أن تحدها حدود. وأيضاً في ثورة المعلومات الهائلة التي تجسدها شبكة الإنترنت.

وهذا الجانب من العولمة ليس مطروحاً للقبول أو الرفض فهو واقع أصبح أحد ظواهر العصر الذي نعيشه، وليس أمامنا إلا أن نقبل به ولكن علينا أن نعرف كيف نتعامل معه لنكون أكثر تأثيراً في عالمنا.

أما الشق الثاني للعولمة : فهو شق قيمي، جاء نتيجة الطابع التوسعي التنافسي لنمط الإنتاج الرأسمالي الذي فرض اقتصاد السوق على العالم، وعزّزه باتفاقية التجارة العالمية (الجات). وهذا الجانب هو الذي يثير كثيراً من المخاوف والشكوك. خاصة وأن جولة أورجواي جاءت ضربة قاضية للدول النامية حيث فرضت الدول الصناعية الكبرى شروطها المجحفة فحررت التجارة وانتقال رؤوس الأموال، ولكنها فرضت حماية مبالغ فيها للملكية الفكرية بما يجعل نقل التكنولوجيا والمعرفة امر باهظ التكلفة بالنسبة للدول النامية.

وهذا الجانب القيمي من العولمة هو الذي يجعل من العولمة مسألة خلافية وسنحاول فيما يلي أن نوضح أثر العولمة في مجالات حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والثقافية.

العولمة والحقوق السياسية والمدنية

مما لا شك فيه أن الحقوق السياسية والمدنية تدعّمت كثيراً في عصر العولمة بعد أن أصبحت حقوق الإنسان هي بحق لغة العصر وذلك لعدّة أسباب :

أولها : التطور المذهل في تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات سواء في انتقال الخبر بما في ذلك أخبار الانتهاكات وكذلك الوصول إلى المواطن العادي عبر الفاكس والإنترنت علاوة على وسائل الإعلام المختلفة التي جعلت جميع الناس في كوكبنا يعيشون في رؤية ومسمع من بعضهم البعض. وبالتالي لم يعد من الممكن إخفاء الانتهاكات التي تحدث لحقوق الإنسان، وهذا يعتبر تطوراً هاماً. كما أنه أصبح من المستحيل إقامة الأسوار الحديدية مرة أخرى حول أي مجتمع من المجتمعات بفضل هذه الثورة في الاتصال وفي المعلومات.

ثانياً: لقد أمكن لمنظمات حقوق الإنسان في العالم بما فيها منظمات العالم الثالث من عمل ” مجموعة شبكات لحقوق الإنسان متعددة الجنسية” تضم معظم جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان في الكوكب مدعومة من الحكومات الغربية ومؤسسات التمويل الغربي وأصبح من السهل التحرك دولياً في مواجهة الانتهاكات المحلية كما أصبح من الممكن أن تجعل صوتاً عالمياً لمن يُحرم من صوته وتُجَيَّشُ منظمات حقوق الإنسان في العالم كله ضد هذه الانتهاكات ومساندة نشطاء حقوق الإنسان. وتعتبر هذه الشبكات نواة حقيقية لقيام مجتمع مدني على مستوى الكوكب، ولقد لعبت الإنترنت وأدوات الاتصال الحديثة بما فيها الفاكس والتلفون المحمول والميديا العالمية الدور الرئيسي في إقامة هذه الشبكات.

إلا أن هناك ثمة إشكالية تولدت عن رفض بعض الحكومات العربية لمنظمات حقوق الإنسان أو ملاحقتها باستمرار، الأمر الذي دفع الكثير من هذه المنظمات إلى أن تستمدحمايتها وتمويلها وأولوياتها من الخارج، حتى أصبحت تبدو وكأنها امتداد لمنظمات في الخارج وفقدت التفاعل الحقيقي مع المؤسسات الوطنية والشعبية وكذلك مع الحكومات العربية. ورغم النجاح الذي تحققه هذه المنظمات نتيجة الضغط من الخارج واستجابة كثير من حكومات العالم الثالث إلى هذه الضغوط الخارجية إلا أن ذلك لا يُحْدِثُ التراكم المطلوب داخلياً ليجعل التقدم في مجال الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان سياسة ثابتة غير قابلة للارتداد.

ثالثاً : لا شك أن ثورة التجارة العالمية ضاعفت من نقاط الاتصال بين المجتمعات المنفتحة والمجتمعات المنغلقة، ولا شك أن مثل هذا الاحتكاك والتعامل مع مؤسسات التمويل الدولية والبنوك يدفع إلى التقدم في مجال الوعي بالحريات الأساسية والديمقراطية، وخاصة أن معظم الدول والمؤسسات العالمية الغربية المهتمة بعمليات التحول إلى اقتصاد السوق مثل الولايات المتحدة وصناديق التنمية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالإضافة إل مجموعة الدول الأوروبية، تربط بين المساعدات التي تقدمها للدول النامية وبين سجل حقوق الإنسان والتحولات الديمقراطية في هذه الدول. وبطبيعة الحال فإن ازدهار الديمقراطية يؤثر إيجابياً على حقوق الإنسان. 

التناقض بين قيم العولمة المعلنة والممارسة الفعلية

ولكن هناك مشكلة حقيقية تواجه هذا التيار الجامح نحو تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الذي اتت به رياح العولمة العاتية، وهو أنّ النظام الدولي القائم حالياً ليس نظاماً ديمقراطياً حيث توجد فيه دولة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تفرض قوانينها ونمط استهلاكها وثقافتها على العالم أجمع فظهرت المعايير المزدوجة والانتقائية في مواجهة قضايا حقوق الإنسان أو المشاكل الإنسانية. ويظهر ذلك جلياً في فرض الحصار على شعب العراق واستمرار هذه السياسة رغم ما تشكله من انتهاك جسيم لحق الشعب العراقي في الحياة والذي وصل إلى ما يمكن اعتباره إبادة الجنس. وقد إدّى هذا الحصار إلى زيادة القمع والقهر الذي يعاني منه الشعب العراقي بل إن هذا الحصار أوجد المبرر لاستمرار هذه السياسة القمعية. لقد أساءت الولايات المتحدة الأمريكية استخدام حق التدخل لأسباب إنسانية وتعسّفت في مسلكها كدولة عظمى وخرجت على قواعد القانون والمواثيق الدولية. وفي نفس الوقت تستخدم الولايات المتحدة حق الفيتو في مجلس الامن 150 مرة حتى الآن لحماية إسرائيل من أي قرار يدينها أو يوقع عليها عقوبة نتيجة أعمالها الوحشية ومذابحها ضد الشعب الفلسطيني العربي من دير ياسين إلى مذبحة قانا مروراً بتهجير شعب فلسطين إلى الشتات وحرق قُراه واستمرار احتلال الأراضي العربية، وإطلاق التهديدات التي تفضح سياستها العنصرية مثل التهديد بقتل الأطفال وحرق التراب اللبناني.

ظهرت نفس مشكلة الانتقائية والمعايير المزدوجة في كل من الصومال وبورندي والشيشان وأماكن أخرى كثيرة من العالم.

العولمة والحقوق الاقتصادية

رغم ما بشّرَ به الكثيرون من أنه في ظل العولمة وتحرير قوى التنافس سوف تُوجَّه الموارد البشرية والمادية إلى المواقع الإنتاجية ( وهو ما يعرف بالاتجاه الكفء للاقصاد ) وسوف يترتب على ذلك تزايد مضطرد في حركة الإنتاج بالمعنى الواسع، على الصعيد الدولي بما يُشبع احتياجات البشر بشكلٍ أفضل.

إلا أنه في ظل العولمة اتجه العالم نحو استقطاب شديد في الفقر الذي اتسعت دائرته بشكلٍ مخيف ( حيث يعاني 840 مليون نسمة من الجوع، و 2 بليون آخرون يعانون من سوء التغذية ). كما يتجه العالم إلى تركيز شديد في الثروة، وذلك على مستوى الدول ومستوى الأفراد أيضاً داخل الدولة الواحدة.

فَخُمس سكان العالم ممن يعيشون في أعلى البلدان دخلاً يحصلون على 86% من الناتج الإجمالي، 82% من صادرات العالم، 68% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، و 74% من خطوط الهاتف في العالم. أما خُمس السكان ممن يعيشون في أشد البلدان فقراً فإنهم يحصلون على 1% فقط من الناتج الإجمالي العالمي.

ويرجع ذلك لعدّة أسباب أهمها هيمنة الأسواق على عملية العولمة وتكريسها لزيادة الربح دون اعتبار يُذكر لما يعكسه ذلك على حقوق الناس.

ويقول تقرير التنمية البشرية لعام 1999 “أن الآثار الجائرة المترتبة على العولمة التي توجهها الأسواق ويوجهها تحقيق الربح، أوسع وأعمق من البيانات المذكورة عاليه حيث أنها تمس جميع جوانب حياة الإنسان”. كما يضيف التقرير أن الرعاية التي تمثل قلب التنمية البشرية غير المرئي “مهددة لأن السوق العالمية التنافسية الموجودة الآن تفرض ضغوطاً علىما يلزم لأعمال الرعاية من وقت وموارد وحوافز، وهي أعمال بدونها لا ينتعش الأفراد ومن الممكن أن ينهار التماسك الاجتماعي”. ومما لا شك فيه أن هذه الأوضاع تؤثر على تراكم القدرات الإنسانية للمجتمع التي تعتبر الآن أهم للتنمية من تراكم رأس المال.

والسبب الثاني ناتج عن طبيعة التطور التكنولوجي نفسه وظهور الآلات المتطورة الموفرة للوقت والجهد الإنساني مما جعل المشروعات الكبيرة التي تطبق أساليب التكنولوجيا تُلغي من الوظائف أكثر مما تخلق من هذه الوظائف وتجري باستمرار عمليات “Re-engineering’ على نطاق واسع في مجالات العمالة في مختلف الشركات الكبرى وقد أدى ذلك إلى إلغاء كثير من الوظائف وإلى خفض هائل في عنصر العمل. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال تم القضاء بالفعل على مليون وثمانمائة ألف وظيفة في قطاع الصناعات التحويلية كان يعمل بها 120 ألف عامل في عام 1980 وانخفض عددهم إلى 20 ألف فقط عام 1990 وينتجون نفس القدر من المنتجات. ( التقرير السنوي للعمالة لعام 96/97 منظمة العمل الدولية).

وبطبيعة الحال يترتب على ذلك وجود جيش من العاطلين وكذلك تخفيض أجور ومرتبات العمال والموظفين وتقلص الكثير من المزايا والحقوق التي كانوا يحصلون عليها. 

يلاحظ أيضاً أنه في الثورات الصناعية السابقة كانت مكاسب الإنتاج الناجمة عن التقدم التكنولوجي، يتقاسمها جميع المشتغلين في الاقتصاد القومي مع اختلاف النِسَب.

أما الآن فإن ثمار زيادة الإنتاج الناتجة عن الثورة العلمية يتقاسمها عدد ضئيل جداً من الأفراد، والذين يمثلون تحديداً رجال الإدارة العليا وحملة الأسهم وعمّال المعرفة.

ويترتب على ذلك زيادة مطردة في فئات ما تحت خط الفقر، وتهميش هذه الفئات وتركيز الثروة في أيد قليلة.

وإذا كانت الحقوق السياسية والمدنية قد استفادت من عصر العولمة كما سبق أن أوضحنا فإن الحقوق الاقصادية والاجتماعية لم تأخذ نفس القدر من الاهتمام.

إن من حق الإنسان أن يتحرر من الفقر، وسوف تظل العدالة الاجتماعية قيمة من القيم التي يتحتم علينا وعلى المجتمع الدولي أن يتمسك بها، فتوازن المجتمع أمر ضروري لإيجاد الاستقرار الحقيقي وتحقيق الأمن ومقاومة العنف شرط أساسي لإقامة مجتمع ديمقرطي.

العولمة والحقوق الثقافية

إذا انتقلنا لبحث آثار العولمة على الحقوق الثقافية فسوف نجد الأمر أكثر تعقيداً وأكثر إثارة للجدل بين الخصوصية والعالمية وبين ما هو محلي وما هو كوكبي وبين التعددية والتوحيد في نظرة شاملة لما هو كوني. فالقيم المترسخة في ضمير الشعوب هي التي تشكل رؤيتها ونظرتها للعالم ومن هنا تأتي أهمية الثقافة بالنسبة لقضية العولمة.

ووفقاً للمواثيق الدولية، فللإنسان الحق في التمتّع بثقافته الخاصة واستخدام لغته والمجاهرة بدينه أي أن تكون له خصوصيته الثقافية التي تعني التباين بسبب اختلاف السلالة أو اللغة أو الدين في إطار الثقافة والفكر على مستوى الوطن والمنطقة – والحضارة.

إلا أن التفاوت الهائل في الإمكانيات الثقافية التي ارتبطت ببعض الحضارات يثير الكثير من المخاوف لما في ذلك من تهديد للخصوصية ولثقافات أخرى لا تملك هذه الإمكانيات.

وتتفوق الولايات المتحدة الامريكية في نسبة ما تصدِّره من ماد ثقافية وترفيهية ( كتب وأفلام السينما-والموسيقى-وبرامج التلفزيون-وال Software ) إلى حد أن صادراتها من هذه الماد تسبق جميع صادراتها من أي قطاع آخر. فقد حقق فيلم واحد (تيتانك) 1,8 بليون دولار. وهذا ما يدفع الولايات المتحدة إلى الإصرار على أن تعامل السلع الثقافية معاملة بقية السلع الأخرى بمعنى ألا تُفرض عليها قيود تمييزية.

بعكس فرنسا ودول أخرى التي تعتبر أن العولمة الثقافية خطر استراتيجي يهدد هويتها الثقافية.

أما في العالم الثالث فمشكلة العولمة الثقافية أنها تكاد تكون في اتجاه واحد نتيجة الإمكانيات الهائلة للولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى في هذا المجال والتي جعلت دول العالم الثالث في وضع المتلقي دائماً.

فقد ذكرت احصائيات منظمة اليونسكو أن شبكات التلفزيون العربية، تستورد ما بين ثلث إجمالي البث (كما في سوريا ومصر) ونصف هذا الإجمالي (كما في تونس والجزائر)، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على ذلك حيث تصل النسبة إلى 58 % من إجمالي البث، و 96% من مجموع البرامج الثقافية.

ولا شك أن هذه الأوضاع تثير مخاوف الكثيرين في منطقتنا باعتبارها تُهدد الهوية الثقافية التي هي حق من حقوق الإنسان.

يزيد من هذه المخاوف خروج عدة نظريات متعجلة في أعقاب سقوط حائط برلين تُبَشِّر بانتصار الليبرالية الجديدة والحضارة الغربية ووجوب تعميمها لتشمل العالم أجمع، مثل مقولة “نهاية التاريخ” التي خرج علينا بها فرانسيس فوكوياما، ومقولة “صدام الحضارات” التي خرج علينا بها صامويل هنتنجتون.

ورغم أن هذه المقولات لم تستند إلى تحليل موضوعي لما سيكون عليه شكل النزاعات في القرن الواحد والعشرين، إلا أنها أثارت الكثير من المخاوف لأنها صدرت عن جهات معتمدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية. فجاءت وكأنها تنظير لسياسة الهيمنة الأمريكية خاصة وأنها تميزت بالعداء الشديد للإسلام.

خصوصية عربية

منذ ظهور الاهتمام بموضوع العولمة، أصبحت قضية حقوق الإنسان في الوطن العربي ربما من أهم القضايا المطروحة على الساحة. وليس ذلك فقط لتردي حالة حقوق الإنسان في منطقتنا وإنما أيضاً لالتباس المفاهيم في مجتمعاتنا العربية. فما زال البعض يعتقد أن حقوق الإنسان مفهوم دخيل على ثقافتنا العربية صاغه المجتمع الغربي لتحقيق مآرب سياسية. ويدلل أصحاب هذا الرأي على ذلك بطابع الازدواجية والانتقائية في تعامل الغرب مع قضايا حقوق الإنسان في المنطقة.

وبجانب الجدل حول المفاهيم هناك الجدل أيضاً حول الإطار المرجعي لحقوق الإنسان الذي يتنازعه تياران، يرى أحدهما ضرورة الالتزام الكامل بالعهود والمواثيق الدولية كمرجعية حاسمة لحقوق الإنسان، بينما يرى الآخر تعارض المفاهيم الدولية مع الخصائص الدينية والثقافية والحضارية السائدة في بلداننا العربية ثم اتجاه البعض لتوظيف هذه الاختلافات في العراك السياسي القائم بين التيارات العلمانية والتيارات الإسلامية.

ثم هناك الجدل حول عالمية حقوق الإنسان، وما يجره ذلك من تدخل في الشئون الداخلية للدولة. ولا يغيب عن الحكومات العربية كيف استُغلّت حقوق الإنسان لتفكيك الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. وقد أسفر هذا اللبس عن انصراف بعض الحكومات العربية عن الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان ، كما ظهر أيضاً في موقف الدول العربية من الميثاق العربي لحقوق الإنسان والذي صدر من خلال جامعة الدول العربية ولم تصدّق علبه سوى دولة واحدة فقط.

وتقف المنظمة العربية لحقوق الإنسان مع المفاهيم التي جائت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنظومة الإعلانات والعهود والمواثيق الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة وذلك اعتقاداً منها أنه لا يوجد تعارض بين هذه المواثيق وجوهر الثقافة العربية والإسلامية وما أتت به الأديان السماوية الأخرى.

ورغم أن عبارة حقوق الإنسان استخدمها الغرب أولاً، إلاّ أن مضمون وجوهر هذه الحقوق جاء نتيجة نضال إنساني طويل وثورات إنسانية وعالمية كان للعرب والمسلمين مساهماتهم الهامة في تأكيد هذه الحقوق.

كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يكن مجرد وثيقة غربية أو مجرد أفكار غربية فرضت علينا، ولكنها جائت نتيجة مفاوضات وجهود إنسانية شارك فيها المجتمع الدولي كله شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، بكل حضاراته وثقافاته من خلال الامم المتحدة. فهو بالتالي عمل إنساني شاركنا فيه، ويمثل الحد الأدنى من التوافق بين كل هذه الدول بحضاراتها وثقافاتها المختلفة. 

والغريب أن كل الجهود الجادة والمخلصة التي انصرفت إلى عمل مواثيق حقوق إنسان إسلامية توصّلت إلى أن الإسلام أمر بهذه الحقوق قبل أن يتحدّث بها الغرب وانها في الإسلام أوسع وأشمل مما جاء في المواثيق الدولية وأنها ليست مجرد حقوق ولكنها في حكم الإسلام واجبات تُلزم المسلم الأخذ بها. وهذا يزيل التناقض فمن يؤمن بالأشمل والأعم يقبل بما هو أدنى لتعميمه دولياً، ولا يمنع ذلك من أن نذهب إلى هو ما أبعد منها إقليمياً لتأكيد خصوصيتنا التي هي ربما أوسع من الحد الذي اتفق عليه دولياً.

ولكن الملاحظ أن المواثيق التى تصيغها الحكومات تعمل بعكس ذلك فالميثاق العربي لحقوق الإنسان جاء هزيلاً وأقل كثيراً مما نصت عليه المواثيق الدولية، وكذلك جاء إعلان القاهرة الصادر عن المؤتمر الإسلامي (حقوق الإنسان في الإسلام ).

والحقيقة أن معظم الذين يأخذون الخصوصية في مجال حقوق الإنسان نقيضا للعالمية، يفعلون ذلك للإفلات من الالتزامات الدولية في هذا المجال. 

ففكرة العالمية في مجال حقوق الإنسان هي التي نقلت حقوق الإنسان من مجرد شأن من الشئون الداخلية لتصبح جزءاُ من القانون الدولي.

وفكرة أن جميع البشر يدخلون القرن الجديد وهم يمتلكون منظومة من الحقوق الغير قابلة للتصرف والتي لا يمكن انكارها باعتبارها حق مكتسب منذ ولادتهم، هي فكرة تستحق أن نتمسك بها وأن نناضل من أجل جعلها حقيقة.

وعالمية حقوق الإنسان – كما أكدت قرارات مؤتمر فينا العالمي لحقوق الإنسان – لا تتعارض مع فكرة التنوع الثقافي والخصوصية الثقافية التي هي أيضاً حق من حقوق الإنسان والشعوب.

هل تتأثر عالمية حقوق الإنسان بالعولمة ؟

في اعتقادي أن العالمية شئ مختلف عن العولمة، فالعالمية لا تُنهي دور الدولة، ولا تسعى للتقليل من شأنها. فالعالمية تضع على الدولة التزامات معينة وهي تحتاج لدور الدولة لتنفيذ هذه الالتزامات.

هذا بعكس العولمة التي تحد من دور الدولة وسلطاتها لتضعف تأثير الحدود السياسية والسيادة. والعالمية توحي بالمشاركة حيث يتم التعاهد أو التوافق بين المجتمع الدولي على أهداف محددة أو مفاهيم معينة مقابل التزامات يقبلها الجميع، وهي تعني الانفتاح على الآخر، وتعبر عن الرغبة في الأخذ والعطاء.

أما العولمة فهي تسييد أوضاع معينة على العالم أجمع أي أنها تعتمد على التحول من الخارج. فلن تتغير الاقتصاديات من داخل الدولة – على سبيل المثال – لذلك لا بد من فرضها من خلال المؤسسات الدولية والضغوط الخارجية من أجل تحويل هذه الاقصاديات وإدماجها في النظام العالمي وليس اعتماداً على الدينامية الذاتية، وهي بذلك اختراق للآخر وسلب لخصوصيته.

فإذا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص على حالة حقوق الإنسان فإن عالمية حقوق الإنسان تعني الالتزام في هذا المجال بالمفاهيم التي أقرّها المجتمع الدولي من خلال أكثر من مئة اتفاقية وإعلان وعهد دولي، وتعني أنّ حقوق الإنسان كل لا يتجزأ. 

أما العولمة في مجال حقوق الإنسان فتعني تعميم مفهوم حقوق الإنسان في ثقافة الدولة الأقوى، والتي هي حالياً الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها ثقافة الأمة الصاعدة والساعية للهيمنة على مستوى العالم كله.

الخلاصة 

ونخلص من هذا العرض السريع إلى ما يلي :-

أولاً : إذا كنا نريد بالفعل أن تكون العولمة لصالح البشر حقيقة يجب أن تُتَّخذ حقوق الإنسان لتكون المؤشر الرئيسي لتوجيه مسار العولمة، ولا شك أن أخطر ما يواجه البشرية في مجال العولمة هو النظر لهذه العولمة هي أنها عولمة اقتصادية فقط دون بعدها الإنساني. فلا يُمْكن قبول فكرة هيمنة الأسواق على عملية العولمة ليكون الربح وحده هو اساسها في غياب الاعتبارات الإنسانية وحقوق الإنسان، كما أنه لا يُمْكن أيضاً قبول فكرة استخدام علاقات القوة السياسية لفتح الاسواق قسراً. فالأوربيون والأمريكيون – على سبيل المثال _ يدعمون الزراعة في بلادهم، ولكنهم لا يترددون في تفكيك زراعة الدول الأخرى من خلال ضغط السوق المفتوحة مما يزيد من تبعية هذه الدول ويُؤثر بالتالي على حقوق هذه الشعوب ومعاناتها.

ثانياً : مع اعتقادنا بإنه من غير الممكن تجاهل آليات السوق أو القفز فوقها فأنه من الخطر تصور أن قوى السوق أو العلم والتكنولوجيا ستوفر لنا طريقة شبه أوتوماتيكية التوازنات التي لا نستطيع تحقيقها. 

إنّ السوق والعلم والتكنولوجيا كلها أدوات من صنع الإنسان وهي بكل تأكيد لها كفاءة لا يُمكن إنكارها ولكن علينا أن نظل مدركين أنها مجرد أدوات وأنها وسيلة وليست غاية في حد ذاتها كما يُنظر إليها الآن بعد أن فُرِضت على المجتمعات البشرية، وتسببت في تراكم أزمات لا مخرج معروف لها حتى الآن، منها التفرقة الاجتماعية والهوة التي تتجذر بين الأغنياء والفقراء (مجتمعات ودولاً) وكذلك الحروب البلهاء من أجل التحكم في مصادر الطاقة والمياه الشحيحة وصولاً إلى عصابات المافيا والربط بين تجارة المخدرات والعنف.

وثالثاً : لقد أصبح العالم في حاجة إلى مشروع عالمي تلتقي عنده شعوب الأرض بجميع ما يوحد هذه الشعوب ويسمح لها في نفس الوقت بالتمايز الذي يحفظ الهوية.

ويقوم هذا المشروع على أساس المساواة ليكون هدفه الأساسي تحقيق السلام والتقدم للبشرية كلها. ويكون هذا المشروع قادراً على توفير إدارة جيدة للشئون المشتركة لكوكبنا Good Global Governance . ولا أعتقد أن هناك مبادئ أساسية يمكن أن يرتكز عليها هذا المشروع أفضل من المبادئ التي ارتكز عليها قيام الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما كانت مخاطر الحرب ما زالت ماثلة أمام العالم. وأقصد ميثاق الأمم المتحدة ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ما أحوجنا اليوم للتمسك بالمبادئ الواردة في هذه المواثيق والإخلاص لها من جديد لكي ننقذ كوكبنا.

أما جهاز الأمم المتحدة وآلياتها فيحتاج إلى إصلاح جذري ليواجه العالم المتغير الجديد، فلم يعد الشكل الهرمي الذي قامت عليه الأمم المتحدة وتركيزكل السلطات في مجلس الأمن يصلح لعالم شديد التمسك بالمشاركة. فقد أصبح من الضروري أن تُتَّخذ القرارات قريباً من القاعدة. فكم من قرارات اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وبقيت مجرد حبراً على ورق. وكم عجز مجلس الأمن صاحب السلطة العليا على اتخاذ مجرد قرار لمواجهة أكبر الكوارث.

إننا أمام مفترق طرق، فأما أن تكون العولمة هي الإنقاذ الحقيقي للبشرية، بأن نأخذ بُعدها الإنسان وتكون بالفعل لصالح البشرية كلها أو تتجرد العولمة من هذا البعد الإنساني وتستمر هيمنة الأسواق وسياسة الربح وحدها المحرك الوحيد للعولمة، فتصبح العولمة بذلك مرحلة جديدة من مراحل الهيمنة، بعد الاستعمار والاستعمار الجديد والإمبريالية.

إنّ ما حدث في سياتل يعطينا الأمل في أن التغير ممكن لصالح البعد الإنساني وأن العولمة ليست قدراً تتحكم فيه دولة واحدة أو عدد قليل من الدول.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial