العولمة ومخاوف العالم العربي

Deutsch

“.. لا يكفي أن تصف موج البحر, وظهور السفن, حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر .. لا بد لك أن تفهم ما في القاع .. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش .. وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً, يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن, وثروات وركاباً .. وينزفون عرقاً, وتتمزق أجسامهم تحت السياط .. أجل! ينبغي أن تعطيني الصورة كاملة, عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور”. 

                من مقدمة بان خلدون 

أ. كاظم حبيب

طبيعة مخاوف العالم العربي الإسلامي من العولمة

تثير العولمة منذ سنوات حوارا صاخبا اقتصر في الغالب الأعم على جمهرة من المثقفين وبعض القوى السياسية في العالم العربي, إذ كانت وما تزال الآراء والمواقف مختلفة بشأنها تتراوح بين مناهض عنيد ومؤيد متحمس أو قلق متردد. وعجز المتحاورون حتى الآن عن إثارة اهتمام مختلف الفئات الاجتماعية ومشاركتها الفعلية في الحوار, رغم ارتباطها الوثيق بحياة الناس وفرص العمل والأجور والخدمات. وينتمي المناهضون والمؤيدون إلى أحزاب وقوى ذات إيديولوجيات وسياسات ومصالح متباينة ويرتبطون بطبقات وفئات اجتماعية مختلفة تتباين في تحديد الأسباب التي تدعوها إلى رفض العولمة ومقاومتها أو السير في ركابها. وقد شمل هذا الرفض قوى يسارية وأخرى قومية وجماعات إسلامية ونقابات في آن واحد, مع اختلافات واضحة في منطلقات رفضها. وإذا كان اللقاء الفكري بين القوى القومية وجماعات الإسلام السياسي واضحا, فأن الاختلاف بينهما وبين اليساريين العرب, ومن بينهم الماركسيين, ما يزال كبيرا. أما تأييد العولمة فما زال محدودا جدا ومحصورا بجمهرة من المثقفين والسياسيين اللبراليين التي تتبنى مواقف حكوماتها عمليا أو تمارس الضغط على حكوماتهم لتبني سياسات العولمة وممارستها, كما هو الحال في مصر وتونس ولبنان والمغرب. وينتقل رفض العولمة المشحون بالمخاوف منها إلى المجتمعات في الدول العربية ويسيطر على أذهان كثرة من الناس ويقترن عندها بذكريات وتداعيات غير طيبة وغير عادلة من جانب الغرب إزاء العرب والمسلمين. فما هي تلك المخاوف التي تثيرها العولمة؟ وكيف يجري التعامل معها في العالم العربي حتى الآن؟ وما هي حقيقة هذه المخاوف ارتباطاً بعملية العولمة الجارية؟ في هذه المداخلة المكثفة محاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة من منظور مختلف كثيرا عن المواقف السائدة في الدول الرأسمالية المتقدمة, رغم وجود التناقض والصراع فيها حول دور العولمة ودور الدولة الوطنية والثقافة القومية فيها أيضاً.

أما القوى القومية العربية فأنها تلتق مع جماعات الإسلام السياسي, أي الجماعات الأصولية, في خشيتها الفائقة من العولمة باعتبارها خطرا داهماً يهدد مجموعة من الثوابت القومية والدينية التي لا يجوز المساس بها بأي حال, كما أنها تلتقي مع اليساريين في موضوع الاستغلال والتهميش للمجتمعات النامية وتحويلها إلى توابع خاضعة لسياسات ومصالح المراكز الرأسمالية المتقدمة, علماً بأن بعض القوميين العرب علمانيو النزعة. 

تستند جماعات الإسلام السياسي ومجموعات من القوى القومية في معارضتها للعولمة إلى صراعات الماضي البعيد ابتداءا من الحروب الصليبية ومرورا بالهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة على الدول العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين وانتهاء بالسياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء القضايا العربية, ومنها القناعة بوجود موقف متحيز دوما إلى جانب إسرائيل ضد الحقوق العربية المشروعة, وفي مقدمتها قضية فلسطين, وكذلك الحصار التجويعي المفروض والموجه ضد الشعب العراقي وليس ضد نظام الاستبداد في بغداد. كما تنظر نسبة كبيرة من سكان الدول العربية تحت هذا الهاجس, إلى العولمة لا باعتبارها عملية موضوعية بل بدعة غربية, ومشروعا أمريكيا تحديدا, يراد من خلالها فرض الهيمنة الكاملة على العالم العربي والإسلامي باسم الموضوعية والحتمية التاريخية. فالدكتور محمد عابد الجابري كتب يقول بأن العولمة “تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً معينة, هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع”. فهي مشروع غربي جديد يستهدف مواجهة وتخريب الرؤية الكونية الشمولية للإسلام والمسلمين. إنها مشروع معادي قديم بلباس جديد. وفي مثل هذه الحالة يكون الفكر مغلقا إزاء العولمة ويصبح الحوار حول الموضوع أكثر تعقيدا. ولكن ما هي تلك الثوابت القومية والدينية, أو بتعبير آخر: ما هي نقاط الصراع التي تثيرها جماعات الإسلام السياسي, ومعها بعض القوى القومية العربية في المرحلة الراهنة إزاء العولمة؟ 

أولا: تعتبر الجماعات الإسلامية والقومية العولمة بمثابة تهديد مباشر للهوية العربية والإسلامية, فهي تهديد لل “أنا” التي تجسد قومية ودين وثقافة وتاريخ ولغة وتقاليد وعادات ووطن الإنسان العربي المسلم. فالبعض منهم يدّعي أنها تبشر بالفكر الديني المسيحي “الآخر” الذي يستند إلى الثقافة الغربية المناهضة للثقافة الشرقية العربية الإسلامية. في حين ترفض جماعات من القوميين العرب هذا التحديد, إذ لا ترى أنها تحمل فكرا دينيا مسيحيا, بل فكرا وهوية هلامية وشمولية عالمية مضللة, وأن العولمة تستهدف كل الأديان بما فيها المسيحية, وهي بهذا المعنى تحمل معها وتنشر الكفر والإلحاد. فهي ثقافة أوروبية-أمريكية مناهضة للعرب ولكل الأديان ولهذا يفترض أن ترفض والقبول بها يعني السماح لها بتفتيت الشخصية العربية الإسلامية واستسلامها أمام الضغط العولمي الجارف. وتشير هذه الجماعات إلى دور الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا حيث تركز جهد المستعمرين على إلغاء الهوية العربية والإسلامية لشعوب المغرب العربي وإلغاء لغة القرآن من خلال فرنسة المجتمعات, التي كانت واضحة جدا في الجزائر. ويرى هؤلاء بأن العولمة ليست ظاهرة جديدة, بل هي قديمة والجديد فيها أن حاملها هو التقنيات الحديثة التي تمنح الثقافة الأقوى إمكانية القضاء على الثقافة الأضعف والحلول محلها. وبما أن الدين الإسلامي هو مكون أساسي للثقافة العربية, فأن القبول بالعولمة يعتبر القبول باختراق وغزو المجتمعات العربية الإسلامية ثقافيا. وهذا الخطر الكامن على الثقافة الإسلامية, التي عجزت الحضارة الغربية على تدميرها طوال قرون, تبرز الآن في جملة من المظاهر ابتداءا من إغراق دور السينما بالأفلام الأمريكية ومحطات التلفزة بأفلام الجنس والرعب والعنف والمخدرات والعربدة, والدعاية التي تروج لها وتتعامل بها الشركات المتعددة الجنسية. 

ثانيا: وترى هذه الجماعات بأن العولمة بطبيعتها الكونية المناهضة للكونية الإسلامية تسعى إلى إلغاء التنوع الثقافي وفرض ثقافة بعينها, هي الثقافة الإنجلو-سكسونية أو الأمريكية, باسم العولمة, فهي الملبس الأمريكي, (الجينز الأزرق), باعتباره الزي الموحد للنساء والرجال, والمأكل السريع (الهامبورغر) والمشروب الجاهز البيبسي والكوكا كولا, وسبل قضاء أوقات الفراغ وأنماط الحياة الغربية والموسيقى ونوع القراءة ومواد الدراسة, إنه تجاوز تام على أنماط حياة العرب والمسلمين, وأنها نفي للوطن والأمة والدولة. ولا شك في أن كثرة من الكتابات في الدول الرأسمالية المتقدمة تقدم أدلة غير قليلة على هذا المنحى في سياسات العولمة وفي صراعها ضد الثقافات الأخرى, ومنها الثقافة الإسلامية. فقد كتب صاموئيل هنتنكتون في كتابه “صدام الحضارات” يقول: 

“في هذا العالم لن تكون الصراعات المهمة والعنيدة والخطيرة بين الطبقات الاجتماعية أو بين الأغنياء والفقراء أو بين أي جماعات محددة اقتصاديا, الصراعات ستكون بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة.” ثم يواصل قوله في مكان آخر “وكما يظهر سوف لن تكون العلاقات بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة علاقات وثيقة, بل غالبا ما ستكون عدائية. بيد أن هناك علاقات ثقافية هي أكثر عرضة للصراع من غيرها. على المستوى الأصغر, فإن أشد خطوط التقسيم الحضاري عنفا هي تلك الموجودة بين الإسلام وجيرانه الأرثوذكس والهندوس والأفارقة والمسيحيين الغربيين. وعلى المستوى الأكبر فإن التقسيم السائد هو بين “الغرب والبقية”, مع أشد الصراعات القائمة بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الآسيوية من جهة والغرب من جهة أخرى. ومن المرجح أن تنشأ في المستقبل أخطر الصراعات نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي والتوكيد الصيني”. وفي هذا التوجه تبرز مخاطر جدية على العلاقات في ما بين الشعوب وعلى الخلط بين العولمة كعملية موضوعية وبين العولمة كسياسة تمارسها البلدان الرأسمالية المتقدمة. 

ثالثا: وترى هذه الجماعات بأن القيم الغربية المعولمة وإيديولوجيا العولمة يراد من خلالها القضاء على القيم الإسلامية والعربية الأصيلة والسماوية, وعلى الإيديولوجيا العربية. فالعولمة, بالنسبة لهم, تهديد مباشر للثوابت الدينية السماوية باعتبارها سننا كونية لا يمكن ولا يجوز تغييرها. فهي في نشاطها ضد العولمة تؤكد على ما يلي:

رابعاً: وتبشر هذه الجماعات بأن الغرب يحارب الثقافة والهوية العربية الإسلامية من خلال نشر قيمه الغربية التي لا مكان لها في القرآن والشريعة الإسلامية وفي عادات وتقاليد وتراث المسلمين, ومنها بوجه خاص: 

– فرض عملية التنوير والعلمانية على المجتمعات الإسلامية, بما فيها الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة؛ – فرض الديمقراطية على المجتمع؛ الترويج للائحة حقوق إنسان غربية المصدر والثقافة؛ – الدعاية لحرية المرأة ومساواتها بالرجل ورفض تعدد الزوجات؛ – الترويج للحرية الجنسية والسماح بالزواج من الجنس المماثل؛ – رفض الرق الذي لم يحرمه الإسلام؛ – التحلل من كل التزام أخلاقي وعائلي؛ – رفض العقوبات التي يمارسها المسلمون إزاء المذنبين؛ – تنظيم وتنفيذ الغزو والاختراق الثقافي الغربي العولمي للعرب والمسلمين. 

وترى هذه الجماعات الإسلامية في التلفزة والفضائيات والكومبيوتر والهواتف اليدوية أجهزة تخترق حرمة البيوت وتقاليد وعادات وأخلاق وثقافة الأسر المسلمة بعرضها مظاهر الحياة والحضارة الغربية المعولمة لفرض أنماط حياتها المتفسخة والإباحية وأفلام الرعب والعنف والجنس والجريمة وأفلام الدعاية الجنسية المثيرة للشهوات على المجتمعات الإسلامية والدعاية لسلع مرفوضة إسلامياً لبث التحلل والفساد في المجتمعات العربية الإسلامية وبين الشباب على نحو خاص لكي تتمرد على مجتمعاتها وقيمها وتتخلى عن عاداتها وتقاليدها العربية والإسلامية, وهي عاجزة عن إيقاف مثل هذا الغزو الثقافي. إنها عملية معادية ينبغي التصدي لها. وهي مسعى خبيث لنفي الحضارات الأخرى غير الغربية وأهم آلياتها تقويض السيادة الوطنية والهوية الثقافية للإنسان العربي المسلم وصورته الجمعية الاجتماعية والسيطرة عليه. وعلى هذا الأساس فهي ترى بأن القيم الإسلامية السماوية هي التي تتعرض إلى غزو من الثقافة الوضعية التي أقامها الغرب, والتي تدفع باتجاه خسارة العرب والمسلمين لهويتهم القومية-والإسلامية لصالح النزعات المادية العولمية, وهي إفساد فظ لأخلاق المسلمين وإبعادهم عن دينهم وعروبتهم. ولا بد لنا أخيراً من الإشارة إلى وجود قوى إسلامية معتدلة, ولكنها قليلة, تحاول أن تجد لغة مشتركة مع العولمة الجارية والتمييز بين ما هو قابل للأخذ وما يفترض رفضه منها.

الواقع الراهن في المجتمع العربي

ولكن ما هو الوعاء الاجتماعي والسياسي الذي يفرز مثل هذه الأحكام والمخاوف بشأن العولمة؟

يتشكل العالم العربي من 22 دولة (عدا فلسطين) موزعة على قارتي آسيا وأفريقيا, يبلغ تعداد سكانها 285 مليون نسمة تقريباً, يدين غالبية سكانها بالدين الإسلامي, إلى جانب وجود أديان عديدة أخرى, وخاصة الديانة المسيحية. وتقطن فيها إلى جانب العرب قوميات أخرى مثل الأكراد والأمازيغ (البربر) وشعب جنوب السودان وغيرهم. خضعت جميع البلدان العربية بأشكال مختلفة للهيمنة الاستعمارية الأوروبية قبل أو في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبعد انهيار الدولة العثمانية. وتشكلت دولها الحديثة في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث أحرزت استقلالها السياسي بعد نضال شاق وطويل كلفها الكثير من التضحيات. وتعرضت لاستغلال بشع من جانب الرأسمال المالي العالمي, وهي ما تزال تعاني منه بصيغ مختلفة ومتنوعة. وقد ترك هذا بصماته في ذاكرة وفكر وحياة وعلاقات هذه الشعوب بالغرب الرأسمالي.

رغم الجهود التنموية التي شهدتها العقود المنصرمة فأن جميع الأقطار العربية ما تزال تعتبر ضمن مجموعة بلدان العالم الثالث, بما فيها مصر, حيث تعاني اقتصاداتها من مظاهر التخلف والتبعية للتجارة الخارجية. ففي جميع البلدان العربية ما تزال توجد بقايا العلاقات الأبوية وشبه الإقطاعية البالية التي تعيق تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وتطور المجتمع المدني الحديث, كما تعيق تحقيق عملية التنوير الضرورية للمجتمع التي تحققت في أوروبا منذ قرون. وفي الوقت الذي لم تحقق هذه المجتمعات ثورتها الصناعية الأولى يمر العالم الغربي في المرحلة الثالثة من الثورة الصناعية, وهو تعبير عن الفجوة الحضارية والتقنية التي تفصل العالم الغربي عن العالم العربي الإسلامي حالياً. فما يزال الاقتصاد الوطني وحيد الجانب ومشوه وريعي, سواء كان زراعيا أم نفطياً, كما ما تزال الصناعة ضعيفة التطور ومشوهة البنية حتى في أكثرها تقدما. ويتجلى ذلك في اعتمادها الواسع على الاستيراد لتغطية نسبة عالية جدا من حاجاتها المحلية, وفي تشوه البنية الاجتماعية وتخلف الوعي الاجتماعي للسكان والمستوى الضعيف لتطور المجتمع المدني سياسياً وحضاريا. فإلى جانب تخلف البنية الاجتماعية تنتشر الأمية على نطاق واسع وخاصة في الريف وبين النساء. وتسيطر على مقدرات هذه المجتمعات حكومات استبدادية (أو) وديمقراطية شكلية بشكل عام, حيث يتم التجاوز الفظ على الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وأكثر هذه الدول تقدما تعمد إلى تقنين الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفرض رقابة الدولة الخانقة, كما هو الحال في كل من مصر والمغرب والأردن, في حين تتعرض الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى المصادرة والتجاوز الفظ في بقية الدول العربية دون استثناء, كما هو الحال مثلا في كل من العراق والسودان وليبيا والسعودية وتونس والجزائر.

واستطاعت نظم الحكم القائمة في الحصول على تأييد الغرب أو الشرق في سياساتها المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان, مما خلق توجساً وعداءا للغرب على نحو خاص, يتجلى في الموقف منها في الوقت الحاضر. كما أن اعتماد الغرب على القوى الرجعية والقوى الدينية المتعصبة في الكفاح الذي كانت تخوضه ضد البلدان الاشتراكية والأحزاب الشيوعية قد ساعد على نهوض هذه القوى وازدياد تأثيرها وتأثير الشعوذة والخرافات وأعمال السحر في المجتمع والذي تعاني منه هذه الشعوب في الوقت الحاضر. 

وفي الوقت الذي تحقق هذه المجتمعات معدلات نمو اقتصادي متدنية, فأن معدلات النمو السكانية مرتفعة وتتراوح بين 2,5-3,2 % سنويا. وتتم عملية انتقال متسارعة من الريف إلى المدينة لا بسبب وجود فرص عمل في المدينة بقدر ما هي محاولة للتخلص من البؤس والفاقة والبطالة المقنعة في الريف. ويخلق هذا الواقع تضخما بشريا في المدن وتعاظم فئة أشباه البروليتارية أو الفئات الهامشية فيها التي تعيش في المدن في حزام البؤس المحيط بها بسبب البطالة الواسعة. ويمكن تلمس هذا في كل من المغرب والجزائر والسودان ومصر (سكان المقابر الأحياء) والعديد من الدول العربية الأخرى. وبسبب تفاقم التمايز الطبقي في المجتمع فقد بدأت الفئات المتوسطة بالتقلص لصالح نمو الفئات الفقيرة والهامشية في المجتمع, وبالتالي تزداد معضلة الصراع بين فئة الأغنياء ذات العدد الضئيل التي تزداد غنى وفئات الفقراء المتسعة باستمرار والتي تزداد فاقة وبؤسا. وترمي شعوب هذه البلدان بالمسؤولية لا على عاتق حكوماتها فحسب, بل على عاتق الغرب أيضا الذي يستغلها ويدعم حكوماتها ويمارس سياسة ضارة بحقها. وفي مثل هذه الأوضاع يصعب على الشعوب العربية أن تتوقع الخير من الغرب الرأسمالي. لهذا فأنها ترى في العولمة طريقاً جديدا لتشديد استغلالها ونهب مواردها الأولية وفرض التبعية والخضوع للغرب عليها. 

طبيعة العولمة ومضامينها الأساسية

ولكن هل تؤدي العولمة إلى مثل هذا العواقب بالنسبة للعرب والمسلمين؟ وهل أن ما تثيره الجماعات الإسلامية والقوى القومية واليسارية صحيح بشأن العولمة. للإجابة عن هذا السؤال يتطلب تقديم تصور واقعي عن العولمة ثم مراجعة المخاوف في ضوء ذلك لتحديد الموقف منها.

تعتبر العولمة من الناحية الموضوعية مرحلة متقدمة ومتميزة من مراحل تطور الرأسمالية على الصعيد العالمي, إذ أن لها امتداد في تاريخ الرأسمالية منذ نشوئها وتطورها والتحولات التي شهدتها في القرن التاسع عشر وبخاصة في النصف الثاني منه وأوائل القرن العشرين. وهي نتاج الثورات الصناعية المتتالية والتحولات البنيوية العميقة التي كانت تجري في رحم الرأسمالية الإمبريالية, منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية العقد السابع من القرن العشرين, والتي اتخذت مسارا أكثر وضوحا وتميزا مع انهيار نظام الحكم الاستعماري والبدء بممارسة أشكال جديدة للهيمنة والاستغلال الرأسماليين على اقتصاديات وشعوب بلدان القارات الثلاث, آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض أجزاء من أوروبا. ثم تسارعت هذه العملية في أعقاب انهيار بلدان “المنظومة الاشتراكية” وتفكك الاتحاد السوفييتي وغياب مجلس التعاضد الاقتصادي. وعملية العولمة مستمرة, إذ ما تزال في بداية الطريق. وتشمل العولمة جميع مراحل عملية إعادة الإنتاج أو العملية الاقتصادية بمجملها, كما أنها لصيقة بالمجتمعات الرأسمالية والمدنية المتقدمة, ولكن وقائع دورها وفعلها وتأثيرها ونتائجها أو عواقبها لا تقتصر على تلك المجتمعات فحسب, بل تمتد, سلبا أو إيجابا, إلى بقية بلدان وشعوب العالم. ويمكن فيما يلي تشخيص عدد من الخصائص الأساسية التي تميز هذه العملية: 

       سياسات العولمة الجارية
  ولكن عملية العولمة الموضوعية التي جرت الإشارة إليها تتداخل مع السياسات اللبرالية الجديدة التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة في ظل العولمة إزاء العالم كله. ومن هنا تأتي المخاوف بشأنها. إذ أنها قادرة, بسبب قدراتها الاقتصادية والعسكرية وموازين القوى الدولية على فرضها على الآخرين, فتثير الكثير من الإشكاليات لبلدانها, ولكن بشكل خاص لبلدان العالم الثالث. فسياسات العولمة الجارية تدعو بصرامة إلى:

ولا شك في أن العولمة تطرح مشروعا ثقافيا وحياتيا حديثا يتناغم مع مستوى التقنيات الحديثة ويختلف عن الماضي أو السائد حاليا, ولكنه ما يزال في بداية الطريق. وهذا الجديد بما يحمله من حداثة وتوافق مع الزمن قادر على إبعاد القيم والعادات والتقاليد القديمة والبالية العاجزة عن مسايرة الزمن المتكاثف بشدة, لا في المجتمعات العربية والإسلامية فحسب, بل في جميع المجتمعات. ولكن هذه الثقافة الحديثة ذات الاتجاهات العامة ستأخذ خصوصيتها الملموسة من واقع ومستوى تطور كل بلد من البلدان ومن تراثها المخزون نسبياً. إن الحنين إلى الماضي في الحاضر والرغبة في عدم التغيير استنادا إلى مبدأ “ليس في الإمكان أبدع مما كان” كان وما يزال المحرك الرئيسي لمقاومة العولمة من هذا الجانب, إذ أن بعض الجماعات الإسلامية والقومية ترى في التقنيات الحديثة المتطورة الأداة الرئيسية بيد العولمة لقهر الإنسان العربي المسلم, لفرض الاستسلام عليه وإخضاعه لإرادة الغرب. ومثل هذه الفكرة تعتبر حمالة أوجه, إذ أن الممارسة الفعلية تعكس شيئا من الصحة, ولكن التقنيات في الجوهر تخدم تقدم الإنسان وتحسين أوضاعه. 

ولا شك في أن العولمة تثير مخاوف رجال الدين المتشددين والأحزاب الأصولية المتطرفة وبعض القوى القومية, إذ أنهم غير قادرين على التخلص من الحنين المفجع إلى الماضي, الماضي الذي يعيشونه فكرا وحلماً وسلوكا في الحاضر. وينبري كثرة من أئمة المساجد في بلدان شمال أفريقيا أو في بلدان المشرق العربي لممارسة الدعاية لا ضد العولمة فحسب, بل ضد العلمانية والعقلانية في التفكير وضد أي شكل من أشكال التنوير في العالم العربي, وهم يسعون إلى تثقيف الجماهير على التصدي لكل تلك الاتجاهات الحديثة. ولكن في مقابل هذا تحاول بعض القوى المعتدلة أن تفصل بين التقنيات الحديثة التي يفترض على المسلمين الاستفادة منها لصالح عملية التنوير, وبين الفكر السياسي للعولمة الذي يريد فرض اتجاهات معينة ذات مضمون استعماري حديث وهيمني في التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي في البلدان العربية. 
نشير أن المادة باللغة العربية قد تم نشرها في مجلة عيون في عددها 11/2001

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial