بقلم: مفتاح الشريف
الإنذار المبكر
في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر عام 1999 ناقش وزراء الإعلام في دول الخليج ولمدة عشر ساعات متواصلة موضوع الشكوى ضد قطر، بسبب ما تبثه قناة الجزيرة الفضائية التي تنطلق من عاصمتها الدوحة. ورغم أن الشكوى جاءت من قبل البحرين بسبب وجود معارض بحريني في أحد برامجها، ورغم تصريح المندوب القطري في الاجتماع بأن ” الجزيرة ” لا تمثل السياسة الإعلامية لحكومته، إلا أن الوزراء أصدروا بياناً قرروا فيه ” اتخاذ موقف موحد من الأفراد والمؤسسات الإعلامية التي تسيء الى دول المجلس، واستخدام الدول الأعضاء ما لديها من علاقات مع أي دولة أو وسيلة إعلامية تحاول الاستفراد والتشهير بأي من دول مجلس التعاون. وتم الاتفاق على أن تقوم الدولة التي تتعرض للإساءة بإبلاغ الأمانة العامة بالإجراء الذي تقترح اتخاذه، واعتماد البريد الإلكتروني لهذا الغرض.” وهكذا اكتست المسألة طابع الأهمية القصوى والعاجلة لدرجة اللجوء الى الإنذار المبكر. وقد نشر الكثير من التعليقات في صحف أمريكية وأوروبية حول هذه القناة الظاهرة وما أثارته من لغط ونقع لم يستتبا بعد. وغني عن البيان أن السبب في ذلك يكمن فيما تذيعه من برامج النقاش والحوار لقضايا تعتبر بالنسبة للأنظمة من العورات محظور الكشف عنها. وأغلب هذه البرامج مفتوح على الهواء مع المشاهدين، يشاركون فيها بآرائهم وأسئلتهم بقدر كبير من الحرية، وكذلك فقراتها التوثيقية والحية، وما استقطبته من قادة الرأي العام العربي السياسي والديني والثقافي، ومعالجتها الموضوعية الصريحة لهموم المواطن العربي في كل مكان. ومثل هذه البرامج يعتبر من أساسيات أي تلفزيون في عالمنا المعاصر بما في ذلك العوالم الثالثة والرابعة، إلا عالمنا العربي الذي لا زالت وسائله المرئية والمسموعة والمطبوعة مسخّرة للملوك والرؤساء والزعماء وبطاناتهم الحاكمة، تتحدث عن عظمتهم وتدبج قصائد المديح والبيعة لهم، وإعجاب العالم بشخصياتهم الفذة، ومنجزاتهم العملاقة، مثل توسيع محطة مواصلات عمومية أو أنابيب شرب أو غرس بضعة أشجار، وكأن هذا ليس من قبيل الأعمال اليومية لأي حكومة. وكثير من هؤلاء الزعماء من يظهر من حين الى آخر على محطته ليذيع منها خطبه العصماء بمناسبة وبدون مناسبة، التي عادة ما تنضح بأخطاء لغوية ونحوية، ناهيك عن تجردها من أي شيء جديد، وإنما هو المكرر المعاد، الذي سئمه ومجه المشاهدون والعباد. فليس من الغريب أن يتحولوا الى ” الجزيرة ” تاركين زعماءهم يشاهدون أنفسهم على الشاشة الصغيرة، كما يشاهدونها في المرآة كل يوم إشباعاً للعشق النرجسي. أما القسم الآخر من برامج تلك المحطات وكلها رسمية مموّلة من أصحاب السلطان وبيوت مالهم، فإنها تتفنن في تزجية وقت الجماهير إما بأفلام قديمة مهترئة، أو بمسلسلات بدائية في المستوى الفني، تشتمل على حوارات مطولة تجري داخل جدران استوديوهات مجهزة بشكل مضحك، وتزعم أنها تصور قصصاً تاريخية أو تعكس مشاكل عصرية في المجتمع العربي من النوع المسمى ب “ soap operas” ، وهو اصطلاح أمريكي يطلق على الميلودراما التي تتوسل بالأموال الفاسدة لتحقيق نهايات كيفما كانت، مثلها مثل الإعلانات التجارية عن مواد التنظيف المعروفة، ومن هنا ينطبق عليها المثل الشعبي: ” كله عند العرب صابون.”
تضليل واستخفاف
لهذه الأسباب إذن لا لغيرها أحدثت قناة ” الجزيرة ” هذه الهزة العنيفة في محيط الإعلام العربي الغافي. فمنذ شهور قليلة أذاعت القناة الألمانية الرئيسية تقريراً عن ” الجزيرة ” طعّمته بلقطات من برامجها المثيرة، مثل النقاش حول تعدد الزوجات، الذي عارضته السيدة الأردنية المستنيرة توجان الفيصل أمام الصحفية المصرية صافيناز كاظم، حتى انسحبت الأخيرة من النقاش محتجة ” بأن التعدد من صميم الإيمان بالشريعة حسب رأيها(وكانت في الستينيات من أبرز الأقلام الصحفية التقدمية!) كما أشار التقرير الألماني الى أن الحكومة الجزائرية قطعت النور عن العاصمة ليلة إذاعة برنامج عن الصراع الدموي في البلاد، وأن حكومتي الكويت والأردن أغلقتا لفترة مكاتب ” الجزيرة ” في عاصمتيهما، مستدلة بذلك على أن ” الجزيرة ” أصبحت تسبب صداعاً للأنظمة العربية، بل صاعقاً ينغص عليها حياتها. ووصفت جريدة ” تاتس ” المعروفة في برلين يوم 12 نوفمبر الماضي ظاهرة ” الجزيرة ” بأنها ” ريح منعشة في الإعلام العربي هبّت من ركن لم يتوقعه أحد…وأن ما تقدمه من رأي ورأي معارض يعتبر ثورة في منطقة تستخدم فيها وسائل الإعلام كأبواق موصلة لأقوال الحكام…” ثم لخصت مفهوم الجزيرة على لسان أحد مديري برامجها بالقول: ” البعض يحبنا، والبعض الآخر يكرهنا، ولكن لا يستطيع أحد أن يتجاهلنا.” كما أشارت الى مواقف الكويت والأردن المشار إليهما. أما الحكومة السعودية فتعتبرها خطيرة وتشكل ” عدواناً على المعنويات العربية…” ومن ناحيتها، فإن واشنطن لم تُخف غضبها من تلك القناة الصغيرة لأنها بثت في الصيف الماضي لقاء مع أسامة بن لادن، رغم محاولة دبلوماسييها منع هذا البرنامج، حسب قول الجريدة.
لكل ظاهرة مجال
وإذا حاول المرء أن يقرأ ظاهرة الجزيرة بشيء من التروي والموضوعية، فعليه أن ينطلق من مبدأ أن لكل ظاهرة مجالا وشروطاً تنبثق منها. وهي تتجلى في أن أقطار الخليج، وقطر من بينها، شهدت في الآونة الأخيرة (خضات) بفعل زلزال حرب الخليج الثانية. وبما أن هذا ليس مجال الخوض في هذا الموضوع، إلا أنه يمكن القول بحدوث تحولات في البنية السياسية والاجتماعية لتلك الأقطار، نقول تحولات وليس ثورة، والفرق علميا بين الاثنين في رأي علماء الاجتماع المحدثين أن التحول، وإن أدى الى التقدم أو التطور الاجتماعي، لا ينبىء عن الوجهة التي يقود إليها بكل وضوح، أما الثورة فهي الفعل غير المنتظم والاستثنائي لتحقيق ذلك التقدم. ولتقريب الصورة، نجري عملية جرد سريعة للمستجدات التي بلورت هذا التحول كما يلي: في قطر، قاعدة الجزيرة، ومنذ انقلاب القصر عام 1995 الذي أطاح فيه الابن بأبيه واستولى بعده على سدة الحكم، أمام معارضة من بلدان الجوار بحكم التجانس المحافظ المغرق في الرجعية، سعى الحاكم الجديد – ربما دفاعا عن النفس وإحباطاً لأي تآمر متوقع – الى إضفاء صبغة عصرية على نظامه، والى انفتاح شبه ليبرالي محكوم بظروف المنطقة. وهو بذلك أطلق (بعبعاً)مخيفاً لمن حوله، وشرع لتوه في اقتناء ملامح استقلال انعزالي تمثل في إقامة علاقات مع إسرائيل تقربا من الحامي المهيمن الأمريكي، مما دغدغ مشاعر الرئيس كلينتون، وأشاع الفرحة في أساريره (حدث ذلك أثناء قمة شرم الشيخ التي خصصت ضد الإرهاب العربي). إلا أنه من ناحية أُخرى بادر بالانفتاح على العراق، وتخلى عن التشنج الخليجي في التعامل معه. وكان قيام وزير الخارجية القطري بزيارته الشهيرة الى بغداد للتوسط أثناء أزمة تفتيش القصور (تشجع بعدها أمين عام الجامعة العربية ليقوم بزيارة مماثلة هو الآخر) ثم تتابع هذا السلوك في حقل السياسة الخارجية مثل التقرب من إيران، والوساطة بين السعودية والإمارات، وبين السودان وإيريتريا، والتدخل في قضية نواز شريف، ثم أخيراً تسفير زعماء ” حماس ” من الأردن. كما اتخذت خطوات ذات أهمية في تكوين مجتمع مدني في بلد أوتوقراطي الحكم، قبلي البنيان. وكان هذا مصاحباً لإجراء أول انتخابات بلدية بالاقتراع السري شاركت فيها المرأة القطرية ترشيحا واقتراعاً في شهر مارس من العام 1998. وقد لعبت قناة ” الجزيرة ” الدور البارز في حراك حيوي غير مسبوق في المنطقة. ويندر ألا يشاهد أي عربي في الوطن أو في القارتين الأوروبية والأمريكية أخبارها وتعليقاتها وبرامجها، بل إن أحد الرؤساء العرب تدخل عبر الفضاء أكثر من مرة ليشارك في نقاشاتها المحتدمة، كما لقيت هذه الفضائية من هؤلاء الحكام الذين يجلسون على أموال قارون من البترودولارات الإشادة والإطراء والمديح، متناسين أن ملايين المشاهدين سيهزون رؤوسهم عجبا وسخرية ويتساءلون: لماذا لا تكون محطات هؤلاء الحكام مثل الجزيرة أو أحسن منها؟ هل ينقصهم المال الذي يسرفون في إنفاقه يمنة ويسرة في تجميل وتزويق ذواتهم، أم أنهم يخشون من هبوب الرياح المنعشة، وكيف يتملكهم الخوف والرهبة الى هذا الحد، وقد ترسخ حكمهم لعشرات السنين، وعلا صولجانهم بقوة الجيوش العرمرم، واستحكم أمنهم بجحافل مخابراتهم المبثوثة في كل أنحاء المجتمع العامة والخاصة تحصي على شعوبهم حتى أنفاسها؟ بيد أن هذه الهزات لم تذهب هباء بل كانت لها تفاعلات وتداعيات في دول الجوار أهمها: مرحى…مرحى!
في السعودية أخذ تيار جديد في الآونة الأخيرة يشق طريقه في شبكة الإعلام (الخارجية وليس الداخلية) تعلو فيه نغمة ليبرالية تتحدث عن ” ضرورة الحوار والتواصل مع الآخر كأساس لحل إشكاليتنا المزمنة…وأن التوجه الى القنوات الفضائية هو في حد ذاته رفض للإعلام الرسمي الموجه…وضرورة الإصغاء للآخر والانفتاح عليه والقبول بالاختلاف معه واحترام الرأي المخالف مهما كانت نزعته واتجاهه…” بل إن أفكاراً جديدة استنت منحى غير معهود سعودياً في تحديث الاجتهاد في ضوء القرآن الكريم والسنة، وربطه بقضايا المجتمع والعالم الراهنة، فنقرأ عن ممارسة الإقناع بدلا من العنف، وفريضة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، وحتى حول ” إعدام الناس وتهجيرهم من أجل أفكارهم، ” فمذ فقدنا لا إكراه في الدين فقدنا الرشد…لأن لا إكراه في الدين به نبين الرشد من الغي، وبه نميز الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت أي الاستبداد…فلا حرج أن نفقد كل شيء، ولكن أن نفقد كرامة الإنسان التي كرم الله بها بني آدم، فهذه الإهانة تحبط كل الأعمال…” ونقرأ ” إن القانون الإنساني لا علاقة له بشيعة وسنة، وشيوعيين ومسلمين، بل له ناظمه الخاص … ونجاح الثورة الإيرانية ونجاح الشيوعيين وماوتسي تونغ في مسيرته الكبرى في حقيقتها لا تزيد عن سنة الله في أرضه!!” ثم تطور الاتجاه من ترديد مبادىء وأفكار عصرية في غاية التقدم، الى التحول الى تطبيقها على الواقع العربي أو نقد هذا الواقع في ضوئها، فالسلطة الفلسطينية ممثلة في عرفات ” بدلا من تحقيق الحلم الفلسطيني في تكريس التعددية وتعزيز خيارات المشاركة السياسية، صارت في قمعها واحتكارها الرأي تبز الأنظمة التي تقتدي بها…” أما في تونس، وأثناء الانتخابات التي جرت فيها مؤخرا، نقرأ أن ” الديمقراطية الحقيقية هي أن تجادل الآخر، وفي داخل تونس لا وجود للآخر وبالتالي لا وجود للديمقراطية. وما الانتخابات إلا مسرحية البطل فيها معروف من قبل ونهايتها مؤكدة الوقوع…وإذا كان السياسي الأمريكي قد قال ” المصلح هو من يبحر في المستنقع الآسن بقارب من زجاج لينظر الى كل القاذورات” فعالمنا العربي مليء بالقاذورات ولكن قوارب زعمائنا من حديد!!” فمن منا حين يقرأ هذا الكلام لا يهتف: مرحى..مرحى!؟ ومن يستطيع أن يمارىء في صدق هذا التشخيص؟ وكان مسك الختام في هذا التوجه المذهل صدور ميثاق شرف للعمل الصحفي يطالب ” باحترام عقل القارىء وذكائه وعدم التقليل من وعيه وقدراته ورفض أي توجيهات في الكتابة والنشر من أي جهة رسمية أو غيرها وعدم الرضوخ لشروط أي رقابة خارجية، إلا ما تمليه الرقابة الذاتية…وعدم معاداة من يوجهون النقد البناء إلينا أو يكشفون لنا عن أخطائنا، فالاعتراف بالحق فضيلة، والإقرار بالخطأ قوة، وتصحيحه واجب وفرض…” والواقع أن هذا الميثاق جاء ليعيد الى الأذهان ميثاق مبادىء آخر سبقه وأصدره رؤساء تحرير الصحف الخليجية في مؤتمرهم الثاني الذي عقد في الكويت في شهر أكتوبر عام 1999 والذي اشتمل على خمسة مبادىء ردد بعضها حرفياً الميثاق الأخير. إلا أن جميع الصحف السعودية قاطعت اجتماع الكويت وبالتالي لم تشارك في الموافقة على ميثاقه. وكل ما نتمناه ألا يكون صحيحاً قولنا في أول هذه الفقرة أن التيار الجديد يشمل الخارج وليس الداخل!
الضروس .. أم نصف الدين؟
أما بالنسبة للكويت، فحدث ولا حرج. كانت منارة الليبرالية في الخليج وشبه الجزيرة، والوحيدة التي بها برلمان منتخب يمثل الشريحة من شعبها، والمتميزة بحمل الجنسية الكويتية، لأن الدماء الزرقاء تجري في عروقها، كما أن صحافتها وأجهزة إعلامها كانت سباقة الى ارتياد آفاق حرية التعبير والنقاش الديمقراطي. غير أن الانتكاسة التي اصابتها بعد حرب الخليج الثانية والاجتياح العراقي لها، ومن ثم السيطرة الأمريكية المباشرة عليها، وفّرت لحكامها عناصر جديدة للاستقواء، وإن لم يُقض على عوامل التناقض والتناحر بين أفراد الأسرة الحاكمة، والتي بدأت تطل برؤوسها من جديد. وكان انتشار التيار القومي بين النخبة المثقفة من أبناء الكويت في الستينيات والسبعينيات قد أرسى أسساً لنهضة تقدمية عصرية، خمدت أثناء المحنة، إلا أنها طفقت تنشط رويداً رويداً، وكانت الانتخابات الأخيرة الفرصة التي أتاحت لها التحرك من جديد. ووفقاً لمعطيات المرحلة فإن الصراع المحتدم في البلاد (ويبرز التواجد الأمريكي فيه كأنه الأقنوم الثالث مع الشعب والأسرة الحاكمة)، قد أفرز تيارا إسلاميا قويا على رأسه الحركة الدستورية والتجمع الشعبي الإسلاميين، واتسمت عناصر قيادية فيهما بالتشدد، أو بما يسمى في المنطقة بالأصولية، كان لا بد لها من أن تدخل حلبة المزايدات للجم تيارات التقدم ومحاولات التحرر العصري، وخاصة من قبل العنصر النسائي (أقرب مثل على ذلك دورها المحبط في معركة حق المرأة الانتخابي وإرهاصات التمدن الحضاري الذي بدا تجاه بعض المثقفات الكويتيات). ولكي ترسخ مواقعها عند السلطة وفي المجتمع المأزوم، فإنها تستخدم نزعة التعصب الشوفيني، التي تجسدت في الاضطهاد والتمييز المستمر ضد الفلسطينيين (وهم دائماً الضحية السهلة في عالمنا العربي، لأنهم ضحية يتيمة!!) وما أعقب ذلك من قسوة قمعية جوبهت بها انتفاضة العمال المصريين. ورغم أن هذه القوة الجامحة المدعومة بالنفوذ العشائري القوي تنامت في البرلمان حتى تمكنت من إحباط مشروع حق المرأة الانتخابي، إلا أن التيار الليبرالي الذي يقوده المنبر الديمقراطي، ويضم الائتلاف الوطني الإسلامي (الشيعة)وبعض المستقلين نجح في التمسك ببعض المواقع المتقدمة، حتى أن إفشال مشروع الحق الانتخابي للمرأة، لم يفز إلا بصوتين اثنين. وكان موقف رئيسي البرلمان السابق واللاحق، وهما أحمد السعدون وجاسم الخرافي، المحسوبين على التيار الليبرالي، قد لعب دوراً سلبياً مخرباً، فالأول امتنع عن التصويت ليُغيظ الحكومة لأنها اقترفت خطأ إجرائياً، والثاني صوت ضده رداً لجميل الكتلة الإسلامية التي أيدت رئاسته للمجلس، على الرغم من أنه قبل شهر واحد فقط كان قد دخل في مشادة مع صحفي قطري تفاخر أمامه بأن المرأة القطرية نالت حقها الانتخابي قبل المرأة الكويتية، فما كان من الخرافي إلا أن يدفع بأن المرأة الكويتية تشارك منذ زمن في الانتخابات في قطاعات عديدة مثل المؤسسات ذات الجمعيات العمومية، متهماً التجربة القطرية بأنها ليست لها ضروس. وهكذا نرى تصرفات هاتين الشخصيتين تطغى عليها الانتهازية والأثرة في موضوع جوهري يؤثر في مسيرة تبلور المجتمع المدني الحر، مما أفقد المجتمع لا ضروسه فحسب، وإنما أضعف نصفه، وهو النصف الثاني المكمل للدين. أما بقية أقطار الخليج فإن عمليات التحول فيها المتأثرة بالجزيرة، فما برحت تضاريسها تتبدى وخاصة في الإمارات والبحرين واليمن من انفتاح جديد على قوى المعارضة، واتجاه للتسامح إزاء الرأي الآخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما نشر عن صراعات خفية وظاهرة فيما سمي ” بحرب الفضائيات العربية” وتزاحم قنوات أبي ظبي على مديري ومقدمي برامج الجزيرة، وإغرائهم للقدوم إليها. كما أن قيام وزير الإعلام المصري بتدشين إطلاق قمر صناعي ثان يقوي الإرسال المصري، أثار موجة من التهكم حتى داخل الأوساط الإعلامية المصرية نفسها. فمحمود السعدني الصحفي الساخر المعروف قارن بين هذه الخطوة وبين ما يذاع من برامج فجة في القنوات المصرية، وهي بيت القصيد، وليس في إطلاق مزيد من الأقمار المكلفة لخزانة الشعب المصري. ويجدر بالذكر أن الصحفي نفسه سبق له وأن هاجم قناة ” الجزيرة ” متهماً إياها بأنها بوق للقوى الأجنبية المعادية، ولكنه الآن يضرب بها المثل في حرية الرأي، ويطالب القنوات المصرية بالاقتداء بها. ولا يحتاج المرء الى كثير عناء لكي يلمس ما تقوم به ” الجزيرة ” من تأثيرات سياسية مستمرة في البنيات العربية الحاكمة. فالمقابلة التي أجرتها مع الزعيم التونسي الكبير الشيخ الغنوشي أثارت ثائرة تونس، حتى أصبحت شوارعها ومدنها خالية يوم بثها. ورغم أن حكومتها سحبت سفيرها من الدوحة احتجاجاً، إلا أن النظام في تونس يواجه الآن ضغوطاً دولية لم يواجهها من قبل من أجل إطلاق سراح سجناء الرأي واحترام حقوق الإنسان. وتكرر الأمر نفسه حين سحبت السلطات الليبية سفيرها في الدوحة أيضاً احتجاجاً على بث برنامج شاركت فيه قوى المعارضة الليبية.
والعاصفات عصفا
إنه من السهل القول إن هذه التوجهات والتطورات الإعلامية ومضامينها السياسية والاجتماعية، في منطقة من الوطن العربي، أصبحت محمية أمريكية عسكرياً وسياسياً، ما كانت لتحدث لولا أن سمحت بها واشنطن التي تجثم بقواتها وتعشش بمخابراتها فيها، إن لم تكن بإيعاز منها! بيد أن تفاعل العوامل الداخلية وتطور علاقات القوى المومأ إليها في هذا العرض ينبغي أن تؤخذ في الحسبان، كما أننا لا ننسى أن مسيرة التقدم الحتمية في تاريخ الشعوب قد تتصارع من أجلها قوى متنافرة أو حتى مضادة لبعضها بحسب اختلاف المصالح الاستراتيجية. والمهم هو استغلال الظروف المواتية لدفع المسيرة الى الأمام. وقد ذكرنا الأكاديمي اللامع الدكتور عبد الله النفيسي في مقابلة معه في ” الجزيرة ” منذ شهور قليلة أن أنظمة الحكم في الخليج عليها أن تعجل بإدخال الإصلاحات الديمقراطية قبل أن تُفرض عليها من قبل القوى الغربية التي تنظر الى مصلحتها في هذا السياق. ونضيف أنه رغم استحكام قوى الهيمنة وتحكمها في آلية السلطة في المنطقة، إلا أنها لا تستطيع دائماً أن تقبض على التيارات التي تعتمل في البنية التحتية للمجتمعات. وحتى لا نذهب بعيداً ونبقى في المنطقة، فإن ما جرى لنظام الشاه في إيران حين عصفت به الثورة الشعبية الإسلامية عصفاً رغم الإسناد الأمريكي العسكري والمخابراتي ينبغي أن يكون حاضراً دائماً في الأذهان. وفي نفس السياق يمكن الإشارة الى تصريح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية يوم 24/11/1999 غداة رفض البرلمان الكويتي للمرسوم الأميري بمنح المرأة الحق الانتخابي، حين أكد ” مجدداً دعم حكومته القوي لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية في الكويت بما في ذلك منح المرأة حقوقها السياسية الكاملة”. وسواء كان هذا الموقف من إملاء المبادىء المطبقة في العالم الغربي وبلاده على رأسها، وأطلق رفعا للحرج أمام أوساط في ذلك العالم ناقدة أو غير راضية على الدعم الأمريكي والالتزام غير المتحفظ مع أنظمة لا يستطيع إنسان الألفية الثالثة أن يتعايش معها، أم لا، فإنه لا حرج على قوى التقدم العربية من مواصلة الكفاح لنيل هذه الحقوق وغيرها كثير لإنساننا العربي، فلنشجع ونحيّ أي منبر حر يدعو الى ذلك بالتزام، سواء كانت ” الجزيرة ” أو غيرها، لأننا بذلك نشد من أزرها، حتى لا تعصف بها قوى الظلام المتربصة، كما أوحى أول الحديث في هذا العرض، ولأننا قد نستفز الغارقين في سباتهم أو التائهين في أحلامهم الوردية، لعلهم يفيقون أو تجرفهم غضبة الجموع أو تيارات الفضاء الفسيح..!
مفتاح الشريف – بون، ألمانيا