الشك عند أبى العلاء المعري

د . محمد أبو الفضل بدران
جامعة الإمارات العربية المتحدة

1-1

أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ      فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي 1

من هذه الرؤية ندخل إلى عالم أبى العلاء المعري ونظرية الشك لديه ، حيث نرى رؤيته الشكية في كل ما يجرى من حوله ، فلا جوامد ثابتة أو غير قابلة للتحليل والنقد ، وربما كان العمى عند أبى العلاء عاملا نحو رؤية الأشياء مجردة ، وهذا ما نراه في اشتقاقاته اللغوية التي نراها في مؤلفاته ، حيث تجري على الأقيسة اللغوية حتى لو لم تكن مستعملة في عصره ، فاللغة ليست مقدسة عند أبى العلاء  بل هي قابلة للتأليف والنسخ والحذف والإضافة . من خلال المنهج التحليلي الذي سأتبعه هنا أحاول ترسيم نظرية الشك لدى المعري ، وكيفية وضع أُطُرٍ لها تساعدنا على نقد نظرية الشك لديه إيجابا أو سلبا .

يصرح المعري في “رسالة الفصول والغايات” بتأرجحه بين القبول والرفض للحياة فيقول : ” نفس تأمرني بذلك ، ونفس تنهاني”2 ؛وربما كان يعني التخلص من الحياة ولذا فهو يصرح في رسالة الغفران:”قد كدت ألحق برهط العدم ؛ من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار” 3

وكيف أنه ضاق بالعالم من حوله ” طفت الآفاق ، فإذا الدنيا نفاق ؛ ومللت من مداراة العالم بما يضمر غيره ما يظهره الفؤاد، فاخترت الوحدة على جليس السوء”4

ولقد عشتُ مع المعري سنوات عديدة في أثناء بحثي حول قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري”5  حيث أنني حاولت في هذه الدراسة بيان منهج المعري النقدي ؛ النظري والتطبيقي.وقد ساهم ضياع معظم مؤلفات المعري – على نحو ما سأوضح بعد-في اختلاف الباحثين حوله حيث إن كتبا كاملة فُقدت وأجزاء من كتب أخرى فُقدت أيضا ؛لذا فإن ما نعرفه عن المعري هو معرفة نسبية وبذلك تكون الأحكام النقدية نسبية أيضا .

ولقد شُغل عدد كبير من الباحثين العرب بالمعري ولعل أشهر هذه الدراسات كتاب الجامع في أخبار أبى العلاء وآثاره لمحمد سليم الجندي؛6 لكن هذه الدراسة لم تكن إلا تجميعا لآراء المؤلفين العرب القدامى وعلى هذه الطريقة جمع الدكتور طه حسين وآخرون أخبار أبى العلاء في كتاب أطلق عليه ” تعريف القدماء أبى العلاء ” وهو تجميع لمعظم تراجم أبى العلاء في التراث العربي والفارسي ولكننا لا نرى فيها نقدا أو تحليلا. أما كتاب إبراهيم السامرائى “مع المعري اللغوي”7  فقد حفل بالأخطاء المنهجية على نحو ما وضحت في كتابي ” قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري”8

في مؤلفات طه حسين حول المعري:”صوت أبي العلاء ” و ” مع أبي العلاء في سجنه ” نلمح الأديب طه حسين ويختفي الناقد ويظل المدافع عن المعري دائما ، وقد نحى الملوحي الطريق ذاته وهو الدفاع عن أبى العلاء إذ جاء كتابه “دفاع عن أبى العلاء المعري”9  في مسلك الدفاع إذ قسمه إلى قسمين : أولهما أبو العلاء مؤمن مسلم ؛والآخر شاعرية أبى العلاء .

ومن عجب أن آخر ما نشر حول أبى العلاء من الدكتورة بنت الشاطئ  جاء دفاعا عن أبى العلاء أيضا.

وتأتى أبحاث المستشرقين حول أبى العلاء المعري ولعل أهم هذه الأبحاث هو ما كتبه Fischer A. حول Der Koran des abu al-Ala a al-Maarriالذي حاول أن يدفع عن المعري تهمة كتابة رسالته ” الفصول والغايات ” كمعارضة للقرآن لكنه وإن كان قد ألقى الضوء على هذا الكتاب النادر إلا أنه لم يستطع أن يفهم النصوص الأدبية فهما عميقا ويحللها تحليلا نقديا وربما كانت صعوبة لغة أبى العلاء وغموض تركيباته أحيانا سببا في هذا التناول من Fischerالذي رأى في المعري الشاعر العظيم والمفكر الكبير مما يوحي بإعجابه بالمعري .

وقد جاء  Richard Hartmann  في كتابه ”  Zu dem Kitab al-Fusul wa al Ghayat des Abul alaa al-Maarryليتبع Fischerفي رؤيته تجاه كتاب الفصول والغايات إلا أن أهمية كتابه فيما أرى ترجع إلى إشارته إلى أن كتاب المعري ” الفصول والغايات ” محاولة ضد الكتابات النثرية في عصره ؛ إلا أن أبحاث Margoliouth   حول أبي العلاء لا تكتسب أهمية لأنها ترديد لآراء بعض النقاد العرب القدامى وأحيانا دون فهم ، وربما كانت محاولته في تحقيق رسائل أبى العلاء ونشرها أفضل ما قام به على الرغم مما ثبت من أخطاء وقع فيها في التحقيق  إذ لا تخلو صفحة من تحقيقه من أخطاء .

وقد تناول Gabrieli F. و K.Brockelmannو A.Mezو Arthur wormhoudt في أبحاثهم أبا العلاء و ترجموا  له نقلا عن تراجم العرب . وقد جاء مقال  Nicholson في Enzyklopaedie des Islam مقالا مقتضبا حول المعرى وردد حوادث ثبت عدم حدوثها وقد أشار في مقاله إلى نقد المعري للتراث التقليدي في عصره . إلا أن مقال P.Smoorفي Encyclopaedia of Islamحول المعري يترجم ما حكاه القفطى وياقوت الحموي ، ورغم أنه كان مقالا abstractإلا أنه ساهم في عرض مؤلفات المعري بشكل واضح بُني عن فهمه لهذه المؤلفات . وقد تناولت Renataالمعري في ثلاث صفحات وركزت على قضية الزمن عند المعري وأهمية التركيب اللغوي لديه. ولقد قامت عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) بأفضل تحقيق لرسالتي أبى العلاء المعري : “رسالة الغفران” و “رسالة الصاهل والشاحج” ولا يستغنى عن تعليقاتها المصاحبة للتحقيق فقد كانت رسالة الغفران محققة تحقيقا سيئا من قبلها وقام باحث بسرقة تحقيقها ونسبه لنفسه فيما بعد .

ومن عجب أن معظم المستشرقين لم يتوقفوا أمام نصوص أبى العلاء بل كان معظم اهتمامهم هو محاولة إثبات أثر الفلسفة الهندية والإغريقية على حياة أبى العلاء وتراثه.

1-2

وأبو العلاء المعري هو أحمد بن عبدالله بن سليمان 363-449 هـ(=973-1057م) المولود في معرة النعمان بسورية وقد عميَ من الجدري  في عامه الرابع ورحل إلى بغداد سنة 398 وأقام بها سنة وسبعة أشهر ثم رجع إلى بلده معرة النعمان ولزم منزله في عزلة لا يبرح بيته ولا يأكل اللحم ولم يتزوج أيضا وكان يصوم كل أيام السنة ما عدا عيد الفطر وعيد الأضحى وكان يلبس خشن الثياب وعاش زاهدا حتى وفاته بمعرة النعمان سنة 449 هـ. وقد خلف من المؤلفات الكثير والكثير وأحصى القفطي في مؤلفه ” إنباه الرواة ” أكثر من خمسة وخمسين مصنفا ؛ ويعقب القفطي على ذلك بقوله : إن أكثر كتب أبى العلاء هذه عُدمت ، وإنما يوجد منها ما خرج عن المعرة قبل هجم الكفار عليها ، وقتل من قتل من أهلها ونهب ما وجد منها فأما الكتب الكبار التي لم تخرج من المعرة فعدمت وإن وجد شئ منها فإنما يوجد البعض من كل كتاب ” وأهم ما بقى من مؤلفاته ديوان “سقط الزند” وأبياته نحو ثلاثة آلاف بيت ؛ وديوان “لزوم ما لا يلزم” الذي يشمل عشرة آلاف وسبعمائة وواحد وخمسين بيتا ورسالة “الصاهل والشاحج” و”رسالة الغفران” و”رسالة الملائكة” و”رسالة الهناء” و”رسالةالفصول والغايات” .كما ألف شروحا لدواوين كل من الشعراء أبي تمام والبحتري والمتنبي ؛ وقد حظي المعري بدراسات بعض النقاد والعرب أمثال طه حسين وعائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) وإحسان عباس وغيرهم.

1-3

إن الشك عند أبى العلاء المعري منهج معين يسير عليه نحو الوصول إلى الحقيقة ، والتناقض الظاهري لديه لا يعنى إلا مرحلة التردد بين اليقين وعدم اليقين ؛ بين المنقول والمعقول ، بين المتعارف عليه والجديد، بين التقليد والتجديد ، ويصطدم المعري في منهجية الشك لديه بكل ما هو متوارث ، فالمعطيات لديه ليست مقدسة والفضل – ليس كما قال القدامى – للمتقدم بل إنه يستطيع كما قال عن نفسه :    

وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه                         لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ

لكننا نتساءل ما الهدف الذي سعى إليه المعري  من خلال الشك كمنهج لديه؟ أظن إن المعري قد استخدم الشك طريقا للوصول إلى قناعة داخلية ، إنه في صراع أبدي مع نفسه ، مع مجتمعه ، مع السلطة ، مع الأديان ، إنه يشعر أن قوة داخلية تطارد فكره كي يرتقى إلى منزلة اليقين وفى خلال رحلته القلقة يصطدم مع كل المؤسسات القائمة ويسعى إلى تقويمها أو تحطيمها إن لم يجد إلى تقويمها سبيلا.

وعندما ننظر إلى هذا الكم الهائل من مؤلفات المعري ( وما احتوته من فكر ) نجد أن أهم ما يدعو إليه المعري هو إعمال العقل ” فكلُّ عقلٍ نبيُّ ” وفى مرحلة تنبية العقل  ينمو الشك لديه في كل ما حوله ويتخذ عند المعري ثلاثة أشكال :-

( أ ) الشك في الأديان . (ب) الشك في التراث الأدبي.
(ج) الشك في المجتمع .
وسوف أتوقف هنا عند الشك في البنية الدينية فقط .

الشك في الأديان

القارئ لتراث المعري الشعري والنثري يفاجأ بهذا التناقض الشكلي بين المعري الكافر ، الزنديق ، الملحد وبين المعري المؤمن ، التقى ، الورع . وفى الأدب العربي القديم نفتقد بشكل كبير زمنية التأليف ويزيد من حجم المشكلة أن المخطوطة الواحدة قد تكتب في عدة سنوات ويبقى أمام الباحث التشبث بإشارات التأريخ وهذه لا تسعف الباحث أحيانا في التحديد الدقيق ، وتزداد المشكلة تعقيدا لدى المعري الذي كثرت مؤلفاته وتضخمت ، ولا يعرف زمنية تأليفه ، وعلى سبيل المثال فقد كان الظن لدى معظم الباحثين أن ديوان سقط الزند هو أول ديوان ألفه المعري في حياة الصبا ؛ إلا أننا عندما نقرأ الديوان بتمعن نفاجأ أن الديوان قد أُلف عبر حياة المعري وأن بعض قصائده يعود زمنيتها إلى أواخر عمر المعري ، وأقصد من ذلك أن أقول إن التردد أو التناقض في مواقف المعري في الكتاب الواحد لا يعطى دليلا على أن الشك كان في مرحلة زمنية معينة من حياة المعري بل يؤكد أن الشك صاحَب المعري في معظم حياته.

وينبغي قبل أن أورد أمثلة من أقوال المعري أن أركز على أن المعري يشكك أحيانا في جزئيات الأديان كنظرية لكن معظم شكه ونقده ينصب على متاجري الأديان ؛ فهاهو يردد : “ما أنا بالملحد الكفور ولا أسأل مولاي غير إلحاد”

العقل في مواجهة ما وراء العقل

يؤمن المعري بالعقل ويتخذه نبيا ، وينادى في اللزوميات :     

يرتجي الناسُ أن يقـومَ إمــامٌ           ناطقٌ في الكتيبة الخرســاء 

كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل         مشيرا في صبحه والمســاء    

فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة           عند المسير والإرســـاء

إنما هذه المذاهب أسبـــاب            لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء

وينادي

ولا تصدق بما البرهان يبطله      فتستفيد من التصديق تكذيبا

ويصرح بأن الحكم الأول والأخير يجب أن يكون للعقل فيقول :  

جاءت أحاديثُ إن صــحتْ فإن لها       شأنـا ولكن فيها ضعف إسنادِ

فشاور العقل واترك غيره هـــدرا       فالعقلُ خيرُ مشيٍر ضمّه النادي

أو قوله :     

في كل أمرك تقليدٌ رضيتَ به           حتى مقالك ربي واحدٌ ، أحدُ    

وقــد أُمرنا بفكرٍ في بدائعه           وإن تفكر فيه معشر لحدوا ؟

ويردد المعري الكثير من آراء ابن الراوندي تجاه العقل فقد أورد ابن الراوندي موقفه الرافض لكل ما يخالف العقل، يقول ابن الراوندي : ”  إن الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته ، فلمَ أتى بما ينافره إن كان صادقا؟”10 ويمضى قائلا: “والعقل هو الذي يمتحن قيمة النبوة ، فإما أن تتفق تعاليم النبي مع العقل وحينئذ فلا لزوم لها ؛ وإما أنها تتناقض وإياه وحينئذ فهي باطلة”11 

وعلى هذا فإن المعري يرى أن العقل هو الحكم والفيصل في الأديان وأن كل ما هو مقدس يجب أن يخضع للعقل .

العقل في مواجهة النقل

يطرح المعري قضية الألوهية بشيء من الإنكار تارة وتارة أخرى بشكل إيماني عميق ،فالشك يبدأ لديه في مواجهة ما تناقله الفقهاء والمفسرون ولذلك يقول في اللزوميات:      

قلتم لنا خالقٌ حكيم         قلنا صدقتم كذا نقـولُ      

زعمتموه بلا مكانٍ         ولا زمانٍ ألا فقولــوا

هذا كلام له خبـئٌ          معناه ليست لنا عقولُ

و يقول :

أما الإله فأمرٌ لست مدركه    فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا

ويتعجب المعري لماذا لا يتألم الله لعذاب الناس :

لوانى كلب لاعترتني حمية      لجروي أن يلقى كما يلقى الإنس

أو قوله :  

رأيت سجايا الناس فيها تظالم         ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما

وأن هنالك تناقضا في الأحكام فيخاطب الله قائلا :     

أنهيتَ عن قتل النفوس تعمدا        وبعثت أنت لقبضها ملكين؟    

وزعمت أن لنا معــادا ثانيا        ما كان أغناها عن الحالين12

ويخاطب الله متسائلا :     

إن كان لا يحظى برزقك عاقــل      وترزق مجنونا وترزق أحمقا    

فلا ذنب يارب السماء على امرئ      رأى من ما يشتهي فتزندقا

لكن الشك لديه يجعله مترددا بين الإيمان والكفر ولذا نفاجأ عندما نراه يردد:    

سأعبد الله لا أرجو مثوبته           لكن تعبد إعظام وإجلال

وعندما ينظر المعري في بعض أحكام الفقه يجد أن هنالك أحكاما لا يقبلها العقل مثل حكم دية اليد إذا قطعت بخمسمائة دينار ذهب وإذا سرق أحد من الناس ربع دينار تقطع يده فيعترض قائلا :     

تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له     وإن نعوذ بمولانا من النـار    

يد بخمس مئين عسجد فُديت     ما بالها قُطعت في ربع دينار

ولأنه يعيش في مرحلة الشك فإنه في شوق إلى اليقين بيد أنه هيهات:           

أما اليقين فـلا يقين وإنما       أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

أو قوله : 

وقد عدم التيقن في زمان       حصلنا من حجاه على التظني

بل إن المعري عندما يفكر بعقله ويصطدم مع الشافعي أو مالك فإنه لا يأبه بذلك ويرى أن من حقه أن يجتهد طالما هو قادر على التفكير  

وينفر عقلي مغضبا إن تركته      سدى وأتبعت الشافعي ومالكا  

ويفاجئنا المعري بأن العقل ينكر الأديان السابقة:    

هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت       ويهود حارت والمجوس مضللهْ   

اثنان أهل الأرض : ذو عقـل بلا       ديــن وآخر ديِّن لا عقل لهْ

وينكر أن يكون آدم واحدا    

وما آدم في مذهب العقل واحـد       ولكنه عند القيــاس أو آدم

ويشكك المعري في تدين الناس من حوله ويرى أنه تدين متوارث

وينشأ ناشئ الفتيان منــا           على ما كان عوّده أبوه

وما دام الفتى بحجى ولكن           يـعلمه التدين أقربوه

الشك في الديانات والمذاهب

لا يسلم دين أو مذهب من نقد المعري والتشكيك في أصوله فاليهودية محرفة والمسيحية لا تقوم على أساس عقلي والحنيفية خرجت عن مسارها والمذاهب جميعها متطاحنة وأن الأديان والمذاهب هي المسئولة عن الصراعات الموجودة في العالم وان الأديان هي تأليف من القدماء فلا أنبياء ولا وحي في رؤية المعري الشكية :

أفيقوا   أفيقوا يا غواة فإنما       دياناتكم مكرٌ من القدماء

وقوله :

ولا تطيعن قوما ما ديانتهم      إلا احتيال على أخذ الإتاوات

وإنما حمل التوراة قارئهـا       كسب الفوائد لا حب التلاوات

إن الشرائع ألقت بيننا إحنا      وأودعتنا أفانين العـــداوات

وقوله :     

مسيحية من قبلها موسوية      حكت لك أخباراً بعيد ثبوتها

ويسخر المعري من الأيام المقدسة فيقول :  

وجدنا اختــــلافا بيننا في إلهنا       وفى غيـره عزَّ الذي جل واتحـد

لنا جمعة والسبت يدعى لأمـــة       طافت بموسى والنصارى لها الأحد

فهل للبواقي السبعة الزّهر معشر       يجلونها ممن تنسك أو جحــــد

تقرب ناس بالمدام وعنـــدنا        على كل حـال أن شــاربها يُحَد

ويرى أن الأديان قد فشلت في خلق عالم مثالي:     

أمور تستخف بها حلوم       وما يدرى الفتى لمن الثبور    

كتاب محمد وكتاب موسى        وإنجيل ابن مريم والزبـور    

نهت أمما فما قبلت وبارت       نصيحتها فكل القوم بور  

وعندما يصل الشك لدى المعري منتهاه يقول :     

توافقت اليهود مع النصارى          على قتل المسيـح بلا خلاف    

وما اصطلحوا على ترك الدنايا      بل اصطلحوا على شرب السلاف

ويرى أن المسيح لا يكون منطقيا ابنا لله :

عجبـا للمسيــح بين أناس       و إلى الله والد نسبوه

أسلمته إلى اليهود النصارى       واقروا بأنهم صلبــوه

يشفق الحازم اللبيب على الطفـــل إذا ما لداته ضربوه

وإذا كان ما يقولون في عيسى صحيحا فأين كان أبوه

كيف خلّى وليدَه للأعادي        أم يظنون أنهم غلبوه ؟

ويتساءل المعري وهو في قمة شكه أي الأديان هو الصحيح :

في اللاذقية ضجةٌ       ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق       وذا بمئـذنة يصيح 

كل يعظّم ديـنه        ياليت شعري ما الصحيح

وفى شك المعري وتحكيمه للعقل كفيصل وحيد نحو الوصول إلى اليقين يشكك المعري في وجود الوحي :

فلا تحسب مقال الرسل حقا   ولكن قول زور سطّروه

وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ   فجاءوا باالمحال فكدروه

ويشكك في تناسق الأديان ووحدتها بل يشكك في الدين الواحد الذي تتشعب منه المذاهب المتعارضة والمتناقضة على نحو ما نرى في أبيات اللزوميات والتي لا داعي لذكرها هنا وأنه يعيش في شك لأنه لا يرى الهدى وإنما :

دين وكفر وأنباء تقص    وفرقان وتوراة وإنجيلفي كل جيل

أباطيل ، يدان بها    فهل تفرد يوما بالهدى جيل ؟

وقال عبدالسلام القزوينى : اجتمعت به ( أي المعري ) مرة فقال لي : لم أهج أحدا قط ! قال : صدقت إلا الأنبياء ! فتغير وجهه ” وقد ألف المعري رسالة الفصول والغايات التي لم يصل إلينا سوى الجزء الأول منها وهو ما يساوى ثلثها تقريبا وأسماها ” الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات ” كما يرى البعض بينما يرى الآخرون أنها في تمجيد الله والمواعظ ويروى أنه قيل له : ليس هذا مثل القرآن ، فقال : لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة “13  ترى ماذا يفعل الناقد أمام هذه المقولة التي يقولها المعري وأمام شعره الذي يقول فيه:

أقيم خمسي ، وصوم الدهر آلفه          وأدمن الذكر أبكارا بآصال

عيدين أفطر في عامي إذا حضرا          عيد الأضاحي يقفو عيد شوال

الشك في الفرائض

يقف المعري موقفا رافضا للحج ويرى أنه ليس فرضا على العجائز والعذارى طالما بقى هؤلاء الناس الأشرار حول الكعبة :

أقيمي لا أعد الحج فرضا    على عجز النساء ولا العذارى

ففي بطحاء مكة شر فقوم    وليسوا بالحماة ولا الغيـارى

وكذلك قوله :

هل تزدهي كعبة الحجاج إذا فقدت   حسا بكثرة زوار وسدان

فالحج في نظر المعري هو تقليد لا يقف أمام العقل :

وما حجى إلى أحجار بيت      كؤوس الخمر تشرب في زراها

إذا رجع الحكيم إلى حجاه     تهاون بالمذاهب وازدراها

ويردد آراء بعض الناس أن طقوس الحج طقوس وثنية :

ما الركن في قول ناس لست أذكرهم      إلا بقية أوثان وأنصاب

وكذلك قوله :

أرى عالما يرجون عفو مليكهم     بتقبيل ركن واتخاذ صليب

ونستطيع أن نقول إن هذا الرأي يبدو متطابقا مع رأى ابن الراوندي تجاه الحج حيث يقول ابن الراوندى : “فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبى قبيس وحرى (جبلان بمكة ) ، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت”14  ويتفق مع رأى الكندي الذي يقول ”  هذا فعل الشمسية والبراهمة الذي يسمونه النسك لأصنامهم بالهند ، فإنهم يفعلون في بلدهم هذا الفعل بعينه الذي يفعله المسلمون اليوم من الحلق والتعري الذي يسمونه الاحترام والطواف”15

1-4

موقف معاصريه ولاحقيه منه

يتبقى لدينا سؤال : كيف نفسر تأرجح المعري في آرائه بين الإيمان والكفر .. ؟

هل ذلك راجع إلى أعدائه الذين كما يزعم المعري يدسون أبياتا ينسبونها إليه؟ فقد ذكر في سقط الزند “أنا شيخ مكذوبٌ عليه”16أو أن ذلك يعود إلى موجة الإلحاد التي راجت قبيل عصر المعري وفى أثناء عصره فقد اتهم صالح بن عبدالقدوس وابن المقفع وبشار بن برد  وحماد عجرد وأبوعيسى الوراق وابن الراوندى  وأبوحيان التوحيدي (ت 400 = 1009 م ) بأنهم ملحدون .

إننا لا نستطيع أن ننفي أثر العصر على المعري وعلى تكوينه الثقافي لكننا في الوقت نفسه لا نرى المعري المقلد بل هو المجدد كما أنه لا يتبع طرق من سبقه لكنه يشق بمفرده الطريق الوعر . فقد خالف المعري ابن الراوندى في موقفه تجاه إعجاز القرآن الكريم إذ يقول “وأجمع ملحد ومهتد ، وناكب عن المحجة ومقتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز”17  وفى الوقت ذاته فإننا لا نستطيع أن نقبل أن كل الأبيات والجمل النثرية التي تتعارض مع الأديان قد وُضعت على لسانه لأن ذلك الجدل حول كتاباته بدأ في حياته مما جعله يؤلف كتبا في تفسير ما اتهم به في كتبه السابقة وعندما نقرأ الرسائل التي بودلت بين المعري وبين داعي الدعاة الإسماعيلي (المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي) نجد أن ابن أبي عمران الشيرازي يقول في إحدى رسائله للمعرى : “ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه (أي المعري) مختلفين”18  ويحكى الخطيب البغدادي (392 – 463 ) وهو معاصر للمعرى ” أن المعري عارض سورا من القرآن ، وحكي عنه حكايات مختلفة في اعتقاده ، حتى رماه بعض الناس بالإلحاد”19  ويذكر ذلك الباخرزى (أبوالحسن على بن الحسن بن على بن أبى الطيب الباخرزى) وهو معاصر للمعرى أيضا :

“إنما تحدثت الألسن بإساءته للكتاب الذي زعموا أنه عارض به القرآن”20

وصاح معاصره أبوجعفر محمد بن اسحق بن على البحاثى الزوزنى (ت 463) :

كلب عوى بمعرة النعمان     لما خلا عن ربعة الإيمان

واختلف الأمر لدى النقاد والفقهاء الذين أتوا من بعده فبعضهم رأى أنه كافر وملحد وزنديق بينما رأى بعضهم أنه مؤمن بل وليٌّ من الأولياء فالسمعاني (506-562 هـ) ينقل في كتابه الأنساب رأى البغدادي ويقرر ابن الجوزي (أبوالفرج عبدالرحمن 510-597) في كتابه المنتظم في ترجمته للمعرى أن أحواله تدل على اختلاف عقيدته ، وقد حكى لنا عن أبى زكريا أنه قال : قال لي المعري : ما الذي تعتقد – فقلت في نفسي : اليوم أعرف اعتقاده – فقلت : ما أنا إلا شاك ! فقال : هكذا شيخك ” ويضيف ” وقد رماه جماعة من العلماء بالزندقة والإلحاد وذلك أمر ظاهر في كلامه وأشعاره وأنه يردّ على الرسل ، ويعيب الشرائع ، ويجحد البعث”21

وقد وقف القفطي ( أبوالحسن على بن يوسف القفطي 568-646) موقفا وسطا بين الفئتين فقد نقل آراء الفريقين إلا أنه قد أورد لنا رواية نتوقف حيالها قليلا فقد ذكر أن المعري قد رحل إلى طرابلس الشام ” فاجتاز باللاذقية ، ونزل دير الفاروس ، وكان به راهب يشدو شيئا من علوم الأوائل ، فسمع منه أبوالعلاء كلا ما من أوائل أقوال الفلاسفة ، حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها به فعلق بخاطره ما حصل به بعض الانحلال …. ثم ارعوى ورجع واستغفر واعتذر”22  ولا يعقل أن يكون الراهب قد أثر على المعري في يوم أو ليلة ولذا أترك هذه الرواية إلا أنني أتوقف حيال أنه قد استغفر ربه عما قاله في شبابه وأنه قد غيّر آراءه الشكية قبيل وفاته.

يرى القفطى أنه قد رأى المعري في المنام فقال له : ما الذي يحملك على الوقيعة في ديني ؟ وما يدريك لعل الله غفر لي ” فخجلت من قوله …. فابتسمت متعجبا للرؤيا ، واستغفرت الله لي وله ، ولم أعد إلى الكلام في حقه إلا بخير”23

ويصيح ياقوت الحموي 574-626 : كأن المعري حمار لا يفقه شيئا”24

ويرى ابن الأثير( 555- 630 )”أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة وفى شعره ما يدل على ذلك”25  ويذكر سبط ابن الجوزي (581-654 )في كتابه مرآة الزمان رواية على لسان المنازي الشاعر قال : “اجتمعت بأبى العلاء بمعرة النعمان فقلت له : ما هذا الذي يحكى عنك ؟ فقال : حسدني قوم ، فكذبوا عليَّ ؛ قلت علامَ حسدوك وقد تركتَ لهم الدنيا والآخرة ؟ قال : والآخرة ؟ قلت : إي والله”26 ويسوق الغزالي في كتابه “سر العالمين وكشف ما في الدارين” كرامة من كرامات المعري ليدلل على تقواه وإيمانه.27

ويرى أبوالفداء( 672-732 )في كتابه “المختصر في أخبار البشر” أن أبا العلاء المعري ” كان يُظهر الكفر”28  وإلى هذا ذهب الذهبي (673-748) في تاريخ الإسلام ويرى ابن الوردى أنه تقي .

ولعل فيما أوردته من أمثله ما يدل على اختلاف الناس معاصرين ولاحقين في أمره ، وهذا التأرجح إنما هو ناتج من تأرجح المعري ذاته ومن الشك لديه الذي يجعل الناس في شك من أمره فقد يناصره بعضهم بينما يعاديه البعض الآخر ” ويعمل – كما يذكر الصفدي – تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار ، يضمونها أقاويل الملاحدة ، قصدا لهلاكه”29

لكن الثابت أن جدلا كبيرا دار حول كتابه ” الفصول والغايات ” وهل هو معارضة للقرآن الكريم أو كتاب مستقل ، وهذا الجدل بدأ أيضا في حياة المعري إذ زاره الرحالة الفارسي ناصري خسرو ودوّن في كتابه ” سفر نامه ” أن المعري ” وضع كتابا اسماه ” الفصول والغايات ” ذكر به كلمات مرموز وأمثال في لفظ فصيح عجيب ، بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ، ويفهمه من يقرؤه عليه . وقد اتهموه بقولهم “إنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن ؛ ويجلس حوله أكثر من مائتي رجل …. وسمعت أن له أكثر من مائة ألف بيت شعر”30  أي أن الغموض الذي كان يكتنف كتابات المعري وأسلوبه الصعب ساعد على عدم فهم مؤلفاته ، فقد كان واسع المعرفة ولم يتوقف المعري في نقده تجاه الأديان فقط بل نقد المجتمع والسلطة وتمنى إذا ما مات أن يحرق جسده وإذا قُبر فقد أوصى أن يكتب على قبره

        هذا جناه أبي عليّ     وما جنيت على أحد

لقد توقف النقاد القدامى والمحدثون أمام إيمان المعري أو كفره إلا أنني اختلف مع الفريقين إذ كان أحرى بهم أن ينظروا إلى المعري الذي يمثل العقلية العربية المستنيرة التي تحاول أن تشك في كل الحقائق لكي تستنتج حقيقة واحدة وهى البحث عن الحقيقة .


  1.   أبو العلاء المعري : اللزوميات ج2 ص 439 
  2.   أبو العلاء المعري: رسالة الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ ص 544 تحقيق محمود 
  3.   أبو العلاء المعري :رسالة الغفران ص395 تحقيق الدكتورة عائشة عبدالرحمن ،ط.دار المعارف 
  4.   المعري :الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ ص 273 
  5.    محمد أبو الفضل بدران : (دكتور) قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري ، مطبعة 
  6.    محمد سليم الجندي : الجامع في أخبار أبى العلاء و آثاره ، تحقيق عبدا لهادى هاشم ، ط. 
  7.    إبراهيم السامرائى : مع المعري اللغوي ، ط. مؤسسة الرسالة ، بيروت 1984 م . 
  8.    محمد أبو الفضل بدران : قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري ص 135-137 
  9.   عبدالمعين الملوحي : دفاع عن أبى العلاء المعري ط . دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، 1994 
  10.   عبدالرحمن بدوي : من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص 121 
  11.   السابق ص139 
  12.    القفطى : إنباه الرواه  (تعريف القدماء ص 56-57 ) 
  13.    ابن حجر :لسان الميزان (تعريف ص 314 ) 
  14.   ” عبدالرحمن بدوى : من تاريخ الإلحاد ص 120  . 
  15.   ” السابق ص 154 . 
  16.    تعريف ص 212 
  17.    المعري : رسالة الغفران ص 471 
  18.   ( تعريف القدماء ص 134 ) 
  19.    البغدادي:تاريخ مدينة السلام (تاريخ بغداد) ص 240 – 241 ) تعريف ص 7 
  20.    الباخرزى ( أبوالحسن على بن الحسن بن على بن أبى الطيب الباخرزى )  دمية القصر ص 
  21.   ” ( تعريف ص 20 ) 
  22.    القفطى : انباه الرواه على أنباه النحاه تعريف ص 30-31 ) 
  23.    تعريف ص 52 
  24.   تعريف ص 115 . 
  25.   ابن الأثير:الكامل : جـ 9 ص 2380 = تعريف جـ 142 
  26.   تعريف ص 151 . 
  27.   ( انظر تعريف ص 152-153 ) . 
  28.   تعريف ص 187 . 
  29.   تعريف ص 270 . 
  30.    التعريف ص 463 
Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial