الجليل يشع وطنية وعطاء على العالم العربي والشاعر طه محمد علي يشع على الجليل

بقلم: حكم عبد الهادي 

بكثير من الحياء اعترف, ان المغترب الذي يتضور حنينا الى بلاده يشعر احيانا بيأس مخجل حين يلاحق من بعيد بقلق كبير, ليس منذ أوسلو فقط, بل منذ عشرات السنين، التطورات الخطيرة في المنطقة وخاصة في فلسطين. وقبل حوالي عشرة اعوام اكتشفت “وصفة” لمعالجة حالة اليأس هذه، وصفة بسيطة, ولكنها ناجعة, وهي القيام بجولة تشمل كحد أدنى الخليل ونابلس والجليل. هذه الرحلة ليست شاقة, فهي لا تستغرق أكثر من يوم , ولكنني شعرت خلالها بعمق لا يقبل الشك, أن الانسان العربي لن يقتلع من هذه الارض التي تمتد جذوره في اعماقها منذ الاف السنين.

حين رأيت نضال الخليل ونشاط اهلها, الذين لا يبنون بيتا الا فوق صف من “الحواصل” التي تتحول الى ورش للبناء والتجارة, ايقنت أن الوجود الاسرائيلي في هذه المدينة واطرافها ورطة اسرائيلية وليست خليلية. وعندما تجولت في جبال نابلس، واسواقها، وحارة الياسمين, تأكدت أن اي محتل لن يخرج منها حيا على المدى المنظور.

في الجليل, وحوله، وعن شاعره الكبير طه محمد علي يدور هذا المقال. في الجليل تذكرت ما قاله بن جوريون بغضب شديد حين زاره في الخمسينيات : ” أين أنا؟ هل أنا في اسرائيل ام في سوريه؟ ” نعم, ما زالت العروبة تسطع بقوة من الناصرة وشفا عمرو وسخنين على الرغم من سلب الاراضي وبقية الاجراءات الاسرائيلية.

لا تكمن قوة الجليل بالدرجه الاولى في عروبة اراضيه وانما في وطنية نسائه ورجاله العرب وقدرتهم على العطاء. لقد رافقت, على سبيل المثال, نائب الكنيست الدكتور عزمي بشاره اثناء حملته الانتخابية في ربيع 1996, وخلال الحوار الذي جرى في الناصرة بينه وبين الجمهور الغفير حول إشكالية اعطاء أصواتهم لبيرس أو الامتناع عن التصويت, تذكرت أيام عز العرب وتاريخهم النضالي, اذ كان الخلاف على النقطة التالية: هل من المعقول ان نعطي اصواتنا لبيرس بعيد مذبحته لاهلنا في قانا، وبعيد أن كتبنا تحت صورته في احد مناشيرنا “مجرم حرب” ؟ لا اريد هنا الخوض في تفاصيل الحوار الطويل الذي تم حول أفضلية بيريس أم نتنياهو, هذا السؤال المعقد حقا, كل ما أريد قوله ان الناس في الجليل يتعاملون مع القضايا في اطار قومي وليس من زاوية ضيقة اقليمية ومحلية, كما هو الحال للاسف في معظم البلاد العربية.

اللقاء الاول بطه محمد علي
ما من شك ان مثل هذه المواقف لا يأتي من الفراغ وانما من الساحات الوطنية والادبية التي ناضل فيها توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وطه محمد علي وحنا ابو حنا وغيرهم. مرة اخرى, اعترف بكثير من الحياء والاسف ( الله يلعن الغربة), انني لم اكن اعلم أي شئ عن الاستاذ طه, الذي اعتبره الان, بعد مطالعتي لثلاثة دواوين1 وقصتين قصيرتين له, من اهم الادباء العرب واقربهم الى الوجدان ؛ لم اكن اعرفه حتى خريف 1996 ,حيث افتتح في الناصره انذاك معرض الفنان اللداوي المعروف اسماعيل شموط الذي زار البلاد بعد غياب عشرات السنين.

وفي مهرجان الافتتاح الذي حضرته اهم شخصيات البلد, لم يفت على قاسم, أحد أبناء الجليل ومنتج شبكه MBC التلفزيونية, ان يسلط الكاميرا على وجه رجل يقترب ببطء من السبعين ويبدو للوهلة الاولى كملاكم متقاعد. سألت قاسم بصوت خافت : “من هذا الرجل الذي تصوره؟” , فاجاب : ” ويلك, الا تعرف الشاعر طه محمد علي!” , فانسحبت بسرعة من هذه المأزق, واخذت أسأل الحاضرين عنه, الى ان سمعت منهم ما مفاده أنه أحسن من حدث الناس من أبناء الناصره بعد سيدنا المسيح. وهكذا أخذت أقترب بوجل من الرجل الى أن تعرفت عليه وعلى اعماله. وبعد ايام قليلة التقيت به في مؤتمر الكتاب الفلسطينين في جامعه بير زيت. قلت له بعد أن سحرني ديوانه “ضحك على ذقون القتلة” : ” هل تسمح لي ومسجلي بزيارتك في الناصره”. قال : ” تعال, يا أخي, جربنا.”

كانت تجربة رائعة رافقني خلالها استاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت الدكتور عبد الكريم البرغوتي. جلسنا ساعات, لا ادري كيف مرت, على شرفة بيته المطلة على حديقة تعج كالغابة الصغيرة بالاشجار والزهور. قال : ” أهلا وسهلا, أنا اتكلم عادة ما فيه الكفاية, واليوم سأسمع.” قلنا : ” جئنا لنسأل ونسمع.” 

على الكاتب ان يضع قدمه في حذاء الشخص الذي يصوره
شغلت المسجل, وبدأت بسؤال تقليدي عن طفولة الاديب ونشأته: ” قرأت لك قصة (ما يكون ) التي تدور حول طفل حافي, فهل انت من معشر الفقراء؟ ” وفي جوابه على هذا السؤال البسيط عرج الكاتب على أعمال شكسبير – الذي يحفظ الكثير من شعره عن ظهر قلب – وغيره من الادباء العالميين والعرب ليقول: 
” أريد أن أقول لك شيئا, وهو ان الكتابة والابداع, بما في ذلك الموسيقى والرسم والشعر طبعا, محاولة جادة لتغيير الواقع, لخلق عالم مختلف,مفاجئ وجديد عن القائم. واعتقد, وكان في هذا الذي أجرم في حقي, اذا كان ذلك اجراما,هو شكسبير, فعندما كنت أقرأ شكسبير, مثلا King Lear , كان يستقر في ذهني أن الذي يستطيع وصف المجنون بهذه المهارة لا بد أن يكون مجنونا, وعندما قرأت “هملت” اعتقدت ان الكاتب عراف لا محالة, لانه يستطيع أن يستشف أن هذه الجمجمة كانت رأس المحامي, ثم كنت لا استطيع أن أتخيل أن كاتب روميو وجولييت ليس من الممكن ان يزيد عمره عن عاشق تجاوز السابعة عشرة. ( ونجد امثلة كثيرة اخرى يسردها الشاعر باللغة الانجليزية وتوضيحات لابعادها الادبية بالعامية احيانا) ” 
ومضى طه محمد علي قائلا:
” الفن, خيا (اخي بلهجة اهل الناصره), حسب ارسطو, هو ليس تصوير الواقع, وانما خيال الواقع في ذهنك, او بعبارة افضل تعود الى احدهم في الاندلس : الفن ليس تصور النجوم, فهذا واقع, وهو ليس اثرها في بحيرة, فهذا ايضا واقع. الفن هو اثر النجوم في البحيرة في نفسك. 
لقد استنتجت من كل ذلك أن الكتابة هي وضع قدمك في حذاء الشخص الذي تريد ان تصوره واندماجك ودخولك في ذاته, بحيث تتكلم بلغته وتشعر بمشاعره وتخاف خوفه, كل ذلك بغض النظر عن شخصك. في الادب العربي احمد شوقي قرب هذا المفهوم لذهني, فوالله شعره في مجنون ليلى أرق من شعر المجنون. والله شعره أقرب للبداوة من البدوي, اذ قال:
كم بنينا من حصاها اربعا وانثنينا فمحونا الاربعا
تشعر وكأنه كان يلعب بحصى الصحراء ولكنه لم يفعل.

ثم هل شاهد الشاعر الالماني غوته الدكتور فاوست في الحياة الاخرى؟ كلا, ولكنه استطاع ان يصوره, وكذلك دوستويفسكي الذي رصد الاهبل والمقامر فصورهما.”

اسمع هذا البيت لعنترة الذي يجعله يجلس الند للند في ديوان شكسبير وغوته ويضع “رجلا على رجل” في مجالس كبار شعراء العالم:
فوددت تقبيل السيوف لانها لمعت كبارق ثغرك المتبسم

واستطرد الاستاذ طه موضحا بما معناه, ان من حق الذي رسم مثل هذه الصورة الرائعة, العاشق الذي لا يخشى تقبيل السيف الجارح لان لمعانه ذكره بابتسامة حبيبته, من حق هذا الفنان ان يدخل فسيح جنان الشعر…
بعد هذه المقدمة الرائعة أجاب الاستاذ طه على سؤالي بشكل محدد: ” أنا لا اقارن نفسي بهؤلاء العظماء, ولكني لم أكن حافيا, وفي قصة اخرى تجدني صيّاداً وتظن انني كنت طيلة حياتي صيّادا والى غير ذلك …” .

لا اذكر مما تعلمته في المدرسة سوى احتجاجات المدرس على أظافري الطويلة
في الناصرة تروى قصص كثيرة عن حياه شاعرنا العصامي ,الذي يقارنه البعض بالعقّاد. واذكر ان حدثني بعضهم أنه لم يتعلم قط في مدرسة, وانه عمل في مطلع شبابه في مقلع,وكان لا بد ان اسأله عن صحة هذه المعلومات, فقال انه داوم اربعة أعوام في ابتدائية مسقط رأسه, في قرية الصفورية, قبل ان تدمرها اسرائيل وترغم سكانها على مغادرتها في عام 1948… ” خرجنا مع الخارجين , ووجدنا انفسنا في وسط مأساة, وكان علي ان اقرأ…لا اتذكر من دروس المعلم سوى صوته وهو يردد: تعال لهنا, لماذا اظافرك طويلة؟ ” وأضاف أنه لم يعمل ابدا في مقلع, وان حالة والده كانت دائما “مستورة”, وانه يعيش منذ مطلع شبابه من بيع التحف التذكارية, الامر الذي مكنه من مواصلة تعليمه بجهوده الشخصية. تعلم النحو والصرف, مستعينا اذا لزم الامر بتوضيحات الآخرين وارشاداتهم. وكان يقتطع من دخله تكاليف حصص اللغة الانجليزية التي تعلمها على يد استاذ كان يلقنه يوميا وهو في سن العشرين سبعين مفردة. 

” احب الادب الامريكي واكره السياسة الامريكية “
سألته عن سبب اصراره على تعلم الانجليزية, فاجاب: 
اعتقد ان العربية الان هي ليست كما كانت في العصر الجاهلي. العربية الان عربيات. العالم العربي لم يعد معزولا عن العالم, فانت بحاجة الى نافذة على العالم الكبير. عن طريق الانجليزية تمكنت ايضا ان اقرأ الادب الامريكي وترجمات للادب الفرنسي والالماني والروسي. احببت الادب الامريكي كثيرا , على الرغم من كرهي الشديد جدا للسياسة الامريكية. وفي هذا السياق قرأ القصيدة التالية ( التي نظمت في تموز 1973) كان القاها في جامعه بيرزيت ونشرت في اكثر من اربعين مكانا:
 

عبد الهادي يصارع دولة عظمى
في حياتهما قرأ ولا كتب.في حياتهما قطع شجرة,ولا طعن بقرة. في حياته, ما جاب سيرة النيويورك تايمز؛بغيابها.في حياته,ما رفع صوته على احدالا بقوله:” تفضل…”” والله العظيم غير تتفضل “*****ومع ذلك,فهو يحيا قضية خاسرة.حالته,ميؤوس منها,وحقه ذرة ملح,سقطت في المحيط.****ايها السادة !!ان موكلي, لا يعرف شيئا عن عدوه !!واؤكد لكم,انه لو رأى بحارة الانتربرايزلقدم لهم البيض المقلي,ولبن الكيس !!  —————————

وعقب الاستاذ طه بقوله, صفق آنذاك الملحق الثقافي الامريكي, فقلت له, انها ضدكم, ضد بحارتكم, فاجاب “: انا اعلم, ولكنني صفقت للناحية الفنية فقط. ( ضحك الشاعر من كل قلبه حين روى ذلك.)

كلمة وفكرة
كنت اتجنب مقاطعة مضيفنا, الذي كان يحرص بين الفينة والاخرى على الضغط علينا, لكي لا نكف عن تناول قطع الحلوى والبطيخ وغير ذلك من المشهيات, التي اعدتها قرينته ام نزار بمهارة فائقة, بيد انني اضطررت ان افعل ذلك, لانني كنت قد اعددت لعبة بسيطة/صعبة وددت ان العبها معه, فوافق دون تردد. وتتلخص الفكرة في ان اقول كلمة, وهو يعطيها المحتوى الذي يشاء, على الا يزيد جوابه على ثلاثة اسطر , وبدأت بسؤالي عن مفهومه لكلمة: الفرح؟ : ” سمكة, كم بكيت وانا احاول اصطيادها عبثا.”
الحزن؟ : “يشبه عصفوراً, كان في قفص عندي, افتحه واطلقه, فيعود لي.”
الحنين؟ : “للحنين أجنحة, اما حنيني انا, فهو كتل من الريش والمناقير.”
الغربة؟ : “نفق داخل النفس, لا حدود لابعاده, ولا بعد لحدوده.” 
الصداقة؟ : ” امور ثلاثة احببتها حبا غير نهائي: الصداقة, والحب، والشعر.”
الخوف؟ : “المخدة التي تضعها تحت رأسك, وتستيقظ وهي على رأسك.”
الكبرياء؟ : “كبرياء بلا صلف, كامرأة جميلة بلا غطرسة.
اميل حبيبي؟ : ” توفي سنه 1996.”
محمود درويش؟: ” اعمق شاعر فلسطيني.”
الناصرة؟ : ” وطني الثاني, وقربها من صفورية يجعلها اثيرة الى نفسي.”
الصفورية (مسقط رأسه المدمر)؟: ” تلك هي طرواده, تلك الحنين الابدي الى المجهول.”
تذكرت قصيدته عنها : ” ناقوس – مرور عام على تخريب قرية” , التي يقول فيها: صفوريه!!ماذا تفعلين هنافي هذا الليل المجوسي العاكف على ذاتهعكوف القلبعلى البغضاء!؟وأين اقراطك!؟أماشطة أنتأم مشنقة!؟إن كنت ملكةفاين كوفيتك وعقالك؟…ماذا صنعت بسيف صلاح الدينواين وفود الظاهر!؟…اين قاسم والمعاصر والقسطل؟واين اعراس عناقيد التبغالاشقر كالجدائل؟—-الماضي يغفو بجانبي كما يغفو الرنينبجانب جده الجرس!والمرارة تتبعنيكما تتبع الصيصانامها الدجاجة!…


طه محمد علي من قلاع المقاومة وليس من مغاويرها
اذا كان الشاعر والسياسي توفيق زياد الذي لا يسمع شخص في الجليل اسمه الا وتغيرت معالم وجهه حبا واحتراما له وألما لرحيله المبكر, اذا كان هذا الرجل من مغاوير التصدي للصهيونية, التي عبثت وما زالت تعبث بأفراح الناس وخيراتهم في بلادنا, فان طه, ابا نزار من القلاع العتية, والكلام هنا عن نوعية الاداء الادبي وكيفيته. يقول الاستاذ طه: لقد تصارعت اثينا وسبارطه سبعة وعشرين عاما في حرب دامية أكلت شباب الجهتين, وعلى الرغم من ذلك كان الناس في المنطقتين يستمعون كل يوم لأعمال أوديب وغيره من الادباء. لماذا؟ وما علاقه ذلك بالحرب؟ لقد كان الشعراء يصورون الحياة الحقة, التي من اجلها يستعد المواطن للقتال حتى الموت. ويرى ابو نزار ان قوة الحضارة الاوروبية, سليلة الحضارة اليونانية والرومانية, تكمن في انها اطلقت ذهن البشر وسمحت للانسان ان يطرح اسئله, ان يشكك ويبحث عن الطفل في ذاته. يا ناس, اتركوا الناس تتصرف بتلقائيه واتركوا كلمه “عيب” التي اصبحت كالسلاسل تقيد حركة اطفالنا وشبابنا وشيوخنا. واستطرد قائلا: علينا ان ننفتح على تراث العالم والا نتبجح بماضينا, دون ان نقلل من دورنا في التاريخ, الذي يجب ان ننظر اليه بشمولية. لا بد للمبدع ان يطلع على النماذج الراقية في العالم ولا يقلدها, بل يأخذ من المقالع.

من المأساة أن يقع مذيع فلسطيني في شباك الدعاية الصهيونية
من المهم جدا وانت تعيش الوضع الماساوي ان تحترم لغتك, فللمأساة رؤوس كثيرة, وفي هذا السياق عبر الشاعر عن غضبه عندما تذكر ما قاله احد مذيعي “صوت فلسطين” الموجه من رام الله, اذ استعان في اطار حديثه عن تاريخ القضية الفلسطينية بقاموس الدعاية الصهيونية حين استعمل تعبير “حرب الأيام الستة”. وأضاف: ان المجلس الوزاري الاسرائيلي يتخذ قرارات هادفة حول مسميات مثل هذه الحروب لكي يقلل من شأننا ويبعث الرعب في نفوس العرب, ومن هذه الأسماء “حرب الأيام الستة”, الذي يهدف الى الاستخفاف بمقاومتنا. كما أن اسم “عناقيد الغضب”, الذي اطلقه على هجومه على لبنان, مقتبس من رواية تشير الى ان الخصم سيلاقي الامرين, كما يوحي التعبير بأن المقاومة اللبنانية تمادت الى حد جعل اسرائيل تغضب وترد بقوة.

من أركض الفيل ام الانسان؟
المشكلة طبعا ليست ورطة مذيعنا, وانما وعينا وثقافتنا المكبلين, قدراتنا المكبوتة, سطحيتنا وكابوس الانظمة الذي يمنعنا من طرح الاسئلة. 

هذه الاوضاع القاتمة يتناولها طه محمد علي بكل بساطة وروعة في قصة تدور في صف مدرسة ابتدائية شرح الاستاذ فيه عن الفيل, الى ان فتح للاطفال باب السؤال والجواب, فرفع احدهم يده بحماس, ليسأل بعد تردد وخوف وصمت وتحفز قاتل في صفوف التلاميذ : “يا أُس … يا أُس … يا أُستاذ, مين أركض الفيل ام الانسان؟ ” وكان ان صفعه المعلم بقوة “زحزحت مخه” , بسبب هذا “السؤال الذي لا يُسأل”, مما جعل جميع التلاميذ يقهقهون بشماتة. وهكذا ظل طيلة شبابه يتساءل: كم اتمنى لو يجيبني احد على سؤالي دون ان “يزحزح مخي” ودون ان اصبح مضحكة للآخرين.

من السهل ان يستشف المرء, من يجسد المعلم, والتلميذ، والتلاميذ في مجتمعنا!! ما اروع قصص طه, ومنها سمعنا الكثير, هذه القصص المفعمة بالحكمة والزاخرة بشخصيات بسيطة ومؤثرة ؛ قصصه كتبت للعرب والعالم أجمع, فهي صالحة للترجمة الى جميع اللغات, خلافا لكثير من الاعمال التي تشبه “قعقعة الجمال”.

نظرية لئيمة
“المشكلة خيا”, والكلام لابي نزار, هي ضمور العقل العربي الناجم عن قلة الاستعمال, فهناك نظرية لئيمة في علم الفسيولوجيا تفسر هذه الظاهرة المؤلمة, ومفاد هذه النظرية ان وظائف العضو والمزاولة عليها تحدد نمو العضو وليس العكس. الوظيفة تكوّن العضو, وعلى سبيل المثال اظافرنا الان رقيقة, واظافر اجدادنا كانت اقسى, واجداد اجدادنا كانوا يمزقون اللحم باظافرهم. ولو اكتفينا بتناول السوائل لانقرضت أسناننا. 
وما دام مجتمعنا يفتقد الى الفلسفة, المسرح, الادب الحقيقي والفن, فان المخ سيزداد ضمورا.

لست زجاجة كولا كي أُشرب
وقبل ان نودع مضيفنا, قلت له, لا اشعر انك مهزوم رغم تدمير قريتك والهجرة والظلم في اسرائيل. اجاب بكل هدوء: أبدا, طالما أنني أكتب عن طفل, لم يتجاوز السابعة, سيغير معالم الشرق الأوسط, فانني لن أُهزم, لن اهزم طالما ان الطفل يعيش في ذاتي. 
ومضى قائلا, نحن لا شك نعيش في مأساة, ولكن علينا الا نتعامل معها بسطحية. لست زجاجة كوكاكولا تُشرب وتلقى في سلة المهملات.
ودعت الجليل القلعة… ودعت هذا الأديب الفحل وانا اردد: كثّر الله امثال تلك القلاع, فنحن بحاجة اليها في مثل هذه الايام اكثر من اي وقت مضى.
___________________ 

(1) القصيدة الرابعة 1989؛ ضحك على ذقون القتلة 1989؛ حريق في مقبرة الدير 1992 

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial